اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/mktarat/hajj/37.htm?print_it=1

مدرسة الحج

شائع بن محمد الغبيشي
shaei_mh@hotmail.com
مركز الإشراف التربوي بحلي

 
الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران : 102]. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) [النساء : 1]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) [الأحزاب : 70 ، 71]. أما بعد:-
استوقفتني بعض المشاهد المؤثرة لشعيرة الحج تلك العبادة العظيمة و ذلكم المنسك المبارك الذي منًّ الله به على أمة الإسلام فهو نفحة ربانية و هداية إلهية وهذه المشاهد هي :
المشهد الأول :
تأملت جموع الحجيج و هم يفدون إلى بيت الله الشوق يحدوهم و الأماني تصحب خطوهم فلا تسل عن حديث النفس بالوصال و لا تسل عما يرتسم على محيّاهم من فرحة تغمر الفؤاد و سرور يطفح على الوجه و بهجة تحيل الكون كل الكون من حوله فرحاً و سروراً عندما يشرع أحدهم في الوفود و يلهج بالتلبية لبيك اللهم لبيك .. فلا تسل كم من دموع الفرح قد ذُرفت كيف لا و هو هتاف إلى بيت الله الحرام كيف لا و هم وفود إلى الله

هتف المنادي فانطلق يا حادي ***** و ارفق بنا إن القلوب صــوادي
تتجاذب الأشواق وجد نفوسنا ***** ما بين خاف في الضلوع و باد
و تسافر الأحلام في أرواحنا ***** سفراً يجوب مفاوز الآماد
و نطوف آفاق البلاد فأين في ***** تطوافنا تبقى حروف بلاد
هتف المنادي فاستجب لندائه ***** و امنحه وجدان المحب 00و ناد
لبيك 00 فاح الكون من نفحاتها ***** و تعطَّرت منها ربوع الوادي
لبيك 00 فاض الوجد في قسماتها ***** و تناثرت فيها طيوف وداد
لبيك 00فاتحة الرحيل و صحبه ***** هلا سمعت هناك شدوا الشادي
هذا الرحيل إلى ربوع لم تزل ***** تهدي إلى الدنيا براعة هاد
هذا المسير إلى مشاعر لم تزل ***** تذكي المشاعر روعة الإنشاد

إنه الشوق إلى أرض الرحمات إنه الشوق إلى أرض العطايا و الهبات فحق للنفوس أن تتوق و حق للأرواح أن تحلق أملاً في الوصال :
عانيت بعدك وجدًا دائم السبب كم هزني الشوق يا خير الديار.. وكم
وعند ذكرك أشواقي تحلق بي إلا إليك، أرى الأشواق تقعد بي
و كالملائك أحيا في المدى الرحب وعند ذكرك أنسى أنني بشر
فلا أحس بما ألقاه من وصب فتبدعين كياني من تقى وهدى
شباب روحي إذا امتدت بها النوب ما غير زورة بيت الله ترجع لي
كي يهتف القلب يا فوزي ويا طربي ربي حنانيك فاكتبها وخذ بيدي

فهاك أخي المسلم بعض النماذج من شوق المؤمنين إلى البلد الأمين :
1/ ذكر بعض أهل السير أن شقيق البلخي أبصر في طريق الحج مقعداً يتكأ على إليته يمشي حيناً و يضعن حيناً يرتاح حيناً و يمشي أخرى كأنه من أصحاب القبور مما أصابه من وعثاء السفر و كآبة المنظر قال له شقيق يا هذا أين تريد قال أريد بيت الله العتيق قال من أين أتيت ؟ قال من وراء النهر قال كم لك في الطريق ؟ فذكر أعواماً تربوا على عشر سنين قال فنظرت إليه متعجباً قال يا هذا مما تتعجب قال أتعجب من بعد سفرك و ضعف مهجتك قال أما بعد سفري فالشوق يقربه و أما ضعف مهجتي فالله يحملها يا شقيق أتعجب ممن يحمله اللطيف الخبير إذا شاء
2/ يروي لنا الشيخ أحمد الصويان قصة عجيبة للشيخ الحاج عثمان دابو رحمه الله من جمهورية جامبيا في أقصى الغرب الإفريقي يقول زرته قبل موته في منزله المتواضع في قريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول وقد تجاوز الثمانين من عمره، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعة من صحبه من بانجول إلى مكة قاطعين قارة إفريقيا من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب، إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة استمرت الرحلة أكثر من سنتين، ينزلون أحياناً في بعض المدن للتكسب والراحة والتزود لنفقات الرحلة، ثم يواصلون المسير.
قال: لما سألته عن الدافع لهذه الرحلة: تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عندما ذهب بأهله إلى واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء، فما عذرنا عند الله تعالى إن نحن قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرم، خاصة أننا نظن أن الأيام لن تزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟! فهيَّجَنا واستحثنا على السفر مستعينين بالله تعالى.
خرج الخمسة من دُورهم وأصابهم في طريقهم من المشقة والضيق والكرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلة طاردتهم السباع، وفارقهم لذيذ المنام؟! وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقُطَّاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل واد؟!
قال الشيخ عثمان: لُدغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمَّى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس في صدري : أَمَا كان الأَوْلى أن تبقى في أرضك؟! لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط؟!
فثقلت نفسي وكدت أضعف، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفتُّ عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس ما بي! فقال: قم فتوضأ وصلِّ، ولن تجد إلا خيراً بإذن الله فانشرح صدري ، وأذهب الله عني الحزن، ولله الحمد.
كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، مات ثلاثة منهم في الطريق، كان آخرهم في عرض البحر، واللطيف في أمره أن وصيته لصاحبيه قال لهما فيها: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله تعالى شوقي للقائه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ عثمان: فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً وخشيت أن أموت قبل أصل إلى مكة المكرمة، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي، ويقربني قدر طاقته إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، ويتقبلني في الصالحين.
مكثنا في جدة أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع والبِشْر يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام.
وسكت الشيخ قليلاً.. وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لمَّا رأى الكعبة المشرَّفة! ثم قال: لما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان!
ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام، فحمدت الله تعالى على نعمته وفضله عليَّ، ثم سألته سبحانه أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

