بسم الله الرحمن الرحيم

التعقبات والتنبيهات على ما في مقالات الإباضي المتلقب بِـ"المنصور" من الهفوات
[الحلقة الثانية]


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فهذه الحلقة الثانية من ردي على الإباضي المتلقب بِـ"المنصور" وقد أسميت هذا الرد كما سبق ذكره: [التعقبات والتنبيهات على ما في مقالات الإباضي المتلقب بِـ"المنصور" من الهفوات].
وقد كان محور الحلقة السابقة بيان صحة حديث صهيب بن سنان –رضي الله عنه- المتضمن إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في جنات النعيم ولفظه-كما في صحيح مسلم(1/163رقم181)- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟
قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل .
ثم تلا هذه الآية : {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة})).
وهذا الحديث كان مداره على حماد بن سلمة بن دينار البصري عن ثابت بن أسلم البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب به.
وحلقة هذا اليوم محورها بيان صحة أثر أبي بكر الصديق وحذيفة في تفسير "الزيادة" في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} مع بيان ما وقع لـ"المنصور" الإباضي من الأخطاء والمغالطات وفوائد أخرى أثناء هذا البحث.
والله الموفق لا رب سواه .
1/ قال المتلقب بِـ"المنصور" مخاطباً الأخ "محب السنة" : [لقد بينا لك قول علماء الجرح في رواية حماد بن سلمة ، وعلمت يقيناً أن رواياته ليست أهلاً لأن يقام عليها عقيدة ولا تصور إيماني. وأن ما قلته أنت حول روايات حماد بن سلمة قد أبطله علماء الجرح ، فهل عندك ما يدفع حججهم وأقوالهم ؟؟؟؟؟؟ ]
الجواب
قد أبنت في الحلقة الأولى من هذا الرد صحة حديث حماد بن سلمة وخاصة إذا روى عن ثابت بن أسلم البناني .
وقد أجمع علماء الجرح والتعديل على قبول رواية حماد بن سلمة عن ثابت.
قال الإمام زين الدين ابن رجب في شرح علل الترمذي(2/500) : [وحكى مسلم في التمييز : "إجماع أهل المعرفة على أن حماد على أن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت"
وحكى ذلك عن يحيى القطان وابن معين وأحمد وغيرهم من أهل المعرفة.
وقال الدارقطني: "حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت". ].
فتبين بهذا وما سبق بيانه بطلان قول المتلقب بِـ"المنصور" .

2/ قال المتلقب بِـ"المنصور" مخاطباً الأخ "محب السنة" : [وقبل أن أذكر ما قاله علماء الجرح في الروايات التي نسبت تفسير الزيادة بالرؤية إلى أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم ، أرجو منكم يا أستاذي أن تنقل لنا جميع الروايات بأسانيدها ومصادرها ولا تخشى الإطالة فإننا نرغب في معرفة المزيد مما عندكم من علم ومعرفة.}.
الجواب:
هذا ما سيفعله أبو عمر العتيبي –إن شاء الله تعالى- وسأجعله ملحقاً بهذا البحث –إن شاء الله تعالى-.

3/ قال المتلقب بِـ"المنصور" مخاطباً الأخ "محب السنة" : [لقد اعتمدت يا أخي على هذه الرواية ، ويا ليتك نظرت في سندها قبل الإشارة إليها وقبل اعتمادك نسبة تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى إلى أبي بكر الصديق حذيفة بن اليمان:
" حدثنا بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد ، عن أبي بكر الصديق ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال : النظر إلى وجه ربهم " .
وجاء أيضاً : " حدثنا ابن بشار : قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسلم بن نذير ، عن حذيفة ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال : النظر إلى وجه ربهم "
هذه الرواية ضعيفة وذلك بسبب أبي إسحاق عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي الكوفي المدلس.
أبو إسحاق السبيعي مشهور بالتدليس ( جامع التحصيل في أحكام المراسيل ، ص 245 ) ، وهو يعد من أفراد المرتبة الثالثة ( طبقات المدلسين ، ص 42 ).
