بسم الله الرحمن الرحيم

الموت.. عندما يكونُ شهادةَ حياة
د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري


ظلَّ تراب فلسطين عبيطاً بدماء أهلها، لا يجفُّ ثراها حتى ترويه مهج المجاهدين، وما نسمعه ونراه اليوم ليس سوى فصل من جهاد جهيد، وصبر طويل لهذا الشعب المرابط، فمنذ عام (1917م) وإلى اليوم وهذا الشعب يتواصى بالصبر ويتوارث الجهاد.
ليست هذه المواجهة إلا حلقة من سلسلة طويلة من الكبد، والجهد، والعناء، والدماء.
يا للهِ لأِبناء هذا الشعب الصابر المصابر وُلِدوا وشابوا، وشبّ البنون والحفدة، وأطوار البلاء تتقلب بهم، وستشهد صحائف الدهر أن هذا الشعب جاهد، فما وَهَن ولا استكان، ولا أعطى الدنيّة يوماً.
قبل ثلاث وسبعين سنة وفي عام (1929م) أي قبل إعلان إسرائيل بعشرين سنة، ومع بدء الزحف اليهودي إلى فلسطين كانت المواجهات وكان القتال -فيما سمي بثورة البراق- يوم حاول اليهود الاستيلاء على الحائط الغربي للمسجد الأقصى.
والتحم المسلمون في فلسطين مع اليهود والإنجليز، في مواجهات واضطرابات أسفرت عن (351) شهيداً و (150) جريحا،ً واعتقل الإنجليز المئات حتى امتلأ سجن عكّا، لتصدر عليهم الأحكام بالسجن أو الإعدام.
وكان الانتداب البريطاني يحضن اليهود بكلـتا يديه، ويبطـش بالفلسطينيـين بكلتا يديه –أيضاً-، وبلغ من حمايته لليهود وبطشه بالفلسطينيين أن الحكم بالإعدام يصدر على من يجدون عنده رصاصة واحدة، وقد حُكِمَ على الشيخ فرحان السعدي –رحمه الله- بالإعدام، وهو في الثمانين من عمره، ونفِّذ الحكم وهو صائم، والتهمة والجريمة وجود بندقية عنده!!
وفي عام (1936م) وقعت الاصطدامات الكبرى التي قدم فيها الفلسطـينيون (3000) شهيد من المقاتلين و(8000) مدني بين قتيل وجريح.
ولم ينته عام (39) حتى كانت حصيلة المواجهات مع اليهود والبريطانيين (8000)شهيد و(15000) جريح من المجاهدين، ومن المدنيين قرابة (14000) بين قتيل وجريح.
إن شلاّل الدم كان يتدفق بغزارة منذ أكثر من سبعين سنة، ولم يتوقف عروج أرواح الشهداء إلى أبواب السماء منذ ذلك التاريخ.

دلالات هذه الانطلاقة الجهادية:
1- أنها أزالت الصدأ عن أعين الحالمين بوعود حمائم يهود، ولقد شكونا إلى الله يوم بدأ مشوار الهرولة يوماً من الدهر، فصار الحديث عن السلام وكأنه الخيار الأوحد، وصار الحديث عن أبناء العم (إسرائيل) وصار الهجوم يوجه بازدراء إلى عملية الاستشهاد، وكتب من كتب (على حماس أن تعرف أنها أصبحت خارج الزمن).
وكتب من كتب أن العمليات الاستشهادية تحرج تيار السلام الإسرائيلي أمام الناخبين، وطال الرهان على حمائم السلام الإسرائيلية، وكنا نعلم أن ليس ثمةَ حمائمُ ولا صقورُ في يهود، وإنما كلهم غربان يشبه بعضهم بعضاً، كما يشبه الغراب الغراب.
وهاهو القتل يتم اليوم بيدي (آرييل شارون) (وشمعون بيريز) بالوحشية والإجرام ذاته، وتفتحت العيون التي كانت مغمضة تحلم.
كانت إسرائيل تسمّى (إسرائيل المزعومة)، ثم صارت تسمى (العدو الإسرائيلي)، ثم (الاحتلال الإسرائيلي)، ثم (إسرائيل) ووضعنا أيدينا على قلوبنا خشية أن يقال -في يوم من الأيام- إسرائيل الصديقة، حتى جاء الله بهؤلاء الرجال الأبطال الذين كلما رأوا إسرائيل لبست برقعاً -يخفي أنيابها- مدّوا إليه أيديهم فهتكوه.
2-أنها عافت النفسيَّة المهزومة، فلقد تغلغلت الهزيمة في النفوس، ورأينا كيف كان الإحباط يفرز هجاء النفس، وجلد الذات، والسّباب الفاحش للعرب.

فمن الخليج إلى المحيط قبائل *** بطـــــــرت فلا فكر ولا آداب
يتقاتلون عــلـــــــى بقايا تمرة *** فخـــــــناجر مرفوعة وحراب
قبــــــلاتهم عربية من ذا رأى *** فيـــــــما رأى قبلاً لها أنياب؟
والعـــــالم العربي يرهن سيفه *** فحـكاية الشرف الرفيع سراب!

