اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/mktarat/alalm/67.htm?print_it=1

قراءة موضوعية في منهجية الحفظ

محمد بن حسين الأنصاري

 
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن سار على منهجهم واتبع أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن تحصيل العلم النافع من أشرف الغايات، وأنفع النوافل عند الله تبارك وتعالى، وأخصّ ما يتقرّب به إلى ربنا جل جلاله: الفقه في الدين كما قال عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، ومناهج تعلّم العلم متعددة عند طالبيه، ومعروفة لدى الراغبين فيه، إلا أنني في هذا البحث الموجز أتناول مسألة "حفظ العلم" أهميتها، وآثارها بشيء من البسط والدراسة؛ لما وقع فيها من الخلل بين مفَرِّطٍ ومفْرِط.

وبما أن "منهجية الحفظ" هي الغالبة والسائدة في محافل التدريس؛ كان ذلك مسوغًا صحيحا في دراسة أثرها، والبحث عن جدوى الاهتمام بها.

وهذا البحث يتكون من:

مقدمة، ومبحثين، وخاتمة.

هذا وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق في القول والعمل، والعفو في الخطل والزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه..


المبحث الأول: في أهمية الحفظ، ودور المتون في تنميته وإشاعته، وفيه أمران:

الأول: أهمية حفظ العلم:

حفظ العلم في الصدور لا تنكر قيمته، ولا تخفى أهميته؛ فـ"القرآن الكريم" أعظم ما في الوجود، وأول كتاب إسلامي على الإطلاق، معلوم عند كل مسلم ما لحفظه من الأجر، ولتثبيته من الأهمية؛ فشرعنا الحنيف أكّد على حفظه، ودعا إلى كثرة تعاهده ومراجعته؛ لأنه سريع التفلت والنسيان، ولعل الحكمة في ذلك قراءته باستمرار، وعدم هجرانه بالكلية، فقد جاء عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها".

فحفظ القرآن لمن تيسر له ذلك وقَدر عليه واستطاعه؛ أمر لا جدل فيه، كيف لا وهو كلام رب العالمين والنور المبين والحجة على الخلق أجمعين؟

وهو "أصل العلوم وأمها وأهمها" وقد ثبت في شأنه وحفظه ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران".

قال ابن الجوزي (ت:597هـ): (فإن الله عز وجل خَصَّ أمتنا بحفظ القرآن والعلم، وقد كان من قبلنا يقرأون كتبهم من الصحف، ولا يقدرون على الحفظ).

وقد بوب البخاري (ت:256هـ) في صحيحه بابا بعنوان:"حفظ العلم"؛ ليبيّن أهمية الحفظ ومكانته.

وفي الباب إشارة لحافظ الإسلام، وإمام المتقنين: أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال الحافظ ابن حجر (ت:852هـ): (لم يذكر في الباب شيئا عن غير أبي هريرة؛ وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث).

ومما يحسنُ حفظه لطالب العلم – ولا سيما المتفقه – سنة المختار عليه الصلاة والسلام، ويتبيّن أهمية ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام:"رحم الله امرءا سمع مني حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه".

ولعلماء الأمة عبر التاريخ كلمات محفزة على حفظ العلم والتنبيه على أهميته في الجملة من ذلك، قول عبد الرزاق الصنعاني (ت:211هـ): (كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام، فلا تعده علماً).

وقال الأصمعي (ت:216هـ): (كل علم لا يدخل معي الحمام فليس بعلم).

وأنشد أبو الفتح هبة الله بن عبد الواحد البغدادي لبشار:

علمي معي أينما يممت يتبعني ** بطني وعاء له لا بطن صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ** أو كنت في السوق كان العلم في السوق

 

والذي يتأكّد حفظه بشدة ويُهتم به عند العلماء في مراحل الطلب الأولى:

حفظ مبادئ العلوم الإسلامية، ولا سيما العربية منها، وصغار السن في ذلك أوفر حظا من غيرهم، ومن ضم إلى ذلكم المحفوظ استذكار جملة من أحاديث الأحكام وغيرها، وما حسن وطاب من كلام البلغاء شعرا ونثرا، فقد أحسن كل الإحسان.

والحفظ له وسائل كثيرة معلومة في كتب الطلب، وله كذلك طرق متعددة من أهمها: تكرار المحفوظ ومداومة النظر فيه، قال ابن الجوزي ("بيان طريق إحكام المحفوظ": الطريق في إحكامه كثرة الإعادة، والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار. ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ ليثبت معه المحفوظ).

وقال أيضا: (ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقرارًا لا يزول.

وسيندم من لم يحفظ ندم الكُسَعي وقت الحاجة إلى النظر والفتوى، وفي الحفظ نكتة ينبغي أن تلحلظ، وهو أن الفقيه يحفظ الدرس ويعيده، ثم يتركه فينساه فيحتاج إلى زمان آخر لفظه، فينبغي أن يحكم الحفظ، ويكثر التكرار؛ ليثبّت قاعدة الحفظ).

وعليه فإن الحفظ في ميزان العلم شأنه كبير، ولا ينبغي إلغاؤه بالكلية في مناهج التحصيل العلمية، لكن ننبه إلى أن العلم ليس هو الحفظ فقط، ومن جعله ذلك فقد أبعد النجعة!

والدخول في ثنائية (الحفظ والفهم)، وأيّهما أهم وأولى؟ وهل هما يتعارضان أم لا؟! لا أحبذه كثيرا؛ لأنهما متعيّنان على المحصِّلين للعلم وطالبيه بعدل واتزان، فالحفظ والفهم لا يتعارضان معارضة تامة.

وفي ظني أن كليهما مهم وضروري جدًا في نجاح المسيرة العلمية؛ إلا أن الحفظ قد يكون هو الأهم في بدايات التحصيل باستصحاب أقل درجات الفهم.

قال سفيان بن عيينة (ت:198هـ): (أول العلم: الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر).

ويقول ابن تيمية (ت:728هـ): (والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة).

تأمل أن الفهم حتى في سياق عبارات العلماء هو الأول!!

