بسم الله الرحمن الرحيم

إلى المتهاجرين من شباب الصحوة ...
إعداد ..
لطيفة علي أحمد الكندري
بإشراف / د. طارق محمد الطواري .


الحمد لله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد خالق الأنام من عدم والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين ومن والاه واقتفى أثره وسار على سنته إلى يوم يلقاه وبعد ،،

إلى المتهاجرين من شباب الصحوة ...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

لقد أرقني ما رأيت وآلمني ما سمعت من أخوة كانوا معاً يسيرون على طريق الحق يحدوهم منهج القرآن وتحيطهم سنة المختار متآخين متحابين .. ومن ثم فرقت بينهم أمواج الفتن وتعالت هتافاتهم بالفراق ونبذ الود والإخاء وأصبحت الشحناء .. تدور بينهم ونسوا ما كان بينهم من عهد الإخوة وميثاق المودة .. أهديها إلى الذين أصبحوا يتقاذفون سهام السباب بينهم محاولين الإيقاع ببعضهم .. أهديها إلى المتهاجرين ..

أهدي إليكم هذه الكلمات من حنايا الفؤاد أنقشها على شواطيء السطور أرصعها بآيات الكتاب وأزينها بسنة المختار وأزخرفها ببعض الأشعار علها تقتحم بهدوء أسوار قلوبكم فهي من القلب إلى القلب ..

حديث الروح للأرواح يسري **** فتدركه القلوب بلا عناء

ودافعي في هذا هو ما جاء في الكتاب المبين " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " حيث أنه من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ألا وهو الإصلاح بين الناس قال تعالى " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " وقال جلا وعلا " والله لا يضيع أجر المحسنين " .

فافتحوا لي أبواب قلوبكم واسمعوا لحديثي .. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ..

وقبل أن أبدأ .. أهدي إليكم هذه الأبيات علها تمس شغاف القلوب وتوقظ الهمم وتشعل في النفس الأمل

مرت سنين بالوصال وبالهنا *** فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجر بعدها *** فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنين وأهلها *** فكأنها وكأنهم أحلام

عودة إلى الوراء ..

كيف كانت البداية ؟

كان اللقاء مقدراً في مجلس من مجالس الذكر أو حلقة من حلق العلم تحيطها ملائكة الرحمن وتحفها ، وتغشاها السكينة .. كان لقاء على طاعة الرحمن وذكره ، وتقدم أحدكما إلى الآخر قائلاً والحياء قد غطى معالمه .. اني احبك في الله ، فرد عليه الآخر بتواضع يبهر الألباب أحبك الذي أحببتني فيه وبارك الله فيك .. وكانت هذه الكلمات بداية لعلاقة هي من أوثق عرى الإيمان ، قال صلى الله عليه وسلم ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ) وكانت بشارة لكلمات بالدرجات العلا ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى ( المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ) ، ويقول ربنا أيضاً تبارك وتعالى في الحديث القدسي ( أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) ، وكنتما تتنافسان في ان يكون كل منكما أشد حباً لصاحبه لتفوزا بفضل الله تعالى مصداقاً لما جاء في حديث الحبيب عليه الصلاة والسلام ( ما تحاب اثنان الا كان أفضلهما أشد حباً لصاحبه ) .

وكان مما تترنمان به دائماً قوله تعالى ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) وان اشتد عليكما الأمر عزى كل منكما إلى الآخر بقوله جلا وعلا ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عينهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) ، فكانت أياماً وليالي دافئة في ظلال الإخوة الإيمانية وكنتما مضرب الأمثال في الإخوة والوداد ، فقد كنت اذا قلت لأخيك وخلك قال عمر بن الخطاب ( ما أعطى عبد بعد الإسلام خير من أخ صالح ) يقول لك أنت الأخ الصالح فتقول له بل أنت نعم الأخ الصالح ولا أزكي على الله أحداً ، وكنت إن رأيت على آثار وجهه الغضب تربت على كتفه وتقول ما قاله ابن السماك ( اللهم انك تعلم اني اذا كنت أعصيك ، كنت أحب من يطيعك فاجعل ذلك قربة لي إليك ) وتبتسم ابتسامة تنعكس اشراقتها ليكلل نورها محياه وتنفرج بها أساريره .. فكأنما الشاعر قد نظم فيكما هذه الأبيات :