وقد ذكر ابن حجر حكم عنعنة المدلس من أفراد هذه المرتبة بقوله: " الثالثة : من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقاً " ( طبقات المدلسين ، ص 13 )
وقال جرير بن عبد الحميد : سمعت مغيرة يقول : " أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وأعمشيكم هذا ؛ كأنه عني الرواية عمن جاء " ( ميزان الاعتدال ، 2 / 224 )
وهذه الرواية – كما يتبين من سندها – ينقلها أبو إسحاق السبيعي بالعنعنة عن عامر بن سعد ، فهي ضعيفة ولا يصح الاحتجاج بها.
وبهذا يتضح بطلان ما نسب إلى أبي بكر وحذيفة بن اليمان. فهل لديك يا أخي دليلاً أخر ؟؟؟؟؟؟].
الجواب:
أولاً:
يتلخص كلام المتلقب بِـ"المنصور" السابق بأن أبا إسحاق السبيعي مدلس مشهور بالتدليس وقد روى هذين الأثرين- أثر أبي بكر وأثر حذيفة- بالعنعنة وعنعنته غير مقبوله .
والجواب على هذا الإعلال من وجوه:
الوجه الأول: أبو إسحاق السبيعي إمام ثقة مشهور متفق على ثقته وعدالته وإتقانه وعلى الاحتجاج بحديثه ولم يطعن في عدالته وثقته وأمانته أحد .
وهذا مجمع عليه بين أهل السنة والإباضية! كما سيأتي مزيد بيان لذلك .
وإنما تكلم في أبي إسحاق من ناحيتين:
الناحية الأولى: التدليس .
وهذه الناحية سيكون الكلام عنها في الأوجه التالية .
الناحية الثانية: اختلاط أبي إسحاق السبيعي .
وهذا لم يذكر المتلقب بِـ"المنصور" فأصاب لأنه لا يصح .
وإنما ذكرت هذه الناحية إتماماً للفائدة ولكيلا يأتي متحذلق فيعل رواية أبي إسحاق بهذه العلة الواهية .
وخلاصة الجواب على هذه الناحية هو ما قاله الحافظ الذهبي في الميزان(3/270) : [عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي من أئمة التابعين بالكوفة وأثباتهم إلا أنه شاخ ونسى ولم يختلط وقد سمع منه سفيان بن عيينة وقد تغير قليلا وقال أبو حاتم ثقة يشبه الزهري في الكثرة]
وقال الذهبي-أيضاً- في كتاب المغني في الضعفاء(2/486) : [عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي ثقة نبيل شاخ ونسي لم يضعفه أحد وسمع منه ابن عيينة وقد تغير شيئاً].
وقال الحافظ العلائي في كتاب المختلطين(ص/94) : [ولم يعتبر أحد من الأئمة ما ذكر من اختلاط أبي إسحاق احتجوا به مطلقا وذلك يدل على أنه لم يختلط في شيء من حديثه كما تقدم في عبد الملك بن عمير فهو أيضا من القسم الأول]
والقسم الأول عند العلائي هو : [من لم يوجب ذلك له ضعفا أصلا ولم يحط من مرتبته إما لقصر مدة الاختلاط وقلته كسفيان بن عيينة وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه وهما من أئمة الإسلام المتفق عليهم وإما لأنه لم يرو شيئا حال اختلاطه فسلم حديثه من الوهم كجرير بن حازم وعفان بن مسلم ونحوهما].
والله أعلم.
الوجه الثاني: أبو إسحاق مكثر من التدليس ولكن ما هو التدليس الذي أكثر منه أبو إسحاق ؟
التدليس يطلق عند المتقدمين على حالتين :
الحالة الأولى: رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه ، أو لقيه ولم يسمع منه بصيغة تحتمل السماع كَـ"عن" وَ "قال" ونحوهما .
وبعض العلماء يسميه إرسالاً وبعضهم يسميه : "المرسل الخفي" .
الحالة الثانية: رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمع منه بصيغة تحتمل السماع كَـ"عن" وَ "قال" ونحوهما .
فالحالة الأولى-وهي الإرسال- أكثر منها أبو إسحاق فروى عن عدد من الصحابة وكثير من التابعيين ممن عاصرهم أو لقيهم ولم يسمع منهم .
والحالة الثانية فلم يكن أبو إسحاق مكثراً منها .
ولم أجد أحداً من علماء الحديث المتقدمين وصف أبا إسحاق بالإكثار من التدليس بالمعنى الثاني .
بل وجدت خلاف ذلك :
قال يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ(2/637) : [وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة].
