صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أقـنـعـة الـعـلـمـانـيـة
قراءة في الطروحات العلمانية الجديدة

د. محمـد يحيى

 
يلاحظ المتتبع للطروحات العلمانية الـفـكـريـــة فـي الـبلدان العربية خلال الفترة القريبة، توجهين أساسيين يحكمان هذه الأفكار، أولهما حديث نسبياً من حيث التعبير العلني عنه مؤخراً، وهو يبشر صراحة بالفكر العلماني »الكلاسيكي« في صورته الشرسة من ضرورة الفصل بين الدين (وهو هنا الإسلام) والدولة، أو بين الدين والسـيـاسة، أو بين الدين والحكم، أو بين الدين والاقتصاد والتعليم وسائر شؤون المجتمع، أما الاتجـاه الـثـانـي فهو يواصل ما عهد عن أصحاب هذا الفكر في العقود الماضية من طرح العلمانية وراء أقنعة ومسميات شتى لا تـلـجـــــأ إلى المصادمة المباشرة أو الوضوح الصريح أو الإفصاح عن النوايا والأهـــــداف النهائية، وظهور الاتجاه الأول الذي يمكن أن نسميه بالأتاتوركي نسبة إلى رائد العلمانية في العالم الإســلامــي في شكلها السياسي الشامل يرتبط بتصاعد الحرب من جانب القوى المحلية والأجنبية ضد الحركات الإسلامية، حيث فقدت هذه القوى توازنها أو صبرها في الفترات الأخيرة، وقررت أن تكون الحرب علنية ليس فقط ضد التيارات الإسلامية ولكن ضد الإسلام ذاته، من خلال وجوده الدستوري والقانوني في أنظمة الدول العربية، وأيضاً من خلال وجوده الـمؤسسي في هيئات تعليمية أو ثقافية أو اجتماعية، ولذا جاءت الدعوة إلى العلمانية الأتاتوركـيــة صـريحــة إلى حد أننا سمعنا مثلاً موظفاً رسمياً في وزارة الثقافة بإحدى الدول العربية يتحدث باسم وزارته وهو ما يعني الحديث باسم الحكومة داعياً إلى فصل الدين عن الدولة في دستور البلاد، وتتردد آراء مشابهة من جانب كتاب من المشرق والمغرب العربي في صحف ومجلات تـصـدر هـنــا وهـنــاك، وتديـرهــا وتدعمها الأنظمة والحكومات، وتتراوح أهداف هذا التوجه الجديد المعلن ما بين بـالـونــات اخـتـبار (وفق المصطلح الصحفي الدارج) لآراء الصفوة والجماهير نحو الدعوة العلمانية الصريحـــة، وما بين الـتـهـديــد لـلإسـلامـيـيـن والمؤسسات الإسلامية بأنهم إذا لم يتوقفوا عن النشاطات الإيجابية في مجال الدعوة والحــركة فإن الأنظمة الحاكمة قد تضطر في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى »الحل الأتاتوركي« أي إلى تبني العلمانية التقليدية بالنص في الدساتير والقوانين على تنحية الإسلام وعزله عن شؤون الدولة والحكم والمجتمع بكل مؤسساته، والوصول إلى الإقصاء الشامل لهذا الدين عن كل شؤون الحياة.

خطورة التوجه العلماني الجديد:
لكن هذا التوجه الأخير للطرح العـلـمـاني عـلـى خـطــورته المتمثلة في المصادمة الصريحة للإسلام، يبقى محدوداً من الناحية الكمية بالمقارنة مع الـتـوجــه العلماني الأخير الذي يحتل المساحة الكبرى في الكتابات الفكرية والإعلامية العلمانية، وأعني به تسريب هذا الفكر بشتى جوانبه وراء مجموعة من الأقنعة وأدوات التنكر والستائر التي تخفي حقيقة جوهره أو مقاصده وأغراضه البعيدة أو الجهات التي تحركه وتستفيد منه، وفيها جهات دينية غير إسلامية تتمسك بأديانها أشد التمسك، وتتعصب لها إلى الحد الممقوت، لكنها تريد للمسلمين أن يتحللوا من دينهم، وأن تنفصم عرى هذا الدين، ويـبـعـد عــن حـيــاة الشعوب وتوجيه مصائرها، وإذا كان الفكر العلماني الكلاسيكي محدود الطرح في الناحية الكمية حتى الآن، فإن الفكر المقنع منذ فترة طويلة ومازال أكثر انتشاراً لأنه لا يسعى إلى الـصـدام الـمـباشر الواضح مع العقيدة، بل يواصل عدوانه عليها، ويهاجمها بطريق غير مباشرة، فيقوض الطرح الإسلامي بطريق الإجهاض والإضعاف المستمر، دون أن يجازف بإثارة مشاعر الجمـاهـيـر المسلمة أو تحفيز طاقات رد الفعل الفكري الإسلامي، أو تنبيه المسلمين لما يراد بهم، بل ويـكـســـب فوق ذلك التظاهر بأنه تيار فكري محايد أو حتى »إسلامي مستنير«!!

