صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







دعوى أن شيخ الإسلام يُحرم جميع صور "التوسل" 

د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

 
المبحث الأول
عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل
 

الوسيلة لغة: القربة، والمنزلة والدرجة، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35] .
وقال سبحانه: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء:57].
وقال عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة *** أن يأخذوك تكحلي وتخضبي (2)
والواسل هو الراغب بالقرب من المتوسل إليه، كما قال لبيد (3):
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم *** بلى كل ذي دين إلى الله واسل (4)
فالتوسل بمعنى التقرب والتوصل إلى الشيء برغبة (5).
ومصطلح التوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه.
ثم يعرف ما أحدثه المحدثون.
فالتوسل المشروع هو الذي أمر الله بابتغائه من الواجبات والمستحبات قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35] .
وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل فيه سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، وجماع الوسيلة الشرعية هو: التوسل باتباع ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم (6).
وأنواعه ثلاثة :
الأول : التوسل إلى الله عزّ وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وذلك بأن يقدم شيئاً من الثناء على الله - عز جل - قبل مطلوبه في الدعاء فيكون من علامات قبول واستجابة الدعاء، قال الباري عزّ وجل: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] .
وما ذكره الله من توسل إبراهيم عليه السلام: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 78 - 85] .
ومن الأدلة قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في صلاته: «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» (8).
ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، اسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً» (9).
وكان من استعاذة النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: «اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني» (10).
الثاني : التوسل إلى الله عزّ وجل بعمل صالح في قضاء الحوائج كتفريج الكربات ومغفرة الذنوب وغيرها، كما قال سبحانه: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] .
وقال عزّ وجل: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 53] .
وقال - سبحانه -: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 16] .
وقوله سبحانه: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [المؤمنون: 109] .
وقال عزّ وجل: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] .
وعن بريدة بن الحصيب (ت - 63هـ) رضي الله عنه أنه قال: سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب» (11).
وما رواه البراء بن عازب (12) رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على جنبك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول» (13).
وعن ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنة (14) من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين قال: يا عبد الله أدّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزي بي، فقلت: إني لا أستهزيء بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» (15).
وينبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن هذا النوع من التوسل المشروع هو أهم أنواعه الذي يوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة فيقول: (التوسل بذلك - أي بالإيمان بالرسل وطاعتهم - إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة) (16).
ومما توسل به ابن تيمية رحمه الله من الأعمال الصالحة: محبة الصحابة، وآل البيت فقال في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب *** ومودة القربى بها أتوسل (17)
الثالث: التوسل إلى الله - عز وجل - بدعاء الرجل الصالح:
قال أنس بن مالك (ت - 93هـ) رضي الله عنه: (أصابت الناس سنة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبينا النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب قائماً في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه يدعو، وما نرى في السماء قزعة (18)، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر عن لحيته صلّى الله عليه وسلّم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا ، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة (19)، وسال الوادي قناةً شهراً ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود) (20).
وكان عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) رضي الله عنه، إذا قحطوا استستقى بالعباس بن عبد المطلب (21) رضي الله عنه، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون) (22).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) رحمه الله أنه كان من دعاء العباس (ت - 32هـ) قوله: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء، مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس) (23).
والأصل في دعاء الرجل الصالح لأخيه أنه مأمور به مرغب فيه، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به، وقد ثبت في الصحيح عن أبي الدرداء (24)، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» (25)، أي بمثل ما دعوت لأخيك به) (26).
ولكن هل يطلب المسلم من الرجل الصالح أن يدعو له؟
الصواب: أن هذا العمل في الأصل غير محرم، وغير مأمور به، إلا أن يكون قصد طالب الدعاء من الرجل الصالح أن ينتفع المطلوب منه بالدعاء، وينتفع هو - أيضاً -، أما إذا كان قصده انتفاع نفسه فقط فهذا غير مأمور به.
قال رحمه الله: (وأما سؤال المخلوقِ المخلوقَ أن يقضي حاجة نفسه، أو يدعو له فلم يؤمر به) (27).
وقال - أيضاً -: (ومن قال لغيره من الناس: ادع لي - أولنا - وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء، وينتفع هو أيضاً بأمره، ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره لسائر فعل الخير، فهو مقتد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح.
وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته، لم يقصد نفع ذلك، والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله، وهذا كله من سؤال الأحياء الجائز المشروع) (28).

وأما التوسل الممنوع فهو الذي لم يأمر الله بابتغائه، وهو توسل بغير ما شرعه وأراده الله ورسوله، وهو ثلاثة أنواع:
الأول: التوسل إلى الله - عز وجل - بذوات المخلوقين، كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان - أي بذاته - أن تقضي حاجتي، في طلب رزق أو علم أو فك كربة أو غيرها.