وهذا من الإمام يعقوب الفسوي دليل على أن أبا إسحاق لم يكن مكثراً من التدليس
بدلالة قول الإمام علي بن المديني لما سأله يعقوب بن شيبة عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل حدثنا ؟ قال الإمام علي بن المديني: "إذا كان الغالب عليه التدليس فلا ، حتى يقول حدثنا".
[ رَ: الكفاية للخطيب البغدادي(ص/400) ].
وانظر ما قاله ابن حزم في الإحكام(1/131-132) .
وسيأتي مزيد شرح لكلام يعقوب الفسوي وذكر كلام ابن حزم فيما يأتي –إن شاء الله تعالى-.
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام(5/194) : [ وكان أبو إسحاق ربما دلس].
إذا علم ذلك فإن الناظر في أثر أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- وأثر حذيفة يجد أن مدارهما على أبي إسحاق السبيعي –رحمه الله-.
وقد رواه أبو إسحاق السبيعي بإسنادين مختلفين أحدهما : عن عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- به موقوفاً.
والآخر: عن مسلم بن نُذير السعدي عن حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- به موقوفاً.
وأبو إسحاق إمام ثقة واسع الرواية يحق له التفرد بالطرق والروايات الكثيرة نظراً لاتساع روايته وكثرة محفوظه وسعة علمه كحال غيره من الأئمة المحدثين كالزهري والشعبي والحسن البصري ونحوهم.
إذا علم هذا بقي النظر في عنعنة أبي إسحاق عن شيخيه في هذين الطريقين وهما : عامر بن سعد البجلي ومسلم بن نذير .
فَـ"عنعنة" أبي إسحاق السبيعي عن هذين الشيخين من أي أنواع التدليس ؟
هل من التدليس الذي بمعنى الإرسال أو الإرسال الخفي ؟ أم بالمعنى الآخر والمشهور عند المتأخرين ؟
الإجابة على هذا السؤال متوقف على ثبوت سماع أبي إسحاق السبيعي منهما من عدمه .
والواقع أن أبا إسحاق السبيعي سمع منهما
والدليل على ذلك أن شعبة بن الحجاج روى عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد وكذلك عنه عن مسلم بن نذير .
فقد روى مسلم في صحيحه(4/1827رقم2352) وغيره من طريق شعبة قال سمعت أبا إسحاق يحدث عن عامر بن سعد البجلي عن جرير –رضي الله عنه- أنه سمع معاوية –رضي الله عنه- يخطب فقال: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بن ثلاث وستين وأبو بكر وعمر وأنا ابن ثلاث وستين.
وروى البزار في مسنده(7/375رقم2974)وغيره بسند صحيح عن شعبة عن أبي إسحاق عن مسلم بن نذير عن حذيفة –رضي الله عنه- قال: أخذ رسول الله بعضلة ساقي أو ساقه فقال: ((حق الإزار ها هنا ، فإن أبيت فها هنا ، فإن أبيت فلا حق للازار في الكعبين أو لا حق للكعبين في الإزار)) .
وشعبة –رحمه الله- لا يروي عن أبي إسحاق السبيعي إلا ما سمعه من شيوخه .
قال الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين(ص/88-89) : [ وقال البيهقي في "المعرفة" روينا عن شعبة قال: كنت أتفقد فم قتادة فإذا قال حدثنا وسمعت حفظته وإذ قال حدث فلان تركته .
قال-البيهقي-: وروينا عن شعبة أنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة الأعمش وأبي إسحاق وقتادة .
قلت-الحافظ ابن حجر-: فهذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة أنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع ولو كانت معنعنة].
فثبت بما ذكرته سماع أبي إسحاق السبيعي من عامر بن سعد البجلي ومن مسلم بن نُذير.
فتدليس أبي إسحاق السبيعي هنا من النوع الثاني الذي هو رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه.
وأبو إسحاق السبيعي مقل من هذا النوع من التدليس .
وقد سبق أن ذكرت أن المقل من هذا التدليس تحمل عنعنته على السماع ما لم يعرف أنه قد دلس في حديث بعينه–كما سيأتي مزيد بيان لذلك في الوجه الثالث-.
وبهذا التقرير يتبين خطأ الحافظ العلائي والحافظ ابن حجر ومن تبعهما في عد أبي إسحاق السبيعي من الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين .
ويزداد الخطأ حيث يقول العلائي في بيان هذه المرتبة –وتبعه الحافظ ابن حجر وغيره-:
[الثالثة : من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقاً]
وقد سبق بيان أن أبا إسحاق السبيعي ممن أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج به .