المشهد الثاني :
مشهد قوم لم يظفروا بهذا المنسك و لم يعدو العدة له أبصروا قوافل الحجيج
وهي تفد على الله فلا تسل عن ما اعتراهم من الحزن و الأسى و البكاء و النحيب
كأني بأحدهم يخاطب قوافل الحجيج :
خذوني إلى الحجر الأسود خذوني خذوني إلى المسجد
تبرد من جوفيَ الموقد خذوني إلى زمزم علَّها
ثقال الدموع وأستنفد دعوني أحط على بابه
وإن يأتني الموت أستشهد فإن أحيا أحيا على لطفه
أي مشهد يبعث الحزن للقاعدين عن الوفود إلى بيت الله كمشهد قوافل الحجيج بحدائها الشجي و بمنظرها البهي فحق للقلوب أن تحزن و حق للجفون أن تعاف الغمض وحق للعيون أن تذرف الدمع أسفاً على فوت الرحيل إلى أرض الحجيج

يا راحلين إلى منى بقيادي       هيجتموا يوم الرحيل فؤادي
سرتم و سار دليلكم ياوحشتي         الشوق أقلقني و صوت الحادي
حرمتموا جفني المنام ببعدكم        ياساكنين المنحنى و الوادي
و يلوح لي ما بين زمزم و الصفا         عند المقام سمعت صوت منادي
و يقول لي يانائم جد السُرى       عرفات تجلوا كل قلب صادي
من نال من عرفات نظرة ساعة       نال السرور و نال كل مرادي
تالله ما أحلى المبيت على منى        في ليل عيد أبرك الأعيادي
ضحوا ضحاياهم و سال دماؤها       و أنا المتيم قد نحرت فؤادي
لبسوا ثياب البيض شارات الرضا      و أنا الملوع قد لبست سوادي

المشهد الثالث :
نظرت إلى المشاعر بعد غروب آخر يوم من أيام التشريق فهالني ما رأيت من حزن عظيم خيّم على وجهها الأبيض الوضاء و دمعها يُهراق على خديها حزناً على فراق ضيوفها ضيوف الرحمن وفي المقابل أبصرت الضيوف و هم يجهشون بالبكاء و يكثرون النحيب على فراقها فقلت في نفسي و قد اعتراني ما اعتراهما : ما أصعب لحظات الفراق كيف و هو فراق الحبيبين و وداع العاشقين قاطعت حديث النفس و اتجهت إليهما قائلاً : هونا عليكما و كفكفا دموعكما و أقلا عليكما من البكاء فعما قريب يكون اللقاء فعجلة الأيام تهرول بسرعة مذهلة
كانت هذه الكلمات نعم السلوى لهما فتفرقا و بهما من الشوق ما لا يعلمه إلا الله
سوى دمع عين بالدماء مزجنــاه تداعت رفاقا بالرحيل فمـا ترى
لأجلهما صعب الأمور سلكنـــاه لفرقة بيت الله والحجـر الـذي
وكلهم تجري من الحزن عينــاه وودعت الحجـاج بيت إلهــا
يود بـأن اللـه كــان توفــاه فلله كم باك وصـاحب حسـرة
فـإن فراق البيت مـر وجـدنـاه فلو تشهد التوديع يومـا لبيته
أمـر وأدهـى ذاك شيء خبرنـاه فمــا فرقة الأولاد والله إنـه
فجرب تجد تصديق مـا قد ذكرناه فمن لم يجرب ليس يعرف قدره
لما نحن من مـر الفراق شربنـاه لقد صدِّعت أكبادنـا وقلوبنــا
إليه لذقنـا الموت حـين فجعنـاه وواللـه لولا أن نؤمـل عـودة

بعد هذه المشاهد المؤثرة بادرني سؤال .... ما سر هذا الشوق ؟ و لماذا كل هذا الحنين ؟ لماذا يختص الحج بكل هذا ؟ و ما سر تعلق القلوب بهذه العبادة ؟
و الاجابة على هذه الأسئلة يطول شرحها لعلي أجملها في أمرين :
الأول : أن منسك الحج يرتبط بالوفود إلى بيت الله و هذا البيت في خاصية الجذب لقلوب المؤمنين فهو مغناطيس الأفئدة قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96 ـ 97) قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذه الآية : ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حباً له وشوقاً إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:

