بسم الله الرحمن الرحيم

حـريـق مشتعل ... في المسجد الأقصى المبارك
بقلم الشيخ تيسير رجب التميمي
قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي .
أمين سر الهيئة الاسلامية العليا في القدس .


خمسة وثلاثون عاماً مرت منذ أن امتدت يد الغدر والخيانة يوم 21/8/69 إلى دُرَّة مقدسات الإسلام ؛ عنوان عزة المسلمين ونصرهم وقبلتهم الأولى ، فحولت نار الحقد المسعورة في القلوب الحاقدة إلى ألسنة لهب ؛ أتت على ما يقارب ألفاً وخمسمائة متر مربع من سقف المسجد الأقصى المبارك ومنبر البطل صلاح الدين ؛ رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الإفرنجي ؛ ورمز ارتباط القادة المسلمين بالقدس وبالمسجد الأقصى المبارك ؛ ورمز عدالة الإسلام ؛ فقد حرر صلاح الدين القدس بعد أن ذبح المحتلون أكثر من سبعين ألف مسلم في ساحات المسجد الأقصى المبارك ، ولمّا تمكّن وانتصر عليهم استحضر قول الله تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " النحل 126 فلم ينتقم ؛ بل خيّرهم بين العودة من حيث أتوا أو البقاء في ظل رعاية الإسلام وسماحته ؛ ليبيّن لكل الدنيا أن المسلمين على مر الأيام هم المؤهلون للسيادة على الأرض وحماية الإنسان والمقدسات .

وما أن سمع أبناء شعبنا المجاهد بالكارثة حتى هبوا من كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية رجالاً ونساء ؛ شيوخاً وأطفالاً لنجدة مسجدهم والدفاع عنه ؛ رغم العراقيل التي وضعتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في طريقهم .
أوقع الحريق بالمسجد الأقصى المبارك أضراراً مادية فادحة ؛ وتسبب في خسارة عظيمة لا يمكن تعويضها ؛ فقد شمل أماكن كثيرة من المسجد المبارك ؛ منها منبر الملك الناصر صلاح الدين الذي يمثل قطعة فنية نادرة من الخشب ؛ صنعه القائد نور الدين زنكي في حلب ثم حمله إلى القدس القائد صلاح الدين ، ومنها محراب زكريا بكامل مساحته التي تبلغ 400 متر مربع بكامل نقوشه وزخارفه ، ومنها أيضاً الزخارف والفسيفساء الموجودة على القبة الخشبية ، والخشب المزخرف في سقف المحراب ، وأصاب التلف العمودين الموصلين من ساحة القبة إلى المحراب والقوس المحمول عليهما ؛ وسورة الإسراء المكتوبة بالفسيفساء المذهبة فوق المحراب ؛ والجدار الجنوبي بجميع التصفيح الرخامي الملون . وأتت النيران على كامل السجاد ؛ وعلى ثلاثة أروقة مع الأعمدة والأقواس والزخرفة ؛ وعلى جزء من السقف الذي سقط على الأرض ، وثمان وأربعين من النوافذ الفريدة بصناعتها وأسلوب الحفر عليها ؛ الذي يمنع دخول الأشعة المباشرة إلى المسجد .

وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى التنصل من أية مسؤولية عن هذه الجريمة النكراء ؛ فنسبت مرتكبها مايكل دينيس إلى الجنون ؛ لتغطي على الحرائق الفعلية المبرمجة والخطط التآمرية المنظمة التي يقوم بها العقلاء والحكماء من دهاقين ساستها . فمنذ أن خضعت للاحتلال أصبحت القدس عرضة للاعتداء الغاشم وهدفاً للظلم الجائر ؛ تعيث فيها يد الغاصب الصهيوني تهويداً وتبديلاً للمعالم الحضارية والتاريخية ، حتى جاءت هذه الجريمة الماكرة فكانت أصرح مثال لعدوانه على حرمة المقدسات الدينية والممتلكات الثقافية والتاريخية والأثرية ؛ استفز بها مشاعر كل مسلم يحترم مقدساته ويتمسك بأركان عقيدته . إن من يصنعون هذا الخراب ويسعون إلى هذا الدمار للمسجد الأقصى ؛ ويفرضون عليه الحصار من كل صوب ؛ ويضيقون الشوارع المؤدية إليه لا يمكن أن يُستأمنوا عليه ، ويجب أن ترفع أيديهم عنه وأن يُمنعوا من دخوله ولو للسياحة ؛ قال تعالى " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم " البقرة 114 .