ولا أعلم أحداً من أهل السنة رد حديث أبي إسحاق السبيعي مطلقاً.
حتى الإباضية احتجوا به!!
الوجه الثالث: أن المدلس المقل من التدليس يحتج بحديثه الذي لم يصرح فيه بالتحديث ولا يعل حديثه إلا إذا علم أنه دلسه .
قال يعقوب بن شيبة السدوسي –رحمه الله-: سألت يحيى بن معين عن التدليس فكرهه وعابه.
قلت له : أفيكون المدلس حجة فيما روى أو حتى يقول حدثنا وأخبرنا؟
فقال: لا يكون حجة فيما دلس.
وقال يعقوب بن شيبة: سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل حدثنا ؟
قال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول حدثنا.
[رَ : الكفاية(ص/400) ].
فهذان الإمامان يحيى بن معين وعلي بن المديني يقبلان عنعنة المدلس المقل من التدليس ما لم يعلم أنه دلسه.
وبخصوص عنعنة أبي إسحاق السبيعي فقد صحح البخاري ومسلم عدة أحاديث لم يصرح فيها أبو إسحاق السبيعي بالسماع من شيخه وقد أجمع العلماء كذلك على صحتها .
وقد قال الإمام يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ(2/637) : [وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة].
وقال ابن حزم في الإحكام(1/131-132) : [وأما المدلس فينقسم إلى قسمين:
أحدهما : حافظ عدل ربما أرسل حديثه ، وربما أسنده ، وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة ، فلم يذكر له سنداً ، وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض .
فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئاً لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة
لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك .
وسواء قال: أخبرنا فلان ، أو قال: عن فلان ، أو قال: فلان عن فلان ، كل ذلك واجب قبوله ، ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً بعينه إيراداً غير مسند.
فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته.
وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال: كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له.
وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري ، وأبي إسحاق السبيعي ، وقتادة بن دعامة ، وعمرو بن دينار ، وسليمان الأعمش ، وأبي الزبير ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ، ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى].
وهذا من ابن حزم كلام محكم متين .
وهذا عليه أئمة الحديث كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأصحاب السنن ويعقوب بن شيبة ويعقوب بن سفيان وابن خزيمة وابن حبان وابن حزم وغيرهم من أئمة الحديث .
وبهذا التقرير يتضح لطالب الحق بلا شك أن عنعة أبي إسحاق محمولة على السماع ما لم يعلم أنه قد دلس في حديث بعينه.
وعليه فرواية أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي ومسلم بن نذير صحيحة محمولة على السماع لأنه لا يعلم أن أبا إسحاق السبيعي قد دلس في روايته هذه بعينها
والله أعلم.
الوجه الرابع: أن أثر أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- قد رواه عن أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد عدد من الرواة وهم: إسرائيل بن يونس وأبوه يونس بن أبي إسحاق وشريك وزكريا بن أبي زائدة ومحمد بن جابر وأبو الأحوص وقيس بن الربيع وكلهم رووه عن أبي إسحاق بالعنعنة وهذه من الدلالات على أن أبا إسحاق لم يدلس في روايته هذه عن عامر بن سعد.
وكذلك أثر حذيفة فقد رواه جماعة من الرواة عن أبي إسحاق عن مسلم بن نذير بالعنعنة وهم : سفيان الثوري وإسرائيل وقيس بن الربيع .
ولو كان أبو إسحاق السبيعي قد دلس في هذا الأثرين لتبين ذلك ولو في رواية! وهذا مما لا يوجد هنا .
والله أعلم.
الوجه الخامس: أن أثر أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- قد صححه الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد(2/450-451،452رقم264،265) .
ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده وعبد الله بن أحمد في السنة وابن أبي عاصم في السنة والدارمي في الرد على الجهمية والطبري في تفسيره وابن المنذر في تفسيره والآجري في الشريعة وفي كتاب التصديق بالنظر وأبو الشيخ والدارقطني في كتاب الرؤية والبيهقي في الأسماء والصفات وفي الاعتقاد وابن منده في الرد على الجهمية واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد والخطيب البغدادي في تاريخه وغيرهم ولم يتكلم أحد منهم في سنده بل كلهم رووه وتلقوه بالقبول .