صور جديدة للخداع:
وأقنعة العلمانية كما عهدناها متعددة وكثيرة ومتغيرة وفق الظروف والمناسبات، وتتيح هذه الأقنعة مزايا أخرى لأصحاب الفكر العلماني غير ما لاحظناه فيما سبق، فهي قبل كل شيء تمكنهم من الرد على دحض الإسلاميين لأفكارهم بمقولة أن الإسلاميين لا يفهمون العلمانية، أو يتعمدون الحط من شأنها بربطها بالفكر في الإسلام، بينما هي »في الحقيقة« (أي في القناع والفكر) لا تعني سوى التفكير الحر، أو الاجتهاد الذهني، أو الاستنارة العقلية، أو الموضوعية العلمية، أو الإصلاح الاجتماعي والديني!!... الخ.
ولقد شاهدنا في الفترة الأخيرة إحدى المجلات الشيوعية ترد على سلسلة مقالات لكاتب ومفكر إسلامي موضوعي فند فيها أفكار العلمانيين، باتهام الكاتب أنه »يزيف العلمانية« أي يتهم العلمانية، وينسب إليها ما ليس فيها على حد زعم المجلة وهذه هي فائدة أسلوب الأقنعة والتنكر، لأنه يمكن العلمانيين عند الرد الموضوعي والداحض والمفند لأفكارهم أن يتنصلوا منها بزعم أنهم إنما ليسوا سوى دعاة العقل والفكر والحرية والاستنارة والتقدم وما أشبه ذلك من المصطلحات والألـفـــــاظ العامة التي يطلقونها دونما تحديد اجتلاباً للأذهان، لكنهم يحددونها في الوقت الملائم وبالمعنى والمضمون الذي يختارونه ويكون أكثر المضامين فعالية وأثراً في وضع ومقام معين.

مزاعم علماني متفلسف:
وفي هذا الصدد مثلاً ونحن نشير إلى أقنعة العلمانية واستخدامها التقنع والتنكر لأغراض مرحلية تتعلق بالرغبة في الانتشار والترويج واستمالة الأذهان وتجنب المواجهة المباشرة، أشير إلى واحد من أحدث هذه الأقنعة وربما كان من أطرفها، فقد عرف أستاذ جامعي مصري للفلسفة وهو غير مسلم اشتهر بهجومه على الإسلاميين منذ عقد الستينات العلمانية بقوله: إنها تعني التفكير في الأمور الـبـشـريــة النسبية والمتغيرة بطبيعتها من خلال فكر نسبي ومتغير، والابتعاد عن »المطلق« عند التفكير في هذه الأمور البشرية وتدبيرها وإدارتها، وهذا التعريف المبتكر للعلمانية يبدو مختلفاً تماماً وبعيداً كل البعد عن تعريفها التقليدي بأنها فصل الدين عن الحكم والدولة والمجتمع، لكنه بعد تحليله يصل إلى نفس الهدف وراء سحابة المصطلحات الفلسفية عن المطلق والمتغير والنسبي.
