صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







معركة المناهج في السعودية
بين طلب المخارج...... واستبطان الولائج
(فقهاء التيسير المعاصر ودعاته: نموذجا)

 

سعد مقبل العنزي


طائفتان في الساحة العلمية والدعوية اليوم هما: فقهاء التيسير المعاصر, والدعاة الجدد, فأما الأولى: فهي تبحث عن المخارج في الأحكام من خلال مقاصد الشريعة وفقه التيسير وعموم البلوى, والتلفيق بين المذاهب. وأما الأخرى فهي استبطنت بعض القناعات من أفكار وفلسفات وافدة فأخذت بها, فصارت مفتونة بكل جديد, فمن البرمجة اللغوية العصبية إلى علم الطاقة إلى ثالثة الأثافي قانون الجذب.          
والمتأمل في كتاب الله تعالى يلحظ التحذير من التماس المخارج واستبطان الولائج في التعاطي مع منهج الله ودينه وشرعه الذي رضيه لعباده المؤمنين, ففي صدر سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن, نجد السياق القرآني بعد عرضه لطائفه من التشريعات والتقريرات يعقب بهذه الحقيقة فيقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3].
فاتخاذ المخارج يتنافى مع إتمام النعمة, واستبطان الولائج يتعارض مع إكمال الدين.

فالبحث عن تبرير لواقع ما منحرف, والتماس الذرائع الشرعية له, لا يتسق وعقيدة أن الله أتم علينا النعمة, لأن المعاصي لا تكون سببا للنعم, ولا تكون مجلبة للرحمات. فالرخص, والتيسير, ورفع الحرج, هذه صور من رحمة الله لعباده, وإنعامه عليهم. فكيف نجعل منها منطلقات لتطبيع انحرفات الناس وبعدهم عن شرع الله ودينه. فالذنوب لا تكون سببا لتيسير الله ورحمته. وهذا أصل اعتبره  ابن تيمية وغيره من أهل العلم, وخرج عليه فروعا كثيرة, ومنها مثلا مسألة تخليل الخمر ونزاع العلماء فيها, قال رحمه الله (مجموع الفتاوى 21 / 481):"تنازع العلماء فيما إذا استحالت حقيقة النجاسة واتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله بدون قصد صاحبها وصارت خلا أنها تطهر . ولهم فيها إذا قصد التخليل نزاع وتفصيل والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال كما ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما صح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تخليلها ولأن حبسها معصية والطهارة نعمة والمعصية لا تكون سببا للنعمة".
فمعاصي الناس وانحرافهم عن منهج الله هو سبب الحرج, ووقوع الإيجاب والتحريم القدريين.
يفصل ابن تيمية هذه القضية بكلام تطويل فيقول (مجموع الفتاوى 14 / 152):" والله سبحانه جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع كقوله : {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم }, وقال:{ وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم}, وقال:{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } وقال:{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا }, وقال:{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }.

وهذا كما أنه حرم على بني إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم فشريعة محمد لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا بأن يحرموا الطيبات أو بتحريم الطيبات :

1- إما تحريما كونيا بأن لا يوجد غيثهم وتهلك ثمارهم وتقطع الميرة عنهم أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك وتسلط عليهم الغصص وما ينغص ذلك ويعوقه ويجرعون غصص المال والولد والأهل كما قال تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا }, وقال:{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين } { نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون }, وقال:{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان .

2- وإما أن يعاقبوا باعتقاد تحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل الله ورسوله عندهم كما قد فعل ذلك كثير من الأمة:
(أ‌)     اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيمان والطلاق وإن كان الله ورسوله لم يحرم ذلك ؛ لكن لما ظنوا أنها محرمة عليهم عوقبوا بحرمان العلم الذي يعلمون به الحل فصارت محرمة عليهم تحريما كونيا وتحريما شرعيا في ظاهر الأمر ؛ فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفة  الأدلة الدالة على الحل كان عجزه سببا للتحريم في حق المقصرين في طاعة الله .
(ب‌)    وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التي يحتاجون إليها كضمان البساتين والمشاركات وغيرها وذلك لخفاء أدلة الشرع فثبت التحريم في حقهم بما ظنوه من الأدلة وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه ؛ لكن لا يعرف بذلك عقوبة له وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وقد قال تعالى:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب }, فهو سبحانه إنما ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين كما ضمن هذا للمتقين .

