صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مختارات رمضانية من مقالات الشيخ صفوت نور الدبن رحمه الله

محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -


رمضان شهر الصالحات
بقلم الشيخ / محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -


الحمد لله فى بدء كل أمر ، وفى وسطه ، وعند منتهاه . فإن العبد إذا عرف نعم الله عليه لم يزل له حامداً شاكراً مسبحاً . ومن ذنوبه تائباً مستغفراً . والكيس فى الدنيا يتحرى أوقات عمله ، فيتحرى موسم المطر لبذره وغرسه ، وموسم الإثمار لجنيه وحصاده . ويتحرى شروق الشمس لما يحتاج فيه إلى الضوء ، ودخول الليل لما يحتاج السكون . وهكذا .
وهذا رمضان أقبل ، وهو موسم الخيرات المجتمعة ، فمن اغتنم فاز ، ومن ضيعه فقد ضيع خيراً كثيراً . والله رب العالمين جمع الخير فى قوله : " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " ( البقرة : 185 ) .
وفى الحديث : " بَعُد من أدرك رمضان ولم يُغفر له " .
وفى الحديث : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت مردة الشياطين "
ومرور هذه الأيام والشهور إنما هي من عمر العبد ، الذي يلقى ربه فيسأله عما عمل فيها ، فمن لم يغتنم العمل فى رمضان وضيعه فقد ضيع خيراً كثيراً ، ولذا ، فإننا ندعو أنفسنا والناس جميعاً إلى الانشغال فى رمضان بالصالحات من الأعمال ، والمكفرات من الذنوب ، طمعاً فى مغفرة الله وعفوه ، وأملاً فى رضوانه وجنته ، وحذراً من عقوبته ونقمته .
وإن الذنوب التى تقع من العباد هى سبب بوار الدنيا ، وسبب عذاب الله يوم القيامة . وإن دفع هذه الذنوب له أسباب ، من قام بها ، كان الرجاء أن يحميه الله من بوار الدنيا وعذاب الآخرة ، ومن هذه الأسباب التى ننصح أنفسنا وإخواننا بها فى كل وقت خاصة فى شهر رمضان :

أولاً : التوبة النصوح :
فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له . والله يقبل التوبة من جميع الذنوب ( الكفر - والشرك - والقتل فما دونه ) .
فيقول سبحانه : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " ( الأنفال : 38 ) .
وإن توبة العبد من الذنب تمحو الإثم بفضل الله وعطائه سبحانه ، بل إن التوبة من الذنب توجب لصاحبها من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء ، ما لا يحصل له بغير التوبة من الذنب ، لذا كان حري بالعبد إذا وقع منه ذنب بغفلة أو غلبة الشهوة عليه ، أسرع إلى ربه ومولاه قائلاً : رب قد أذنبت فاغفر لي ، فمن كان هذا حاله يقول سبحانه له : ( عبدى افعل ما شئت فقد غفرت لك ) .

ثانياً : الاستغفار :
وهو قد يكون مع التوبة أو بدونها ، فإن كان معها فالتوبة تمحو جميع الذنوب والسيئات ، وإن كان بدونها ، فهو من جنس الدعاء والسؤال . فهو من أسباب دفع العذاب ، وقد ساق الله فى كتابه استغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فقال سبحانه : " فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " وتحقيق ذلك فى قوله تعالى : " قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " ( الأعراف : 23 ) .
ويقول إبراهيم وإسماعيل : " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " ( البقرة : 127،128 ) .
وقول موسى : " أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ " ( الأعراف : 155 ، 156 ) .

ثالثاً : الأعمال الصالحة :
لحديث : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهم إذا اجتنبت الكبائر " ، وحديث : " من صام رمضان غيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " وحديث : " الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار " ، وحديث : " صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة ، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية " ، وإن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة ، بل حقائقها التى فى القلوب . والناس يتفاضلون فى ذلك تفاضلاً عظيماً بالإيمان والتقوى .
والله عز وجل يقول : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " ( الصف : 10-12 ) .
وليحذر المسلم فى رمضان وغيره من محبطات الأعمال ، ففى الحديث : " إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته ، تسعها ، ثمنها ، سبعها ، سدسها ، خمسها ، ربعها ، ثلثها ، ، نصفها " ، وفى ذلك أحاديث عن الصوم والحج كذلك .
وقد يكون العمل الصالح إحساناً إلى عبدٍ أو حيوان ، ففى الحديث : " بينما كلب يطيف بركيه . كاد يقتله العطش ، إذ رأته بغى من بغايا بنى إسرائيل ، فنزعت موقعها فسقته فغفر لها " .
وفى مقابل ذلك يحذر العبد الذنوب ، وإن استصغرها ، ففى الحديث : " دخلت امرأة النار فى هرة ربطتها لا هى أطعمتها ، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض ، حتى ماتت " .