وهذا النوع من التوسل لم يكن الصحابة يفعلونه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا في الاستسقاء، ولا في غيره لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره، ولا عند غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المعروفة المشهورة بينهم، وكل ما نقل في هذا إنما هو أحاديث ضعيفة، أو عمن ليس قوله حجة.
وأما توسل الصحابة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالمقصود به التوسل بدعائه في حياته، لا بذاته في حياته أو بعد مماته، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته) (29).
وبيّن رحمه الله التوسل الصحيح بالأنبياء، وأن التوسل بذواتهم لا يجوز، ولا منفعة للعبد حاصلة منه: فقال: (التوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم، وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم، وموالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم.
وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد، وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم، والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم، وفضله عليهم) (30).
وعلى ذلك فالتوسل بالأنبياء لا يكون إلا بأحد سببين:
إما سبب منه إليهم: كالإيمان بهم، والطاعة لهم.
أو بسبب منهم إليه، كدعائهم له، وشفاعتهم فيه.
وقد نهينا عن التوجه إلى ذات من الذوات إلا إلى الله - عز وجل - وأمرنا بالإخلاص لله - سبحانه - في دعائنا، وتوجهنا، واعتقادنا، وأعمالنا، وأقوالنا، كما قال - سبحانه -: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] ، وقال سبحانه: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .
الثاني : التوسل إلى الله - عز وجل - بجاه أحد، أو حقه على الله - عز وجل - أو حرمته، ومنزلته عند ربه - سبحانه وتعالى -، وهذا - أيضاً - باطل، فليس في النصوص ما يثبت صحة هذا التوسل، وجاه المخلوق إنما استفاده من قربه من شرع الله بكثرة العمل الصالح، وهذه المنزلة مختصة به دون غيره، وليس لها تأثير على بقية المخلوقين من حيث التوسل بها لهم في الدنيا، كما قال تعالى: { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} [النجم: 39 - 41] .
والسؤال بحق أحد من الخلق مبني على أصلين:
الأصل الأول: هل له حق عند الله؟. الصواب: أنه ليس لأحد من الخلق حق على خالقهم إلا ما أوجبه - سبحانه - على نفسه لخلقه تكرماً منه وتفضلاً، لا إلزاماً من أحد عليه، كما بين - سبحانه - بقوله: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] .
وقال: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47] ، وقال: { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الروم: 6] .
وقد ورد في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» (31).
وثبت عن معاذ بن جبل (ت - 17هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معاذ: أتدري ما حق الله على عباده؟ ». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. يا معاذ: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ». قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن لا يعذبهم» (32).
الأصل الثاني : هل يُسأل الله عزّ وجل بذلك الحق؟
والجواب عن هذا أن يقال: إن كان الحق الذي سأل به سبباً لإجابة السؤال حَسُن السؤال به، كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه.
وأيضاً: فإن هذا الحق من الله لعباده أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم: ليس في استحقاقهم له ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن هذا الذي استحق ما استحقه إنما هو بسبب ما يسره الله له من الإيمان والطاعة وليس في إكرام الله له ما يقضي بإجابة سؤال المسؤول بحقه.
فإن قيل: القصد هو شفاعة المتوسل به ودعاؤه: فيقال: هذا حق، وتوسل مشروع، كما سبق في التوسل بدعاء الرجل الصالح الحي، فيكون القصد صحيحاً إذا كان حياً قادراً، ويكون الإطلاق واللفظ خاطئاً بدعياً.
وإن قيل: السبب هو محبتي لفلان محبة شرعية؛ لإيمانه بالله، وقربه منه.
فيقال مثل ما يقال في الأول: إن السبب شرعي، وهو داخل في التوسل المشروع لكن الإطلاق واللفظ خاطئ.
ثم يجب أن يفرق بين المحبة لله، والمحبة مع الله، فمن أحب مخلوقاً لطاعته لربه وقربه منه، فهذه محبة لله وفي الله، ومن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً من دون الله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه (33)، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } [البقرة: 165] .
وأما قول القائل: أسألك بالله وبالرحم، أو بحق الرحم، فالجواب عنه من جهتين:
الأولى : أن الرحم لها حق توجبه على صاحبها بنص الكتاب والسنة، كما قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } [النساء: 1] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» (34).
الثانية : أن الإقسام بها لا يجوز فلا يجوز قسم مخلوق بمخلوق، والرحم مخلوقة.
كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن، وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت» (35)، أما إن كان قصد القائل: أسألك بسبب الرحم فإن هذا حق؛ لأنها توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً (36).
وأما الاستدلال على جواز السؤال بحق أحد على الله بحديث: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك» (37)، فهو ضعيف جداً؛ ذلك لضعف سنده، ولعدم صحة استدلالهم بالحديث على ما يريدون.
أما سند الحديث: فقد ورد من طريقين:
الطريق الأول : فيه عطية العوفي: وهو ضعيف، لضعف حفظه، ولتدليسه التدليس القبيح.
وقد وصفه الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) بضعف الحفظ (38).