ومع تَقدُّم الطالب في العلم والتحصيل لا بد أن يتصدر الفهم المكانة الرفيعة؛ فبالفهم يُحسن الطالب توظيف المنقول في المستجدات، وبالتّأمل يمكن تحرير الإشكالات؛ ولذلك كان يُقال: (قليلٌ من الفهم خيرٌ من كثيرٍ من الحفظ)، كما قال إمام الحنابلة في زمنه المحب أحمد بن نصر الله البغدادي نزيل مصر (ت844هـ).

وقال الحافظ الكبير أبوعلي النيسابوري (ت349هـ): (لم يكن بالعراق من أقران ابن صاعد أحد في فهمه، والفهم عندنا أجل من الحفظ).

وهذا الأمر ينبغي أن يكون هو المتعيّن، وهو الأصل في محافل التدريس، وإن كان للحفظ فوائد عديدة كاستحضار النصوص عند الحاجة مطلقا، أو عند المناظرة والإفتاء والوعظ وغير ذلك.

يقول ابن عاشور (ت:1393هـ): (وإني وإن كنت أرى العلم هو قوة الفكر، لا أجحد الاستحضار حقّه من جهة عونه على التعبير، ومن جهة كونه مظهر العالم، وكان في حفظ المتون النافعة مع فهمها مقنع من ذلك، لا سيَّما وأنَّ علوما جمة وهي علوم اللغة أشد احتياجًا إلى الاستحضار من غيرها، وبُعد الطلبة عن الاستحضار أوجب ضعفها فيهم. كما وجدتُ  علمي النحو والصرف عند دخول جامع الزيتونة مزهودًا في العمل بهما، بل وجدتُ علم الصرف يكاد ينقطع. أمّا المقدرة على الإنشاء فنادرة. ولا شكَّ أن الغلوَّ في الطريقة الاستحضارية يتعسر معه اشتراك الطريقة النظرية؛ لأن الأولى تعتمد المسارعة للاطلاع على الكتب والإكثار من تكريرها، والثانية تقتضي البحث والتأمل فيها، والواجب أن يكون التعليم نظريا وأن يمزج بالاستحضار).

والواجب أن يكون التعليم نظريا وأن يمزج بالاستحضار..

هذا ما أردت التنبيه عليه في موضوع الحفظ: وهو الخلل الذي طرأ على مساره، فَحَوَّله من كونه أداة ووسيلة إلى جعله مقصدًا وغاية! بل الأمر تجاوز ذلك إلى الخطأ في مفهوم "العلم"، و"العالم"، و"طالب العلم" فأصبح الحفظ هو المعيار في كل ذلك فحسب؛ مما أدى لتهميش قيمة غيره كالفهم والإدراك والاستنباط إذا تجرد عن الحفظ! هذا الأمر وإن لم يصرح به البعض، إلا أنه ظاهر في الساحة العلمية ظهورًا بالغا، ونكران وجوده من الصعوبة بمكان!

في مناهجنا العلمية أين تجد مقارنة الحفظ بمعيار البحث العلمي، أو معيار المَلَكة، أو معيار النظر والاستنباط؟!

قال الله تعالى:"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب"[ص:29]، في هذه الآية الكريمة دعا ربنا في كتابه المحكم للتدبر وجعله مقصدًا وغاية في إنزاله، وأتبعه بالتذكر؛ فَكأنّ التدبر هو الباعث على التذكر لا غير، فافهم هذا الترابط وتأمّل مغزاه فكل فاهم إمام!!

قال تعالى: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" [النساء: 82]، ومن أدلّ ما يبيّن أهمية "الفقه في الدين" ما ثبت عن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم؛ كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

قال ابن الجوزي: (وهذه أمثال ضربت، فالأول: لمن يقبل الهدى، ويعلم غيره فينتفع وينفع، والثاني: لمن ينفع غيره بالعلم ولا ينتفع، والثالث: لمن لا ينفع ولا ينتفع، ويحتمل أن يشار بالطائفة الأولى: إلى العلماء بالحديث والفقه فإنهم حفظوا المنقول، واستنبطوا فعم نفعهم، ويشار بالطائفة الأخرى: إلى من نقل الحديث، ولم يفهم معانيه ولا تفقه؛ فهو يحفظ الألفاظ وينقلها إلى من ينتفع بها، ويشار بالقيعان إلى من لم يتعلق بشيء من العلم).

وفي كتابنا الكريم أثنى ربنا جلّ وعلا على نبيه سليمان عليه السلام بمزيد من الفهم، فقال تعالى: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا"[الأنبياء:79].

فاختزال العلم في الحفظ، وجعله غاية، ووصف الحافظ لمجرد الحفظ بالعالم؛ رفعٌ له عن مستواه؛ وهذا ربما يُعد جناية على العلم وأهله؛ لأن ذلك يؤدي لضعف العلم وتراجعه ولو بعد حين، كما أن هذا التعظيم دائما ما يصحبه تقليل لمن لا يمتلك هذه القيمة، أو التحجيم من قدره، وهو ربما كان أفيد للعلم، وأكثر خدمة له ممن استظهر أسفارًا من المتون!!

وما مثلنا في هذا الزمان إلا كما قال العلاّمةُ ابن شُهَيدٍ الأندلسي (ت:426هـ) واصفًا بوارَ الفهم والعلم والأدب في زمنه، لصالح الحفظ ونحوه من آلةِ الوُعَاظ: (لا كقومٍ عندنا، حظُّهم من الفهم الحفظُ، ومن العِلْمِ الذِّكرُ، وهذا حظّ القُصّاص، وأعلى منازل النُّواح. فترى المُمَخْرِقَ منهم إذا قُرئ عليه الشعرُ يزوي أَنْفَهُ، ويكسرُ طَرْفَه. وإذا عُرِضت عليه الخُطبة يُميل شِدْقَه.. (إلى أن قال:) وأصلُ قِلّة هذا الشأن، وعدمِ البيان: فسادُ الأزمنة، ونُبُـوُّ الأمكنة. وإنّ الفتنة نسخٌ للأشياء، من العلوم والأهواء، ترى الفهمَ فيها بائرَ السلعة، خاسرَ الصفقة، يُلمَحُ بأعينِ الشنآن، ويُستثقَلُ بكل مكان..).