إليه وهل بعـد الطـواف تداني أطوف به والنفس بعد مشوقة
بقلبي من شـوق ومن هيمان وألثم منه الركـن أطلـب برد ما
ولا القــلب إلا كثرة الخفقان فـوالله مـا ازداد إلا صبــابة
ويا منيتي من دون كل أمـان فيـا جنة المأوى ويا غاية المنى
إليـك فمـا لي بالبـعاد يدان أبت غلبـات الشـوق إلا تقـربا
ولي شـاهد من مقلتي ولسان ومـا كان صدى عنك صد ملالة
فلبى البكا والصبر عنك عصاني دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا
سيبلى هـواه بعد طـول زمان وقـد زعموا أن المـحب إذا نأى
دواء الهوى في الناس كل زمان ولـو كان هذا الزعم حقا لكان ذا
حاله لم يبله الملـوان بلى إنـه يبلـى والهـوى عـلى
بغـير زمـام قائد وعنــان وهذا محـب قاده الشوق والهوى
مطيته جــاءت به القـدمان أتاك عـلى بعد المـزار ولو ونت

الثاني : أن هذه العبادة الجليلة مدرسة عظيمة تحمل في طياتها الكثير و الكثير من الدروس و العبر التي يتربى عليها المسلمون جميعاً أفراداً و شعوباً و أمماً فلو تتلمذ المسلمون على مدرسة الحج حق التتلمذ لبدل الله حالهم من بعد الذل عزة و من بعد الخوف أمناً و قل من يفيد من هذه المدرسة و قل من يعي دروسها و عبرها و لذا وجب بيان هذه الدروس وتجليتها للمسلمين علّهم يأخذوا و لو ببعض من تلك الدروس :

أولاً: توحيد الله عز وجل :
تتجلى العناية بالتوحيد و بيان أهميته أن الحكمة من بناء البيت إنما هي توحيد الله جلّ وعلا وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]
و المتأمل للأعمال و الأذكار التي يقوم بها الحاج خلال رحلة الحج يجد أنه يلهج بتوحيد الله عز وجل من أول منسكه إلى نهايته لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك كما في حديث جابر رضي الله عنه ـ في وصف حجة النبي صلى الله عليه و سلم ـ قال : ( فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك ) رواه مسلم 0
فمدرسة الحج تدعو المسلم إلى أن يراجع نفسه في أمور كثيرة يخالف فيها التوحيد و يقع في براثن الشرك تدعوه لتصحح المسار العودة به إلى التوحيد الخالص في أيام معدودات يردد الحاج ألفاظ التوحيد فتلامس شغاف قلبه فينبذ الشرك بجميع أنواعه فمن كان يدعو غير الله و ينذر لغيره و يذبح لغيره و يطلب جلب النفع و دفع الضر من غيره سبحانه يتربى في مدرسة الحج على البراءة من ذلك كله و صرف جميع العبادات لله وحده و تعيده إلى صفاء التوحيد .
و لذا يجب على الدعاة إلى عز وجل أن يستغلوا هذه الفرص العظيمة لدعوة الحجيج إلى توحيد الله و نبذ الشرك بجميع أنواعه وصوره .

ثانياً : الإقتداء و التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم :
مدرسة الحج تربي الفرد و المجتمع المسلم على الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فالحاج يربي نفسه على متابعة هدي النبي صلى الله عليه و سلم في جميع شؤون الحياة فإن متابعة الحاج لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج استجابة لقوله صلى الله عليه و سلم : ( خذوا عني مناسككم ) تربية للحاج أن يلتزم هدي النبي صلى اله عليه و سلم في جميع ما يأتي و ما يذر و ذلك هو بداية الانطلاقة للتأسي بالنبي صلى الله علي و سلم و قد قال الله تعلى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر ...) فمدرسة الحج تربي المسلم على أن الخير له و الفلاح في العودة إلى هدي النبوة هدي محمد صلى الله عليه و سلم .
وأمة الإسلام اليوم في أمس الحاجة إلى أن تعود إلى إرث محمد صلى الله عليه و سلم لتستعيد عزها و مجدها المفقود

و مما زادني شرفا و فخرا       و كدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي       و أن سيرة أحمد لي نبيا

في مدرسة الحج يتذوق المسلم لذة الإتباع و نعيم التأسي و حلاوة الإقتداء و ينفك من أسر البدعة و قيودها و تنجلي عنه ظلمتها فيسعد بالنور بعد الظلمة و بالسعة بعد الضيق و باليسر بعد العسر فيحدث نفسه بترك جميع البدع و يعيد صياغة حياته من جديد يرتضع من لبان الوحي و يغترف من معين السنة فيرتوي بعد طول ظمأ و يحدث نفسه بري يوم القيامة يوم أن يرد على الحوض فشرب شربة لا يظمأ بعدها أبداً .