رابعاً : المصائب الدنيوية والصبر عليها :
ففى الحديث : " ما يصيب المؤمن من وصب ، ولا نصب ، ولا غم ، ولا هم ، ولا حزن ، ولا أسى ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " ، والله عز وجل يقول : " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ " .

خامساً : الدعاء :
وهو وإن كان من جملة الأعمال الصالحة ، والاستغفار قسم منه ، إلا أن إفراده بالذكر لجلاله وعظم قدره ، ولأن الله سبحانه جعل بين آيات الصيام قوله سبحانه : " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " ( البقرة : 186 ) ، وللدعاء المستجاب شرائط منها :
أن يدعو الله بأحسن الأسماء ، قال تعالى : " وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " ( الأعراف : 180 ) .

وأن يخلص النية ، ويظهر الافتقار ، وألا يدعو بإثم أو قطيعة رحم ، ولا بما يعينه على معاداته . وأن يعلم أن نعمة الله فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوله وأعطاه .

ومن الأوقات التى يرجى فيها إجابة الدعاء :
الثلث الأخير من الليل ، وعند الأذان وبين الأذان والإقامة ، وأدبار الصلوات المكتوبة ، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة ، وآخر ساعة بعد عصر يوم الجمعة .
وإذا وافق الدعاء خشوعاً فى القلب وانكساراً للرب ، وذلا ، وتضرعاً ، ورقة ، واستقبل القبلة ، وتحرى الطهارة ، ورفع يديه إلى الله تعالى ، وبدأ بالحمد لله والثناء عليه ، ثم الصلاة على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم قدم بين يديه حاجته بالتوبة والاستغفار ، ثم ألح على ربه فى السؤال ، ودعا دعاء رغبة ورهبة وتوسل بأسمائه وصفاته ، وتوحيده ، وقدم الصدقة بين يدى الدعاء ، وحرص على الأدعية التى أوصى بها النبى صلى الله عليه وسلم فإنها مظنة الإجابة .
هذه بعض وصايا للصائمين فى الشهر الكريم ، نسأل الله أن يقبل منا العمل ، وأن يغفر لنا الزلل ، وأن يرفع عنا الأغلال والآصار ، وأن ينصرنا بالإسلام ، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
آمين . آمين يا رب العالمين
محمد صفوت نور الدين
 