وهذا الضّعف العام الذي أحاط بالعلم؛ بموجب أمور عدة من أبرزها تعظيم من لا يستحق ذلك من الحفظة فحسب والفارغين فكريًّا، وهذا الأمر (أعني الحفظ) ليس له حد ولا نهاية؛ لأنه اجتاح المناهج العلمية ومحافل التدريس بكافة أنواعها، حتى أصبح ثقافة ومَنهجًا يُصدِّره جيل عن جيل، وهذا للأسف مما يعسّر اجتثاثه من تلكم المحافل، بل إن من ينتقده معرَّض لأنواع التهم والتصنيفات؛ لأن ترك المألوف من الصعوبة بمكان.

 

الثاني: دور المتون في تنمية الحفظ وإشاعته:

البعض من مفضلي الحفظ على غيره، وأرباب المتون (الدائرون في فلكها لا غير) ينخدعون أحيانًا بكثرة المحفوظ ومتابعة العامة، فيتوهمون بذلك أنهم بلغوا الغاية القصوى في العلم، وأحاطوا بمقاليده، وتفننوا في طرقه باستيعاب شامل، ودراية تامة، وهذا الوهم والسراب قد يجد ما يُرسّخه في بعض مقدمات العلماء لمتونهم العلمية بقولهم أحيانا: تغني عن غيرها!! والماتن وإن لم يقصد ذلك الفهم، إلا أن هناك طائفة ليست بالقليلة تُسوِّق لهذا المعنى قولا وعملا!!

فمثلا يقول ابن النجار (ت:972هـ): (أما بعد: فهذا مختصر محتو على مسائل "تحرير المنقول، وتهذيب علم الأصول" في أصول الفقه، جمع الشيخ العلامة علاء الدين المرداوي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه فسيح جنته، منتقى مما قدمه أو كان عليه الأكثر من أصحابنا، دون الأقوال، خال من قول ثان إلا لفائدة تزيد على معرفة الخلاف، ومن عزو مقال إلى من إياه قال.. – إلى أن قال - وأرجو أن يكون مغنيا لحفّاظه عن غيره على وجازة ألفاظه!!!). والأمثلة على هذا النحو كثيرة جدا في مقدمات المتون!!

في اعتقادي مجرد الاحتمال أن هذه الكلمات المختزلة (في هذا المتن أو ذاك) تُغني عما سواها، أمر يعسر على النفس توجيه اللوم بسببه لأي عالم، هل قصد ذلك أم لا؟ وذلك مراعاة لحسن الظن به، ورِفعةً لمقامه عن هذا الرأي المرجوح، مع هذا لزم التنبيه على ذلك لوجود من يتشدق به من أنصاف طلبة العلم والمثقفين!!

كيف يُكتفى بهذه المتون عن غيرها - بخاصة الفقهية والأصولية – واعتمادها في حكاية الأقوال والمذاهب أمر مشكوك فيه عند بعض العلماء؟!!

يقول أحد الباحثين: (الكتب التي سلك مؤلفوها مسلك الاختصار الشديد، وبالغوا في إيجازها حتى إنها تكاد تلحق بالألغاز في بعض المواضع، تعتبر من الكتب التي لا يعتمد عليها في المذهب الحنفي؛ لأن شدة الإيجاز يخل بالفهم غالبا، وهو بالتالي مظنة الوقوع في الأخطاء العلمية، ومزلة أقدام طلبة العلوم الشرعية).

فيا طالب العلم "لا تَغْتَرَّ بحافظٍ، وإن ظهر على الفقيه بمحفوظه، واستطالَ عليه باستحضاره؛ فإن مضايق المسائل تفضحه، وتحرير محارات العقول تؤخّره، حتى لا يبقى له موضعٌ عند الفقيه"!

وهذا أحدُ حفّاظ الحنابلة استطال على أحد فقهاء الحنفية بحفظه، حتى ظهر على الفقيه. فلمّا وصل إلى دقائق الفَهْم، توقًّف عن الكلام تماماً، فقال الفقيه "وهو نظام الدين يحيى بن يوسف بن محمد الصِّيْرَامي القاهري (ت:833هـ)" صائحاً في الملأ: (طاح الحفظُ يا شيخ، هذا مقام التحقيق!) فسكت ولم يردّ عليه.

من هنا تعلم أن لـ"ظاهرة الاقتصار على الحفظ"، سلبيات عامة في الساحة العلمية، ومزالق جسيمة بين طلبة العلم، بعضها آخذ برقاب بعض؛ إلا أنني أردت نشرها وتفصيلها وطرح كل واحدة منها على حدة؛ لمزيد العناية بها، وبيان أثرها.

 

المبحث الثاني: أثر المبالغة في الحفظ والإكثار منه على العلم وأهله:

لذلك عدة آثار:

الأثر الأول: اغترار الحافظ بالمبالغة في رفع قدره:

هذا يظهر غالبا عند صغار السن وعامة الناس، فالحافظ كثيرا ما يُصدَّر لدى هؤلاء كما سبق، بينما قد يجد غيره قلة الاحتفاء به، وبما يكتب مهما بلغت جودة ما يقول أو يكتب؛ لأن نفوسنا منساقة إلى المشهود الحسي، وعقولنا مردومة بمعلومات مكرورة خيرنا من يحسن توظيفها أو استحضارها عند الحاجة، أما تحليلها وتفكيك رموزها وبسطها للبحث والمراجعة؛ فذاك مرتقى صعبٌ يتطلب التفكير العميق، والتأمل المستمر، وهذا ما لم يُعرف في كثير ممن اعتلى صهوة الحفظ، وأنى لهم ذلك بلا ثني الركب بين صفحات الكتب للبحث والتأمل!! وإذا ما اضطرهم الحال جنحوا إلى النقل أو الاقتباس مع معاناة وجهد!!