ثالثاً : الأخوة الإسلامية:
مدرسة الحج تربي على الأخوة الإسلامية فالحاج يستشعر معنى الأخوة الإسلامية من خلال لقاءه بإخوانه المسلمين من شتى بقاع الأرض و من كل قطر و مصر يراهم و قد تصافحت أيديهم وتآلفت قلوبهم يظهر بعضهم لبعض المحبة و العطف و التعاون و التسامح شعارهم : [ وشيجة الدين هي أقوى الوشائج و الصلات ]
قال الله تعالى :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } قال السعدي رحمه الله : هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له، ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا المؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره" متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.) رواه البخاري و مسلم ( تيسير الكريم الرحمن صـ 801 ــ )

إنْ كِيْدَ مُطَّرَفُ الإخـاء فإننا نغدو ونسري في إخاءٍ تالد
أو يفترق ماء الغمـام فماؤنا عذبٌ تحدّر من غمام واحد
أو يختلف نسـب يؤلف بيننا ديـن أقمناه مقـام الوالـد

رابعاً : الوحدة الإسلامية:
مدرسة الحج تربي الفرد و المجتمع و الأمة و العالم الإسلامي على مبدأ من أعظم مبادئ هذا الدين ألا و هو مبدأ الوحدة الإسلامية فالحاج يدرك أن [ الحج شعار الوحدة فإن الحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلا فضل لأحد على أحد: الملك والمملوك الغني والفقير الوجيه والحقير الكل في ميزان واحد الخ.
فالناس سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر فهم كلهم متساوون في البيت الحرام لا فرق بين الألوان والجنسيات وليس لأحد أن يفرق بينهم.
وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول "الناس من آدم، وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"
أكثر من مليوني مسلم يقفون كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، لهدف واحد، وتحت شعار واحد، يدعون ربا واحدا، ويتبعون نبيا واحدا.. وأي وحدة أعظم من هذه ] من مقال للدكتور يحيي اليحيي بعنوان ( مقاصد الحج )
والأمة الإسلامية في أمس الحاجة إلى الوحدة خاصة في هذه الأيام العصيبة التي تكالبت فيها أمم الكفر على حرب الإسلام و المسلمين والسعي الحثيث إلى زيادة تفكيكهم وتفريقهم و زرع العداوات بينهم يأتي الحج ليذكرنا أننا أمة واحدة كما قال تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103)
و كما قال سبحانه : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63)
و كما قال عز وجل : ( وأن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون ) مهما فصلت بيننا الحدود و زرعت بيننا العداوات و اختلفت منا الألوان و اللغات فنحن أمة واحدة و نحن جسد واحد و نحن بنيان واحد قلوب ألف بينها الله عز وجل فكيف بها لا تتحد و تجتمع .

أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن        أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا       بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
وفي ربا مكة تاريخ ملحمتي        على ثراها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى عمري ويا ولهي        في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي        وفي الجزائر إخواني وتطواني
فأينما ذكر اسم الله في بلد        عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

و مدرسة الحج كما أنها تربي على الوحدة فهي بالمقابل تحدث هزيمة نفسية عظمى للكفار فهي تحبط كل محولات تفريق المسلمين وتغيّر قناعة الكفار في مدى نجاح خططهم لتفكيك المسلمين و تفريقهم و تدخل عليهم الرعب و الخوف و الهلع من هذا الجمع الغفير الذي توحد في كل شيء رغم تفرق البلدان و تباين اللغات و اختلاف الألوان وتنوع الطبائع واللهجات .
* يقول أحد المنصّرين عن مدى جدوى التنصير في البلاد الإسلامية : سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التبشير المسيحي ما دام للإسلام هذه الدعائم : القرآن و اجتماع الجمعة الأسبوعي و مؤتمر الحج السنوي .
* ويقول مورو بيرجر في كتابه "العالم العربي المعاصر":
إن الخوف من العرب، واهتمامنا بالأمة العربية، ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل بسبب الإسلام.
يجب محاربة الإسلام، للحيلولة دون وحدة العرب، التي تؤدي إلى قوة العرب، لأن قوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره.
* يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
* ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير000 ويكمل حديثه: يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
* يقولُ وزير المستعمرات البريطاني قبل سبعين سنة تقريباً، سنة 1938م، يقول: "إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي أن نحذره ونحاربه، وليست إنجلترا وحدها هي التي تلتزم بذلك بل فرنسا أيضاً، إن سياستنا تهدف دائماً إلى منع الوحدة الإسلامية، والتضامن الإسلامي، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك, إننا في السودان، ونيجريا، ومصر، ودولٌ إسلامية أخرى شجّعنا، وكنّا على صواب، نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطراً من الوحدة الإسلامية، أو التضامن الإسلامي"،
* إلى غير ذلك من الأقول الكثيرة لساستهم و مفكريهم التي تنضح بالبغض والكراهية للإسلام و المسلمين و الخوف من وحدتهم و عودتهم إلى دينهم والحرص الشديد على بقاء المسلمين متخلفين علمياً و حضارياً يقول مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952:
إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائر، وهو قلق، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبةً يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن، وحرية أوفر … فلنعط هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقوي في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي، والفني، حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف، بإبقاء المسلم متخلفاً، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه، فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي، وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً ينتهي به الغرب، وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم.