وأما التدليس، فهو يدلس التدليس القبيح، وهو تدليس الشيوخ، ذلك أنه كان يأتي الكلبي (39)، وكنيته: أبو سعيد، فيحدث الناس ويقول: قال أبو سعيد يوهمهم أنه الخدري (40).
وقد عده ابن حجر (ت - 852هـ) ، من الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين التي قال عنها: (الرابع: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل) (41).
ولذلك ضعف حديثه جمع من أهل العلم؛ فقال ابن حبان (ت - 354هـ) :
(لا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب) (42).
وقال ابن عدي (ت - 365هـ) : (كان سفيان الثوري يضعف حديث عطية) (43).
وقال عنه الذهبي (ت - 748هـ) : (تابعي شهير ضعيف) (44).
وقال - أيضاً -: (ضعفوه) (45).
وفي السند ضعفاء غير عطية العوفي: ففيه فضيل بن مرزوق وهو ضعيف، وإن كان عطية أضعف منه (46).
وفي السند: الفضل بن موفق، وهو ضعيف - أيضاً - (47).
وأما الطريق الثاني: ففيه: الوازع بن نافع العقيلي: وهذا متروك الحديث.
فقال ابن معين (ت - 233هـ) : ليس بثقة (48).
وقال البخاري (ت - 256هـ) : منكر الحديث (49).
وقال النسائي (ت - 303هـ) : متروك الحديث (50).
وقال ابن حبان (ت - 354هـ) : (كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته) (51).
وقد ضعف ابن تيمية رحمه الله هذا الحديث من طريقيه، كما قال: (هذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف - أيضاً -) (52).
وأما عن استدلالهم بالحديث: فعلى فرض صحته، فإنه لا يدل على ما يريدون ويقصدون؛ لأن حق السائلين هو ما تكفل الله به، ووعد به، وجعله حقاً عليه تكرماً منه وتفضلاً على عباده ألا وهو إجابة سؤالهم وإعطاؤهم طلبهم، كما قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] وقال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186] .
ومما أوجبه على نفسه ما ذكره سبحانه بقوله: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] ، وقوله: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47] ، وقوله: { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا } [التوبة: 111] .
وإذا كان حق السائلين، والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » (53)، فالاستعاذة بمعافات الله التي هي فعله، كالسؤال بإثابته التي هي فعله (54).
قال ابن تيمية: (حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم) (55).
الثالث : الإقسام على الله بأحد من خلقه: الإقسام على الله: أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل: والله ليفعلن الله كذا، أو والله لا يفعل الله كذا.
والقسم إما أن يكون قسم بالله، أو قسم على الله.
فأما القسم بالله على أحد فهذا محله كتب الفقه في أبواب (الأيمان والنذور)، من حيث أنواعه وأحكامه.
وأما القسم على الله فهو أنواع:
أولاً : أن يقسم على الله بما أخبر به الله أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الشريعة، من نفي، أو إثبات، فهذا جائز، بل هو دليل قوة إيمان المقسم، مثل قوله: والله لا يغفر الله لمن أشرك به، أو والله ليدخلن الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب.
ثانياً : أن يقسم على ربه، لقوة رجائه به، وحسن ظنه بربه، وهؤلاء قليل (56)، كما أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك في قصة الربيع بنت النضر (57) رضي الله عنها فقال أنس رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس، كتاب الله القصاص »، فرضي القوم وعفوا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» (58).
وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رب أشعث أغبر ذي طمرين (59)، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» (60).
وأما إذا كان الحامل لهذا القسم: تحجر فضل الله عزّ وجل والإعجاب بالنفس، وسوء الظن به - سبحانه - فهذا محرم، وذريعة لإحباط عمل المقسم، ودليل ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عزّ وجل: «من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت له، وأحبطت عملك» (61).
ثالثاً : القسم على الله بأحد من خلقه، فهذا لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا الصحابة، ولا التابعين، بل النص على تحريمه، فلا يجوز الحلف بغير الله، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (62)، وقال: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (63).
فلا يحل لأحد أن يقسم بالمخلوقات ألبته (64)، وهو حرام إجماعاً، كما حكى ابن حزم (65) الإجماع على ذلك (66).
وبيّن ابن تيمية رحمه الله حرمة الإقسام على الله بمخلوق بقسمة عقلية جيدة، فذكر أن الإقسام على الله بأحد من المخلوقات: إما أن يكون مأموراً به: إيجاباً أو استحباباً، أو منهياً عنه: نهي تحريم أو كراهة، أو مباحاً لا مأموراً به ولا منهياً عنه.
فإن قيل: إن ذلك مأمور به مباح: فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، وإما أن يقال: إن المشروع هو القسم بالمخلوقات المعظمة فقط، أو ببعضها.
فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها: لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن، وهذا لا يقوله مسلم.