يقول ابن عاشور: (وكان معنى العلم عندهم هو سعة المحفوظات سواء من علوم الشريعة أم من علوم العربية، فلا يعتبر العالم عالماً ما لم يكن كثير الحفظ، نعم. إنه إن ضمَّ إلى ذلك الاستنباط والتحقيق، نال شهرة كبرى، ولكن لا يُعَدُّ عالما ما لم يكن كثير الحفظ، وليس العلم عندهم إلا الحفظ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهد في العالِم، - ومن المعلوم أن الذكاء والنباهة لا يشاهد لأحد-).

الأثر الثاني: دور ثقافة "احفظ فكل حافظ إمام" و"من حفظ الأصول حاز الفنون" التي جَعلت الحفظ هو مدار العلم وما سواه فلا!

حينما يُعلي البعض من شأن المختصرات وحفظها ويردد دوماً "احفظ فكل حافظ إمام" وكأن الإمامة والتقدم في العلم لا تأتي إلا بكثرة المحفوظ!! وكأن الشافعي، وأبا حنيفة، ومالكًا، وأحمد في الفقه، وسيبويه، والكسائي في النحو مثلاً، لم يتقدموا إلا بمحفوظاتهم ولولاها ما كانوا أئمة, وفي هذا مغالطة كبيرة؛ فإمامتهم ناتجة عن أفهامهم لا عن محفوظاتهم، وإلا فقد عاصرهم وجاء من بعدهم من يزيد عنهم حفظاً. وقد قال أحدهم: ما يحفظه الشافعي زكاة حفظي، أي: لا يتجاوز خمسة بالمائة مما يحفظ, ومع ذلك أين مكانه من الشافعي؟ وهذا أبو حنيفة لم يعرف بكثرة محفوظاته ومع ذلك نال الإمامة في الفقه!! وربما أوقعهم في هذا الوهم ما يسمعون عن سعة محفوظات بعض الأئمة والعلماء الكبار، فيظنون أنها السبب الرئيس في إبداعهم؛ فقوة حافظة هؤلاء جزء من قوتهم العقلية.

والعجيب عند سالكي هذا النوع فحسب، أنهم أكثر الناس احتفاء بالمختصرات المعتصرة، والمتون الأشد إلغازا!! فإذا وجد أحدهم متنا جديدًا فذاك يوم سعده؛ لأن العلم عنده، ما هو إلا نسخ من المرقوم، ولصق في الذهن!!

وبمثل ذلك وغيره ضعف العلم، وقلّ العلماء المجددون على شاكلة الشاطبي وغيره، ويوشك أن يقضي العلم نحبه إذا دام الحال على هذا!!

يقول ابن عاشور (ت:1393هـ): (وبهذا تشهد طريقة التأليف عندهم إذ كانوا يعجبون بإكثار الأقوال والشواهد، وهذا هو معنى قولهم: إن كثرة التآليف أفسدت العلم، أو عاقت عن العلم، بل كانوا يعدون التهذيب والاختصار جناية على العلم؛ حيث يناله متعاطيه بلا تعب ومشقة).

تنبيه مهم:

نبه هذا العالم الجليل على مسألة عمت بها البلوى، وهي أن أولئك الحفظةَ، وغيرهم ممن اعتلى هذا المجال بلا استحقاقٍ، البحثُ والعلمُ عندهم ما هما إلا رصف للأقوال فحسب بلا نقد ولا تحليل؛ قد يكون ذلك بسبب أنهم يميلون لتقييد ما يسهل حفظه من الأقوال، فالنقل بلا شك أيسر من التأمل والتحليل!!

وهذه الثقافة للأسف انساق وراءها عدد كبير ممن يتقدمون للدراسات الشرعية، ودونكم جملة من تلكم الرسائل؛ لتروا أن الباحث زعموا! لم يكلف نفسه إلا بالمقدمة والفهارس - إن فعل - وما بين ذلك مزيج من النقول والحواشي!!

وربما أن ذلك كله ليس من عمل يده، ولا مما جاد به عقله!

فيا أسفي وحزني على العلم وأهله، حين امتطاه من ليس من حزبه، واستهان به بعض حامليه، فأرخصوه! وأهانوه فباعوه بألقاب زائفة! مما جعله لقمة سائغة لكل من أراد لقبا، أو شهرة!!

الأثر الثالث: ضعف ظاهر عند بعض الحفّاظ في "البحث العلمي"، وتحصيل "الملَكة العلمية":

لا شك أن (البحث والملكة) هما روح العلم ومادته التي تَجعله رائدًا ومتطورًا عبر الأزمان، وقابلا للتصحيح والمراجعة، وتأخيرهما في مناهج التحصيل معناه: طمس لحقائق العلوم، وقتل الإبداع والقدرات في مهدها.

ما الأمة التي تقدّم فيها البحث في العلوم الدينية والدنيوية، وأنشأت مراكزه، ورعت مواهبه وأغدقت عليهم؛ فتأخر دورها وخار عزمها؟!!

وضعف هذين "البحث والملَكَة" والتقليل من شأنهما، يكاد يكون نتيجة حتمية عند مفضلي "الحفظ" على غيره والمقتصرين عليه؛ لأنهم باختصار أوغلوا فيما هم فيهم؛ فجعلوا الحفظ هو غايتهم التي يطلبون، وأمنيتهم التي يحلمون بها، وربما أنهم عاجزون عن البحث أصالةً فلا طرقه يفقهون، ولا مناهجه يدركون!!

ولا أقول: الحفظ وحده هو الذي أخّر البحث، ولكنه جزء مما جعل دوره يَقلْ، والاهتمام به يَضْعف بين شريحة واسعة من طلبة العلم.

وإن كنت مؤمنا بضرورة تنوع الأدوار؛ لما في ذلك من التكامل والإعذار، إلا أن المشكلة تكمن في أن طائفة من أرباب الحفظ فحسب كثيرا ما يغلِّبون في طرحهم قيمة الحفظ، ولا يتطرقون لغيره إلا عَرضَا، مما يقلل من شأن هذا، ويرفع قدر ذاك!! وفي هذا بلا شك خطر جسيم على العلم وأهله لو لم يتدارك الأمر، وما عصر الانحطاط العلمي عنك ببعيد!!