خامساً : الجسد الواحد
تُربينا مدرسة الحج على أن نتألم لآلام المسلمين في كل سقع من اسقاع الأرض مهما شطت بنا الديار و اختلقت الأوطان فنحن جسد واحد
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه البخاري و مسلم0
وفي رواية عند مسلم ( المسلمون كرجل واحد . إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله ) .
و عن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله e قال: ( إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس ) رواه أحمد و قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح 0
تأتي مدرسة الحج لتزيل العزلة الشعورية التي يعيشها المسلمون حيال قضاياهم و مشاكلهم و آمالهم و آلامهم و تبدد الحصار و التعتيم الإعلامي المفروض على المسلمين .
يأتي الحج فيلتقى المسلم بإخوانه المسلمين من جميع بقاع الأرض يعايشهم و يتحسس أخبارهم و يشاركهم همومهم و أفراحهم و أتراحهم و يسمع شكايتهم فينقلها إلى إخوانه المسلمين فيتجاوبون معها هماً و أرقاً و يسعون جاهدين لنجدة إخوانهم و مد يد العون لهم

وإن بكى مسلم في الصين أبكاني إذا اشتكى مسلم في الهند أرقني
وفي الجـزيرة تـاريخي وعنـواني ومـصر ريحانتي والشـام نـرجستي
عن كل بـاغ ومـأفـون وخـوان وفي العراق أكـف المجـد ترفـعني
فيـسـتـريح إلى شـدوي وألحاني ويسمع اليمن المحبـوب أغـنيـتي
في حبة القـلب أرعـاه ويـرعاني ويسكن المسجد الأقصى وقـبته
وأسـتـريـح إلى ذكـرى خراسان أرى بخـارى بـلادي وهي نائـية
لنـا معالـم إحـسان وإيـمان شريعة الله لـمت شـملنـا وبنت

سادساً : ذكر الله
مدرسة الحج تربي الحاج على ذكر فالذكر هو أول المقاصد التي أرادها الله من عبادة الحج قال تعالى ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات [الحج:27-28]. ورحلة الحج من بدايتها إلى نهايتا ذكر لله عز وجل فالحاج يذكر الله بالتلبية و خلال الطواف وخلال السعي و يصعد الحاج إلى عرفات ليدعو الله ويذكره فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خير الدعاء دعاء يوم عرفه وخير ما قلت أنا و النبيون من قبلي لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) رواه الترمذي . ويغادر الحاج عرفات إلى مزدلفة، إلى المشعر الحرام ليذكر الله قال تعالى: ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) [البقرة:198-199]. !
وهذا ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم: (( ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً)) رواه مسلم . وهو ما صنعه أصحابه من بعده قال سالم: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون. رواه البخاري . و أيام منى أيام ذكر لله قال الله تعالى: ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) [البقرة:203]. وإذا ذبح الحاج هديه ذكر الله قال تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) [الحج:34]. وقال سبحانه : ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف) [الحج:36]. وفي حديث نُبَيشَة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل و شرب و ذكر لله ) صحيح مسلم فهذه دورة مكثفة للحاج في لزوم ذكر الله عز وجل يتلذذ خلال الحاج بطعم المناجاة و يأنس بذكر الله عز وجل يخرج من هذه الدورة و قد تعلقت نفسه بالذكر ورطب لسانه به فيداوم على ذكرالله ما بقي في حياته بقية 0

سابعاً : مخالفة المشركين و البراءة منهم
قال تعالى : (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) فالحج فرصة لتأصيل عقيدة الولاء و البراء في نفوس المؤمنين خاصة أنها قد ضعفت وهزلت في نفوس كثير من الناس فتأتي مدرسة الحج لتحيي قضية البراء من المشركين فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة المشركين خلال رحلة حجه فقال للناس عن المشركين : ( هدينا مخالف هديهم ) رواه البيهقي و الحاكم و قال على شرط الشيخين و وافقه الذهبي
قال د .عبد العزيز آل عبد اللطيف : لقد لبى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد ، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية ، وأفاض من عرفات مخـالـفـاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم ، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفـعـــــون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس ، فخالفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فدفع قبل أن تطلع الشمس. وأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- عـوائــد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: ( كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ) ؛ يقول ابن تيمية: وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات ، مثل: دعواهم يا لفلان ، ويا لفلان ، ومثل أعيادهم ، وغير ذلك من أمورهم [ مجلة البيان العدد (88) ذو الحجة 1415 - مايو ]1995. قال ابن القيم رحمه الله :[الشريعة قد استقرت ـ ولا سيما في المناسك ـ على قصد مخالفة المشركين ] يراجع في ذلك الكتاب الرائع أحول النبي صلى الله عليه وسلم في الحج لفيصل البعداني .