وإن قيل: يُسأل بالمخلوقات المعظمة فقط كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه؛ لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، وسائر ما أقسم الله به في كتابه، فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته فهي دليل على ربوبيته، وألوهيته، ووحدانيته، فهو سبحانه يقسم بها؛ لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، وأما نحن المخلوقين فليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع.
وهذا القسم بالمخلوقات: شرك، ويلزم منه أن يقسم بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها الله فجورها وتقواها، وبالرياح، والسحاب، والكواكب.
ويلزم من ذلك أن يسأل بالمخلوقات التي عبدت من دون الله كالشمس والقمر.
قال ابن تيمية: (الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام) (67).
وأما إن قال قائل: إنه يقسم على الله بمعظم دون معظم من المخلوقات، كالأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره.
فيجاب: بأننا وإن أقررنا هذا التفاضل بين بعض المخلوقات، وأن بعضها أفضل من بعض، إلا أنها جميعاً مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نداً لله - تعالى - فلا يُعبد، ولا يتوكل عليه، ولا يخشى، ولا يتقى، ولا يصام له، ولا يسجد له، ولا يرغب إليه ولا يقسم به، وقد سوى الله بين المخلوقات المعظمة وغيرها في ذم الإشراك بها مع الله بقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 79 - 80] .
وقال سبحانه: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56 - 57] .
وقال سبحانه: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)} [سبأ: 22] .
قال ابن تيمية رحمه الله: (فقد تبين أن الله سوى بين المخوقات في هذه الأحكام، لم يجعل لأحد من المخلوقين سواء كان نبياً أو ملكاً أن يقسم به، لا يتوكل عليه، ولا يرغب إليه ولا يخشى، ولا يتقى) (68).


المبحث الثاني
دعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين، وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

المطلب الأول
دعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين، وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله جواز التوسل بذوات المخلوقين من الأنبياء والصالحين، وأن هذا من شريعة الإسلام، قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.
فمن الكتاب يستدلون بقوله تعالى: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .
إذ الوسيلة عامة تشمل التوسل بالأشخاص، والتوسل بالأعمال، بل يرون أن المتبادر من التوسل في الشرع هو هذا وذاك رغم تقول كل مفتر (69).
وأما من السنة فيستدلون بحديث توسل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه بالعباس (ت - 32هـ) رضي الله عنه وبغيره (70).
وأما الإجماع: فقد حكى الإجماع على جواز التوسل بذوات الأنبياء في حياتهم حضوراً أو غائبين، وبعد مماتهم: جمع منهم، ويرون أن هذا هو اتفاق السلف عبر القرون المفضلة الأولى، حتى جاء ابن تيمية رحمه الله بعد القرن السابع، وخرق هذا الإجماع:
(وقد جرى عمل الأمة على التوسل والزيارة إلى أَنِ ابتدع إنكار ذلك الحراني) (71).
(الخلاف هو على التوسل بالميت الصالح، ولم يكن يختلف على جوازه أحد من السلف إلى القرن السابع، حيث ابتدع ابن تيمية هذا الخلاف الفتان) (72).
(وطوال أربعة عشر قرناً: لم ينكره أحد سوى ابن تيمية وتلاميذه في القرن الثامن الهجري!) (73).
(التوسل بالأموات زعم ابن تيمية أنه ممنوع) (74).
وقال السبكي (ت - 756هـ) : (لم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار) (75).
ولا يكتفي المناوئون لابن تيمية رحمه الله بإباحة التوسل بالأنبياء والصالحين، واستحبابه، بل يرون أن التوسل مشروع بعامة المسلمين وخاصتهم (76).
وينكرون على من منع سؤال أولياء الله الموتى، بأنه لا حجة لهم إذا استدلوا بحديث: «إذا سألت فاسأل الله» (77)، لأن الأموات الصالحين أحياء في قبورهم يتصرفون، وأنه تواتر عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم على أن موتى المؤمنين في البرزخ يعلمون، ويسمعون، ويرون، ويقدرون على الدعاء، وأن الشكوى لهم من ظلم الظالم قد تفيد، فلهم ما شاء الله من التصرفات (78).
ويرون تخطئة ابن تيمية رحمه الله حين فرق بين التوسل بالأحياء الحاضرين القادرين، وبين التوسل بالميت، بأنه لا دليل على التفريق بين الحي والميت، ومن فرق بين الحي والميت فهو دليل على أنه يرى فناء الأرواح، وهذا يؤدي إلى إنكار البعث (79).
ويذكرون مثالاً على جواز التوسل بالصالحين الموتى: أن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله كان يتوسل بأبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله ببغداد، يأتي إلى ضريحه ويركع ركعتين، ويتوسل به (80).
