اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/mktarat/egazh/64.htm?print_it=1

مشاريع في الإجازة

الشيخ محمد المنجد

 
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد،

فإن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا لعبادته وعبادة الله ذلُ وخضوع خوف ورجاء ومحبة وعمل باللسان والقلب والجوارح. نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل، وهكذا لا تزال هذه الأيام تحملنا إلى الله تعالى. وكل يوم نحن أقرب إلى لقاء الله من الذي قبله وهنا ينبغي محاسبة النفس والاستعداد ليوم الرحيل. وهذا الزمن الذي يمر علينا نعمة ومستودع ينبغي ملؤه بالأعمال الصالحة " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا "

وهذه الإجازات التي تأتي اليوم فرصة عظيمة ينتهزها ويستثمرها أهل طاعة الله سبحانه وتعالى وينظرون مليًا بأي شيء يملؤها وماذا يفعلون فيها ومن ندم على ما فرط استعد للعمل وتحمس

وما أقبح التفريطَ في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شاعل
ترحّل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيام وهــن قلائـــــــــــــل

فهذه هي الإجازة فما هو مشروعك يا عبد الله؟ وبأي شيء ستنشغل فيها؟ هلا تأملت قليلاً وفكرت بأي شيء ستنتهز أيامها؟ هل أعددت أمورًا وفكرت فيها؟ هل لديك أعمال مشروعة تملأ بها هذه الأوقات؟ وهل لديك وضوح في الهدف ومراعاة لأحوالك تأتي هذه الأعمال موافقة لما عندك من الظروف والإمكانات؟ إن الأفراد يُقاسون بالمنجزات لا بالأعمار؛ فاترك آثارًا قبل رحيلك واملأ وقتك بطاعة الله، قال عز وجل: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ" ـ في كتاب عند الله لا يضل ربي ولا ينسى ـ نكتب ما قدموا من الأعمال وآثارهم على الأرض وأقدامهم تسير إلى تلك الأعمال. والأرض ستشهد بما عُمل عليها من خير أو شر " يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا"
فلينظر العبد في أي شيء سيعمل، فمن الناس من يُفتح عليه في ألوان الطاعات وصنوف العبادات وأنواع الاجتهادات وطرق المسابقات إلى الخيرات، فهو بالقرآن الكريم والعناية به وتلاوته قيامًا وقعودًا وعلى جنبه والصلاة به وحفظه، ومنهم من يفتح الله عليه في تعليمه وإقرائه لأنه ضبطه وأتقنه وهذه هي الحكمة العظيمة والفرصة الكبرى رجل يقرأ القرآن ويعلمه آناء الليل وأطراف النهار.

ومنهم من يفتح الله عليه في أنواع العلم وفروعه ومجالاته من التوحيد والحديث والفقه والتفسير ومنهم من يُفتح عليه في علوم أخرى كاللغة والتاريخ والسير والعلوم. ومنهم من يحسن التدريس ومنهم من يحسن الوعظ ومنهم من يحسن التأليف والجمع. ومن عباد الله من يجعل اللهُ لذته بالصلاة وقرة عينه فيها ليلاً ونهارًا. وأخر يُفتح عليه في الصوم فهو يكثر من المستحبات بعد الواجبات.

وأناس خصهم الله بمزيد من العناية بالصلة فهو يتفقد أقاربه ويزور أرحامه يسأل عنهم ويبرهم ويصلهم ويحسن إليهم من غير انتظار مكافأة أو لوم. ومنهم من يفتح له في مساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين والسعي على الأرملة والمسكين والغريب والفقير والأسير.

ومنهم من يحسن أن يأخذ من الأغنياء لإعطاء الفقراء ويشتغل في تفريج كربات العباد وسدّ الديون وكفالة الأيتام ورعايتهم ومواستهم وتعليمهم. ويفتح الله على أقوام بإقامة المشروعات البنائية المختلفة من المساجد والأوقاف ودور الخير ونحو ذلك، ومنهم من يفتح الله عليه بالاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في سبيل لذلك. ومنهم من يفتح عليه في باب الشفاعة والواسطة الحسنة والإصلاح بين الناس فيفك أسيرًا ويحقن دمًا ويُحق حقـًا ويمنع باطلا ويحجز ظلمًا ويصلح بين المتخاصمين، ويعالج هذه المشكلات الزوجية بما # ويرد الزوج سالمًا إلى زوجته.