تلاقينا على خير وسنة *** دليلاً للهدى زمن الضلال
فيا لله ما أحلى لقاءنا *** وما أحلى مسامرة المعالي
ترانا في رياض العلم حينا *** وحينا في الرياض على التلال
ونمشي فوق ظهر الأرض هوناً *** وهمتنا تفوق ذرا الجبال
شموس العز كنا غير أنا *** يفيء ظلالنا نعم الظلال
لقد كنا وكنا ثم كنا *** ففرق شملنا بعد الوصال

فكنتما مثلاً رائعاً في الحب والإخاء والإيثار والمودة ، امتزجت روحك مع روحه وتآلف قلبك مع قلبه ، فما ان تغمض جفنك حتى تذكر ان لك اخاً يدعو لك بظهر الغيب ، وتشعر بالسعادة اذا زارك طيفه وكلما ارتسمت ملامح صورته أمامك فكنتما روحاً في جسدين ..


وبعد ذلك .. لماذا افترقتم ؟
وبعدما رأى الحساد ما كان بينكم من الوصال ، ما طابت أنفسهم بهذا وما قرت أعينهم ففكروا ودبروا ثم قرروا وعزموا وبعد هذا فعلوا فعلتهم وبذروا بذور الإفساد ، وسقوها بماء الشائعات حتى نمت بينكما وأنتم لا تشعرون .. فما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك أيها الأحبة ؟

تعالوا معي لنقف على بعضها فليس المجال لحصرها ، وارعوا إلى أسماعكم واعلموا ان كلامي هذا إليكم كل بعينه ، فلا تستخفوا به وتظنوا البراءة منه ..

قلة الزيارة ونشوء الجفاء بينكما :
وكان هذا بداية ارتخاء حبل الاخوة المتين بينكما ، فقد أخذت تعاتب خلك الوفي على بعده واقطاعه وقلة زياراته وندور اخباره .. وكلما لقيته ذكرته بمقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( لقاء الأخوان جلاء الأحزان ) ، وكان يعتذر منك ويتأسف بكثرة أشغاله وارتباطاته ويسوق لك قول الإمام احمد بن حنبل رضي الله عنه ( ان لي إخوانا لا ألقاهم الا في كل سنة مرة ، أنا أثق بمودتهم أكثر ممن ألقى كل يوم ) ، ويبين لك ان الإنسان قد تأتيه حالات وظروف ينشغل بها عن من يحب فهي لا تنسيه إياهم انما تشغله عنهم ، وان كان قلبه يهفو للقياهم ، ونفسه تسأل عن أحوالهم وتحن إليهم وتشتاق ، لكن هداك الله تعالى أبيت المعذرة لأخيك ، وانقطعت عن زيارته بإرادتك زعماً منك انك ترد عليه عمله بمثله .. لكن أذكرك بأنه خلك الوفي الذي ما ان يجد متسعاً من وقته الا وأسرع إليك يحثو الخطا ونفسه تواقة لرؤيتك ، وان كان لا يزورك الا نادراً فإنه لا ينكف عن السؤال عن أحوالك والحرص على معرفة أخبارك فزره أيها المحب مادمت انك مستطيع وتذكر قول الشاعر :

زر من تحب وان شطت بك الديار *** وحال من دونه حجب وأستار
لا يمنعنك بعد من زيارتــــه *** ان المحب لمن يهـواه زوار

وتذكر ان أسمى من ان تعيقك خدع الشيطان عن زيارة أخيك المحب وأعقل من أن تحول بينك وبين الحجج الواهية بأنه لا يزورك ، لأنك ما زرته لمصلحة او دنيا او حتى يرد زيارتك ، انما زرته ووصلته حباً له في ذات الله عز وجل ، أفما تريد أن تحظى بشرف ذلك الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ( أن رجلاً من زار أخاً له في الله فأرصد الله له على مدرجته ملكاً ، فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال : لا غير أني أحببته في الله عز وجل ، قال : فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه ) .

