بسم الله الرحمن الرحيم

أبحث عن هوية
أ.اسماعيل ربعي


منذ القديم القديم سكنت أرض فلسطين ، وبقيت هويتي داخل بطاقتي ، والكل يعرفني إلى أن دار الزمن دورته ، وخرجت من الضلالة إلى الهدى ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن مجتمع الفجار إلى نادي الأخيار ، فلمع اسمي وتقدّست أرضي ، وارتوت بدماء الشهداء ، فكان لون تربتها أحمر قاني ، ورائحة هوائها مسك غالي ، بارك الله فيها ، ومدح المصطفى ساكنيها ، فهي أرض الرباط وأرض المحشر والمنشر للناس ، وما أن تلمّسْت جيبتي شعرت أني فقدت هويتي ، فما عدت أعرف نفسي وأخذت أبحث عنها في كل مكان وتحت كل سماء ، فأنا كبش الفدا ، أُريق دمي في غير الأشهر الحرم ، وأصبحت عندهم المذنب الذي لا يُحسن العيش ، فلا يأكل كالبشر ، ولا يشرب إلاّ الماء الكدر ،قالوا لي : تعيش على أرض ليست لك ،فيجب أن تُعطى لمن لا أرض له .

بالقوة أخرجوني ، ومن بيتي طردوني ، فأخذت أبحث في كل ناحية لعلي أعرف داري أو أجد نفسي .

سحت في البراري وفي يدي عصا الترحال ، ومشيت من بلاد لبلاد ، وفي كل قطر يقال لي : وجهك مختلف ، ودمك حار ، ولون بشرتك غريب ، فمن أي الكواكب يا ترى أنت ؟؟

كنت أقول : أنا من غاصت في أعماق التاريخ جذوره .. أنا ابن المروءات الأبية والنخوة العربية ، أنا الذي عاش فيها منذ أن عاش الديناصور ، وعمّرت فيها عمر شجر البلوط والزيتون ، ألا ترون ملامحي !! ألا تعرفون بشرة وجهي !! انظروا .. فلوني حنطي عربي إسلامي دعوي .

قالوا : فهمنا الآن .. أنت متهم بعدة تهم ..

أولاها : أنت عربي إرهابي .. وثانيها : أنت فلسطيني تحرّري .. وأما كونك إسلامي فأنت أصولي ودعوي معنى ذلك أنك حركي ..

ألا تكفيك هذه التهم ؟!!

قلت : إذن أنتم تعرفوني .. قالوا : نعم .. لكن جواز سفرك مفقود .. فأنت لا أصل لك في الوجود .. ولا هوية لك تعبر بها الحدود .

قلت : أنا الذي طعنه خنجر الغدر ، ورماه سهم الخصم ، وهدم بيته سليل القرد ، أنا الباحث عن أمي وأبي .. عن عمّي وعمّتي .. عن أختي وخالتي .. انا الذي سمع الغرب أنيني ورمى كيس الدقيق أمامي ظاناً أنه يغيّر اتجاهي ويجعلني أنسى أهلي وداري ، ألا تعرف شجر الزيتون !! إنه يُعمّر مثلي ، وشريك عمري ، ورفيق دربي ، من هناك نبتت جذوري على جبال الجليل والقدس والخليل ، لكني فقدت بيتي وحرقوا زرعي ، ضاعت أبقاري وهجرت بئر مائي ، هل تدلني على الطريق ؟؟ أم أنك تتعب إن كنت معي من نفس الفريق .

خذ هذا الإثبات .. أنا من تجرّع مرارة الشتات ، وحسّ حر الصيف وبرد الشتاء ، أنا الذي لعبت الأعاصير بخيمتي حتى أصبحت زنزانتي ، ألا تكفي كل هذه الإثباتات ؟!! أم أنني ما زلت في أرض الشتات !! ألا تعرفوا من أنا ؟؟

قال : أوضِح ما زلت مجهولاً .. قلت : أنا من ذاق جلده ألم السياط ولسع الكهرباء .. أنا من كُبّل بالقيود ومُنع مغادرة الحدود ، أنا السجين الطريد أإنا الوحيد الغريق .. قال : كل هذا لا يعنيني .. من أين أنت ؟؟ وماذا تحمل معك ؟؟ قلت : من أولى القبلتين وثالث الحرمين .. قال : من أين من أين ؟؟ قلت : من أرض الإسراء والمعراج .. قال : لا أفهم هذه الطنطنات .. أنت غير مرغوب وعليك الرجوع ، وتحمل معك أشياء محظورة .. قلت : ويحك .. ما هذه إلاّ حبات بندورة ... قال : لا .. لست هذا أعني .. أنت تحمل في رأسك أفكاراً ، ويدك ستكون منشاراً ، وصوتك يعلو مزماراً ، وهذه أشياء ممنوعة ..