ومنهم من يُفتح عليه بمراعاة أعمال القلوب والجوارح فهو لا يزال يفتش عن عيوب نفسه ويصلح حاله يتأمل ويحاسب ويتدبر ويعالج. ومنهم من يكون له في إكرام الضيف وعيادة المريض ونصرة المظلوم وإنظار المعسر وإرشاد الضال وسائر طرق العمل حتى إن لنا في البهائم لأجرًا حتى من زرع زرعًا أو غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو طير أو دابة كان له به أجر.

وهكذا أبواب الطاعات وفروض الكفايات وأنواع الواجبات والنوافل، وإذا كان ضاربًا بسهم في كل واحد منها فهنيئًا له فإن هنالك أناس يُدعون من كل أبواب الجنة

فبادر إذا ما دام في العمر فسحة *** وعقلك مقبول وطرفك قيــــــــــم
وجدّ وسارع واغتنم زمن الصبــــا *** ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم

ولا يخلو كل واحد أن يوجد فيه شيء من تميز وإبداع في جانب من الجوانب فليستثمر ذلك في هذه الإجازة ويفرغ لله تعالى يما يحسنه وأن يركز في عمله ويختار ما يمكنه أن يقوم به ولا يشتت نفسه

ومشتت العزمات يقضي عمرَه *** حيرانَ لا ظفر ولا إخفاق

ومشروعات دعوية تقام في هذه الإجازات تحتاج إلى همم الشباب وسواعدهم ينبغي المشاركة فيها في هذه المراكز القرآنية والخيرية وهذه الأنشطة الصيفية وقوافل الخير. إنها فعلا مناسبات وإنها مشروعات يستثمر فيها الإنسان طاقته وما وهبه الله.

والدين يحتاج إلى نصرة بالكتابة في هذه الصحف وغيرها من المواقع الإلكترونية نصرة لله ورسوله وذبًا عن شرعه ودينه ونشرًا للحق وإنكارًا للمنكر وإسكاتـًا لأهل الباطل. وصاحب ذلك لا يزال يدبج بيده مقالة لنصرة الحق ويرد على باطل ويرفع مقالا ويشجع كاتبـًا ويجمع متفرقـا ويذكر بعبادة. ورسائل الجوالات تسعي بالخير إلى الناس وينبه على بدعة أو منكر أو خطأ لئلا يقع فيه الناس.

وكذلك عبارة وعظية تذكيرية ودلالة على باب من الخير وإفادة الناس من خبر وبشرى للمسلمين أو تأكد من صحة خبر و نفي إشاعة كاذبة. وأيضًا تعاون في مجال الدعوة ونسح المقالات المميزة ونشرها واستعمال القوائم البريدية المختلفة لإرسال ليس ما يضحك فقط وإنما ما يفيد أيضًا.

وينبغي أن ينسى العجز والكسل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ منهما: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل" وهكذا قال عليه الصلاة والسلام: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز". فهذا هو شعارنا:

الذل في دعة النفوس ولا أرى *** عزَ المعيشة دون أن يُشقى لها

لابد من التعب، الكسل مصيبة، التواني، النوم الكثير الذي يسعى إليه البعض في هذه الإجازات لعبًا بهذا لألعاب الإلكترونية وسهرًا على هذه القنوات الفضائحية وهكذا لعبة الورق وغيرها مما يسمونه تسلية. وطفقـًا بالأسواق وإيذاءً لعباد الله وإماء الله، وسعيًا للمنكر والمحرم ورقص على الأرصفة وإضاعة للوقت على الشواطئ في المحرمات وهكذا أذية عباد الله في الطرقات فشتان شتان بين من وجهه الله للحق وبين من جعله من جند إبليس، فاربأ لنفسك يا عبد الله أن تكون من جند إبليس ولا تكن إجازتك هذه نومًا بالنهار وشغلا بالمعصية في الليل وقلبا لنظام الحياة بالمنكر.