رمضان شهر التقوى
بقلم فضيلة الشيخ /
محمد صفوت نور الدين
- رحمه الله -
 

يقول الله سبحانه وتعالى :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ‏الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
[ البقرة : 183]
فالصيام من أكبر أسباب التقوى ؛ لأن فيه امتثال أمر الله تعالى واجتناب نهيه ، ‏فمما اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب ‏والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه متقربًا بذلك إلى الله راجيًا بتركها ثوابه ، ‏فهذا من التقوى .‏
ومنها أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته ‏عليه لعلمه باطلاع الله عليه .‏
ومنها أن الصيام يضيق مجاري الشيطان ، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم ، ‏فبالصيام يضعف نفوذه وتقل منه المعاصي .‏
ومنها أن الصائم - في الغالب - تكثر طاعته ، والطاعات من خصال التقوى .‏
ومنها أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقير المعدم ، وهذا من ‏خصال التقوى .‏
فإذا كان الأمر بالصوم خاصًّا بالمؤمنين مقارنًا ذلك بأن الله افترضه على الذين من ‏قبلهم حتى ينافسوهم في الخيرات ، فإن الله سبحانه يأمر الناس جميعًا بالأمر ‏العام مكلفًا إياهم بالعبادة التي هي امتثال لأوامر الله سبحانه ، واجتناب لنواهيه ‏‏، وتصديق لخبر رسوله الذي بعثه ،
ويقول سبحانه :
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ‏رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون )[ البقرة : 21]
، ولذلك خلقهم ‏‏:
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )[ الذاريات : 56]
، وهو ربهم الذي ‏رباهم بأنواع النعم ، فخلقهم بعد عدم ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، ‏فجعل لهم الأرض فراشًا يستقرون عليها ويبنون ويزرعون ، وخلق لهم كل شيء ، ‏ثم علل ذلك بقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) .
‏وقد وردت التقوى بمادتها في القرآن الكريم في قرابة ثلاثمائة موضع من الكتاب ‏الكريم ، حتى يمكن أن يقال : إن الغاية من رسالة الإسلام ، بل ومن جميع ‏الأديان هي تحصيل التقوى .
‏حيث يقول القرآن الكريم على لسان نوح وهود ولوط وشعيب ، كل نبي يخاطب ‏قومه بقوله :
( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ )[ آل عمران : 50]
ولقد بينت آيات القرآن ‏الكريم أثر التقوى ؛ فمنها آثار يجعلها الله للعبد في الدنيا منها :
( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ‏يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا )[ الطلاق : 4]
، وقوله تعالى :
( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ ‏مَخْرَجًا(2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ )[ الطلاق : 2 ، 3]
‏ومنها قوله عز وجل :
( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) [ البقرة : 282]
وقوله ‏سبحانه :
( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون ) [ النحل : 128]
.‏ومنها ما يجعله الله للعبد في الآخرة ، فبها تفتح أبواب الجنة :
( وَسِيقَ الَّذِينَ ‏اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ‏سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِين )[ الزمر : 73]
‏والتقوى تزيل الخوف وتجلب الأُنس في الآخرة :
( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ‏عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67)يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)الَّذِينَ ءَامَنُوا ‏بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ )[ الزخرف : ‏‏67 - 70]
‏ويقول سبحانه :
( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏‏) [ القمر : 54 ، 55]
.‏وتقوى الله عز وجل دافع للعبد أن يعمل الخير وأن يجتنب الشر ؛ لذا كان النبي ‏صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه بالحث على التقوى بقوله تعالى :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ‏ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )[ آل عمران : 102]
( ‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ ‏مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ ‏رَقِيبًا )[ النساء : 1]
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا ‏سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ ‏فَوْزًا عَظِيمًا ) [ الأحزاب : 70 ، 71]
‏فكانت تقدم هذه الآيات بين يدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الخطب ، ‏فتحث السامع على سرعة الإقدام للعمل بالصالحات واجتناب السيئات ، وكذلك ‏يذكر المولى سبحانه في اجتناب الشرور أن الدافع له تقوى الله سبحانه ، كقوله ‏تعالى ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) [ البقرة : ‏‏282]
‏وكقوله سبحانه :
( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا )[ مريم : 18]
‏وقوله سبحانه :
( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ) [ البقرة : 283]
، ‏فإن التقوى مانع من بخس الحق أو إضاعة الأمانة أو التعدي على حرمات النساء ، ‏بل إن الله سبحانه ليقول ذلك في قوله تعالى :
( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ ‏تَقْوَى الْقُلُوبِ )[ الحج : 32]
.‏وفي حديث الثلاثة الذين مالت صخرة فسدت عليهم فوهة الغار ، تقول المرأة لابن ‏عمها الذي تمكن منها : اتق الله ، ولا تفض الخاتم إلا بحقه . فقام عنها وتركها .‏
ولذا كانت الوصية بها من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما قالوا : يا رسول ‏الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال :
( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة )
.‏هذا ، وإن مفهوم التقوى في مفتتح سورة ( البقرة ) ، يقول سبحانه
: (الم(1) ذَلِكَ ‏الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا ‏رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ ‏يُوقِنُونَ(4)أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) [ البقرة : 1 - 5]
وبينها ربنا سبحانه وتعالى في قوله :
( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ‏وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ‏وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا ‏عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ ‏الْمُتَّقُون )[ البقرة : 177]
‏فهذا شهر رمضان الذي قال عنه سبحانه وتعالى :
( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ ‏الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )‏‏[ البقرة : 185]
، وظهر أثر الصوم عليه في إخلاصه لربه ؛ لذا يقول ربنا في آيات ‏الصيام :
( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ‏فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ) [ البقرة : 186] .
ويقول سبحانه بعد آيات الصيام معقبًا عليها ، كأنها نتيجة لها :
( وَلَا تَأْكُلُوا ‏أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ ‏وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )[ البقرة : 188]
، فمن ترك الطعام الحلال لله في نهار رمضان ، ‏تعلم التقوى ، فلم يأكل أموال الناس بالباطل بالرشوة عطاءً أو أخذًا .‏فهذا رمضان شهر معالجة أدواء النفوس وجمع القلوب ووحدة الصف وهجران ‏المعاصي ولزوم الطاعات ، فليتق الله دعاة الباطل والشر ، ولتنظر نفس ما قدمت لغد ‏‏،
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول حاكيًا عن جبريل قوله :
( بَعُد من أدرك ‏رمضان ولم يُغفر له )
، ذلك لواسع فضل الله سبحانه وعظيم عطائه ومغفرته في هذا ‏الشهر الكريم .‏فاللهم نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب ‏إليها من قول وعمل .‏
والله من وراء القصد .‏
 