قال صِدَّيق حسن خان القِنَّوْجِي (ت:1307): (الحفظ غيرُ الملكة العِلميّة، ومن كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة؛ لا يصل إلى طائل من ملكة التصرُّفِ في العلم. ولذلك ترى من حَصَّلَ الحفظَ لا يُحسن شيئاً من الفن، وتجد ملكته قاصرةً في علمه إن فاوَضَ أو ناظَرَ. ومن ظنَّ أنه المقصودُ من الملَكة العِلمية فقط أخطأ، وإنما المقصود هو ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوالِّ إلى المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم، وبالعكس. فإن ضمَّ إليها ملكة الاستحضار.. فنِعْمَ المطلوب. (إلى قال:) نقل الرازي عن الحكماء: إن الحفظ والفهم لا يجتمعان على سبيل الكمال، لأن الفهم يستدعي مزيد رطوبة في الدماغ، والحفظ يستدعي مزيد يبوسة، والجمع بينهما على سبيل التساوي ممتنعٌ في العادة).

ولا يلهج أحد بأن العلم انتهى والمسائل التي تحتاج للبحث لا تكاد توجد، أو أنها معدومة!! إلا كان صمته أسلم له من قوله؛ لأن ذلك جهل محض بالعلم، وعجز تام، واغتيال لعقل الإنسان وقدراته؛ فكم ترك الأول للآخر؟ ومن جهل فنًّا عاداه!!

كم نسمع هنا وهناك أن ثمة كتابًا بحاجة إلى إعادة تحقيق، وآخر وجد مخطوطا لسان حاله يقول: إلى متى سأبقى في طي النسيان؟!! أين أهل البحث وعشاق المعرفة؟!

وقل مثل ذلك في كثير من الرسائل المتميزة التي امتلأت بها رفوف المكتبات "الجامعية" تنتظر من يجود عليها لترى النور!!

أمّا إذا أتيت لمسائل العلم التي تحتاج للدراسة والبحث في كافة الفنون الشرعية بما في ذلك النوازل فذاك أمر طويل الذيل لا يمكن معالجته بباحث أو اثنين أو حتى دول!!

فأين هذا الذي يقول: لا توجد مسائل للبحث؟! وأين من يأتي ويقول عن علم ما: نضج واحترق؟!

فيا أخي، اربأ بنفسك أن تكون أضحوكة عند جمهور العلماء، وطلبة العلم الأفذاذ في كل عصر!

مثل هذا المنطق الذي شاع وللأسف عند جملة من المتعلمين كارثة على العلم! وتوقيع صريح على جهل قائله بمسالك العلم، ومنهج العلماء.

الأثر الرابع: عدم التوازن والاعتدال في مسالك العلم وطرقه:

لو قلّبت البصر في حال "طلبة العلم" و"العلماء" لوجدت أن أكثر الذين يمارسون الحفظ وتخزين المعلومات فحسب؛ هم أبعد الناس عن البحث العلمي كما سبق، وأضعفهم ممارسة لمناهجه وطرقه، وربما تجدهم أيضا أقل الناس قبولا للنقد والمراجعة.

والعكس أيضا؛ تجد أهل البحث العلمي يقومون بذات الدور في إقصاء غيرهم من أرباب "الحفظ"، وكل حزب بما لديهم فرحون!!

والمتوسطون من الفريقين قليل، والذين استطاعوا الجمع بين الطريقتين أقل، ولا شك أن العلم بحاجة لكلا الطريقتين، كما أن لاختلاف القدرات وتمايز العقول أثرًا في ترجيح إحدى الطريقتين على الأخرى.

لكن الذي لا أشك فيه – ولا ينبغي لي ذلك – هو أن "العلم" في عصوره المتأخرة أحوج ما يكون لنشر ثقافة "البحث العلمي"، وتفعيل دور "الاجتهاد والاستنباط"؛ لأن في ذلك نهضةً حقّةً لعلوم سلفنا الصالح، ومواكبة ضرورية ولازمة لحاجيات عصرنا ومتطلباته.

فهل يُدرك الحفّاظ ذلك؟

وتقاسم الأدوار في الزمن الأول كان حاضرًا دون إجحاف أو ميل لهذا أو ذاك، بل تجد الحافظ والفقيه يُجسّدان تكاملا راقيًا في البناء العلمي!!

قال إسحاق بن راهويه (ت:238هـ): ذاكرت الشافعي (ت:204هـ) فقال: (لو كنت أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا). قال البيهقي (ت:458هـ): (وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويسرد أبوابه سردا، وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي من الاستنباط والفقه، وكان الشافعي يحفظ من الحديث ما كان يحتاج إليه، وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما ما اشتبه عليه منه، وذلك لشدة اتقائه  لله عز وجل، وخشيته منه واحتياطه لدينه).

ولربما يقال لي: الحفظ عند السابقين كان أظهر!

وإن سلمتُ بذلك جدلا؛ لحاجة المتقدمين له، وعدم تدوين العلم مع قلة المال والأوراق؛ إلا أنني أعيد وأكرر: في هذه الأزمنة المتأخرة أحوج ما نكون لبث ثقافة الفهم المجرد، والبحث العلمي كأصل لا غنى لنا عنهما؛ متى أردنا ثروة علمية، ونهضة حضارية.

الأثر الخامس: عدم المراعاة لمبدأ التخصص:

الحافظ لمتون العلم يرى نفسه في الغالب مؤهلا للخوض في كل علم!! بل قد يسوِّغ لنفسه مقارعة كبار العلماء في تخصصاتهم وعلومهم!

ولا يفهم في هذا المجال أنني أصوِّب عدم المشاركة في باقي العلوم، أو أدعو إلى التحجير على العقول والاكتفاء بالتخصص فقط، لكن أدعو إلى مراعاة قول العالم في فنه الذي قضى فيه عمره بحثًا وقراءةً.