عبد الله من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية ومن تعود الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة
فحب الهوينة يكسب النصب، وقيل إذا أردت ألا تتعب فاتعب، يعني إذا أردت ألا تتعب مستقبلا فاتعب الآن. وهذا الكسل والضجر والتأفف ماذا نقتل به الوقت عبارات قد سئمناها

إن التواني أنكح العجز بنته *** وساق إليها حين أنكحها مهرًا

التواني زوج العجز فماذا كانت النتيجة؟ وما هو المولود؟

فراشـًا وطيئًا وقال لها اتكئي *** فغايتكما لا شك أن تلدا الفقر

فقر في النفس وفقر في المال وفقر الدين قبل ذلك. لابد لنيل معالي الأمور من التعب والملاحقة والعمل المتواصل الدؤوب. والإنسان لا يؤجل الأعمال وإن سوف من جند إبليس

ولا ترجي فعل الخير إلى غد *** لعل غد يأتي وأنت فقيد

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ "
" وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ "

وإيانا والفوضوية وأن نفتح مشروعًا دون أن نكمله وأن نقفز هنا وهنا دون أن نبلغ الهدف

وعاجز الرأي مِضياعُ لفرصته *** حتى إذا فاته أمرُ عاتب القدرَ

لا تنحل عزيمتك يا عبد الله! استمر وامض!

" وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ "
فهذه التي غزلت ثم قاربت أن تنهي هذا الغزل والنسج فإذا بها تحله كله وتفك هذه الخيطان فذهب الأجر ذهب العمل أدراج الرياح. ولا تستعجل بثمرة مشروعك قبل تمامه واصبر! ولكنكم قوم تستعجلون

ومستعجل الشيء قبل الأوان *** يصيب الخسارة ويجني النصب

لابد من الجد وأن يشجع بعضنا بعضا وأن يستشير بعضنا بعض وألا نبالغ في الأهداف فنعجز فنصاب بالإحباط. أن يكون هناك تشجيع وترك للمزاجية وثقة بالله تعالى وتسابق في الخيرات.

عباد الله! إن من أولى ما شغلت به الإجازات طلب العلم. لأن المصائب التي ابتليت بها الأمة كثير منها بسبب الجهل وإن الذين لا يؤسسون أنفسهم على قاعدة من الكتاب والسنة يضيعون ولا يدرون ماذا يفعلون، ومن أعظم من تـُعبـدَ الله به تعلم دينه فلماذا أنزل القرآن؟ ولماذا أوحى لنبيه السنة صلى الله عليه وسلم؟ أليس لأجل الفهم والعلم؟ أليس لأجل الفقه والتدبر والتفكر؟ أليس في ذلك آيات لأولي الألباب ولقوم يتفكرون ولقوم يتدبرون ولقوم يعقلون؟ ولماذا ختمت الآيات بهذه الخواتيم "يعقلون" "يتفكرون" "أولي الألباب" أليس ليكون لنا نصيب من هذا في دراستنا لكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

وإن من أعظم ما فتح الله به المسلمين في هذه البلد ]المملكة العربية السعودية[ قيام الدورات العلمية الشرعية التي يأتي إليها أهل العلم للتدريس فيها متون وكتب وشروح ومناقشات، وهكذا تفهم أمورًا كثيرًا مرتبة مسلسلة وقواعد تبنى على أمور مضت وهكذا تطلب العلم. إذا كان عون من الله لك فهنيئًا في هذا الطلب وهذه العبادة العظيمة.

كان السلف رحمهم الله يبكرون للعلم وكان الصحابة يغشون مجالس النبي صباح مساء يذهبون إليه صباحًا ثم يعودن ثم يذهبون إليه مساءً. فأما من انشغل بجهاد أو طلب رزق فإنه يسأل بعد ذلك عما فاته كما سأل عمر الأنصارية وسأل الأنصاري عمرًا؛ كانا يتناوبان على المزرعة وعلى حضور الحلق وعلى العلم. قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله: "كنت أحضر مجلس أبي حازم اليوم الجمعة بالغداة من غير أن يكون درس لئلا أنقض عادتي بالحضور" لأجل أن يبقى التعود على ما هو عليه.

قال عليه الصلاة والسلام: "يأيها الناس إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه ومن يرد الله بها خيرًا يفقه في الدين وإنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ". يقول جرير: "جلست إلى الحسن سبع سنين لم أخرم يومًا واحدًا أصوم وأذهب إليه". وكان قتادة بن دعامة السلوسي يحضر حلقة أنس صباحَ مساءَ، وأنس رضي الله عنه يحدث من يأتيه بالمساء بحديث أهل الصباح فيعيد لهم الدرس، وذات مرة تأخر أنس عن أهل المساء فحدثهم قتادة بكل حديث الصباح وأنس يسمع فلما رأى حفظه وتعجب من فطنته لكزه بيده وقال: قم يا أكمه فقد أخذت علمي. وقال له سعيد: نزفتني يا أعمى. وكان قتادة رحمه الله ضريرًَا، قال: نزفتني (أي) استخرجت ما بي من علم.