الصوم للمسافر
بقلم فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -


عن عائشة (1) - رضي الله عنها - أن حمزة بن عمرو الأسلمي (2) قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أأصوم في السفر ؟ ( وكان كثير الصيام ) قال : (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) والحديث رواه الجماعة من رواية عائشة تحكي عن حمزة - رضي الله عنهما - ، بينما جاء الحديث في مسلم وغيره برواية حمزة يحدث عن نفسه ، فالحديث في مسند عائشة وفي مسند حمزة أيضًا .

لما كان السفر غالبًا فيه المشقة خفف رب العزة سبحانه بعض التكليفات ؛ من ذلك رخصة الفطر في نهار رمضان ، وهي مستحبة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس من البر الصيام في السفر ) ، وهذه الرخصة لا تقتصر على من نالته المشقة في السفر فحسب ، بل هي له ولمن لم يشق عليه السفر .

ورخصة الفطر في السفر ثابتة بقوله تعالى : ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر ) [ البقرة : 184] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين ( ثم قال ) : ومن قال : إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب ، وكذلك من أنكر على المفطر ( ثم قال ) : ومن قال : إن المفطر عليه إثم فإنه يستتاب من ذلك ، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله ، وخلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وخلاف إجماع الأمة ( انتهى بتصرف يسير من ( مجموع الفتاوى) (جـ 25 ص 209) وما بعدها ) .

وقد أجمع العلماء على الفطر في سفر الطاعة ، كالحج والجهاد ، وصلة الرحم ، وطلب المعاش ، ورجحوا الفطر في سفر التجارات والمباحات ، أما سفر المعصية فاختلفوا في جواز الفطر فيه
وقال القرطبي : المنع أرجح
وقال الشيخ صالح بن حميد في ( رفع الحرج ) : إن الفقهاء - رحمهم الله - نبهوا إلى حكم الأخذ برخص السفر وتخفيفاته في سفر المعصية ، فلو سافر إنسان لقطع الطريق أو لقتل نفس بغير حق أو لإرهاب المسلمين والتمرد عليهم أو من أجل لهو محرم ، فهل له أن يترخص أو يأخذ بأحكام السفر من قصر للصلاة المفروضة وفطره في رمضان ، ونحو ذلك ؟ .

ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لابد في السفر أن يكون مباحًا .فليس لمن سافر سفر معصية أن يقصر الرباعية أو أن يفطر في رمضان أو يمسح أكثر من يوم وليلة ، ونحو ذلك من أحكام السفر .

قالوا : لأن الرخص لا يجوز أن تتعلق بالمعاصي ، وفي جواز الترخص إعانة على المعصية ، وإذا أراد أن يأخذ بأحكام السفر - نظرًا لشدة المشقة اللاحقة به - فليتب ثم يترخص .

غير أنهم فرقوا بين من سافر سفر معصية أو سافر سفرًا مباحًا لكنه أتى فيه بمعصية ، كما لو شرب في السفر المباح خمرًا .

وقد عبروا عن الأول بأنه معصية بالسفر .

أما الثاني فهوا معصية في السفر ، فنفس السفر ليس معصية ولا إثمًا ، فتباح الرخص ؛ لأنها منوطة بالسفر وهو في نفسه مباح ( انتهى ) .

وهذا القول يجعل العاصية لزوجها بالسفر أو العاق لوالديه بالسفر أو المسافر ليقيم في بلاد الكفر لغير غرض مشروع ، وكل من كان عاص بسفره أن يتذكر لعله أن يتوب ويرجع .

وقال القرطبي : اتفق العلماء على إن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر ؛ لأن المسافر لا يكون مسافرًا بالنية بخلاف المقيم ( انتهى ) ، فيفطر المسافر أن شاء في يومه الذي سافر فيه أو يصوم ، ويمكنه أن يفطر في داره قبل الخروج ، فإن طرأ له طارئ منعه من السفر فليس عليه إلا قضاء اليوم .