سوء الظن وسماع كلام الناس .
يا صديق عمره ، يا من عاشرته مدة من الزمان ، وعرفت خلاله وطباعه ، تأتي اليوم وتفتح بابك على مصراعيه لتستقبل كلمات كل ناعق وساقط في أخيك وحبيبك ، وأصبحت تعتمد على وكالة " يقولون " في معرفة أخبار صديقك ، وتردد ما يقولون فيه وتؤكده ، حتى وصلت إلى شاطيء إساءة الظن ولم تردعك آيات المولى تبارك " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " فتقدمت إلى البحر وأنت تتجاهل نداءات أخيك وهو يتلو عليك قوله تعالى " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " ، " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس " ولم تبال فخضت البحر ونسيت أو تناسيت ما كنت تتشدق به في المجالس من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " فأصبحت أقوالك وإتهاماتك لأخيك مبنية على الزعم وبئس مطية الرجل زعموا

ها أنت في كل يوم ما أن يصدر من أي فعل إلا وحملته على محمل السوء وقلت أنه يقصد كذا وكذا ، فسبحان الله أشققت عن قلبه ؟ أم أين أنت عن مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي تدعو إلى تطبيقها والعمل بها في محاضراتك وندواتك وتقول .. اتقوا الله في أعراض إخوانكم وتأملوا ما قاله الفاروق ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ) أم أنك ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ؟

والادهى من هذا أنه يحلف لك ويقسم أنه ما أراد ما ظننته إلا أنك تصر .. سبحانك هذا بهتان عظيم ، انظر لحالك واشفق على مآلك ، وتذكر أن خلك هذا هو أول من ينبغي أن تحسن الظن فيه ، وإن رأيت عيباً فاستره ، ستر الله وجهك عن النار ، وأعرض عما يقوله الناس ولا تلفت لوساوس الشيطان فإنه لن يهدأ له بال إلا حين يزرع الغل والبغضاء في قلبك على حبيبك وأخيك وأظنه قد أوشك على ذلك ..

قدم لك النصيحة فغضبت وتتبعت العثرات .
وبعد أن وقعت في مستنقع سوء الظن ، أتاك الخل الوفي وقدم لك النصيحة بعد أن ظل زماناً يبحث عن رقيق الكلام وطيب العبارة حتى لايمس شعورك أو يجرح إحساسك ، فقدمها متأدبة بأدب النصح مرصعة بصدق النية وهو يقول لك أن قست كلماتي فاعذرني واعلم أن حالي كالقائل ..

فحبيبك من يغار إذا زللت *** ويغلظ في الكلام متى أسأت
يسر اذا اتصفت بكل فضل *** ويحزن ان نقصت او انتقصت
ومن لا يكترث بك ولا يبالي *** أحدت عن الصواب ام اعتدلت

وقبلتها .. لكن على مضض ، ومنذ ذلك اليوم خرجت إلى ميدان تصيد الأخطاء والعثرات فأخذت تراقب أفعاله وتترصد أقواله ، ترجوا أن تظفر بسقطة أو كبوة منه ليفرح قلبك العليل الذي فعل فيه الشيطان فعلته ، فهل وكلك الله عز وجل بأن تكتب سيئاته ؟ كفاك الله هذه المؤونة في أن وكل بها ملائكته الأمناء .. أما أنت فأرعى شئون نفسك أولاً وهذبها ، ومن تتبع العثرات امنعها ، أصبحت للأسف تفرح بسقطات أخيك وتعد عليه أنفاسه ، وأسوق لك مقطعاً من كلام الشيخ بكر أبو زيد عله يوقظك من غفلتك ( ومتى صار من دين الله فرح المسلم بمقارفة أخيك المسلم للآثام ، ألا أن هذا التصيد داء خبيث متى ما تمكن من نفس أطفأ ما فيها من نور الإيمان ، وصير القلب خراباً يبابا ، يستقبل الأهواء والشهوات ويفرزها ) ، فاربأ بنفسك أن تكون من متتبعي العثرات والزلات ، وأذكرك بقول الحبيب عليه الصلاة والسلام ( إن من شرار الناس الذين لا يقيلون عثرة ولا يقبلون معذرة ولا يغفرون ذنباً ) وخاصة ان دافعك إلى هذا كان الانتقام للنفس وان غيرت المسمى ، فما رأيتك تصول وتجول إلا بعد أن نصحك أخوك والعجيب في الأمر أنك ممن يردد دائماً ( رحم الله امريء أهدى ألي عيوبي ) قال الشافعي رحمه الله ( من علامات الصادق في أخوة أخيه أن يقبل علله ويسد خلله ويغفر ذنبه ) وخاصة أن صديقك هذا بشر غير معصوم من الخطأ وهو دائماً يردد عليك وما أبرأ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي ويناجيك ويقول :

لي ذنوب ولست انكر فاغفر ***فالتجني على المقر اعتداء
لي حقوق ايضا عليك ولكن *** ذكر مثلي لمثل هذا جفاء

واجعل نفسك مكان اخيك ان وقعت في زلل وسهو ماذا تريد منه ان يعفو عنك ويستر ام ان يعلنها ويشهر بك ، وتذكر ..