فصاحب هذا التعريف يصف العلمانية بأنها الـتـفـكـيــر في الشؤون البشرية ذات الطابع النسبي والمتغير بأساليب وأفكار مماثلة لها من حيث النسبية والتغير لكنه من المعروف أن المذاهب العلمانية المتنوعة وبالذات في المجالات »المتغيــرة والنسبية« كالسياسة والاقتصاد وقضايا المجتمع، اتسمت بأشد درجات الإطلاق والجمود والصلابة وعدم التغير بحيث كانت تضع نفسها في شكل دساتير وقوانين صارمة ثابتة تهيمن على حركة المجتمعات التي طبقت فيها وتعيد صياغتها بشكل كلي وشامل بحيث تتسق هذه المجتمعات مع تلك الأفكار النظرية المجردة، ولو كلف الأمر ملايين الضحايا البشرية ومحن واضطرابات تستمر عشرات السنين.
وليست التجربة الشيوعية فيما كان يعرف بالكتلة الشرقية الأوروبية عنا ببعيد، فالمذاهب العلمانية نفسها، وهي من وضع البشر لم تكن ترى في نفسها أنها أفكار متغيرة ونسبية جاءت لتحكم شؤون بشرية متغيرة ونسبية، بل على العكس فقد انتحلت لنفسها بالضبط ما تدعي العلمانية أن الأديان قد اتصفت به ألا وهو الـطـابـع الـمـطـلـق الشمولي الجامد الـمـسـتـعصي على التغير، وينطبق هذا حتى على تلك المذاهب العلمانية الـتـي ادعــت »الليبرالية« أو التحرر، إذ لم تخلوا هذه المذاهب من مطلقات مقدسة طرحت على أنها ثابتة ثبوت الدهــــور، وغير متغيرة مع تغير الظروف، بل وعلى أنها هي التي تحكم وتضبط وتوجه التغيرات وتهـيـمـن عليها لا تواكبها ولا تسايرها ولا تتغير معها، وهذه المقدسات معروفة حتى الآن في الحــرية الاقتصادية ونظام التمثيل البرلماني، وأفكار المساواة المطلقة والفردية، وأشهر مطلق من مطلقات الليبرالية بل ومن مطلقات الفكر العلماني نفسه هو مطلق فصل الدين عن الدولة.
وللماركسية والاشتراكية مـطـلـقـاتها الخاصة كما لسائر المذاهب والفلسفات العلمانية، بل إنهم يتبادلون الهجوم فيما بينهم بالإشارة إلى الطابع المطلق لكل منهم الذي يستعصي على التغيير والنسبية، ويقاومهما ويـصـــر لنفسه على احتكار الحق المطلق حتى في أدق الأمور الاجتماعية والاقتصادية وأكثرها عرضة لمجريات التغير والتبدل.

العلمانية والمطلق والنسبي:
العلمانية إذن لم تكن أبداً إدارة أو تفكيرفي شؤون البشر المتغيرة والنسبية بأفكار وأساليب تشاكلها، بل على العكس كانت تتمثل في استبدال مطلق جديد (هو العلمانية) لمطلق قديم هو (المسيحية الغربية)، وما رافقها من أفكار ومذاهب سياسية واقتصادية وثقافية، ثم إن المذاهب العلمانية لم تنظر لنفسها على أنـهــــا مجرد تعبيرات ملائمة عن أوضاع نسبية ومتغيرة، تتغير وتتبدل وتمضي مع ذهاب هذه الأوضاع، بل على العكس اعتبرت نفسها مبادئ وخطوط عمل وإرشاد وتوجيه حاكمة وعامة، توجه وتقود وتشكل هذه الأوضاع، بل وتحكم كيفية ومسار تغييرها إلى أبد الآبديــــن، أو إلى الوصول إلى الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ كما في الماركسية والليبرالية.
العلمانية إذن تحل لنفسها ما تحرمه على غيرها، وإذا نظرنا إلى الجانب الآخر من المسألة فلن نجد داعياً لوصف شؤون البشر بأنها نسبية ومتغيرة مهما كانت درجة التغير والتبدل التي تطـرأ على أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم فوراء هذه التغيرات تقف (كما تقول لنا حتى فلسفات العلمانية ذاتها) قوانين كبرى ومبادئ عامة، وملامح مشتركة، تجعل من وجود أفكار وتعاليم مطلقة للتفكير في هذه الشؤون، أمراً مقبولاً، بل وضرورياً، ولا ننسى أن »ماركس« وهو أحد كبار كهنة الفكر العلماني الغربي قد ابتكر نظاماً مطلقاً محكماً ادعى أنه يقف بثبات وصرامة لا تتخلف وراء كل التغيرات التي تطرأ على المجتمعات فالمطلق أياً كان له مجال في التفكير في الشؤون البشرية والـمـطـلــق كذلك له مجال أكبر في مجال توجيه هذه الشؤون كما تدل على ذلك التجربة العلمانية ذاتها في النظرية والممارسة، ذلك لأنه إذا قبلنا بفكرة أن كل الشؤون البشرية متغيرة ونسبية، فإن ذلك لا يعني منطقياً أن تكون المبادئ التي توجه وتحكم هذه الشؤون متغيرة ونسبية مثلها، لأن الحكم والتوجيه والتدبير في حد ذاته يعني وجود درجة كبيرة من الثبات والهـيمـنـة، تتجاوز النسبية والتغير وتتعالى عليهما أو تقود التغيرات في مسار معين، وتبعدها عن مسار آخر.