ثامنا/ تربية النفس و ترويضها على الصبر و تحمل المشاق :
من أظهر الدروس التي تتضح بجلاء في مدرسة الحج التربية على الصبرو تحمل المشاق في سبيل مرضاة الله قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153)
و الصبر من خير ما يوفق له المؤمن فعن أبي سعيد الخدري قال : قال صلى الله عليه و سلم : ( ما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر ) رواه الخمسة و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا بالصبر و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو و القناعة سيف لا ينبو 0 و قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : إن الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو و صارماً لا ينبو و جنداً لا يهزم و حصن حصيناً لا يهدم و لا يثلم 0 فالحج درس عملي في التربية على الصبر بجميع أنواعه :
أ / الصبر على طاعة الله صبر على الطواف والسعي و صبر على الوقوف بعرفة و صبر على المبيت بمزدلفة و صبر على رمي الجمار و صبر على لزوم الذكر و الدعاء ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات .
ب / الصبر عن معصية الله فإن الحاج يمتنع عن بعض المباحات كاللباس و الطيب و وطء الزوجة و حلق الشعر و قص الأظفار و بقية المحظورات فصبره بعد ذلك عن معصية من باب أولى .
ج / الصبر على الأذى فإن الحاج يواجه خلال رحلة حجه صور من الأذى بسبب جهل الناس و اختلاف طبائعهم و بسب كثرة الحجيج و الزحام خلال أداء المناسك كل ذلك تربية للحاج على الصبر و قد قال صلى الله عليه و سلم ( و من يتصبر يصبره الله ) رواه مسلم
د / الصبر في حمل دين الله و الدعوة إليه فإن كثرة المخالفات الصادرة عن الحاج و جهلهم بأحكام الشريعة و عندما يبصرها المسلم يستمع حديث الحجيج عن جهود المنصرين في بلاد المسلمين و جهود دعاة التغريب و دعاة البدعة و الضلال و صبرهم و جلدهم في نشر باطلهم يدعوه ذلك إلى الشفقة على المسلمين و الصبر على تعليمهم وعظهم و تذكيرهم و دعوتهم قال سيد قطب رحمه الله عند قوله تعالى (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) : [ هي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بالدعوة إلى الله تعالى أو تثبيت و الصبر هو الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة معركة الدعوة إلى الله تعالى و هي معركة طويلة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد به وجه الله تعالى ] .
هـ ـ الصبر على الفتن خاصة في هذه الأزمان الذي كثرت فيه الفتن و تابعة المحن و أحاطت الرزايا بالإسلام و المسلمين من كل حدب و صوب و تداعت الأمم على المسلمين تداعي الأكلة على قصعتها مصداقاً لما أخبر به المصطفى صلى الله عليه و سلم و الحاج عندما يخالط إخوانه المسلمين و يستمع إلى أخبارهم و ما يعصف بهم من محن كل ذلك تربية له على الصبر على الفتن و يدعوه ذلك إلى التمسك بدينه و القبض عليه كقبضه على الجمر يدفعه للصبر ما أخبر به إمام الصابرين في حديث الذي رواه أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : ( إن من ورائكم أيام الصبر ، الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم . قالوا يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم ) رواه الترمذي و صححه الألباني .

و هذا زمان الصبر من لك بالتي      كقبض ٍ على جمر فتنجو من البلا
و لو أن عيناً ساعدت لتوكفت        سحائبها بالدمع ديماً و هطلا

تاسعاً: الثقة بنصر الله للإسلام والمسلمين : فمدرسة الحج تزرع في النفس الثقة بنصرة الدين و التمكين له و أنه مهما طال ليل الكفر و الباطل فإن فلق الصبح أوشك على الانبلاج وما تجمع العدد الغفير من المسلمين في أيام الحج من كل فج عميق إلا بشارة بفجر جديد قريب لعز الإسلام والمسلمين فعندما يرى الحاج وفد الحجيج حتى من البلاد التي تشن الحرب على الإسلام و المسلمين و عندما يجالس وفود الحجيج فينقلون له تهافت الناس على الإسلام وتشوقهم إلى التعرف عليه و يسردون أخبار التائبين و التائبات حتى في صفوف الفنانين و الفنانات تزداد ثقته ويقوى يقينه بنصر الله للإسلام و المسلمين و أن المستقبل لهذا الدين قال عز وجل:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)} [سورة التوبة] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :[ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ] رواه أحمد وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:[بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ] رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده والحاكم وقال: صحيحه ووافقه الذهبي وصححه الألباني فهذه النصوص بشائر بنصرة الإسلام وتمكينه و أن الدولة عما قريب له بإذن الله عز وجل والتاريخ يشهد بذلك، والواقع المعاصر يتفجر عن ينابيع الهداية و الصلاح في شتى بقاع الأرض معلناً أن المستقبل للإسلام
سـنعود للتكبير و التأذين سنعود للدنيا نطبب جرحها
وستنتهي للشاطئ المأمون ستسير فلك الحق تحمل جنده
تخشي الردى و الله خير ضمين بالله مجراها و مرساها فهل

عاشراً : التربية على الأخلاق الفاضلة
الحج مدرسة للتربية على الأخلاق الفاضلة من الحلم و العفو و الصفح و التسامح و الإيثار و الرحمة و التعاون و الإحسان و البذل و الكرم و الجود ....
فهي رحلة تسفر عن أخلاق الرجال و تسهم إسهاماً عظيما في تعديل السلوك السيئ إلى الحسن فكم من حاج عاد من رحلة حجه بوجه غير الذي ذهب به قال تعالى : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197)