وقال الحسن البصري : يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج .

واختلف العلماء في الأفضل منها الفطر أو الصوم في السفر ، وذلك للحديث المتفق عليه عن أنس قال : سافرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم .

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله قالا : سافرنا مع رسول الله صلى الله فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض : أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس من البر الصوم في السفر ) ، فلا يحتج به على منع الصوم في السفر لأمور منها :

أولاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لما رأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ( ما هذا ؟ ) ، قالوا : صائم ! فقال : ( ليس من البر الصوم في السفر ) .

ثانيًا : حديث ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ) : أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر ، وهو ضعيف لا يحتج به .

ثالثًا : أخرج مسلم في ( صحيحه ) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام قال : فنزلنا منزلاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ) ، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : ( إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ) ، وكانت عزمة فأفطرنا . ( ثم قال ) : لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر .

رابعًا : حديث أبي الدرداء في ( الصحيحين ) قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة .

لكن ننبه إلى أن هذا الحديث لا يصلح ناسخًا للنهي عن الصوم ؛ لأن حديث أبي الدرداء سابق على حديث : ( ليس من البر الصوم في السفر ) ؛ لأن عبد الله بن رواحة مات - رضي الله عنه - في غزوة مؤتة ، والحديث الذي ورد بالنهي ( حديث أبي الدرداء ) في غزوة الفتح وكلاهما في عام واحد لكن مؤتة قبل الفتح .

ولا يحمل الحديث على غزوة بدر ، لأن أبا الدرادء لم يكن حينئذٍ قد أسلم .

خامسًا : قال الشافعي - رحمه الله - نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة .

وقد جاء في رواية النسائي : ( ليس من البر أن تصوموا في السفر ، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوا ) ، ( والحديث رواه النسائي عن جابر - رضي الله عنه - ، وقال الألباني : صحيح ) .

قال ابن حجر : فالحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر ، والفطر لمن شق عليه الصوم ، أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم ، وإن لم تتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر ( انتهى ) .
 



غزوة الفتح وصوم رمضان


قد غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا ، والفتح في رمضان ، ورجع من تبوك في رمضان ، وكانت غزوة الفتح في رمضان من العام الثامن للهجرة حيث خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في رمضان ، فمضى صائمًا ، والناس معه صيام ، حتى بلغ عسفان قيل له : يا رسول الله إن الصوم قد شق على الناس ، وهم ينظرون إليك ، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راحلته ثم أتي بقدح من لبن ( أو ماء ) فشرب فأفطر الناس ، ثم نزل بعد ذلك بهم منزلاً ، فقال : ( إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ) ، فعلم الناس أنها رخصة ، أي : وقد اقتربوا من العدو ، فقال لهم : ( إنكم مصبحون بعدو والفطر أقوى لكم فأفطروا ، فلما سمعوا ذلك علموا أنه إلزام فأفطروا ، وذلك لأنهم جمعوا بين السفر والجهاد .
لذلك فإنه لما سمع بعد ذلك ببعض من لا يزالون صائمين .قال : ( أولئك العصاة …. أولئك العصاة ) .
فلما رأى رجلاً يظلون عليه قال : ( ما بال هذا ؟ ) ، قالوا : صائم ، فقال : ( ليس من البر الصوم في السفر ) .

يعلم بهذا أمور :

منها أن أحكام الصوم ككثير من أحكام الشريعة علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في الغزوات ، فليتدبر ذلك ، فالجهاد لا يمنع من تعلم شرع الله ودينه ، وهذا باب هام لو تدبره الناس لعرفوا أن العلم لا يقدم عليه شيء ، بل هو المقدم على كل شيء .

ومنها : أن المسلم إنما يجاهد بالإيمان ، وأن النصر ينزله الله على المؤمنين ، أما العدة والعتاد والخطط فهي أسباب نأخذ بها مع الحرص على العبادة والدعاء والإخلاص فيها ، فينصر الله بذلك ويجعل الأسباب ناجعة .

ومنها : أن السفر وإن كان مبيحًا للفطر وحده ، إلا أن الجهاد قد يجعل الفطر متعينًا ؛ لأنه قوة .