والأكثر أهمية في ذلك هو بحث معنى »المطلق« وفق هذا التعريف الـمـبـتكر للعلمانية، فهل المقصود هنا هو »الإله« الذي تتحدث عنه الأديان التي يواجهها العلمـانـيـون رغم ضرورة الإشارة إلى اختلاف مفاهيم الألوهية بين الأديان وبالأخص بين الإسلام وبين سائر الأديان بما فيها تلك التي تسمى حالياً بالسماوية أم أن »المطلق« هذا هو الأفكار والمذاهب الدينية لاسيما ما يتصل منها بالتشريع والشؤون الاجتماعية المتنوعة، وفي هذه الحالـــة ينبغي الإشارة إلى وجود شريعة في الإسلام تختلف جوهرياً وبالنوع عن أي أفكار أخرى بدائية ومحدودة قد تحتويها الأديان الأخرى في مجال التشريع الاجتماعي، فالشريعة الإسلامية هي نظام كامل له منهاجه الخاص، ولا يمكن أن تختزل هذه الشريعة بوصفها بتلك الكلمة العامة الغامضة ذات الإيحاءات السلبية في دنيا الفلسفة وهي عبارة »المطلق«، فالـشـريـعــة الإسلامية بالذات تحتوي على مستويات من المبادئ والقوانين والأحكام، وفيها من المرونة ومــن الـقـابلـيــــة للاستيعاب وتغطية المتغيرات، والتعامل معها من خلال أنظمتها هي كالاجتهاد وغيره مــــا يحول دون نشوء مشكلة التقابل الثنائي بين المطلق والنسبي التي يثيرها ذلك التعريف العلماني، وهو يحمل في ذهنه الأوضاع المسيحية الغربية.
وإياً كان ذلك »المطلق« فلا يعطينا تعريف العلمانية هذا مسوغاً لإبعاده عن شؤون البشر، سواء أكان تفكيراً فيها أو توجيهاً لها، مادام أن الـعـلـمـانية نفسها تقيم بعده مطلقاً أو مطلقات أخرى من صناعتها هي، أي أصـنـــام وثـنـيـة مادية لتحل محل الآلهة الغيبية (حسب تصورهم)، فلا جديد في المسألة.

تهافت العلمانية الجديدة:
تعريف العلمانية الجديد هنا ينشيء عند تحليله تناقضات ومشكلات عديدة، كما أنه ينبثق عن نفس التعريف القديم، لكنه ليس سوى قناع أو تنكر له، فهو يطلق اسم المطلق على: الدين أو الشريعة أو العقيدة أو »الله«، وهو ذو إيحاءات سلبية كما قلنا ولاسيما في مذاهب الفلسفة الغربية الحديثة وفي مقابلة هذا المطلق توضح شؤون البشر المتغيرة النسبية (هكذا كل شؤون البشر متغيرة ونسبية عندهم بإطلاق!)، ثم تأتي العلمانية لتسمى في هذا التعريف بالأفكار النسبية المتغيرة والتي تصلح بذلك دون »المطلق« لتسيير وتفسير حياة البشر وشؤونهم.