يقول ابن عاشور (ت:1393هـ): (على أنّ من أكبر الأسباب التي دعتهم إلى نظم العلوم ميل طلبة العلم إلى المشاركة في تعلُّم علوم جمَّة، وذلك مما يضيق عليهم أزمانهم؛ فتوسَّلوا إلى الحفظ بالمنظومات: فالطالب يحفظ لعلم القراءات منظومة "حِرز الأماني" للشاطبي القاسم بن فيرة، و"الأرجوزة الألفية" لابن مالك، و"أرجوزة ابن عاصم" في فقه المعاملات المسماة "تحفة الحكام"، و"السُّلَّم" للأخضري في المنطق، و"الجوهر المكنون" له في البلاغة، و"الخزرجيةَ" في العروض، و"الدرة" في الفرائض والحساب، و"رقم الحلل" في التاريخ، و"البيقونية" في مصطلح الحديث، و"لامية الأفعال" في التصريف، و"مقصورة" ابن دريد في اللغة).

ومع هذا الطغيان المعلوماتي، والتقنية المعاصرة، التي يسّرت طرق البحث، كثر التصنيف، وقلّ التدقيق؛ لهذا فإن مسألة التخصص قضية لا محيص عنها، فلا بد أن يعلم الحافظ أن حفظه لا يخدمه كثيرا في مجال البحث والتدقيق.

قال أبو هلال العسكري (ت:بعد395هـ): (ومن أراد أن يعلم كل شيء، فينبغي لأهله أن يداووه، فإن ذلك إنما تصور له لشيء اعتراه).

وقال محمد بن يزيد: (ينبغي لمن يحب العلم أن يَفتنَّ في كل ما يقدر عليه من العلوم إلا أنه يكون منفردًا غالبًا عليه منها علم يقصده ويبالغ فيه).

وقال الخليل بن أحمد (ت:170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفنٍ من العلم، وإن أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه).

وقال الأصمعي: (ما أعاني إلا المنفرد). يعني: المتخصص عند المناظرة.

فـ"التقدم الرأسي في العلم يتطلب التخصص الدقيق، وتركيز الفكر والخبرة والبحث في بؤرة معرفية ضيقة، حتى يمكن الوصول إلى شيء جديد ذي قيمة.

إن التخصص هو أن يبني الإنسان معرفة مدققة في موضوع ما مكتفياً بالمعرفة العامة في باقي الموضوعات.

لا ينبغي أن يفهم من هذا أنني متحمس لإيجاد المتخصص المنغلق على نفسه؛ فهذا غير وارد، ولكن الذي أرمي إليه، هو أن يوجد لدينا عدد كبير من المتخصصين المنفتحين على التخصصات الأخرى، ولا سيما التخصصات والمعارف التي تتبادل التأثير والتأثر فيما بينها والتي يمثل كل منها امتداداً طبيعياً لغيره".

فالساحة العلمية اليوم أحوج ما تكون إلى المتخصصين المدققين في جميع مجالاتها وفنونها.

الأثر السادس: خلل في مفهوم "العلم" و"العالم":

وإن لم ينطق الحفاظ بذلك صراحة، إلا أنه واقع في أحوال المقتصرين على الحفظ، ومطروق في منتدياتهم في الغالب؛ فالعالِم عندهم هو الحافظ فحسب، والعلم هو الحفظ لا غير!!

ولعلّ مما يؤكّد هذا الخلل هو تباين المفاهيم في تحصيل العلم وأدواته، فالطريقة الشائعة التي تعتمد الحفظ والمتن فحسب وسيلة للعلم؛ تُصيِّر عند أربابها كل مَن لم يأخذ بها لم يكن عالمًا! فكأن المقصد والغاية هي الوسيلة نفسها وليس العلم؛ فالوسائل تختلف والطرق تتجدد بين المحصّلين للعلم، ومع هذا ينبغي أن يكون النظر لذات العلم فهمًا وملَكةً وبحثًا.

وقد سبق من قبل في كلام الطاهر ابن عاشور (ت:1393هـ) ما يؤكد وجود هذا الخلل إذ يقول: (وكان معنى العلم عندهم هو سعة المحفوظات سواء من علوم الشريعة أم من علوم العربية، فلا يعتبر العالم عالماً ما لم يكن كثير الحفظ..! ولكن لا يُعَدٌّ عالما ما لم يكن كثير الحفظ، وليس العلم عندهم إلا الحفظ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهد في العالِم، - ومن المعلوم أن الذكاء والنباهة لا يشاهد لأحد-).

فلا يعتبر العالم عالمًا ما لم يكن كثير الحفظ..؟!

هذا الأمر الذي ذكره ابن عاشور واشتكى منه (في تقديري) لم يأخذ حيزا كبيرا عند العلماء من قبل؛ فقد كانوا يدركون تمام الإدراك أن ثمة عالم بحفظ وفهم، وآخر بلا حفظ متقَن، وثالث بلا فهم تام، والذي لا يحفظ عندهم مطلقا لم يُسلب عنه لقب "العالم" ولا مسمى "العلم".

قال حمزة السهمي (ت:427هـ): (سمعت أبا بكر بن عبدان يقول: يحيى بن صاعد يدري، ثم قال: وسئل ابن الجعابي، أكان ابن صاعد يحفظ؟ فتبسم! وقال: لا يقال لأبي محمد: يحفظ كان يدري! قلت لأبي بكر بن عبدان: إيش الفرق بين الدراية والحفظ؟ فقال: الدراية فوق الحفظ).

وسئل صالح بن محمد (ت:293هـ): هل كان ابن معين يحفظ؟ قال: لا إنما كان عنده معرفة. قيل له: فعلي؟ قال: كان يحفظ ويعرف.

وذكر السيوطي (ت:911هـ) في ترجمة شيخه جلال الدين المحلي (ت:864هـ) أنه (لم يكن يقدر على الحفظ، وحفظ كراساً من بعض الكتب، فامتلأ بدنه حرارة!!) مع أن السيوطي ذكر عنه أيضا أنه (كان علاّمة، آيةً في الذكاء والفهم؛ كان بعض أهل عصره يقول فيه: إن ذهنه يثقب الماس! وكان يقول عن نفسه: أنا فهمي لا يقبل الخطأ!!).

الأثر السابع: غياب الاجتهاد وتنمية العقل:

أعظم كارثة حلّت بالفكر الإسلامي تلك المقولة المشؤومة التي دعت لإغلاق الاجتهاد، أو تضييقه بأغلال من الشروط التي لا يمكن اجتماعها أو توفرها إلا في نبي من الأنبياء!!