بصريح العبارة .. انت تفكر في كل حارة ، والفكر عند العربي ممنوع .. قلت : إذن أتسمح لي بالدخول .. قال لي : لا إنها التعليمات .. قلت : إذن أحاول من كل الجهات .. قال : هيهات هيهات .. ممنوع الدخول لأمثالك ..

جلسْت مطرق الرأس حائر الفكر مشتت النظر .. أقول في نفسي : كل هذه الإثباتات ولا أعرف من انا !!

أنا صعقة المنون ولا حق لي في العيش والوجود ، وأنا على هذا الشكل وبهذا اللون .

يا ترى ألا يعرفني الجيران من سوريا ولبنان أو مصر والسودان إلى من أذهب ؟؟ فأنا الغريب وسط الجيران ، وانا المذنب في كل البلدان .؟

جئت من طريق أخرى .. فقال : من على الحدود ؟؟ اقبضوا عليه إنه عدو لليهود .. قلت : ويحك ، أليس لي مكان في الوجود ؟!! أو دار أم أبقى مسافراً في كل قطار ؟؟

سرت في البر وركبت البحر وما دخلت بلداً إلاّ وقيل لي من أنت ؟؟ فأنا من البشر ولي حقوق البشر .. قالوا : أنت من الدول العربية وهويتك كل القضية .. قلت : الآن عرفت نفسي ووجدت ذاتي .. ردّ علي بصوت قائلاً : ألك حقوق مغصوبة ؟؟! قلت : نعم .. قال : تنازل عنها يُسمح لك بالمرور .. قلت : كيف ؟؟ قال : تبقى خلف الجدار ، خيمة لا دار ، بل ستكون عيشتك تسلل ، عيشة الهر والفار ..

عندها أدركْت نفسي ، وحددت معالم شخصي ، وعرفت جواز سفري .. فأنا الأرض المسلوبة والكلمة الممنوعة ، وأنا المتهم في كل نادٍٍ وعلى رأس القمم لأن تجاعيد وجهي تثبت عراقة أصلي ، وسواد جبيني يعلمهم أصول ديني ، فأنا بكل فخر إسلامي محمدي عربي فلسطيني .. فهذه أول التهم .

وثانيها : رفض الزنازن استقبالي .. لكثرة ما دوّنت أسمائي على جدرانها ، وما رأيت بياض نهارها .. بل أسهرني أنين سكانها ، منذ زمن ما جفّت لأمّي وأختي وبناتي دموع .. بل وخالاتي وعمّاتي أطفأت كل الشموع .

وثالثها : وكيس الطحين وبطانية الشتاء .. هذا هو كل الغذاء والكساء .

سجّل تاريخ حياتي ، سلبوا بيتي ، أخذوا أرضي ، هدموا داري ، قتلوا أولادي ، شنقوا خالي ، سجنوا ابني فادي .. ما عدت أحتمل ، لكن الصبر مفتاح الفرج ، فأيوب عليه السلام سكن هذه الأرض ، وزرع فيها الصبر ، وعلّم الصدق ( إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب ) فأنا المظلوم وأنا المقهور وأنا الصابر دون الناس ، فلا أنسى أولى القبلتين ولا مسقط الرأس ونور العينين ، ولا أنسى جبل الزيتون والكرمة والليمون ، فداري بعيدة وأنا أراها قريبة ، لكن الوصول إليها أبعد من السماء عن الأرض ، لأن الأهل والجيران تركوا ذاك الفرض واستبدلوا الاسم السامي ذروة سنام الإسلام بالحب والتعايش بأمْن وسلام .
 

أخوكم أ.اسماعيل ربعي
رئيس مركز ابن باز الخيري الإسلامي
الخليل - فلسطين
 

الصفحة الرئيسية      |      فلسطين والحل الإسلامي