ومنها : فهم الصحابة الكرام والعلماء للرخص والعزائم من الألفاظ الشرعية ، فلما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الفطر أقوى لكم ) ، علموا أنها على سبيل التخيير ، ولما أمرهم ( فأفطروا ) علموا أنها الإلزام الواجب .ومنها : أن من صام حيث نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد عصى حيث الجهاد والسفر ، وأنهم مصبحون بعدو فليستعدوا .

ومنها : أن المسافر إذا نوى الصيام ، ثم بدا له أن يفطر فله أن يفطر في أي وقت من يومه ، أخذًا بالرخصة واقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .

التفضيل بين الصوم والفطر في السفر حاصل كلام أهل العلم التخيير بين الصوم والفطر في السفر فرضًا ونفلاً ، وإنما تكون العوارض المصاحبة هي التي تفيد ترجيحًا ، فإن شق الصوم أو كان معرضًا عن الرخصة أو احتاج لخدمة غيره أو اشتهر بعمله فخاف الرياء أو كان في جهاد أو اقتدى به الضعيف الذي لا يطيق كان الفطر في حقه أفضل .

أما إن كان الصوم عليه يسيرًا ، ويشق عليه القضاء بعد ، كان الصوم في حقه أفضل لقول الله - عز وجل - : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [ البقرة : 185] ، ولما رواه أبو داود عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال : يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه ، وأنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني : رمضان - وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون عليَّ من أن أؤخر فيكون دينًا عليَّ .

فقال : ( أي ذلك شئت يا حمزة ) ، والحديث وإن ضعفه الألباني إلا أنه يستأنس به ، لأن الدليل هو الآية الكريمة : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [ البقرة : 185] ، والله أعلم .

----------------------------
(1) عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين ، وأمها أم رومان ، ولم يتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكرًا غيرها ، وهي أعلم النساء قاطبة ، وأحب الزوجات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واختلف العلماء في أيهما أفضل هي أم خديجة - رضي الله عنها - ؟ كانت أفقه الناس . وقال الزهري : لو جمع علم عائشة إلى علم جميع الناس لكان علم عائشة أفضل ، وقد ولدت في الإسلام ، وهي أصغر من فاطمة بثماني سنين توفيت سنة سبع وخمسين للهجرة ، ولا يتسع الهامش للتعريف بها .
(2) حمزة بن عمرو الأسلمي : صحابي جليل كان يسرد الصوم ، وقد شهد فتح الشام ، وكان هو البشير للصديق يوم أجنادين . وهو الذي بشر كعب بن مالك بتوبة الله عليه ، فأعطاه ثوبيه ، شهد فتح أفريقية مع عبد الله بن سعد . وقد روى البخاري في ( التاريخ ) بإسناد جيد عنه أنه قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأضاءت لي أصابعي حتى جمعت عليها كل متاع للقوم ، وتوفي - رضي الله عنه - سنة إحدى وستين ، وعمره إحدى وسبعين عامًا .
 



عرضُ القرآن فى ليالى رمضان
بقلم فيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -
 