وهذه الحلق تحتاج إلى آداب ليستفاد منها. إنها تحتاج إلى صبر وتبكير، إنها تحتاج إلى مواظبة وهكذا المواظب يُفتح عليه أما الذي يُساق إلى الحلق والدروس كأنما يُساق إلى الموت وهو ينظر فهو كاره قد أصابه الملل فماذا عساه أن يحصّل ‍‍! فلابد أن تكون النفس منشرحة لهذا العمل، مذاكرة قبل الدرس وحضور ذهن أثناء الدرس ومراجعة بعد الدرس. واستدراك ما فات من الدرس من شيط أو ملخص طالب ونحنو ذلك لابد من التقييد

العلم صيد والكتابة قيــــــدُه *** قيّد قيودك بالحبال الواثقـة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة َ *** وتتركها بين الخلائق طالقة

أحسن الإنصات وقاوم الشرود وبكِّر واسأل عما يُشكل. كان أحمد بن سنان لا يُتحدث في مجلسه ولا يُبرَى قلمُ ولا يقوم أحد كأن على رؤوسهم الطير.

وأيضًا فإن الأدب في الحضور أن يصون المجلس ولا يرفع صوته ولا يصيح ولا يضحك ولا يكثر الكلام لغير حاجة ولا يلتفت يمينًا ولا شمالا ولا يتكلم بسوء أو شر. وأيضًا فإن التعليق على حواشي الكتب وعلى أطرافها مما يرسخ المعلومات التي سمعتها من الشيخ.

وكان النووي رحمه الله يحضر في اليوم اثني عشر درسًا وهذا من عجائب الدهر ونحن لا نطالب هؤلاء الشباب لا نطالبهم بربع ذلك، لعلهم يجتهدون ليزيدوا.

وكانوا يمكثون على الأبواب حتى يفهموها، وقال أحمد رحمه الله عن أيام الطلب: "مكثت في كتاب الحيض تسع سنين حتى فهمته". وقال بعض الطلاب: راجعت الشيخ فلم تتضح لي المسألة فرجعت إلى منزلي وبحثت ولا زلت أبحث والخادم قائم بالمصباح على رأسي أو بالشمعة حتى مر ثلاث أرباع الليل فلما طلع الفجر زال الإشكال واكتفيت بفهم هذه المسألة فنمت هانئًا.

لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر، الذي يأنف عن الحضور والانتظار والسؤال، وقد يجابه بما يؤذيه فإذا تضايق من الوهلة الأولى فذهب فاته العلمُ. ولذلك قال بعض السلف ـ وهو أبو سلمة رحمه الله ـ : لو رفِقت بابن عباس لاستخرجت منه علمًا كثيرًا لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علمًا جمًا. أي لو صبر على الشيخ لاستخرج منه شيئًا كثيرًا. فأما أن يأتي أول ما يأتي فيجابه بشيء من شدة أو تضيق أخلاق الشيخ عن استيعاب أخلاق هؤلاء الحاضرين فربما انصرف قبل أن يسأل الكلُ أو أن يفهمهم بالأسلوب الذي يتمنونه، فمن أصابه الغضب من أول مرة فذهب لم يحصّل شيئًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا" قال بعض العلماء: كبير القدر وكبير السن أيضًا.

ولذلك قال أهل العلم: على المستفتي أن يوقر المفتي في الخطاب فلا يناديه باسمه مجردًا ويقرن كلامه بالدعاء له أو يقول: ما قولكم حفظكم الله أو رحمكم الله ولا يشير بيده في وجهه، ولا يقول إذا أجابه الشيخ: نعم هكذا كان رأي في هذه المسألة أو يقول: فلان أفتى بخلاف رأيك، فإن هذا ضرب من التعنت والإضجار وسوء الأدب.