الحادي عشر : الدعوة إلى الله عز و جل :
فإن مدرسة الحج تربي الحاج على الدعوة إلى الله عز وجل وهذا الله من أعظم وأجل ثمار الحج و مما يشحذ الهمة للدعوة إلى الله عز وجل في الحج أمور منها :
أ / ما يشاهده الحاج خلال رحلة الحج من الجهل بأحكام الدين لدى كثير من الحجاج وما يصدر عنهم من البدع والمخالفات فيدعوه ذلك إلى دعوتهم و تبصيرهم بأمور دينهم  .
ب / عندما يرى الجمع الغفير الذي قدم إلى الحج من شتى بقاع الأرض مقبلين على الله مابين داع و مستغفر وركع و ساجد و متضرع يعلم علّم اليقين أن هذا الجمع إنما اقبل على الخير و وفد إلى الحج بفضل الدعوة إلى الله عز وجل فيدعوه ذلك إلى المساهمة في الدعوة إلى الله .
ج / ما ينقل إليه الحجاج من حاجة الناس إلى الدعوة إلى الله عز وجل و تلهفهم إلى الإسلام و معرفة أحكام الدين و كثرة الداخلين في الإسلام و التائبين من المسلمين فيحمله ذلك على محاسبة نفسه لتفريطه في الدعوة إلى الله عز وجل .
د / ما ينقله إليه الحجاج من جهود المنصرين لتنصير المسلمين و حرفهم عن دين الإسلام و ما يذلونه في سبيل ذلك من تضحية بالراحة و البعد عن الأهل و الأولاد و الصبر على الغربة و تحمل المشاق في سبيل نشر دين باطل محرف فيشعر بالتقصير في حق دينه و يعقد العزم على نصرته و الدعوة إليه .
هـ / تذكر النبي صلى الله عليه وسلم و ما قام به من الدعوة إلى دين الله عز و جل و أن ما نحن فيه من إيمان و هداية إنما هو بفضل الله ثم بفضل دعوته صلى الله عليه وسلم فيدفعه ذلك إلى التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في حمل هم هذا الدين و نصرته .
فما بالك إذا إذ علم بالثواب العظيم الذي للدعاة و المنزلة الرفيعة التي أنزلهم إياها قال تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)
قال الحسن البصري رحمه الله : هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته و دعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ....
قال ابن القيم رحمه الله عن الدعوة إلى الله: إنها أشرف مقامات العبد و أجلها .
و قال السعدي رحمه الله : [ و رحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة و إنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين .
و قال رحمه الله في تعليقه على قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يّـس:12)
{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، { وَآثَارَهُمْ } وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.
ولهذا: { من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وهذا الموضع، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه أسفل الخليقة، وأشدهم جرما، وأعظمهم إثما. [ تيسير الكريم الرحمن صـ 693 ـ

أخي الحاج أما و قد عزمت على الدعوة إلى الله فإن خير الأماكن بهذه البداية المباركة هو الحج فاستغل فضل المكان و الزمان اضرب لك من الخير بسهم فمجالات الخير كثر و منها :
1/ احرص على دعوة الناس إلى التوحيد فإنهم في أمس الحاجة إليه فإن العالم الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إلى التوحيد الخالص في زمن ضرب الشرك بأطنابه في كثير من بلاد المسلمين فحمل مشعل النجاة و ساهم فإنقاذ من استطعت من براثن الشرك و الوثنية و البدعة .
2/ اجعل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سجية لك و الزم الرفق فإنه ما كان في شيء إلا زانه و ما نزع منه إلا شانه .
3/ نوع في أساليب دعوتك ما بين كلمة طيبة و خدمة و إحسان و بر و صدقة و توزيع شريط و كتيب و رسالة و إعانة محتاج ....
4 / اقرن ذلك كله بدعاء صادق مخلص لله عز وجل أن يوفق من دعوة إلى الهداية و أن يرزقك الإخلاص و أن يسدد خطوك .

الثاني عشر: الانضباط :
مدرسة الحج تربية للنفس على الانضباط قال الشيخ محمد الدويش :[ إنك حين تتأمل المناسك ترى فيها دقة عجيبة, فأنت ترى المسلم يقف عند هذا المكان من حدود عرفة ,فلو وقف هنا كان داخل عرفة ,ولو تأخر متراً واحداً كان خارج عرفة, ولو وقف هنا نائماً أو صامتا لصح حجه, ولو وقف هناك وصار يدعو ويتضرع لم يصح حجه, ما الفرق بين هذا المكان وذاك؟ تراه يرمي الجمرة الأولى قبل الثانية, وبعدها العقبة، ولو رمى تلك قبل هذه لم تصح ,تراه يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة ولو عكس لم يصح له الأمر، هذا اليوم يقف في عرفة ، وفي الليل يبيت في مزدلفة، وفي أيام التشريق يكون في منى لو رمى قبل الزوال بدقائق لكان رميه غير صحيح وكانت عبادته غير صحيحة ,ولو رمى بعد الزوال لكان موافقاً للسنة,وهكذا في دفعه من عرفة وفي سائر المناسك تراها منضبطة بمكان أو وقت أو زمان أو هيئة معينة وهذا كله يربي في المسلم أن يكون منضبطاً في أوقاته وفي مواعيده ] محاضرة للشيخ محمد الدويش بعنوان ( لبيك اللهم لبيك )

أخي المسلم هذا بعض ما تلمسناه من مدرسة الحج العظمى التي تزخر بالدروس
و العبر و هو جهد المقل من عبد فقير يلتمس من ربه العفو و المغفرة و يرجو كل من قرأ هذه الأسطر ألا يحرمه من دعوة صالحة و الله المستعان و عليه التكلان
و لا حول و لا قوة إلا بالله و صلى و سلم على من أرسله الله إلى الإنس و الجان