إنها مجرد تسميات مختلفة، فبدل القول بأن الدين يجب أن يرفض وينحى من حـيـاة البشر لتحل محـلـه العلمانية، أو بالأصح مذاهبها المختلفة يأتي القول بأن حياة البشر متغيرة نسبية بإطلاق (!) في التغير والنسبية، وأن هناك اتجاهين يتنازعان تفسير وتسيير هذه الحياة، أحدهما »مطلق« لا يصلح لها والآخر مثلها متغير نسبي، فهو الأصلح والأجدر بها، هكذا تترجم العلمانية الكلاسيكية إلى صياغة تحاول أن تتجمل بمصطلحات الفلسفة ذات الإيحاءات والظلال المعينة دون أن يتغير شيء في المضمون.
لكن هذا التعريف الجديد أو القناع الجديد يحتوي مـــن التـنـاقـضـات أشد ما يحتويه التعريف الأقدم، لاسيما فيما يتصل بالإسلام، فشريعة الإسلام ليست ذلـك »المطـلق« البعيد عن دنيـا البشر وهمومهم وأوضاعهم بل هي وثيقة الصلة بها لا من حـيـث إنها تعكسها وتبررها وتواكبها بشكل ذيلي في تغيراتها كما يصور التفسير المادي المألوف، بل من حيث إنها تقودها وتوجهها وترقى بها وفق مشيئة وحكمة العزيز العليم الذي أوحــــى بـهــا، وشـــــؤون الـبـشر في هذا التصور الإسلامي ليست متغيرة نسبية بإطلاق، بل تطرأ عليها التغيرات وفق سنن ثابتة، كما تتفاوت التغيرات بين مادي واجتماعي ونفسي وعقدي وأخلاقي... كل له مساره الخاص ودرجته الخاصة في مدى التغير، والتغير فيها يمكن توجيهه والتحكم فيه على الأقل من الناحية المهمة كناحية الإيمان وإرضاء الله بالعمل وفق منهجه، والثبات في محن البلاء والاختبار المتنوعة.
وأخيراً فإن الأفكار العلمانية ليست نسبية التطور كما يزعم التعريف، بل هي تزعم لنفسها كما أسلفنا الإطلاق والثبات، أضف إلى ذلك السذاجة الفكرية المتضمنة في مقولة أن النسبي والمتغير لا يصلح للتفـكـيـر فيه سوى النسبي والمتغير فصاحب هذا التعريف وهو ماركسي النزعة يعرف أكثر من غيره أو هذا هو المفترض أن الماركسية وقبلها بدرجة أكثر الهيجلية قد حكّمت فكراً (أو ما أسموه بمنهج علمي) مطلقاً هو الجدل أو الديالكتيك بشقيه المنطقي والمادي في تفسير ما رأوا أنـــــه شؤون الحياة والتاريخ المتغيرة والنسبية، فالمتغير في هذه الفلسفات محكوم بقانون مطلق لا يجعل منه تغيراً بقدر ما يجعل منه ثباتاً يتجلى شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر بكامله، كما أن النسبي عندهم لا يصبح نسبياً إلا عندما ينسب إلى إطار مطلق يحتويه ويتعالى عليه.

خدعة المجتمع المدني:
في نهاية الأمر لسنا نواجه ســــوى قناع آخر من أقنعة العلمانية هذه المرة في ثوب فلسفي النقش، لكن الأقنعة لها ثياب متعددة، فهناك مثلاً الثوب السياسي الذي يفصح عن نفسه هذه الأيام في مصطلح كثر ترديـــده بـصــــورة ببغاوية حتى عد عند بعضهم وكأنه الحل السحري لكل الأزمات والمشاكل وفي مقدمتـهـا أزمة الإسلام، وأعني به مصطلح »المجتمع المدني«، فالدعوة إلى العلمانية هذه الأيام تتخذ شكل الإلحاح على إقامة أو تقوية ما يسمى »بالمجتمع المدني«، وليس المقصود بهذا المجتـمـع كـمـا قد يتبادر إلى الذهن أنه المجتمع الذي لا يسيطر عليه العسكريون بشكل مباشر أو غير مـبـاشــــر كـما هي الحال في معظم المجتمعات العربية، بل على العكس نجد أن أصحاب هذا المصطلح أو التعريف العلماني من أشد أنصار الحكم العسكري، لأنهم يرون في شراسة هذا الحكم وبـعـده عــن الالتزام بالقوانين وحقوق الإنسان، أكبر ضمانة للتصفية الجسدية للحركات الإسلامـيـة الـتـــي يناصبونها العداء والخصومة.