هذا الحريق ارتكب في ذلك اليوم ؛ أما الحريق المستمر الذي يشتعل في مدينة القدس منذ احتلالها فيتمثل في حرق تاريخها الإسلامي ؛ واستبدال هويتها العربية الإسلامية بهوية المحتلين الغاصبين ؛ وطمس معالمها الحضارية لتهويدها ، وأدواتها في ذلك متنوعة متعددة غير مسبوقة ، أقلها الأدلاّء السياحيون الذين يقدمون المعلومات المزورة عن المسجد الأقصى بأنه جبل الهيكل المزعوم ، وهذه مؤامرة من نوع آخر ؛ لا بد من التصدي لها وكشف زيفها بكل الوسائل المتاحة لرفع المظالم عن المسجد الأسير ، إضافة إلى المجازر التي ارتكبت في ساحاته ومحاولات اقتحامه والانتهاكات المتواصلة لقدسيته .

أما عن ردود الفعل العربية والإسلامية فقد كانت باهتة ضعيفة ومخيبة للآمال ؛ فقد تشكلت على إثر الحريق منظمة المؤتمر الإسلامي التي انبثقت عنها لجنة القدس ؛ للحفاظ على المسجد الأقصى المبارك والدفاع عن مدينة القدس ؛ وعقدت المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ؛ لكن دون أن يصدر عنها خطوات عملية لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ الغاصبون المعتدون على مواصلة انتهاكاتهم واعتداءاتهم المتوالية ضد المسجد الأقصى المبارك وضد مدينة القدس إلى يومنا هذا ، فأدخلت سلطات الاحتلال المتفجرات والقنابل لنسفه بأدواتها من غلاة المستوطنين المتطرفين ، لكن عناية الله تعالى ويقظة أبناء المدينة المقدسة حالت بينهم وبين ما أرادوا ؛ قال تعالى " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " الأنفال 30 ، وقامت بفتح الأنفاق واستمرت بالحفريات تحت أساساته وجدرانه لتقويضه ؛ بحجة التنقيب عن الآثار رغم أن علماءهم أكدوا أن لا آثار لهم فيه ، وتزايدت محاولات الجماعات المتطرفة دخول ساحاته للصلاة فيها ؛ ووضع حجر الأساس لهيكل مزعوم ؛ هو قصة مختَلَقَة ومحض افتراء ووهم يرمي إلى تحقيق أهداف سياسية ؛ عن طريق فرض الأمر الواقع بالقوة والإرهاب ، فالمسجد الأقصى المبارك بكل جزء فيه حق خالص للمسلمين لأنه جزء من عقيدتهم ، وصدرت الأحكام والقرارات الدولية التي تؤكد هذا الحق بعد ثورة البراق عام 1929 ، لكن سلطات الاحتلال لم تلتزم بتلك القرارات ولا بما تلاها ؛ فهذا هو نهجها لا تحترم الإجماع العالمي ولا تبالي بأي قرار دولي .

نحن نعلم أن للأقصى رباً يحميه وللقدس رباً يرعاها ، ولها أبناء مرابطون وحراس مخلصون شرفهم الله بأرفع وسام ؛ بأن كانوا في الخندق الأول يفتدونها بالمهج والأرواح ، لكن هذا لا يعفي أمة العرب والمسلمين من مسؤوليتها في فريضة الدفاع عن القدس وحمايتها ومؤازرة أهلها . فعلى مر التاريخ التزم المسلمون جيلاً بعد جيل بتحريرها كلما تعرضت للغزو أو الاحتلال لارتباطها بعقيدتهم ؛ حيث أنها محور معجزة الإسراء والمعراج الخالدة ؛ إليها انتهى الإسراء ومنها بدأ المعراج إلى السماوات العلا ؛ والمعجزة جزء من العقيدة ؛ قال تعالى " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " الإسراء 1 .
 

الصفحة الرئيسية      |      فلسطين والحل الإسلامي