الثالث عشر : ضبط الجوارح :
من أعظم ما يتربى عليه المسلم في الحج ضبط الجوارح و كفها عن ما حرم الله عز وجل قال تعالى : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى و َاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197)
و قال صلى الله عليه و سلم : ( من حج و لم يرفث و لم يفسق عاد من حجه كيوم ولدته أمه )
فجوارح العبد في الحج تتربى على ترك الحرم و البعد عن الفسوق و الآثام و من أعظم ما يحدوها إلى ذلك و يعينها عليه ما يلي :
1/ الخوف من عدم قبول الحج فإن الحاج من يحرص أشد الحرص على قبول منسكه و لذا فهو يجتنب كل ما يمكن أن يؤثر على ذلك المنسك و يضع دائما أمام ناظريه قول الله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) .
2/ الطمع في تحقيق الثواب المترتب على الحج من مغفرة الذنوب و دخول الجنة فهو دائم الذكر لقول رسول الله : (من حج و لم يرفث و لم يفسق عاد من حجه كيوم ولدته أمه ) و قوله صلى الله عليه و سلم : ( و الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )
3/ أن جوارح العبد مشغولة بطاعة الله فاللسان مشغول بالذكر و التلبية و التهليل و الدعاء من بداية رحلة الحج إلى نهايتها و كذلك بقية الجوار ما بين طواف و سعي و وقوف بالمشاعر و رمي للجمار ... ينتقل الحاج من منسك إلى منسك من طاعة إلى طاعة .
4/ الرفقة الصالحة من أعظم ما يعين الحاج على ضبط جوارحه يذكرونه إذا نسي و يعلمونه إذا جهل و يقومونه إذا اعوج و لذا كان من أعظم ما ينبغي للحاج أن يحرص عليه خلال رحلته المباركة الرفقة الصالحة .
5/ من مما يعين الحاج على ضبط جوارحه تذكر حرمة الزمان و المكان فالزمان هو الشهر الحرم شهر الحج و المكان هو البلد الحرام و كفى بذلك رادع للجوارح عما حرم الله .

الرابع عشر : المحاسبة و التوبة :
مدرسة الحج تربي الحاج على محاسبة نفسه و[ محاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين ، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه ، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم ، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى،داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك،توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان من أطاعها قادته إلى القبائح ، ودعته إلى الرذائل،وخاضت به المكاره،تطلعاتها غريبة،وغوائلها عجيبة،ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم ((أما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى))،وعلى النقيض(( وأما من خاف مقام ربه ونهة النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)).] محاضرة للشيخ المنجد بعنوان المحاسبة
يقول الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله عن هذه الآية: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه وأنه ينبغي له أن يتفقدها فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة، والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطاً فرجعوا بخسارة الدارين وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون.
قال الحسن البصري رحمه الله: [ المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة] ثم قال: [ المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول والله إنك تعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات !حيلي بيني وبينك!]
و الحاج عندما يستشعر عظم الزمان و المكان يرى بكاء الباكين و ابتهال العابدين و دموع المنيبين يدعوه ذلك كله إلى محاسبة نفسه على تفريطها في جنب الله فيكون ذلك بداية توبته و أوبته إلى الله عز وجل فما بالك إذا تذكر ما يفيضه الله على عباده في منسك الحج من وابل الرحمات و عظيم الهبات و تكفير الخطايا و السيئات عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنت جالساً مع النبي eفي مسجد منى فأتاه رجل من الأنصار و رجل من ثقيف فسلما ثم قالا يا رسول الله جئنا نسألك 0 فقال : ( إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت . فقالا: أخبرنا يا رسول الله ! فقال الثقفي للأنصاري: سل . فقال: جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه، مع الإفاضة . فقال: والذي بعثك بالحق ! لعن هذا جئت أسألك . قال: فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام ؛ لا تضع ناقتك خفا، ولا ترفعه ؛ إلا كتب (الله) لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة . وأما ركعتاك بعد الطواف ؛ كعتق رقبة من بني إسماعيل . وأما طوافك بالصفا والمروة ؛ كعتق سبعين رقبة . وأما وقوفك عشية عرفة ؛ فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤني شعثا من كل فج عميق يرجون رحمتى، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر ؛ لغفرتها، أفيضوا عبادي ! مغفورا لكم، ولمن شفعتم له . وأما رميك الجمار ؛ فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات . وأما نحرك ؛ فمدخور لك عند ربك . وأما حلاقك رأسك ؛ فلك بكل شعره حلقتها حسنة، وتمحى عنك بها خطيئة . وأما طوافك بالبيت بعد ذلك ؛ فانك تطوف ولا ذنب لك يأتى ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى ) صحيح الترغيب قال الألباني رحمه الله حسن لغيره
فما أعظم مدرسة الحج حين تهب الحاج ميلاداً جديد يفضل على ميلاده من بطن أمه كيف لا و هو ميلاد الهداية و الصلاح فطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن تربى في مدرسة الحج فعاد من حجه مخلوقاً آخر عاد بقلب غير الذي خرج به .
 

مختارات الحج

  • صفة الحج
  • يوميات حاج
  • أفكار الدعوية
  • رسائل للحجيج
  • المرأة والحج
  • المختارات الفقهية
  • أخطاء الحجيج
  • كتب وشروحات
  • عشرة ذي الحجة
  • فتاوى الحج
  • مسائل فقهية
  • منوعات
  • صحتك في الحج
  • أحكام الأضحية
  • العروض الدعوية
  • وقفات مع العيد
  • مواقع الحج
  • الرئيسية