ولا شك أن ظاهرة الحفظ لها تأثير بالغ على عدم إعمال العقل وتنمية الاجتهاد في البحث العلمي؛ لأن العقل (الحافظ فقط) في الغالب ينساق لمنهجية النقل المجرد العاري عن النقد والتوجيه! فالحافظ يؤدي كما حفظ، وينقل كما قرأ، يحتفل بآراء العلماء وينسى رأيه، ويجمع الأقوال والأدلة، ويرجح أحدَها ظنًّا منه أنه أتى بجديد دون دراية بمحالّ الاستدلال، ولا يدري أنه أجهز على عقله!

فمن أين لـ"لحافظ فقط" أن يجتهد، أو أن يقيس، أو أن يأتي بجديد سوى ما حفظ وهو مسطور في كتب العلماء لو أراده أحد لرجع إليه؟!

قال الجاحظ (ت:255هـ): (وكرهت الحكماءُ والرؤساءُ، أصحابُ الاستنباطِ والتفكير: جودةَ الحفظ، لمكان الاتِّكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتى قالوا: الحفظُ عِذْقُ الذِّهن. ولأن مستَعمِلَ الحفظ لا يكون إلا مقلِّدًا، والاستنباطُ هو الذي يُفضي بصاحبه إلى بَرْد اليقين وعِزِّ الثقة).

بل هذا الإمام الشافعي (ت:204هـ) يمنع الحافظَ للكتاب والسنن وأقاويل السلف بغير إدراك لحقيقة معانيها من أن يجتهد، فقال (رحمه الله): (ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ، لا بحقيقة المعرفة، فليس له أن يقول أيضاً بقياس؛ لأنه قد يذهب عليه عَقْلُ المعاني. وكذلك لو كان حافظاً مُقَصِّرَ العقل، أو مُقَصِّراً عن علم لسان العرب، لم يكن له أن يقيس، من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس. ولا نقول يسعُ هذا (والله أعلم) أن يقول أبداً إلا اتّباعاً، لا قياساً).

والاجتهاد في العلم عند تحصيله من طرقه تمرين النفس على الفهم منذ الصغر، واعلم يا محب العلم، أن الاستنباط هو سعادة العقل، وهو روح العلم، وقلبه النابض؛ متى توقف؛ فقل على العلم السلام!! وتنمية العقل والفهم خير دليل على ذلك. قالت الحكماء: (حياة العلم الفهم).

وقال ابن الجوزي: (أقل موجود في الناس الفهم والغوص على دقائق المعاني).

الخاتمة:

المحصّل أننا في مثل هذا الموضوع نحتاج إلى "التوسط والاعتدال"، فالصحابي الجليل أبو هريرة رضي عنه لو لم يحفظ، لما استنبط العلماء من الصحابة وغيرهم كثيرًا من الأحكام، وأهل الحديث لو لم يحفظوا ودونوا، لما كتب الفقهاء ودونوا وبحثوا، فتقسيم الأدوار بلا حيف أولى من التلاوم والخصام، والتوازن في المجالات أيُّها أولى وأهم من صميم الفقه للمرحلة؟

قال ابن القيم (ت:751هـ): (علم أبن عباس كالبحر، وفقه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القرآن كما حفظوا، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص؛ فأنبتت من كل زوج كريم "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم"، وأين تقع فتاوى أبن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق؛ يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درسا؛ فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وبلّغَ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها).

وهنا أسأل: هل الحاجة للحفظ في الزمن الأول كما هي اليوم؟! وهل حاجتنا الآنية وحاجة العلم المستقبلية في تكريس الحفظ أم البحث؟! ثم ما الذي أضعف العلم في عصوره المتأخرة؟ أليس هو ضعفنا في مجال البحث وتحليل المعلومات؟!

وأخيرًا: نحن بحاجة دائمة إلى المقارنة بين ما نفعه متعدٍ، وما كان قاصرا على صاحبه في الغالب، لمن يمتلك أداتين، ولا شك أن المكتوب من العلم في كثير من الأحوال أبقى وأنفع من المطبوع في الذهن الذي لا يبرح مكانه.

قال ابن عاشور (ت:1393هـ): (تطاولت الأحقاب وتعارفت الأمم، واقتبس بعضهم معارف بعض عن بصيرة أو تقليد، فتمازجت العلوم، وتباهى المقتبس بما اقتبس، ووُجد قومٌ لا قدرة لأذهانهم على الوصول إلى حقائق الأشياء والانتفاع بأرواحها، ولكن لهم همّة تسموا بهم إلى الاتّسام بميسم أربابها، فأخذ الناس علوماً لا يحتاجون إليها تباهياً بها، واقتصروا من علوم عالية على ألفاظ وحقائق يسردونها، وأبهت الناسَ أقوام بقوة حوافظهم (وإن كانوا ضعفاء الفكر) فسردوا لهم قماطير عن ظهر القلب، وخيلوا لهم أن ذلك أيضاً ضرب من العلم عظيم، فقلّدهم قوم على تقليدهم، وخارت عزائم قوم عجزوا عن متابعتهم، وعارضهم آخرون نقصوا من قيمة عَملهم، منهم من عارض في نفسه وخانته عبارته، ومنهم من عبّر عن فساد ذلك، وقليل ما هم!! فأصبحت قلة هؤلاء وكثرة أولئك وبالاً عظيماً على العلم، وهو أصل تشعب الناس في العلوم، وابتهاج كلِّ فريق بنصيبه منها).

وهنا يتعيّن "على طالب العلم (أو على مُوَجِّهِهِ) إذا ما أحب أن يبلغَ درجةَ الفقهاء في العلوم، وأن لا يقتصرَ على درجة الناقل: أن لا يجعل غالبَ وقته وعامّةَ جهده مقصورًا على الحفظ، حتى في زمن الطفولة، لأن تكوُّنَ المَلَكَات يبدأ من الصغر، وكما قيل: من شبَّ على شيءٍ شابَ عليه.