قبيح من الانسان ينسى عيوبه *** ويذكر عيبا في أخيه قد اختفى
ولو كان ذا فضل لما عاب غيره *** وفيه عيوب لو راها بها اكتفى

استحلت غيبة بسبب اختلاف وجهات النظر
أيها الأخ الكريم كنت شيخا ومعلما لخلك وملقنا له جروسا وافرة في بيان أهمية الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع اليهما في كل أمر وكنت توضح له ان ليس كل خلاف مذموم بل منه ما هو سائغ كالخلافات بين أهل العلم ومرجع ذلك أيضا إلى الدليل من الكتاب والسنة . ..

فمالي أراك قد خاصمت أخاك لأنه خالفك في وجهة نظرك وطريقة عملك وأنت ممن يردد دائما أن الاختلاف لا يفسد للود قضية ولو أنك وقفت على هذا فحسب لهان الأمر وسهل علاجه لكنك هداك الله استحللت غيبة أخيك وكلما نصحك ناصح بأن تكف عن هذا تكابر وتقول بل هو فيه كذا وكذا وكأنك ما قرأت بقية حديث الغيبة فعندما سأل الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه عن الغيبة قال ( ذكرك أخاك بما يكره ) فقيل : أو لو كان في أخيك ما أقول ؟ فقال (أن كان فيه فقد اغتبته وان لم يكن فيه فقد بهته) ولا أحالك تجهل عقوبة المغتاب فقد قال صلى الله عليه وسلم ( مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم ) فهل بعد هذا تصر على غيبته وتنقصه والاستخفاف به وأنه لا يفقه الواقع الذي يحلل – بزعمك – غيبتم له ولغيره ممن قد يكون في الصلاح والتقى أبلغ منك اذ يكفيهم سلامة صدورهم ونقائها وخلوها من أي غل أو بغض للمؤمنين وأذكرك يا رعاك الله بما ورد عن الامام الشافعي ، قال يونس الصدفي
( ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون أخواناً وأن لم نتفق في مسألة ) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ) .

هل يجوز الهجر ؟ وما هي ضوابطه ؟
تعال معي أيها الأخ الفاضل لنتطلع على حكم هجر المسلم لأخيه المسلم والتي سأل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فأجاب عنها قائلاً ( الهجر الشرعي نوعان : أحدهما : بمعنى الترك لأهل المنكرات ، والثاني : بمعنى العقوبة عليها ) وسأطلعك أيها الأخ الكريم على النوع الثاني منها والذي يخص موضوعنا ، فتنبه بارك الله فيك ، يقول شيخ الإسلام " النوع الثاني : على وجه التأديب ، وهو هجر من يظهر المنكرات ، يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون : الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً ، فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير ، والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والمتظاهر للمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر انها بدع ، وهذا حقيقة من قال من السلف أن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العمل و لا يناكحون فهذا عقوبة لهم حتى ينتهوا ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية ، لان الداعية أظهر المنكرات ، فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم ، ولهذا جاء في الحديث : ( إن المعصية اذا خفيت لم تضر الا صاحبها ولكن اذا أعلنت فلم تنكر ضرة العامة ) ، وذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أن الناس اذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) . فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها ، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة ، وهذا الهجر يختلف باختلاف المهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم باختلاف المهجورين في قوتهم وضعهفهم وقلتهم وكثرتهم ، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله . فإن كانت مصلحة ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك ، بل يزيد الشر والمهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته فلم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتآلف أقواماً ويهجر آخرين . وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالاً في الدين من المهجورين كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من كثير من المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم ، وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح . وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الاصل ، ولهذا يفرق بين الاماكمن التي كثر فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتجهم في خراسان والتشيع في الكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعية وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق اليه " .