 

المطلب الثاني
مناقشة الدعوى

حين يزعم المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه أول من قال بتحريم التوسل بالذوات مطلقاً، أو الأموات مطلقاً، أو الأحياء فيما لا يقدرون عليه، أو في مغيبهم، فليس هذا افتراءً على ابن تيمية رحمه الله وحده، بل هي فرية على القرون السبعة الأولى أنهم يحرمون ما أجازه الله ورسوله، ثم هو افتراء على الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، من غير دليل صحيح فيتبع، أو أثر فيقتفى، فليس في الكتاب العزيز، ولا السنة المطهرة أي دليل يجيز أو يشير إلى إباحة هذا التعلق بالذوات، والتجاء القلب إلى المخلوق وترك الخالق.
وابن تيمية رحمه الله قد أخذ عهداً على نفسه أن لا يقول بأي قول جديد لم يسبقه إليه صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتابعوهم، ومن جاء بعدهم من سلف الأمة الأخيار، فهو متبع لا مبتدع، ويرى أنه قد كُفي بمن سبقه؛ بما بينوا وأوضحوا من غوامض النصوص، ودقائق المسائل.
يقول رحمه الله عن نفسه: (المجيب - ولله الحمد - لم يقل قط في مسألة إلا بقول سبقه إليه العلماء، فإن كان يخطر له ويتوجه له فلا يقوله وينصره إلا إذا عرف أنه قد قاله بعض العلماء) (81).
ثم قال: (فمن كان يسلك هذ المسلك كيف يقول قولاً يخرق به إجماع المسلمين، وهو لا يقول إلا ما سبقه إليه علماء المسلمين؟ فهل يتصور أن يكون الإجماع واقعاً في مورد النزاع؟) (82).
ثم بيّن رحمه الله السبب في تسرع بعض الناس إذا وجد قولاً أو قولين حكم بالإجماع بأنه ناتج عن الظن الفاسد، والجهل بأقوال أهل العلم، مما ينتج عنه عدم معرفة مظان الإجماع فيقول: (لكن من لم يعرف أقوال العلماء قد يظن الإجماع من عدم علمه النزاع، وهو مخطيء في هذا الظن لا مصيب، ومن علم حجة على من لم يعلم، والمثبت مقدم على النافي) (83).
وإذا ادعى مدع أن غيره خالف الإجماع فلا يقبل قوله إلا إذا كان ممن يعرف الإجماع والنزاع، وهذا يحتاج إلى علم عظيم يظهر به ذلك؛ لأن دعوى الإجماع من علم خاصة العلماء الذي لا يمكن الجزم فيه بأقوال العلماء، وغاية الأمر أن مدعي الإجماع لا يعلم منازعاً في المسألة، لا أنه يجزم بنفي المنازع؛ لأن عدم العلم لا يعني العلم بالعدم (84).
ومن زعم أن ابن تيمية رحمه الله قد خالف الإجماع، فإن هذه الدعوى تقلب عليه لينقلب مدحوراً، فيطالب بدليل واحد من القرآن يبيح ما أفتى ابن تيمية بحرمته، أو بدليل من السنة، أو بقول أحد من الصحابة، أو التابعين، أو المشهود لهم بالعلم والتقى والاعتقاد الحق من سلف الأمة، ولن يجدوا حتى يلج الجمل في سم الخياط، فلم يخالف ابن تيمية رحمه الله إلا أهواء المبتدعة، وتحريفهم لمعاني نصوص الكتاب والسنة، وأغاليطهم على سلف الأمة.
فالإجماع على خلاف ما ذكروه، كما يقول رحمه الله: (ثم سلف الأمة، وأئمتها، وعلماؤها إلى هذا التاريخ سلكوا سبيل الصحابة في التوسل في الاستسقاء بالأحياء الصالحين الحاضرين، ولم يذكر أحد منهم في ذلك التوسل بالأموات، لا من الرسل ولا من الأنبياء، ولا من الصالحين.
فمن ادعى أنه علم هذه التسوية التي جهلها علماء الإسلام، وسلف الأمة، وخيار الأمم، وكفّر من أنكرها، وضلله: فالله تعالى هو الذي يجازيه على ما قاله وفعله) (85).
ومن باب ذكر المثال ممن تقدم ابن تيمية رحمه الله من السلف على تحريم التوسل، ما نقله فقهاء الحنفية عن أبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله وصاحبه أبي يوسف (86)، رحمه الله من أنهما يحرمان التوسل بحق فلان، أو بحق الأنبياء والرسل (87).
وحين يلزم ابن تيمية رحمه الله في باب العبادات التوقيف؛ فما ورد فإنه يقبل، وما لم يرد فإنه يرفض ويرد، فإن المناوئين لا تعجبهم هذه المنهجية الدقيقة؛ لأنها تحجر عليهم كثيراً من بدعهم، ومخترعاتهم في الشرع، فيزعم زاعم أنه ربما وقعت بعض أنواع التوسل التي ينكرها ابن تيمية لكنها لم تنقل إلينا، وبعضهم يرى أن ابن تيمية يتيه في بيداء العدم حين يلتزم بهذه المنهجية (88).