وتعوُّدُ القلب على الحفظ دون الفهم والتأمُّلِ والتحليلِ يُضعف هذه الملكات، حتى تَضْمُر، فلا يمكن بعد ذلك (غالبًا) أن تعود إلى نشاطها الفطري، فضلاً عن أن تبلغ نشاطَها المكتسَبَ الذي كان يمكن أن تصل إليه بالتمرين".

فيا حملة العلم وطلابه كونوا من الذين عبروا عن فساد هذا النوع، واختزال العلم فيه، وبينوا ما فيه من الخلل والضعف، ولما ينتجه من آثار (حالية ومستقبلية)؛ فالميادين العلمية والعملية تَسر العدو وتُحزن الصديق.

أيُّ معنًى لكون هذه الظاهرة بجملتها ولدت، ونشأت، وترعرعت، وشابت في عصور ما يسمى بـ"الانحطاط"!! والعجيب أنها تجاوزت جميع مراحل النمو لكنها لم تمت بعد!!

والأعجب منه أننا مدركون تمام الإدراك أن من آثارها ما يعاني منه التعليم اليوم قاطبة من ضعف الإنتاج والتأثير، ومع هذا تجد من يرفع عقيرته للدفاع عنها!! ولرفع الوهم أقول: ليس ذلكم هو الداء الوحيد فحسب، لكنه الداء الأهم والأبرز، وهل أمة سادت بغير التعلم؟

هذا الداء (ضعف التعليم) يصح وصفه بالموت البطيء؛ لأنه ينخر في جسد الأمة شيئا فشيئا حتى تسقط أو تكاد، فتبقى جسدا بلا روح، وهيكلاً خاويًا لا تُهاب من أحد ولا تبني مستقبلها بنفسها، تلكم هي: "الغثائية" التي أخبر عنها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام!!

والإسلام حاشاه أن يدعو للتخلف والوهن الذي أصاب عقولنا وخدّرها، قبل أن يبسط علينا رداءه كأمة!! أسأل الله لأمة الإسلام النصر والتمكين في كافة المجالات العلمية والعملية..

إلى هنا أعلن استغفاري فيما أخطأت فيه، وأذعن لربي بالحمد والعرفان فيما أصبت فيه، فالحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وظاهر وباطنا.. على ما وهب من النعمة والفضل، ومنح من العافية والفهم، وخير ختام كلام ربنا جلّ في علاه، قال تعالى:"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب"[ص:29].
 

-------------------------
(1)  أخرجه البخاري (71).

(2)  أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791).

(3)  تذكرة السامع والمتكلم لا بن جماعة (ص:113).

(4)  أخرجه مسلم (798).

(5)  الحث علي حفظ العلم لابن الجوزي (ص:11).

(6)  صحيح البخارى ط: البغا (1/55).

(7)  فتح الباري (1/214).

(8)  أخرجه الترمذي (2656)، وصححه ابن حبان واللفظ له (1/270).

(9)  الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب (2/250).

(10)  المصدر السابق.

(11)  المصدر السابق.

(12)  الحث على حفظ العلم (ص:21).

(13)  "ندامة الكُسَعيّ": [رجل رَمى فأصاب وظَنّ أنه أخطأ فكَسر قوسَه، فلما علم نَدِم على كَسر قوسه فضرِب به المثل]. العقد الفريد (2/269) وانظر: مجمع الأمثال (2/348).

(14)  صيد الخاطر (ص:235) ط: الطنطاوي.

(15)  شعب الإيمان البيهقي (2/289).

(16)  اقتضاء الصراط المستقيم (1/447).

(17)  تذكرة الحفاظ للذهبي (2/240).

(18)  تاريخ الاسلام للذهبي (7/349)، وانظر: نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية للشريف حاتم العوني (ص:94).

(19)  أليس الصبح بقريب (ص:112).

(20)  أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282).

(21)  كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/266).

(22)  الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام (1/170)، وانظر: نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية للشريف حاتم العوني (ص:96-97).

(23)  وهناك دراسة ستصدر قريبا (بحول الله) حول المتون مالها وما عليها باسم: "ظاهرة المتون والمختصرات في التراث".

(24)  مقدمة مختصر التحرير.

(25)  المذهب الحنفي للنقيب (1/226-227).

(26)  الضوء اللامع للسخاوي (10/266-267)، وانظر: نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية للشريف حاتم العوني. (ص:97-98)

(27)  أليس الصبح بقريب (ص:46).

(28)  انظر: ظاهرة المختصرات في التراث الإسلامي. بقلم د. محمد الفقيه. بتصرف. المصدر: شبكة القلم الفكرية www.alqlm.com

(29)  أليس الصبح بقريب (ص:46)

(30)  الحِطّة في ذكر الصحاح الستة للقِنَّوْجي (ص:13).

(31)  مناقب الشافعي للبيهقي (2/154)، وانظر: الإبداع العلمي لأحمد القرني (ص:64).

(32)  المصدر السابق.

(33)  أليس الصبح بقريب لابن عاشور: (ص:45).

(34)  الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه (ص:70).

(35)  صناعة الكتاب للنحاس (ص:116).

(36)  جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/522).

(37)  صناعة الكتاب (ص:116).

(38)  انظر كتيب: القراءة المثمرة؛ لعبد الكريم بكار.

(39)  سؤالات حمزة السهمي للدارقطني (ص:258)، وانظر: تاريخ بغداد (14/233).

(40)  سير أعلام النبلاء للذهبي (11/48).

(41)  حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة (ص:).

(42)  رسائل الجاحظ (3/29-30).

(43) الرسالة للشافعي (رقم:1477-1479)، وانظر: نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية للشريف حاتم العوني (ص:92).

(44)  المجالسة وجواهر العلم للدينوري المالكي (4/332).

(45)  صيد الخاطر (ص:476).

(46)  الوابل الصيب (ص:72).

(47)  أليس الصبح بقريب (ص:153).

(48)  نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية للشريف حاتم العوني (ص:90-92).


 

طلب العلم

  • مقدمة الموسوعة
  • منهجية الطلب
  • القراءة
  • دراسة الفنون
  • الحفظ
  • أدب الحوار والخلاف
  • متفرقات
  • المكتبة
  • الأفكار الدعوية
  • الموسوعة