وكذلك قال إسماعيل بن بنت السدي في قصته مع مالك: كنت في مجلس مالك فسئل عن فريضة فأجاب بقول زيد رضي الله عنه، فقلت له: ما قال فيها علي؟ فأومأ إلى الحَجَبْة فلما همّوا بي عدوت وعجزتهم ، قالوا ما نصنع بكتبه ومحبرته قال: اطلبوه برفق فجاءوا إليّ فجئت معهم، فقال مالك: من أين أنت؟ قلت: من الكوفة، قال فأين خلّفت الأدب؟ ـ أين تركته وجئت إلى مجلسي ـ فقلت: إنما ذاكرتك لأستفيد، قال: إن عليًا وعبد الله لا يُنكر فضلهما، وأهل بلدي لا يُنكر فضلهما، وأهل بلدنا على قول زيد بن ثابت وإذا كنت في قوم فلا تبدأهم بما لا يعرفون فيبدأك منهم ما تكره.

وهكذا ينبغي أن يكون السؤال بلا تنطع وأن يعرض عما يضيع الوقت بلا فائدة "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وفي البخاري أن رجلا عراقيًا قال لعائشة: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك؟‍! ما يضرك إن كان من النوع الفلاني أو النوع الفلاني، أنت ستموت.

ولا يستعجلن، فقد سأل رجل ابن عمر عن إطالة القراءة في سنة الفجر فأحب ابن عمر أن يفيده فأتاه بحديث فيه من قبل صلاة الفجر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة..فقاطعه السائل فقال: لست عن هذا أسألك! فقال له ابن عمر: إنك لضخم! ألا تدعني أستقرأ لك الحديث. أشار إلى غباوته وقلة أدبه بهذه الكلمة "إنك لضخم".

وأيضًا فإن تعلم الأدب مع العلم أما المعلومات فقط دون أدب فإنها قد تكون وبالا على صاحبها، كان يحضر مجلس الإمام أحمد رحمه الله خمسة آلاف وكان خمسمائة يكتبون والباقي يستمدون من خلقه وخلقه وأدبه. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم خشية الله تعالى. ولذلك كانوا بالإضافة إلى الخشية والإخلاص يستحضرون الأدب، كان الشافعي إذا قرأ بين يدي مالك يتصفح الورقة صفحًا رقيقًا كي لا يُسمع وقعه. ويتردد مخافة أن يملّ الأستاذ من طول ما يقرأ. وقال الربيع صاحب الشافعي ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له. وعوتب الشافعي في زيارته أحمد وهو تلميذ من تلاميذه

فقالوا يزورك أحمد وتزوره *** قلت: الفضائل لا تفارق منزلا
إن زارني فبفضله أو زرته *** فلفضله فالفضل في الحالين له

اللهم إن نسألك أن تفقهنا في ديننا وأن تؤدبنا بأدب شريعتك يا رب العالمين.
اللهم إن نسألك الإخلاص في القول والعمل
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا يا عليم
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم

---------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله السراج المنير البشير والنذير وصاحب لواء الحمد والحاشرُ الذي يُحشر الناس على عقبه والمقفى وصاحب الشفاعة والمقام المحمود صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين كما صلى الله عليه بما علمنا وأرشدنا، صلى الله عليه وعلى أصحابه الغر الميامين وخلفائه الطيبين الطاهرين
عباد الله، يعمدُ كثير من الناس إلى السفر في هذه الإجازات، فهلا نظروا في أي شيء يكون السفر؟!
هل هو سفر طاعة أو سفر معصية؟ وقد يكون سفرًا مباحًا أو مستحبًا أو مكروهًا. فليرتقي الإنسان بسفره فربما ينوي بالسفر التمشية والترويح والتسلية فإذا نوى به إسعاد الأولاد وإدخال السرور على الأهل كان السفر سفرًا مستحبًا وكان له بذلك أجر يفوق تلك النية الوحيدة اليتيمة التسلية وتغيير الجو ونحو ذلك.
السفر إلى بلاد الكفار
ثم إن بعضهم يسافرون سفر معصية إلى بلاد الكفار بغير حاجة تأثرًا بهم وانبهارًا بهم بل ربما عملوا الجولات السياحية التي تؤدي إلى زيارة كنائسهم ودور عباداتهم. ويتأثر الأولاد بمنكراتهم وما يشاهدونه من أنواع التعري والتفسخ وزيارة المتاحف التي تعرض شركهم وباطلهم في كثير من الأحيان بخلاف تلك المعارض العلمية التقنية المفيدة التي تطلع الناس على بعض أخبار من قد سبق اطلاعًا يقود إلى الاتعاظ والعبرة وليس أماكن المعصية والاختلاط المحرم.