عن ابن عباس (1) رضى الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير . وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه فى كل ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة .( رواه البخارى ومسلم )
فى الحديث الشريف : أن الرفقة الصالحة فى الزمان الفاضل ، عند هدوء شواغل الدنيا ، وطيب الزاد ( بمائدة القرآن الكريم ) : يطيب الخلق ، وتعلو الهمة ، وتهون أعراض الدنيا .
فالحديث حث للمسلم أن يتخذ الأيام الفاضلة كرمضان وذى الحجة ، ليصحب فيها أهل الفضل على الزاد الطيب فى العلم النافع من القرآن والسنة ، فيقوى العبد فى جهاد أعداء الإسلام ، ولذا كان شهر رمضان شهر الانتصارات الباهرة للمسلمين على مر العصور ، وكذلك هو شهر الجود ، والعطاء ، والألفة ، والإخاء ، والمحبة ، وزوال البغضاء ، وشهر العبادة والطاعة .
قال النووى :
من فوائد الحديث : الحث على الجود فى كل وقت ، والزيادة فى رمضان عند الاجتماع بأهل الصلاح ، ومنه : زيادة الصلحاء وأهل الخير ، وتكرار ذلك ، إذا كان المزور لا يكرهه ، ومنها : استحباب ، والاستكثار من قراءة القرآن فى رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار .
قال ابن حجر : وفيه إشارة أن ابتداء نزول القرآن كان فى شهر رمضان ، فكان يعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان ، فلما كان العام الذى توفي فيه ، عارضه به مرتين .
ومنه : أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة .
وفيه : استحباب تكثير العبادة فى آخر العمر .
ومنه : مذاكرة الفاضل بالعلم ، وإن كان لا يخفى عليه .
وفيه : فضل الليل فى رمضان عن النهار فى التلاوة ، لأن الليل يخلو من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية .
من صور جود النبى صلى الله عليه وسلم :
قال جابر : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا . ( متفق عليه ) .
وعن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسئل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه . قال : فأتاه رجل فأمر له بشاءٍ (2) كثير بين جبلين مِن شاء الصدقة ، قال : فرجع إلى قومه ، فقال يا قوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة . ( مسلم ) .
وعن أنس ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه غنماً بين جبلين ، فأتى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمداً يعطى عطاء ما يخاف الفاقة . فإن كان الرجل ليجىء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريد إلا الدنيا ، فما يمسى حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها ( أحمد ) .
فكان فى عطائه صلى الله عليه وسلم يتألف القلوب فى الإسلام ، كما فعل يوم حنين ، حيث قسم الإبل الكثيرة ، والشاء ، والذهب ، والفضة فى المؤلفة ولم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئاً ، بل أنفقه فيمن كان يحب أن يتألفها على الإسلام ، وترك أولئك لما جعل الله فى قلوبهم من الغنى والخير ثم قال لمن سأل من الأنصار : " أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير ، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحوزونه إلى رحالكم ؟ " قالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وأشجع الناس . وكيف لا يكون كذلك ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المحمول على أكمل الصفات ، الواثق بما فى يدي الله عز وجل ، الذى أنزل فى كتابه العزيز : " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ" ( الحديد : 10 ) وقال تعالى : " وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " ( سبأ : 39 ) .
ولقد قال صلى الله عليه وسلم لبلال : " أنفق بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالاً " وقال صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً "وقال لعائشة : " لا توعي فيوعي الله عليك ، ولا توكي فيوكي الله عليك "
[ قال ابن الأثير : أى : لا تجمعى وتشحى بالنفقة ، فيشح عليك وتجازى بتضييق فى رزقك ، ولا توكى أى : لا تدخرى وتشدى ما عندك ، وتمنعى ما فى يدك ، فتنقطع مادة الرزق عنك ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : ابن آدم أنفق أنفق عليك " .فكيف لا يكون أكرم الناس وأشجعهم ، وهو : المتوكل الذى لا أعظم من توكله . الواثق برزق الله ونصره ، المستعين بربه فى جميع أمره ؟ ولقد كان صلى الله عليه وسلم ملجأ الفقراء والأرامل والأيتام والضعفاء والمساكين .
دوافع الشح ودوافع الجود :
الإيمان بالقضاء والقدر ، وأن الله قدر العطاء تقديراً ، وأن الله سبحانه لا يترك عبداً بغير رزق ساعة من نهار أو ليل ، يزيل عن العبد شحه ويظهر جوده . وإيمان العبد بأنه لا ينفق نفقة إلا وجدها عند الله يوم القيامة .
" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " ذلك يُزيل شحه ويزيد جوده .
وإيمان العبد بأهوال يوم القيامة و ، وأن الله سبحانه يدفعها بالصالحات من الأعمال : " عبدى استطعمتك فلم تطعمنى ، فيقول : كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : استطعمك عبدى فلان ، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندى .. " فإذا علم العبد بأن النفقة فى رمضان يضاعف فيها الأجر ، ويزاد فيها الثواب ، سارع بالإنفاق فى سبيل الله فى رمضان ، كل ذلك يدفع الشح ويظهر الجود .
فإذا صح اعتقاد العبد فى ربه ، واليوم الآخر ، والقضاء والقدر ، زال شُحُه ، وظهر جوده .
فإذا حسنت رفقته أعين على ذكره فى ليلة ونهاره ، عند ذلك تهون الدنيا عليه ، ويؤثر الحياة الباقية على الفانية ، فيزداد جوده وعطاؤه (3) .
ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان ، ورافق جبريل ، ورتل القرآن ، كان فى عطائه كالريح المرسلة ، وفى التشبيه لعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالريح المرسلة - أى : بالخير - من المناسبة البديعة ، ولذا ، فإن الله سبحانه يقول فى سورة الروم : " وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ * اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( الروم : 46-50 ) .
وهكذا يذكرنا الله بأنه أرسل الرياح ، وأرسل الرسل ، وجعل فى كل حياة ، وجعل فى الرياح بشرى ، والرسل جاءوا مبشرين ، والماء الذى تسوقه الرياح يحيى موات الأرض ، والرسل يحيون موات القلوب ، وينصر الله المؤمنين ، فإذا جاء رمضان شهر القرآن : جمع للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعده بين العطائين : القرآن عطاء الهداية ، والصدقة والإنفاق عطاء المال ، فيحيى به الله موات القلوب ، وموات الأبدان ، ويؤلف القلوب على الإسلام .يقول ابن حجر : يعنى : أنه فى الإسراع بالجود أسرع من الريح ، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة ، وإلى عموم النفع ، وبجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه عرض القرآن :فى حديث فاطمة عليها السلام : ( أسر إلى النبى صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضنى بالقرآن كل سنة ، وأنه عارضنى العام مرتين ، ولا أراه إلا حضر أجلى ) .
وفى حديث أبى هريرة : كان يعرض على النبى صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة ، فعرض عليه مرتين فى العام الذى قبض فيه . وكان يعتكف فى كل عام عشراً ، فاعتكف عشرين فى العام الذى قبض فيه .
ومن ذلك تفهم أن الله قد أحكم كتابه إحكاماً ، فلم تنته حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى عارضه بالقرآن ودراسه القرآن ، فكان القرآن بسوره ، فواصله ، وترتيبه ، وتلاوته ، كله وحى من عند الله سبحانه ، نصاً ، وتلاوة ، وترتيباً ، وقد حضر العرض الأخير زيد بن ثابت ، وقيل : إن ابن مسعود حضرها كذلك فلله الحمد نزل القرآن ، وحفظه ، فحفظ به الأمة ، فدين فى عنق الأمة مدارسة القرآن ، وأن تكون أكثر المدارسة له فى شهر رمضان .