وأثر حذيفة –رضي الله عنه- صححه ابن خزيمة في التوحيد(2/450رقم264) .
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه وإسحاق بن راهويه في مسنده والطبري في تفسيره وابن أبي عاصم في السنة والدارمي في الرد على الجهمية وعبد الله بن أحمد في السنة والآجري في الشريعة وهناد في الزهد والمحاملي في الأمالي والدارقطني في الرؤية وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات وابن المنذر واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد وغيرهم ولم يتكلم أحد منهم في سنده بل كلهم رووه وتلقوه بالقبول .
الوجه السادس- وهو من باب الإلزام- : أن الربيع بن حبيب! روى في جامعه الصحيح!! أثرين أحدهما عن علي –رضي الله عنه- والآخر عن ابن عباس –رضي الله عنهما- من طريق أبي إسحاق السبيعي بالعنعنة! ومع ذلك صححه الربيع!!.
وقد قال مقدم هذا الجامع الشيخ عبد الله بن حميد السالمي في التنبيه الأول: اعلم أن هذا المسند الشريف! أصح كتب الحديث رواية!! وأعلاها سنداً!!! وجميع رجاله مشهورون بالعلم والورع والضبط والأمانة والعدالة والصيانة!! كلهم!! أئمة في الدين وقادة للمهتدين ، هذا حكم المتصل من أخباره .
وأما المنقطع بإرسال أو بلاغ فإنه في حكم الصحيح لتثبت راويه ولأنه قد ثبت وصله من طرق أخر لها حكم الصحة .
فجميع ما تضمنه الكتاب صحيح باتفاق أهل الدعوة وهو أصح كتاب من بعد القرآن العزيز ، ويليه في الرتبة الصحاح من كتب الحديث.].
هذا ما قاله السالمي قي مقدمة كتاب "الجامع الصحيح"!! للربيع بن حبيب .
والأثران اللذان رواهما الربيع من طريق أبي إسحاق السبيعي هما:
الأول: (ص/217رقم835) قال الربيع : بلغني عن أبي مسعود عن عثمان بن عبدالرحمن المدني عن أبي اسحاق والشعبي قال: كان علي بن أبي طالب يقول في تمجيد الله عز وجل: الحي القائم الواحد الدائم فكاك المقادم ورزاق البهائم … إلخ .
الثاني: (ص/227رقم855) قال: وأخبرنا أبو نعيم عن العباس عن أبي اسحق عن سعيد بن جبير عن نافع بن الأزرق أنه سأل ابن عباس عن قوله تعالى يوميئذ ناضرة إلى ربها قال ابن عباس هو الذي لا كفو له..إلخ .
علق المصحح على قوله: "أبي إسحاق" : [خَ عن أبي إسحاق الشعبي].
ثم كتب المصحح في آخر الكتاب(ص/296) :
[تنبيه: في صحيفة 217 من الجزء الثالث ورد: عن أبي إسحاق والشعبي .
وفي صحيفة 227 منه ورد أبو إسحاق وعلق عليه الشارح رحمه الله عن نسخة أخرى : أبو إسحاق الشعبي ولم نقف على هذا الراوي هل هو الشعبي ولم يعرف بهذه الكنية وإنما هو معروف بأبي عمرو ، أو غيره ، ولعله أبو إسحاق مولى عبيد الله بن الحارث عن أبي هريرة ، أو أبو إسحاق الدوسي مولى بني هاشم عنه أيضاً والله أعلم وهما من طبقة الشعبي أو هو يلي طبقتهما فليتأمل.
أبو إسحاق اطفيش]
وأبو إسحاق الوارد في الإسنادين هو السبيعي بلا شك فإنه معروف بالرواية عن علي –رضي الله عنه- وعن سعيد بن جبير .
بخلاف من ذكرهما "اطفيش" فإنهما لا تعرف لهما رواية عن سعيد بن جبير أو عن علي –رضي الله عنه-.
والواقع أنه قد تصحفت كلمة "السبيعي" إلى "الشعبي" في كلا الإسنادين ولكن المصحح لم يتنبه لذلك أو يكون الناسخ قد أخطأ .
وهذا لقلة ضبط الإباضية لمسندهم ولقلة اهتمامهم بالسنة النبوية .