ومنهم من يقترض بالربا ليسافر فما أسوأ ما فعل. وهذه البطاقات وأنواع المعاملات لتي تزيد الناس إيقاعًا في الحرام لكنهم يبيعون ما يحتاجون ويقترضون بالحرام كي يسافرون لأجل أنهم ليسوا بأقل من عائلة فلان أو لئلا يفوتهم الشيء الفلاني وما هو؟ ما هو؟ لو كان خيرًا لو كان علمًا لو كان دينًا وعبادة. فلا يجوز أن يؤتى بالاقتراض الربوي فكيف وهو يسافر بالمعصية إلى المعصية.

وربما رأى أولادهم أنواع الخمور والمراقص وصالات السينما وغيرها مما يُعرض فيه أنواع الخنا والفجور ولذلك قال علماؤنا: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط: أولا أن يكون عند المسافر علم يدفع به الشبهات وثانيًا أن يكون عنده دين يمنعه الشهوات وثالثًا أن يكون محتاجًا إلى ذلك. وهذه الحاجة مثـّل لها بعض أهل العلم بالعلاج الذي يضطر إليه ولا يجده في بلاد المسلمين وتجارة تستدعي سفره وتعلم العلوم التي يحتاجها المسلمون ولا توجد في بلادهم أو القيام بالدعوة إلى الله عز وجل. إما إتيان بلدانهم لمجرد السياحة والنزهة والاستجمام كما يقولون فلا.

وإن بعضـًا من البلاد التي يوجد فيها المسلمون أسوأ في فسادها من بعض بلاد الكفار مع الأسف، فالنظر إذن إلى أين الذهاب وأين سيمكث. فهذه فنادق يُقدَم فيها الخمر وأخرى يُعرض فيها ما حرم الله وأنواع التعري وأنواع العري في الألبسة تمشي على الأرض.

فعلى المسافر أن يتملى إلى أين سيسافر وإلى سيذهب في سفره، فليست القضية طفش يدفع إلى الهروب من الحر والروتين والدوام الذي كان معتادًا من قبل دون تفكير إلى أين سيكون وماذا سيفعل في هذا السفر. فالمشاورة من الثقة في دينه وعلمه، والاستخارة قبل الذهاب؛ "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن"، وأن تكون له نية صالحة ثالثـًا ورابعًا التوبة من المعاصي وإخراج مظالم الخلق وتسديد الديون ورد الأمانات وإعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم. أما خادمة وسائق قد منعت ثرواتهما فيسافر بمدخرات خادمته ورواتب سائقه.

وخامسًا إرضاء الوالدين قبل الخروج واستئذان من لابد استئذانه كاستئذان الزوجة زوجها، واستحب العلماء استئذان التلميذ لشيخه. وكذلك سادسًا أن تكون النفقة حلالاً خالصة حتى يُقبل ذلك السفر في طاعة الله.
واستحباب توديع المسافر سابعًا فإذا خرج الإنسان في سفر فليودع إخوانه فإن الله جاعل في دعائهم بركة كما قال ابن عبد البر رحمه الله. وقال قزعة قال لي ابن عمر: هلم أودعك كما ودعني الله صلى الله عليه وسلم: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. وعن أبي هريرة أراد رجل سفرًا فأتى الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله عز وجل والتكبير على كل شرف ثم قال ـ لما ولّى الرجل قال عليه الصلاة والسلام ـ اللهم ازو له الأرض وهون عليه السفر.

وسابعًا (ثامنـًا) الاستكثار من الزاد الطيب والنفقة وقد قال الله تعالى: " وَتَزَوَّدُوا " ثم نبّه فقال: "فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى". والأفضل أن يخرج باكرًا لحديث صخر بن وداعة عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" وإذا تيسر صباح الخميس فإنه سنة كما ثبت في الحديث، وأما السفر يوم الجمعة فلا يجوز السفر بعد النداء الثاني وهو أذان الخطبة، وهو أذان الخطبة، ويُكره أن يسافر وحده إلا إذا احتاج إلى ذلك.