لكن هذه المزاعم مرفوضة: فلو وقعت أنواع من التوسل غير ما ذكر في الأحاديث والآثار الصحيحة لنُقل أيضاً؛ لأن الشرع محفوظ فقد نقل الصحابة ما هو أدق من هذا الموضوع المهم، فكيف يجمع الصحابة ويطبقون على عدم نقله: إما أن يكونوا جهلة، أو أنهم يكتمون الحق لغرض في نفوسهم، وكلا الأمرين باطل ممتنع، فلا يبقى إلا القول بأنه لم يقع في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا عهد الصحابة شيء من ذلك ويقرون عليه.
ويجاب عنهم - أيضاً -: بأن هذه العبارة وهي قولهم: إنه يتيه في بيداء العدم يلزم منها عدم كمال الدين، وعدم تبليغ الرسول صلّى الله عليه وسلّم البلاغ المبين، حتى يجتهد أولئك في اختراع عبادات لم تكن في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، على احتمال أن تكون وقعت ولم تنقل إلينا، وقد أخبر الله بكمال الدين في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] .
لكن المناوئين لابن تيمية: لا يقولون بهذا إلا فيما يخالف أهواءهم، وإلا فهم يذكرون عن مسائل أنها لا تجوز لعدم ورودها، ومع ذلك لا يرد بعضهم على بعض فيها، وهذا يدل على أنهم يتبعون أهواءهم، والله تعالى يقول: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .
مثال ذلك قول ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (أنكر العز بن جماعة (89) هذا الموقف كالعَود بعد السلام على الشيخين رضي الله عنهما (90) إلى موقفه الأول محتجاً بأن واحداً منهما لم يرد عن الصحابة، ولا التابعين) (91) وأقره عى هذا.
وقال - أيضاً -: (ويظن من لا علم له أنه - أي الانحناء للقبر الشريف - من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض له؛ لأنه لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعهم) (92).
والمناوئون يسلكون كل الطرق لإقناع الناس بشبهاتهم وبدعهم، ومن عجيب أمرهم مع ابن تيمية رحمه الله أن قال بعضهم بأنه يرى التوسل البدعي!، ويوافق عليه، فإذا أجاز التوسل بدعائه، فقد أجاز التوسل بذاته، وأن ابن تيمية أثبت جواز التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم دون تفريق أو تفصيل بين حياته وموته، وحضوره وغيابه (93).
وهذا من عجائب المناوئين، فلا يدرون: أيقولون بأنه يمنع التوسل البدعي: تحذيراً لمن يضللونه من ابن تيمية، أم يقولون بأنه يقول بقولهم ويوافقهم: ويحرفون النصوص لأجل ذلك؛ إثارة للفتنة، وتلبيساً على العامة.
وأما التوسل بالشخص سواء كان نبياً أو ولياً صالحاً، فلم يمنع ابن تيمية رحمه الله ذلك، وإنما قال: إن هذا اللفظ فيه إجمال واشتراك: -
فإن أريد به التوسل بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته، والتوسل بدعاء الصالحين في حياتهم فهذا جائز.
وأما إن أريد به: التوسل بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ذوات الصالحين في حياتهم أو بعد مماتهم فهذا غير جائز، ولا يقره ابن تيمية رحمه الله ولا السلف السابقون.
فقال رحمه الله عن الأول الجائز: (دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع، إذا جعل الله تعالى المحل قابلاً له) (94).
وقال عن دعاء الصالحين بعد ما بين أن الصحابة كانوا يتوسلون بدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته: (فهذا كان توسل الصحابة به في حياته، فلما مات توسلوا بدعاء غيره، كدعاء العباس، وكما استسقى معاوية، بيزيد بن الأسود الجرشي (95)) (96).
وقال عن الثاني الممنوع، وهو التوسل بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ذوات الصالحين: (وأما التوسل بدعائه وشفاعته - أي الرسول صلّى الله عليه وسلّم - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته، لكان هذا أولى من التوسل بالعباس) (97).

وأما استدلال المناوئين باستسقاء عمر (ت - 23هـ) بالعباس (ت - 32هـ) رضي الله عنهما على جواز التوسل بالذوات، وبالصالحين، فهو استدلال ظاهر البطلان، وذلك من جوه:
1 - أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ويدل بعضها على بعض، وحديث توسل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه مما يتفق فيه المبتدعة وأهل السنة على تقدير محذوف فيه، ولكن ما هو هذا التقدير في قوله: (كنا نتوسل إليك بنبينا.. وبعم نبينا).
أما المناوئون، فيرون أن المحذوف تقديره: بجاه نبينا، وقد بينا بطلان التوسل بالجاه - كما تقدم -.
وأما أهل السنة فيرون أن تقدير المحذوف: بدعاء نبينا، وبدعاء العباس، وهذا تقدم بيانه ويوضحه الوجوه القادمة - أيضاً - .
2 - أن الصحابة إذا أجدبوا، واحتاجوا الماء كان من عملهم أن يأتوا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته فيطلبون منه أن يدعو الله لهم، وأن يسأل الله إنزال الغيث فيفعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مراراً.