إن هذا النَّفسَ الشعوبي المحبط، يجترُّ مرارات الهزائم المتوالية، فجاءت هذه الانطلاقة الجهادية لتمسح عن رؤوسنا غبار الذل، وتغسل عن أفواهنا مرارة الهزيمة، وتريق الدم على جوانب الشرف الرفيع.
3-أن هذا الجهاد أعاد إلى المواجهة مع اليهود هويتها، وتجاوز الإخوة في فلسطين تلك الشعارات والولاءات التي تفرق ولا تجمع، وكانت تناسب كل أحد إلا أهلنا في فلسطين.
تجاوزنا شعارات الكفاح والنضال، وشُفِينا من الاستحياء من كلمة جهاد وشهادة في سبيل الله.
مضى زمن -لا أعاده الله علينا- كانت العمليات الفدائية تتم باسم (هوشي منّه) و(تشي جيفارا) (والجنرال جياب)، ودخل الجنود المساكين المعركة وشعارهم: أمجاد يا عرب أمجاد!
لا ندري ما ذا تفيد أمجاد (داحس والغبراء) ومعلَّقة (امريء القيس) وقصر (غمدان) ابننا الصريع ذاك الذي عُفِّر على وجهه في طور سيناء.
أما اليوم فقد عاد للجهاد في فلسطين وجهه الأول يوم انطلق على يد العلماء، وكانت قيادة الاتجاه الجهادي بيد الشيخ/ أمين الحسيني -رحمه الله- مفتي فلسطين، والشيخ/ عزالدين القسام (إمام مسجد الاستقلال في حيفا)، والشيخ/ موسى كاظم الحسيني، والشهيد/ عبدالقادر الحسيني، والشهيد/ محمد فرغلي، والبطل/ أحمد عبدالعزيز، وهاتيك العصبة الخيرة التي كانت تنحت الصخر بلا مزايدات ولا شعارات مع قلة الناصر وضعف المعين.
أعاد لنا هؤلاء المجاهدون اليوم سيرة عُميَر بن الحمام حين سمع النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال: لئن عشتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة".
أعادت سِيَر أبناء الصحابة الذين سمعوا أبا موسى الأشعري يقول: "أبشروا، فإن الجنة تحت ظلال السيوف، فقالوا: يا أبا موسى أنت سمعته من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: نعم، والذي لا إله إلا هو، فكسروا أغماد سيوفهم وقالوا: نقرأ عليك السلام، ومضوا يقاتلون حتى قتلوا".
تحددت هوية الجهاد وشعاره فأصبحنا نرى على القنوات تسجيل اللحظات الأخيرة لهؤلاء المجاهدين، وقد عصبوا رؤوسهم يودِّع أحدهم رفاقه وهو يودع معهم الحياة الدنيا بشهادة –أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- و-الله أكبر- ثم يذهب أحدهم لينثُر لحمه ودمه أشلاءً بين لفائف المتفجرات.
وترى الأم الثَّكلى تشرق بوجه طَهور ثابت صَلد كحجر الرخام، وهي تقول: (هذولا جاراتنا جايين فاكرين إني ما بَعرف إنُّه ولدي استُشهد، الحمد لله هوَّ استشهد، وحتى باقي أولادي هظول يستشهدوا -إن شاء الله-).
ألا عميت عين ترى هذا الفداء فلا تقطر، وسكتت قلوب تراه فلا تختلج!!
من الذي يصنع ذلك بهذا الثبات والوثوق إلا الذين يؤمنون بأن الآخرة خير لك من الأولى، وأنّ ما عند الله خير وأبقى؟
يوم قام (جول جمّال) بعملية انتحارية بطولية قبل سنين طوال سمّيت باسمه الشوارع والفنادق والحدائق، ونُظِمت فيه القصائد.
أما الآن فإن أي ذاكرة حديدية لا تستطيع أن تستوعب أسماء هؤلاء الشهداء، ولئن نسيناهم فإن الله لا ينساهم، وإن كنا لا نعلمهم فإن الله يعلمهم.
نسأل الله أن يرفع درجاتهم في المهديين، ويخلفهم في عقبهم في الغابرين، ويجعلهم في أعالي الجنان منعَّمين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
إن هذا التاريخ الطويل يبين أن هذا شعب يستعصي على التدجين والاحتواء.
إن هؤلاء المجاهدين هم الذين وُلِدوا، وفتحوا عيونهم على هذا الواقع، فلم يتآلفوا معه ولم يتقبّلوه، ولم تفلح محاولات يهود في احتوائهم، لقد لاكَت لحمهم لتبتلعه فوجدته مراً لا يساغ.
نصحتك فالتمس (يا قرد) غيري *** طعاماً، إن لحـــــــــمي كان مرّا
لو كان أحد يقتنع بالسلام مع يهود لكان هؤلاء، ومع ذلك لم يجعلوا للسلام مساحة في أحلامهم، لقد رأى هؤلاء أن الموت أصبح قدرهم، والفرق هو أن الموت يمكن أن يأتيهم على أيدي اليهود، أو يأتي الموت اليهود على أيديهم، إما أن يحدد لهم اليهود ساعة الموت أو أن يحددوها لهم. ما أعجب الموت عندما يكون شهادة حياة!!
أصبح الموت مشهداً مألوفاً وحدثاً يومياً، فلم يعد يذعر الصغار الذين كان لهم في هذه الملاحم مشهد مذكور.
وإذا ما غـــــــــدا الكبار صغاراً *** أرسل المجد في الطريق صِغَاره
أصــــغار؟ من قال أنتم صغار؟!  *** في يديكم رأى العــــــدو صَغَاره
إن اليهود نجحوا في إخفاء أشياء كثيرة والتضليل حولها، لكنهم لم ينجحوا في إخفاء حقدهم وتوحشهم، هذا الحقد والتوحش الذي يظهر عندما تكون المواجهة مع الأطفال والنساء والرجال العزّل.