المجتمع المدني المقصود في هذا المصطلح الذي نجد له أوسع رواج الآن في بعض الصحف والمجلات والمنابر الناطقة باسم النخبة العلمانية، هو المجتمع اللاديني، ذلك لأن »المدني« عندهم لا يواجه »العسكري« بل يواجه »الديني« وقد اعتمد مطلقو هذا التعبير على ترجمة محرفة للاصطلاح الدنيوي أو غير الكنسي في بعض اللغات الأوروبية، الذي يقابل ويواجه »الكنسي« أو الديني فالدين عندهم يرتبط بما هو متصل بالكنيسة ورجالها (الكهنوت) الذين يشكلون بزيهم وتنظيمهم المستقل المميز سلكاً هو سلك الدين أو الكنيسة المتميز عن سائر المؤسسات الاجتماعية، كسلك الجيش أو ملاك الأراضي... الخ، وعند غيرهم يطلق عليه اسم »الدنيوي« (أي غير الديني) الذي تحور في الترجمة أو في التلاعب عند أصحاب التعريف أو الدعوة الجديدة إلى »المدني«.
والخلط هنا ينشأ من أن كلمة »المدني« في استخدامات العربية الحديثة تطلق أساساً للتفرقة بين ما ينتمي إلى السلطة العسكرية وما ينتمي إلى غيره كما قد يطلق على ما ينتمي إلى المدنية أو الحضر، أو ما يتسم بالصفات السائدة في تلك الأماكن، لكن »المدني« لا يعني في العربية »العلماني«، ومن هنا يأتي القناع أو التنكر، فهم يستخدمون تعبير المجتمع المدني لأنه سيجد القبول بإيحاءاته التي تعني مجتمعاً لا يسيطر عليه العسكريون بالدكتاتورية والتسلط وكبت الحريات وفرض الرأي الواحد الخاطئ في معظم الأحيان، كما أن أصحاب المصطلح يساعدون على هذا الترويج بإكسابه إيحاءات أخرى ينظمونها حول لفظة »المدني« كالديموقراطية والحرية وتعدد الآراء والمناقشات والانفتاح السياسي والفكري، لكنهم عندما يتحدثون عن هذا المصطلح فإنما يقصدون كما يتضح من كتاباتهم العلمانـيــة أو اللادينية المجتمع الذي يفصل الدين عن حياته وينحيه بعيداً، وهكذا يظهر الـمـصـطـلـح جذاباً لبعضهم لكنه في نفس الوقت يؤدي نفس ما يؤديه التعريف الكلاسيكي للعلمانية.
وكما هو الحال في التحليل الـسـابق للتعريف الجديد للعلمانية، فإننا إذا حـلـلـنــا تعبير »المجتمع المدني« كما يستـخـدمه العلمانيون، فسنجده ينطوي على تناقضات تـهــوي بــه كـمـصـطـلــح جاء حسب استخدامهم أبسطها أن مفهوم »المجتمع المدني« كما يستخدم في الكتابات الاجـتـمــاعية الغربية يعني مجموع المؤسسات والهيئات والمنظمات والجمعيات والروابط المعروفة (الجــيش، الشرطة الجهاز الإداري... الخ)، ومــــن هــذه الناحية فإن المصطلح بمعناه الدقيق أو الـعـلمـي فـي الـكـتابات الأكاديمية يضم ولا يستبعد المؤسسات الدينية، كما يضم ولا يستبعد الأفكار والرؤى الدينية طالما أنها تشكل قسماً من نسيج هذا الشعب الذي يتشكل المجتمع المدني من تنظيماته.
وللعلمانية أقنعة أخرى تخفي وراءها طرحها الأساس والصريح الذي ما خرج هذه الأيام إلى طور العلن إلا كحلـقـة من حلقات المواجهة مع الإسلام كما يسمونها، والأقنعة ذات فوائد متعددة للطروحات العلمانية لكنها في المقابل ينبغي أن تكون بمثابة ساحة تدريب ودافع تنشيط للفكر الإسلامي في تتبعها ودراستها ودحضها وكشف ما وراءها، مع إظهار البديل أو بالأصــــح »الأصيل« الإسلامي الذي تحاول هذه الطروحات أن تشوه صورته أو تخفيه.

مجلة البيان
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية