اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/manahej/53.htm?print_it=1

تحريم المرقوق ورياضة البنات : المضمر في فتاوى التحريم

 

عبدالله الوهيبي
@aalwhebey


الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

ذكر الشيخ الرحالة محمد العبودي في كتابه عن أسر بريدة قصة لافتة، وخلاصتها أن أحد الناس ذهب لبعض المشايخ وسأله عن (حكم صيد الصَلَب؟). وذلك أن الصلب (وهم فئة اجتماعية كانت تمتهن مهن معينة) يقومون بصيد الطيور وغيرها ثم يقومون ببيعها، والمشهور عن هؤلاء الصلب أنهم لا يصلون في تلك الفترة الزامنية والمكانية، ومعلوم أن المرجّح عند طائفة من مشايخ نجد وغيرهم من فقهاء الأمصار=الحكم بكفر تارك الصلاة، وينبني عليه تحريم ما يصيده الصلب، ومن هنا ورد السؤال للشيخ بحكم صيد الصلب وهم لا يصلون؟ فأجاب الشيخ طبقاً للمعطيات السابقة: لا يجوز.

ولما كان الناس قد اعتادوا على شراء هذا الصيد من "الصلب" ووضعه في طعامهم، وكان من أشهر أطعمتهم المفضلة "المرقوق"، قام البعض بتداول فهم مغلوط عن الفتوى، وأن الشيخ فلان أفتى بـ(تحريم المرقوق)، وذلك للارتباط الذهني عند بعض العامة بين الصيد والصلب والمرقوق، واشتهر القول، وتداوله الناس، وتحولت القضية لما يشبه "الرأي العام" المندد بهذه الفتوى، حتى كتب بعض شعراء بريدة قصيدة في هجاء هذا الموقف المتنطع من (المرقوق)، وربما سخر البعض من هذا الشيخ المتزمت العاشق للتحريم، حتى أنه لم يجد شيئاً يحرمه، فتسلط على هذا الطعام الفاضل. المرقوق.

من حسن الحظ أن هذه الحادثة لم تقع في لحظتنا الراهنة. وإلا لكان خبر "تحريم المرقوق" يحتل موقعاً مرموقاً في نشرة أخبار قناة العربية، مع استضافة أحد مرتزقة المنتسبين للفقه والشريعة وجوقة الإعلاميين ليشجبوا التطرف والتنطع، وليتحدث ذلك الصحفي الذي يسيل النفط من شدقيه عن عداوة (جماعة الإخوان) للمرقوق. ولربما يبادر أحد العلوج بنشر الخبر في صحيفته الغربية أو الشرقية مع مادة سخرية، ويحاول إرفاق صورة للطعام المحرم مع الخبر. وغالباً سيدشن جيش من الجهلة والنزقين في تويتر هاشتاق #تحريم_المرقوق، ويمتلئ الهاشتاق بالشتائم، والسخرية، ليتحول الهاشتاق بدوره إلى خبر أو تقرير صحفي من جديد. ليصحو الإنسان ويفتح الشاشة. أي شاشة، ويجدها تؤكد تنطع هؤلاء المشايخ، وتوضح تخلف أدائهم العلمي، وأحياناً قلة كفاءتهم العقلية والنفسية.

المهم أن الفتوى المشار إليها آنفاً فتوى محكمة من الناحية الفقهية، إلا أنها -وبسبب عدة مؤثرات- خرجت للفضاء العام بصورة بالغة الفجاجة. ولعلك تلاحظ أن الناس حينها لم يكونوا يحرصون على تشويه الفتيا، وكانوا يقفون باحترام وتبجيل للعلماء بدرجة تفوق اللحظة الحالية، ومع ذلك حصل هذا الخلل الفج. فما بالك بالسياق الراهن الذي تقف في وسائل الاتصال من كبار مواخير الصحافة والإعلام إلى الفرد العادي الذي يمكنه إنشاء هاشتاق ساخر ومدوي؟.

لا تختلف الصورة كثيراً إذا نقلناها من المرقوق إلى فتاوى متعددة أخرى (هدم الحرم، قتل ميكي ماوس،...الخ). إلا أن الموضوع أصبح أشد تعقيداً، وأكثر تركيبية. فإلى جوار الاستهداف المتعمد والمستمر لتشويه الخطاب المشيخي منذ 11 سبتمر إلى الآن، والذي يصنع من الحبة قباباً هائلة، تأتي الأسباب المتنوعة لترسخ الإشكالية المتعلقة بترهل الخطاب المشيخي، أو فقدانه التدريجي لتأثيره، أو تضعضع الثقة الشعبية به.

دوماً تظل الملفات المتعلقة بالمرأة في السعودية محل جدل شرس، وتنازع صارخ، وهي ملفات يتداخل فيها الموقف الشرعي، مع البراجماتية السياسية، مع الطموحات الأجنبية بالتغيير، مع الحقائق المزعجة للإجحاف الذي يلحق المرأة في عدة أصعدة أيضاً. ورياضة البنات أحد هذه الملفات. لا أنوي البحث في مشروعية هذا الأمر، أو منعه، أبداً. فقط أود التركيز للإجابة على سؤال مركزي:

لماذا يبدو خطاب المشايخ غير عقلاني وغير مقنع في منعهم لرياضة البنات ونحوها من القضايا الجدلية؟


الحقيقة أن تحريم رياضة البنات وغيرها من القضايا ينطلق من مجموعة من المعطيات على رأسها (إساءة الظن بالسياسي). وهذا الموقف المبني على سوء الظن له مبرراته المشروعة تماماً. بعض المبررات مستفادة من تاريخ التعاطي الرسمي الحالي مع هذه الملفات، وبعضها تحصّل بالاعتبار بتاريخ التحرر والتحول الاجتماعي في المجتمعات المجاورة، والتي حكى طرفاً منها الطنطاوي في مذكراته، كما هو مشهور.

لاحظ مثلاً تشديد البعض في مسألة تعليم الإناث للصفوف الأولية، ومنع تقنين الأحكام وغيرها من التطويرات في النظام القضائي، وتشديدهم في مسائل تتعلق بعمل المرأة، ومنع إنشاء كليات القانون مدمجة مع كليات الشريعة...الخ، ولو وثقوا بمدى التزام المنفذ بالشريعة وضوابطها لهذه الأنظمة لخفّت كثيراً من هذه الأحكام.

والمشكلة المزعجة حقاً أن الكثير من المشايخ يتحاشى الإفصاح بذلك لأسباب معروفة. فيظهر للناس أن هؤلاء المشايخ متشددين ومتنطعين، ثم تأتي الاستنكارات (وهي في أصلها مشروعة ومنطقية): ما المحرم في أن تمارس الأنثى الرياضة؟. بينما تجد التركيز على مآلات المفسدة الواقعة من الناس، وأن المرأة إذا أبيح لها فعل الرياضة أو غيرها لربما حصل منها كذا وكذا، وهذا ربما يكون صحيحاً، وسد الذرائع باب محكم في الشريعة لن يستطيع الجهلة ولا الاختلاطيون غلقه، وبناء المسائل على مثل هذا النظر الفقهي سائغ، وأما من يتحدث أن هذا فيه اتهام للناس وطعن في أعراضهم وهكذا، فهذا من قلة البصيرة، فإن هذا الإيراد يصح على كل القوانين والأنظمة في العالم، فكل الشرائع والدساتير تمنع سداً للذريعة، كمنع القيادة للمخمور، وكل الأنظمة التوثيقية للمعاملات المالية، فهل يقال أن هذه الأنظمة تنطوي على إتهام الناس بالسرقة والخيانة!؟.

المهم أن الإشكال أن خطاب البعض من الفضلاء يتركز على تعليق المنع بسلوكيات الناس، بينما في الحقيقة ليس هذا هو السبب الأساسي للتشديد في التحريم، إنما السبب الشك وإنعدام الثقة في المنفذ لهذه القرارات، واعتقاد سوء نواياه المبطنة.

والأمر المقلق أيضاً أن هذه الفتاوى بالتحريم المسببة بأمر غير عقلاني، أو بمبالغات مختلفة، أو اعتماد إحصاءات شاذة، أو غيرذلك، مثل من يقول أن تشريع رياضة البنات سينتهي لفتح باب الدعارة. هذا اللون من الخطاب غير مقبول، وهو يؤكد الاتهام الذي يوجه للبعض بالتشدد، وتحريم ما أحل الله. وهو فوق ذلك فرصة سانحة وذهبية لتمرير بعض المشروعات ذات الصبغة التغييرية للمنظومة الاجتماعية، وموقع المرأة في الفضاءات العامة، فالتشديد في منع مثل هذا من غير بيان واضح لحقيقة الأمر، يصد النفوس عن هذا النوع من الفتاوى، ويهيء النفوس لتقحم المحرمات القطعية بعد أن طرحوا المحرمات الظنية ذات العلل الباطنة.

والواجب على مشايخنا الأفاضل بيان الصورة الكاملة للناس، وتعظيم الله في القلوب، وتقديم مصلحة الدين على المصالح الشخصية، لاسيما في الملفات المتصلة بشؤون المرأة ونحوها. قولوها صريحة للناس نحن لا نثق بالمنفذ لهذه السياسات، وأنه لا يريد تشريع الرياضة للبنات فحسب، بل هي مقدمة لتطبيع الحالة الاجتماعية الجديدة، التي يباح فيها الاختلاط الكامل في التعليم والعمل، وما إلى ذلك، بدلاً من ترديد أفكار تقليدية عن بدانة الذكور، وسوء الخدمات المدرسية، والمدارس المستأجرة، ...الخ، وغيرها من القضايا التي يراد لها أن (تعقلن) الموقف المانع لرياضة الإناث.

وإذا اجتمع في الفتوى القطع في موضوع الظن، وتحاشي ذكر الأسباب الحقيقة للمنع، مع قسوة العبارة، وضعف البناء الفقهي للحكم الشرعي، والاكتفاء باستبطان مآلات المسألة، مع إعلام متربص، وهاشتاقات لا ترحم، وإرهاب رمزي منظم لكل من يقف في وجه التوجهات العليا. حينها تكون كل الحيثيات متوفرة لولادة فتوى تحريم (مرقوق) جديدة!

حمى الله بلادنا من كل سوء، وأعاذنا الله من شر المتنفذين فيها وشياطينهم، ولاحول ولاقوة إلا بالله.

عبدالله الوهيبي
13/6/1435هـ

 

تبرئة المناهج
  • تبرئة المناهج
  • بحوث ومقالات
  • التربية البدنية
  • مناهجهم..لامناهجنا
  • المدارس الأجنبية
  • الصفحة الرئيسية