---------------------
(1) راوى الحديث هو : عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، وهو ابن عم النبى صلى الله عليه وسلم ، وأبوه العباس بن عبد المطلب هو العم الذى عاش على الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .وعبد الله بن عباس حبر الأمة ، وفقيه العصر ، وإمام التفسير ، وكنيته أبو العباس .ولد بشعب بنى هاشم ، قبل الهجرة بثلاث سنوات ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من ثلاثين شهراً ، وحدث عنه أحاديث كثيرة ، وعن عمر ، وعلى ومعاذ ، وعن العباس ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبى سفيان ، وأبى ذر ، وأبى ابن كعب ، وزيد بن ثابت ، وخلق كثيرين من الصحابة ، وقرأ القرآن على أُبى وزيد ، وقرأ عليه مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطائفة من أهل القرآن ، وروى عنه ابنه على ، وابن أخيه عبد الله ، ومواليه : عكرمة ، ومقسم ، وكريب ، وطاووس ، وسواهم كثير .وكان وسيماً ، جميلاً ، مديد القامة ، مهيباً ، كامل العقل ، ذكى النفس ، من رجال الكمال .هاجر مع أبيه سنة الفتح ، وقد أسلم قبل ذلك ، فقد صح عنه أنه قال : كنت أنا وأمى من المستضعفين ، أنا من الولدان ، وأمى من النساء .قال ابن عباس : مسح النبى صلى الله عليه وسلم رأسى ودعا لى بالحكمة .مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عباس له ثلاث عشرة سنة .غزا ابن عباس إفريقية مع ابن أبى السرح ، وروى عنه من أهل مصر خمس عشرة نفساً ، ودعا له النبى صلى الله عليه وسلم " اللهم علمه التأويل وفقهه فى الدين " .ومناقبة كثيرة وعلمه غزير . فليراجع فى مواضعه من كتب الرجال .
(2) الشاء : الغنم جمع شاة .
(3) هذا هو الدواء لكل من شكا من نفسه شحاً أوشكا انصرافاً وإعراضاً .



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

شهر رمضان

  • استقبال رمضان
  • يوم في رمضان
  • رمضان شهر التغيير
  • أفكار دعوية
  • أحكام فقهية
  • رسائل رمضانية
  • المرأة في رمضان
  • سلوكيات خاطئة
  • فتاوى رمضانية
  • دروس علمية
  • رمضان والصحة
  • الهتافات المنبرية
  • العشر الأواخر
  • بطاقات رمضانية
  • المكتبة الرمضانية
  • وداعاً رمضان
  • الصفحة الرئيسية