واستمع أيها المحب إلى بيت القصيد واعتبر ( واذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله ، فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا ، فمن هجر لهوى نفسه او هجر هجرا غير مأمور به : كان خارجا عن هذا وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله . والهجر لحظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) . فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال ( تفتح أبواب الجنة كل أثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا ) فهذا الهجر لحق الإنسان حرام وأنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع اذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث . فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به والثاني منهي عنه لان المؤمنين أخوة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم ) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن ( ألا أنبأكم فأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ! قال ( صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) . قال في الحديث الصحيح ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ، وهذا لان الهجر هو من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لان تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه ، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية ، قال تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحدهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فهو من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لان تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه ، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية ، قال تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحدهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا أن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة " ، فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهم ، فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ، وأن ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن اليك فإن الله سبحانه وتعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب له ولأوليائه والبغض لأعدائه ، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه .

واذا اجتمع الرجل الواحد خير وشر وبر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، استحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ويجتمع له من هذا وهذا ، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس إلا مستحق للثواب فقط أو مستحقاً للخلود في العقاب فقط وأهل السنة يقولون ان الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن الله بالشفاعة وبفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلي الله عليه وسلم والله وسبحانه وتعالى أعلم وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ) .

ويعجز بناني عن الإتيان بأفضل مما خطه الشيخ محمد صالح المنجد في كتابه ( محرمات استهان بها الناس ) تحت عنوان : هجر المسلم فوق ثلاث أيام دون سبب شرعي عل الله يشرح صدرك وينور قلبك لقبولها ...
يقول الشيخ ( من خطوات الشيطان إحداث القطيعة بين المسلمين وكثيرون أولئك الذين يتبعون خطوات الشيطان فيهجرون إخوانهم المسلمين لأسباب غير شرعية إما لخلاف مادي أو موقف سخيف وتستمر القطيعة دهراً وقد يحلف ألا يكلمه وينذر ألا يدخل بيته وإذا رآه في طريق أعرض عنه وإذا لقيه في مجلس صافح من قبله ومن بعده وتخطاه وهذا من أساب الوهن في المجتمع الإسلامي ، لذا كان الحكم الشرعي حاسماً والوعيد شديداً ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فمن هجر فوق ثلاث ليال دخل النار ) .

ختاماً :
وبعد أن جبنا هذه الصفحات ورجعت معكم بالذاكرة إلى زمن ليس بالبعيد وقلبنا معاً الأوراق وبينا بعض أسباب الفرقة الهجرة والفرقة وحكمها أقول لك : ضع يدك في يد أخيك .... فتعرض أنت ويعرض هو وخيركما الذي يبدأ بالسلام ..

إذا أدمت قوارصكم فؤادي *** صبرت على أذاكم وانطويت
وجئت إليكم طلق المحيا *** كأني ما سمعت وما رأيت

قل له : أيها المحب والخل الوفي ...

لست ممن إذا جافاه أخوه *** أظهر الذم أو تناول العرضا
بل إذا صاحبي بدا لي جفاه *** عدت بالود والوصال ليرضى

تقدم إليه وقل له ...
كفانا ما جرى بيننا فيعلم الله أن القلب ما زال يحبك وما زالت نفسي مرتبطة بك فضع يدك في يدي سيراً إلى الأمام وأسراب الحمام تحلق فوق ما تملء الدنيا بهجة وسرورا وأنشدا سوياً أبياتاً نزفت في يوم ما من قلب شاعر ...

من اليوم تصافينا *** ونطوي ما جرى منا
ولا كان ولا صار *** ولا قلتم ولا قلنا
وإن كان ولابد *** من العتب فالبحسنى
فقد قيل لنا عنكم *** كما قيل لكم عنا
كفى ما كان من هجر *** وقد ذقتم وقد ذقنا
وما أحسن أن نرجع *** للوصل كما كنا

أسأل عز وجل أن يجمع شملكم ويلم فرقتكم ويجعلكم ممن قال فيهم ... " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً متقابلين " هذا وأترككم في رعاية الله وحفظه ..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...


المصدر : موقع الدكتور طارق الطواري

الصفحة الرئيسة