وإن من أعظم الأدلة على ضعف اهتمامهم بالسنة النبوية أن مسندهم الذي عليه يعولون ويعتمدون –فيما صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يحوي على الأحاديث المسندة إلا القليل وهو مليء بالموضوعات والمنكرات التي يشهد الشرع ببطلانها ونكرانها.
وقد بين بعض أهل العلم من أهل السنة حال هذا المسند بإزاء الدعوى العريضة التي ادعاها الإباضية لكتاب الربيع بن حبيب هذا!.
عموماً كتاب مسند الربيع ليس بحجة ولكنه احتج بأبي إسحاق السبيعي بالعنعنة فما بالك أيها الإباضي المتلقب بِـ"المنصور" تطعن في أبي إسحاق وعنعنته ؟!!
ثانياً :
لم يتعرض المتلقب بِـ"المنصور" في رده لأثر أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- لبعض الأمور التي قد يتعلق بها بعض الناس لإعلال هذا الأثر .
وسأذكر ذلك مع الجواب عليه إتماماً للفائدة ولقطع الطريق لمن أراد التحذلق والتلفيق.
1/ أعل أثر أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- بالانقطاع بين عامر بن سعد البجلي وأبي بكر الصديق وذلك لأن الحافظ المزي ذكر في تهذيب الكمال أن رواية عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- مرسلة .
والجواب:
أن عامر بن سعد البجلي لا يعرف بالتدليس أصلاً ولم يذكره أحد من المتقدمين بالإرسال وإنما هذا شيء تفرد به المزي –فيما أعلم- وتبعه عليه غيره .
والأصل في رواية عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر –رضي الله عنه- الاتصال لأنه معاصر للصديق ولا يعرف بتدليس ولا إرسال.
وقد صحح ابن خزيمة رواية عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر الصديق وهو بهذا يثبت اتصال السند وسماع عامر بن سعد من أبي بكر الصديق –رضي الله عنه-.
فإن قيل: فإن بعض الرواة رواه عن أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد عن سعيد بن نمران .
فالجواب :
أن هذه الرواية غير محفوظة وإنما الرواية المحفوظة رواية من رواه عن أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد عن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- به.
قال الدارقطني في العلل(1/282-283) وسئل عن حديث عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر الصديق في قوله تعالى:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: (النظر إلى وجه الله تعالى) فقال-الدارقطني-: هو حديث رواه إسرائيل بن يونس وأبوه يونس بن أبي إسحاق وشريك وزكريا بن أبي زائدة ومحمد بن جابر عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر .
وقال بعضهم عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن سعيد بن نمران عن أبي بكر
وقال الثوري عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد البجلي قوله لم يذكر فوقه أحداً.
والمحفوظ من ذلك قول إسرائيل ومن تابعه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر].
وأكتفي بهذا القدر لبيان هذا الأمر

2/ وأعل أثر أبي بكر الصديق-كذلك- بالكلام في عامر بن سعد البجلي.
فقد قال الحافظ ابن حجر : مقبول .
الجواب:
أن كلام الحافظ ابن حجر هذا غير مقبول!!
فَـ"عامر بن سعد البجلي" ثقة من رجال مسلم ولم يجرحه أحد .
وقد صحح له : الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وأبو عوانة وغيرهم
وذكره ابن حبان في الثقات .
تنبيه:
قول الحافظ ابن حجر في راو إنه "مقبول" يعد من باب الجرح!
فقد بين الحافظ ابن حجر مراده بذلك فقال في التقريب (ص/14) : [السادسة-يعني : من مراتب الجرح والتعديل- : من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله ، وإليه الإشارة بلفظ: مقبول ، حيث يتابع وإلا فلين الحديث] .
فوصف الراوي بِـ"مقبول" يعني أنه يحتاج إلى متابِع-بكسر الباء- ، فإن لم يتابَع-بفتح الباء- فروايته مردودة .
وحكم الحافظ هنا على عامر البجلي غير مقبول ! فقد احتج به مسلم من غير متابِع!
وكذلك احتج به من ذكرته من الأئمة من غير حاجة إلى متابِع.
والله أعلم.
وبهذا تنتهي هذه الحلقة .
ويبقى الملحق والذي توسعت فيه في تخريج الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين في تفسير (الزيادة) بالنظر إلى وجه الله الكريم.
وسأتريث في كتابة الملحق حتى يأتي الوقت المناسب لنشره .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

الحلقة الثالثة

كتبه : أبو عمر العتيبي