3- فتبين أن المقصرين في طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان ومن غير نسخ بعد الرسول لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك.
(أ‌)     ولهذا يوجد كثير ممن لا يصلي في السفر قصرا, و يرى الفطر في السفر حراما فيصوم في السفر مع المشقة العظيمة عليه وهذا عقوبة له لتقصيره في الطاعة ؛ لكنه مما يكفر الله به من خطاياه كما يكفر خطايا المؤمنين بسائر مصائب الدنيا
(ب‌)  وكذلك منهم من يعتقد التربيع في السفر واجبا فيربع فيبتلى بذلك لتقصيره في الطاعة.
ومنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التي بعضها مباح بالاتفاق وبعضها متنازع فيه ؛ لكن الرسول لم يحرمه.
فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصرا ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها لكنهم لم يعلموها .
4- وقد يبتلون بمطاع يلزمهم ذلك فيكون آصارا وأغلالا من جهة مطاعهم : مثل حاكم ومفت وناظر وقف وأمير ينسب ذلك إلى الشرع ؛ لاعتقاده الفاسد أن ذلك من الشرع ويكون عدم علم مطاعيهم تيسير الله عليهم عقوبة في حقهم لذنوبهم كما لو قدر أنه سار بهم في طريق يضرهم وعدل بهم عن طريق فيه الماء والمرعى لجهله لا لتعمده مضرتهم أو أقام بهم في بلد غالي الأسعار مع إمكان المقام ببلد آخر .
وهذا لأن الناس كما قد يبتلون بمطاع يظلمهم ويقصد ظلمهم يبتلون أيضا بمطاع يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم كما أن ظلم ذلك من أسباب مضرتهم فهؤلاء لم ترفع عنهم الآصار والأغلال لذنوبهم ومعاصيهم وإن كان الرسول ليس في شرعه آصار وأغلال فلهذا تسلط عليهم حكام الجور والظلم وتساق إليهم الأعداء وتقاد بسلاسل القهر والقدر وذلك من الآصار والأغلال التي لم ترفع عنهم مع عقوبات لا تحصى ؛ وذلك لضعف الطاعة في قلوبهم وتمكن المعاصي وحب الشهوات فيها".
 