ولم يكن الصحابة - رضوان الله عليهم - إذا احتاجوا إلى المطر والسقيا يذهبون إلى بيوتهم ويمكثون فيها، ويقولون: اللهم بنبيك محمد اسقنا الغيث، وهذا معلوم لمن نظر واستبصر بالنصوص.
3 - أن قول عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) معناه: أننا توسلنا بأمر يقدر عليه العباس (ت - 32هـ) ، ولا يقدر عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الدعاء في هذا الوقت بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فطلبنا منه أن يدعو لنا لتغيثنا، فالتوسل بالعباس (ت - 32هـ) ممكن، والتوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته غير ممكن، ولهذا عدل عمر (ت - 23هـ) عن التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى التوسل بعمه العباس (ت - 32هـ) .
قال ابن تيمية رحمه الله: (لو كان توسلهم به في مماته كتوسلهم به في حياته لكان توسلهم به أولى من توسلهم بعمه العباس ويزيد وغيرهم.
فهل كان فيهم في حياته من يعدل عن التوسل به، والاستشفاع إلى التوسل بالعباس وغيره؟.
وهل كانوا وقت النوازل والجدب يَدَعونه ويأتون العباس؟) (98).
4 - ليس من المعقول أن يقر الصحابة عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه على الانصراف عن التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى التوسل بغيره، ولم ينكروا عليه، فيلزم أحد أمرين:
(إما أن يكون المهاجرون والأنصار جاهلين بهذه التسوية وهذا الطريق. أو أنهم سلكوا في مطلوبهم أبعد طريق) (99).
5 - لو كان التوسل بالذوات بعد الممات ممكنا - كما يقوله المبتدعة - لكان العدول عن التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العباس (ت - 32هـ) في أصعب الظروف سخفاً ترفضه العقول السوية، خاصة وأنهم يقولون بحياة الأنبياء في قبورهم حياة حقيقية كحياتهم الدنيوية.
6 - أن الحديث بين أن عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) كان إذا قحطوا، استسقى بالعباس (ت - 32هـ) .
وفي هذا اللفظ إشارة إلى تكرار استسقاء عمر (ت - 23هـ) بالعباس (ت - 32هـ) رضي الله عنهما، وليس من باب التعليم للناس بجواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل.
7 - أن الآثار قد بينت دعاء العباس (ت - 32هـ) رضي الله عنه ربه في الاستسقاء، وفي هذا رد على من قال إن التوسل كان بذاته لا بدعائه.
8 - لو كان التوسل بذات العباس (ت - 32هـ) وجاهه عند الله، لما جاز أن يترك التوسل بذات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجاهه، لجاه غيره وذاته.
9 - أن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه قد أُمرنا بالاقتداء به شرعاً، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (100).
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (101).
وقد وافق القرآن مرات عديدة.
فعدوله رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته، إلى التوسل بدعاء غيره هو من سنة الخلفاء الراشدين (102).
وأما سؤال الخلق فهو قسمان: سؤال الخلق في حياتهم، وسؤال الخلق بعد مماتهم.
أما سؤال الخلق: فهو في الأصل محرم، ويجوز في حالات، وتركه توكلاً أفضل كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [الشرح: 7 - 8] ، أي ارغب إلى الله لا إلى غيره.
وعن عوف بن مالك (103) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بايع طائفة من أصحابه وأسرّ كلمة خفية أن لا تسألوا الناس شيئاً.
قال عوف: (فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه) (104).

ومن الحالات التي يجوز فيها أن يسأل المرء غيره شيئاً:
1 - إن كان له عند غيره حق من دين أو عين كالأمانات فله أن يسألها ممن هي عنده.
2 - وللرجل أن يطلب حقه من أموال الغنائم من ولي أمر المسلمين.
3 - وكذلك سؤال النفقة لمن تجب له: كالزوجة والأولاد.
4 - وأمور البيع والشراء: البائع يطلب الثمن، والمشتري يطلب السلعة.
5 - ومن السؤال ما لا يكون مأموراً به، إلا أن المسؤول مأمور بإجابة السائل، كما قال تعالى: { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } [الضحى: 10] ، وقال: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج: 24 - 25] .
وقد يكون السؤال منهياً عنه نهي تحريم أو تنزيه، وإن كان المسؤول مأموراً بإجابة سؤاله، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان من كماله أن يعطي السائل، وإن كان نفس سؤال السائل منهياً عنه، قال ابن تيمية رحمه الله في ذلك: (ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئاً من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم، وإن كانوا قد يطلبون منه أن يدعو للمسلمين) (105)، وضرب لذلك دليلاً بقول عمر (ت - 23هـ) لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نحر بعض الدواب خوف ملاقاة العدو وهم جياع: (إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها، ثم تدعو الله بالبركة، فإن الله يبارك لنا في دعوتك) (106).