وأيضًا فإن الإنسان مع رفقة طيبة يختارهم إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم "الثلاثة ركب" كما قال عليه الصلاة والسلام. وإذا غادر وركب الدابة قال ذلك الدعاء المعروف: "بسم الله" ثلاثـًا إذا وضع رجله في الركاب وإذا استوى على ظهرها قال: "الحمد لله" فإذا وضعت رجلك في أول سلم الطائرة فقل: "بسم الله" ثلاثا فإذا استويت على متن الطائرة في مقعدك قل: "الحمد لله" ثم قل: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ـ أي مطيقين إن نعمه سابغة عز وجل لا نطيق شكرها فلنقم بما أمكننا لأجل أن يكون لنا عذر عند ربنا "ثم لتذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ـ وإنا إلى ربنا منقلبون" والإنسان إذا طبق أذكار السفر فإنه يعظ نفسه في الحقيقة فأنت عندما تقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى" فأي سفر إلى شر مستثنى "ومن العمل ما ترضى" إذا العمل الذي لا يرضاه الله في هذا السفر لا يجوز أن تقدم عليه ثم تدعو بالخلف في الأهل والمال وأن يحفظ الله عليك هذين؛ نعمتان عظيمتان الأهل والمال، وتستعيذ بالله من سوء المنقلب فيهما وتقول: "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل".

إن التهليل والتحميد والتسبيح إذا نزل والتكبير إذا ارتفع إنها من أذكار السفر، والمرأة مع المحرم ولا بد. والمسافر إذا نزل منزلاً مع أصحابه يجتمعون ولا يتفرقون وكذلك فإنه يجوز له أن يجمع ويُقصر طيلة سفره فإذا نوى الإقامة في مكان أكثر من أربعة أيام فإنه يتم الصلاة كالمقيم عند جمهور العلماء وإذا كان يمكث ثلاثة هنا واثنان هنا ولا يزال يتنقل فهو لا يزال يقصر. وإذا نزل مكانًَا لا يدري كم يمكث فيه لا يدري أقل من أربعة أو أكثر من أربعة فإنه لا يزال يقصر.

والجمع في المكان الذي وصل إليه إذا كان لا زال مسافرًا يقيم أربعة أيام فأقل جائز والأفضل تركه، يعني الاقتصار على القصر وعدم الجمع وإن جمع فلا بأس لأنه ما زال مسافرًا والسنة الجمع والقصر أثناء التحرك في الطريق.

وأيضًا فإن المسلم إذا كان يسافر في مطار خارج البلد جاز أن يقصر ويجمع فيه لأن سفره قد بدأ منذ أن غادر بنيان بلده والمطار مرحلة في الطريق. وأما إن كان المطار في حدود البلد لم يقصر ويجمع فيه لأن الرخصة لا تفعل إلا إذا غادر بنيان البلد.

وأيضًا فإن الإنسان إذا جمع وقصر في الطريق فوصل إلى بلده قبل صلاة العصر فإن ذمته قد برئت من صلاة العصر. وإذا كان في بلد فإن كان يسمع النداء صلى مع المسلمين في مساجد تلك البلد وإن كان لا يسمع النداء صلى مع رفقته جماعة. وأيضًا فإذا صلى وراء الإمام المقيم فإنه يتم الصلاة، لو أدرك أي ركعة من ركعاتها يتم الصلاة خلف المقيم، هكذا مضت السنة، فإن أتى في التشهد الأخير فإنه قد فاتته الجماعة بفوات الركعة ولذلك قال بعض العلماء فإنه يقصر لو صلى خلف إمام البلد في التشهد الأخير لأنه لم يدرك تلك الجماعة.

نسأل الله تعالى أن يُسلِّمنا في حِلنا وفي ترحالنا وأن يجمل ما آتانا عونا لنا على طاعته وأن يعيننا على أنفسنا وأن يقينا شر الشيطان وشركه. اللهم انصر الإسلام وأهله يا رب العالمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل المسلمين. من أراد ببلدنا هذا سوءًا فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا. الله أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المصدر : موقع الصوتيات والمرئيات الإسلامي
 

استغلال الإجازة
  • الأنشطة الصيفية
  • مشـروعات للإجازة
  • رسائل
  • الأسرة والإجازة
  • الفتاة والإجازة
  • السفر وآدابه
  • منوعات
  • أحكام العمرة
  • الصفحة الرئيسية