والذي يغفل عنه دعاة التيسير المعاصر, وطلاب المخارج لانحرافات الناس بالفتاوى الغريبة, والآراء الشاذة, والتلفيق المذهبي, هو أن التكاليف الشرعية فيها قدر من المشقة الراتبة التي هي معقد الابتلاء في التكليف, وأما ما كان من مشقات عارضة فالشريعة لا حظتها, وجاءت من الرخص بما يقابل تلك المشقات وييسرها على العباد كمشقة السفر العارضة, ونزول المطرالذي يتأذى الناس به, فشرعت القصر في السفر, والفطر والمسح على الخفين, وشرعت الجمع في المطر, وغيرها كثير لا تجد مشقة زائدة عن المعتاد إلا ويقابلها تخفيف يرفع عسرها, ويدفع حرجها, وهذا معنى قول الفقهاء إذا ضاق الأمر اتسع.
 فإما أن نتطلب التيسير حتى للمشقة المعتادة في العبادات وسائر التكاليف فهذا أمر يتنافى مع حكمة الشارع من التكليف الذي من لوازمه  الثبات والصبر على الحق, والجهاد في  أدائه و بيانه ونصرته وهذا محل الابتلاء ليتميز بذلك صادق المسلمين من كاذبهم، ومؤمنهم من كافرهم كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214].
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
وقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179].
وقوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].
يعقب ابن القيم على هذه الآية في كتابه شفاء العليل(1 / 245) فيقول:"فذكر سبحانه في هذه السورة أنه لا بد أن يمتحن خلقه ويفتنهم ليتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والآجل وذكر أئمة الممتحنين في الدنيا وهم الرسل وأتباعهم وعاقبة أمرهم وما صاروا إليه وافتتح بالإنكار على من يحسب أنه يتخلص من الامتحان والفتنة في هذه الدار إذا ادعى الإيمان وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك وأخبر عن سر هذه الفتنة والمحنة وهو تبيين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم بل بمعلومه إذا وجد وتحقق والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه".
وأما استبطان الولائج عند بعض الدعاة, والذي ينم عن هزيمة نفسية, وضعف في الاستعلاء الإيماني بهذه العقيدة والشريعة, فيعيش المرء وهو ينظر إلى دينه بعين النقص والدونية, فيدفعه ذلك إلى تلقف كل وافد من غير تمحيص ولا تحقيق. فهذا لا يتسق وعقيدة اليقين بإكمال الدين. كما لا يتسق طلب المخارج مع اليقين بتمام النعمة.

يقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16].
قال البخاري رحمه الله:" {وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ".

وقال ابن عاشورفي تفسيره (6/316):( الوليجة ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أي الدخيلة ، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها ، فكأنّه يُولجها ، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر ، والمراد بها هنا : ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين ، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين ، لأنّ تنكير وليجة جاء في سياق النفي فيعمّ سائر أفرادها[1]. فتسريب الأفكار والمفاهيم الغربية والشرقية من خلال بعض الكتب أو الدورات, أوتلميع الرموز البدعية و العصرانية من خلال قناواتنا ومواقعنا ومجالسنا بحجة الانفتاح على الآخر, هو من اتخاذ الوليجة التي تتنافى مع معاني الوسطية الحقة, التي تقوم بالحق وللحق.
فيكون كشف تلك الولائج, وبيان تلك المداخل من مهمات الطرح الفكري المعاصر. لأن الاختراقات المعرفية هي احتلال لمساحات في عقول وقلوب المتأثرين بها[2].

يقول ابن القيم في إعلام الموقعين(2/304):"والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع المتابعة والاقتداء وتقديم النصوص على آراء الرجال وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نصب عينيه وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فبطلانه من لوازم الشرع ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله..".
ويقول أيضا:" ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه مختارا على كلام الله وكلام رسوله وكلام سائر الأمة يقدمه على ذلك كله ويعرض كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة على قوله فما وافقه منها قبله لموافقته لقوله وما خلفه منها تلطف في رده وتطلب له وجوه الحيل فإن لم تكن هذه وليجة فلا ندري ما الوليجة".
ويقول السرخسي الحنفي في أصوله(1 / 297):" ففي هذا تنصيص على أن من اتخذ وليجة من دون المؤمنين فهو بمنزلة من اتخذ وليجة من دون الرسول".
وبنحو ما قال ابن القيم والسرخسي قال ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام.

فاليقين اليقين بإكمال هذا الدين, وتمام النعمة به على المسلمين, وصلاحه لكل زمان ومكان, واشتماله على كل الحلول لمشكلاتنا حاضرا ومستقبلا, وهذا لا يتم إلا على أيدي العلماء الراسخين, والدعاة المخلصين البصيرين بدينهم وبواقعهم, الآخذين من الجديد ما يلائم قيمهم. والله سبحانه أعلم.


 
-------------------
[2] راجع مقال للكاتب بعنوان:"اختراق السلفيين".

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
تبرئة المناهج
  • تبرئة المناهج
  • بحوث ومقالات
  • التربية البدنية
  • مناهجهم..لامناهجنا
  • المدارس الأجنبية
  • الصفحة الرئيسية