ومن السؤال ما يكون مأموراً به، ويكون المسؤول مأموراً بإجابته - أيضاً - لمن كان عنده إجابته كسؤال العلم، فإن الله أمر بسؤال العلم، كما في قوله تعالى: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] ، وقال: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } [يونس: 94] ، وقال: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45] .
وأما سؤال المخلوق المخلوق أن يقضي حاجة نفسه، أو يدعو له فلم يؤمر به (107).
وأما من طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله مثل أن يطلب شفاء مريضه، أو وفاء دينه، أو عافية أهله، أو غفران ذنبه، فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله عزّ وجل فلا تطلب لا من ملك ولا نبي ولا ولي (108)، وهي نوع من الشرك.
وأما سؤال الخلق بعد مماتهم: فلا يجوز مطلقاً لا سؤال الأنبياء، ولا الأولياء، ولا غيرهم من باب أولى، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما سؤال الميت فليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب بل ولا مباح (109)، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة، وليس فيه مصلحة راجحة) (110).
وقال: (لا يجوز أن يُسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يُشكى إليه شيء من مصاب الدنيا والدين) (111).
والأنبياء والصالحون لا يقرون أحداً يعبدهم أو يغلو فيهم في حياتهم وهم يعلمون، بل ينهون عن ذلك ويعاقبونهم عليه، كما قال الله - عز وجل - عن عيسى - عليه الصلاة والسلام -: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة: 117] .
وهذا شأن أنبياء الله وأوليائه، وإنما يقر الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً، كفرعون ونحوه، ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد.
والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أرباباً، والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم (112).
وبالجملة؛ فإن سؤال الخلق فيه ثلاث مفاسد، ويجتمع فيه أنواع الظلم الثلاثة:
فالمفسدة الأولى : مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي من نوع الشرك.
والثانية : مفسدة إيذاء المسؤول، وهي من نوع ظلم الخلق.
وأما الثالثة : فهي مفسدة الذل لغير الله، وهو ظلم النفس (113).
وأما من دعا المخلوقين من دون الله فقد أشرك (114)، ولا يوجد نص عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة، ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين، فضلاً عن دعاء تماثيلهم، فإن هذا من أصول الشرك. الذي نبهت عليه الرسل (115).
وقد أمر الله بدعائه وحده - سبحانه - فقال: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: 60] .
وقال - سبحانه -: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } [يونس: 106] .
وقال عزّ وجل: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأحقاف: 5] .
ولا يجوز صرف الدعاء إلا لله؛ لأن الدعاء عبادة يصحبها محبة، ورغبة، وخضوع للمدعو، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء هو العبادة» (116).
ويعجب ابن تيمية رحمه الله من كثير من الناس الذين نهوا عن الصلاة عند القبور سداً لذريعة الشرك، ثم هو يقصد الدعاء عندها، ويرى أن الدعاء عندها مظنة الإجابة، فكيف بمن يدعو صاحب القبر من دون الله (117)؛ ولذا لم يكن الصحابة يطلبون من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد موته الدعاء، ولا يدعونه من دون الله (118).
إن دعاء الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم وفي مغيبهم: هو من الدين الذي لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولاً، ولا أنزل به كتاباً، وقد قال الله عزّ وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ } [الشورى: 21] ، وهذا الأمر ليس واجباً، ولا مستحباً باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين (119).
وأما مسألة حياة الأنبياء في قبورهم، فقد بينت - سابقاً - القول الصواب فيها، وأنها حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء في قبورهم، لكنها ليست كالحياة الدنيوية.

وأما ما يروى من توسل الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله بأبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله فهذه: -
1- حكاية كغيرها من الحكايات التي تروى عن مجاهيل لا يعرفون، ليس لها أصل ولا سند.
2 - أن الشافعي (ت - 204هـ) لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده ألبته، ولم يكن هذا العمل معروفاً على عهد الشافعي (ت - 204هـ) .
3 - أن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله قد رأى بالحجاز واليمن والشام والعراق وغيرها من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة (ت - 150هـ) وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده.
4 - أن أصحاب أبي حنيفة (ت - 150هـ) الذين أدركوه مثل أبي يوسف (ت - 183هـ) ومحمد بن الحسن (ت - 189هـ) وزفر (120)، والحسن بن زياد (121)، وطبقتهم: لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة (ت - 150هـ) ، ولا عند قبر غيره.
5 - أن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله ثبت عنه ما يدل على نهيه عن تعظيم القبور، مثل قوله: (وأكره أن يبني على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مسوى، أو يصلى إليه) (122).
وأيضاً: (كره والله تعالى أعلم أن يعظم أحد من المسلمين - يعني يتخذ قبره مسجداً -، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد) (123).
وبهذا يتبين أن هذه القصة مكذوبة عليه، فلم يكن في عهده ذلك، وإنما وجدت هذه الأمور - أي تعظيم القبور والتوسل بأصحابها - لما تغيرت أحوال الإسلام في المائة الرابعة (124).
 

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية