صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الزمن القادم
المجموعة الثانية

   

د. عبد الملك القاسم

 
(1) فقط ابدئي

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له *** مـن الله في دار المُقامِ نصيـب
فإن تُعجب الدنيــا رجالاً فإنـه *** متـاعٌ قليلٌ والــزوال قريـب

--------------

صوت زوجتي بجواري..
خطواتك سريعة كأنك تبحث عن شيء..؟
وهل الدنيا إلا خطوات.. مضى أكثرها..
أمسكت كتاباً.. وبدأت أقرأ.. لكن هناك ما يشغل بالي سألتها..
كم من وقتكِ يذهب بدون فائدة..؟
قالت.. بالعكس فأنا مشغولة.. ولا وقت لدي..
لكنها.. لا تستطيع الهروب من تتابع الأسئلة..
كم ساعة تقضينها في المطبخ..؟
ماذا تستفيدين خلال تلك الساعات الطوال..؟
لو وضعتَ شريطاً لمحاضرة تسمعينها.. معنى ذلك..
تسمعين محاضرةً كاملةً كل يوم..
.. وأكملتُ
مسئوليتي أن أحضر لكِ هذه الأشرطة
تستطيعين لو وضعتِ جدولاً لسماع القرآن الكريم..
عشر دقائق فقط كل يوم.. لربما حفظتِ القرآن..
هذا من وقتكِ.. ووقتك لو تعرفين ثمين..
رمضان شهر عبادة.. وقراءة قرآن..
تُقيمين في المطبخ منذ الصباح.. من سأكل ما تطبخين..؟!
لا أريد إلا نوعاً واحداً.. أو اثنين من الطعام
وتتفرغين للقراءة والعبادة..
• وصلنا بيت القصيد.. أشرتُ بيدي..
اجلسي
سؤال يمر بذهني كلما اجتمعتِ مع الجيران..
ماذا في هذه الاجتماعات الأسبوعية.. وربما اليومية
ألم تسمعي قول الله تعالى: (ما يلْفِظُ مِنْ قَولٍ إلا لديْهِ رَقِيْبٌ عتيدٌ)
كل شيء مكتوب حتى التبسم.. كما قال الإمام أحمد
يُسأل الإنسان فيم تبسمت يوم كذا..
تعلمين.. إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب..
بإمكانك أن تكوني داعية الحي..
فقط ابدئي..
ولا تنسي.. ما يناسب أعمارهم ويصحح أخطاءهم..
استعيني بالله.. وسترين مالا تتوقعين من الخير على يديك
فقط.. ابدئي..
رفعت رأسها.. وقالت
أنا امرأةٌ مسالمة.. لو تعلم أنني في مجتمعات النساء لا أغتاب أبداً..
لصدّقت قولي..
صحيحٌ ما تقولين.. ولكن سماع الغيبة قبول
والقبول إجازة وموافقة.. بل وإعانة..
أعدت عليها تكرار المحاولة السابقة..
ماذا تقولين يا داعية الحي..
أنت متفائل جداً.. تُهون الأمور وتُبسطها.. لا تعرف مجتمع النساء الأمر ليس بهذه السهولة..
كيف أعد محاضرة.. ولست مؤهلة لذلك..
ثم إنني أخجل ولا أستطيع التحدث أمام جمع من النساء..
ولربما.. وضعت نفسي في موقف محرج..
توكلي على الله.. واحتسبي الأجر..
لا عُذر يبرر ترك الدعوة..
الكتب متوفرة.. والأشرطة الإسلامية موجودة..
اقرئي عليهم موضوعاً محدداً..
ولكِ أن أعد المحاضرة الأولى إذا أحببت.. عليكِ فقط قراءتها..
ألا تستطيعين..؟!
• في يوم زيارتنا.. شد نساء الحي الرحال..
كالعادة تسبقهن فاكهة النساء..
فكرتُ كثيراً.. ودعوت الله أن يعينني
خطرت في بالي فكرةٌ جديدة.. سأنفذها حال اكتمال الجميع..
بدأت أنظر في عيونهن.. أقرأ ما يخبئن
تمهلتُ.. وأرجأت تنفيذ الفكرة حتى نهاية الزيارة..
سأراعي كل شيء.. رغبة في كسب ودهن.. ومحبتهن
وحتى لا أدع مجالاً لتعليقاتهن..
بل إنني أقنعت نفسي منذ مساء البارحة.. هذا عمل لوجه الله ثم نظرت.. أكرم الخلق عليه الصلاة والسلام..
كيف بلّغ الدعوة..؟ ماذا تحمل في سبيل ذلك..؟
حوصر في شعب عامر ثلاثة أعوام
رُجم وطُرد من الطائف..
هاجر من أحب البقاع إليه
كُسِرت رباعيته وشُجت جبهته الشريفة يوم أحد..
تعرض للقتل مراتٍ عديدة..
صبرٌ عظيم.. وجهادٌ متصلٌ
لم يتوقف أمام العقبات.. ولم تُثنه الصعوبات
وأنا.. ماذا سأواجه..؟ ربما كلمة.. أو ضحكة.. أو ..!! عاتبت نفسي.. ماذا سأواجه..؟
في نهاية الزيارة..
استجمعت قواي.. دخلت عليهن..
واثقة من نفسي.. أحمل ورقة في يدي
هذه ورقة وزعت في المسجد عن فضل الأيام المقبلة
فضل أيام عشر ذي الحج.. وما يستحب من العمل فيها..
لشدة دهشتي.. لم يكن هناك شيء مما توقعته
بل أنصت الجميع.. بلهفةٍ وشوق
كان في نيتي.. أن أقرأ على عَجل..
ولكن لما رأيت من التجاوب الطيب.. تمهلت في القراءة.. حتى قرأتها كاملة..
قالت إحداهن بتعجب..
كل هذا في فضل عشر ذي الحجة..؟
كنت أظن أنه موسم للحج فقط..!
ترددت الدعوات منهن لي.. احتفالاً ببداية موفقة..
معلنةُ نجاح الخطوة الأولى..
حمدت الله كثيراً.. وتأكدت أ، زوجي قال الحقيقة.
وأنه كان واقعياً أكثر مني..
عندما أخبرتها.. نظر إليّ بفرح..
هذا ما كنت آمله فيك.. يا داعية الحي..
• قبل موعد الزيارة الثانية..
الكتب كثيرةٌ.ز ولكن نجاح الخطوة الأولى يلاحقني..
احترت.. ماذا سأختار..؟ قررت أن أبدأ بالتوحيد..
قرأت عليهن أربع صفحات عن الكهانة والسحر..
وعندما وصلت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما اُنزل على محمد).
لَمحتُ بعض العيون تتحرك.. لم تكن تعلم أن المر هكذا..
القبول والتشجيع.. جعل الأمور تستمر..
في الزيارة التالية قرأت لهن عن الصلاة..
وفي زيارة أخرى قرأت لهن أحكام الطهارة..
الكثير منهن يجهلن أمور العقيدة ويتهاونَّ فيها..
أما أحكام الصلاة والطهارة..
فالجهل ضاربٌ أطنابه في حينا..
• في إحدى الزيارات.. كنت أكثر جرأة..
قرأت لهن كتاباً عن الاحتضار..
شدته.. وغصّته..
وما يعانيه المحتضر عند موته..
تحاملت على نفسي..
تمالكت أعصابي..
وحبست دموعي..
ولكنني في النهاية.. لم أستطع..
بعد شهور عديدة
لم يعد للغيبة في مجلسنا مكان.. أصبح الذكر والتسبيح ملازماً لنا.
كل امرأة أصبحت داعية داخل بيتها ومجتمعها.
قررنا أن تعم الفائدة..
ويكون هناك درس أسبوعي بعد المغرب لمن لم يحضرن معنا..
التغير الكبير والسريع.. جعلني أطرح سؤالاً على زوجي
في مدةٍ وجيزة يكون هذا الخير الكثير
قال.. أو تعجبين..!! الناس على الفطرة
يبحثون عمن يساعدهم ويعينهم..
ولكن دعيني أسألكِ
هل تبرأ ذمتكِ.. لو لم تفعلي ذلك..؟
ناديت بصوتي..
• بقيت ذمم الأخريات..
لو أن كل متعلمة أصبحت داعية الحي..
واستجابت لدعوتي..
فقط ابدئي..
فقط ابدئي..


(2) غربة وموقف..
قال إبراهيم التميمي..
إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يديك منه

--------------

للغربة في دارنا سكن..
أهربُ كثيراً.. أحاول أن أنسى
في حديقة المجتمع الخلفية.. سألتني جارتنا.. قلت لها.. مسلمون قلتها على عجل.. خجلاً من نفسي.. وخوفاً من أسئلة أخرى نحن هنا أناس معزولون.. لا نعرف أحداً.. ولا نرى أحداً.. نسمع أن هنا مسجداً.. ونرى منارته حين مرورنا .. ولا ندخله.. حتى في الأعياد لا نأتي إليه..
أيامنا تحولت مع أيامهم وأعيادنا أعيادهم
باختصار.. يطلق علينا مسلمون.. تجاوزاً..
لا صلاة.. ولا عبادة.. لا شيء يوحي بالإسلام في منزلنا سوى سجادة صلاة معلقة في المجلس..
ومع مرور الأيام بدأ لزوجي أن يغيرها..
كيف نعيش.. زوجي رجلٌ عملي.. ومنظم
يجب عمله.. يتفانى في دارسته..
يطغى الجو الرسمي على المنزل وعلى تعاملنا..
يريد كل شيء في وقته.. حتى لا تضيع دقيقة..
أما ابني (....) فليس له من اسمه نصيب
لا يعرف عن الإسلام شيئاً.. ولا يعرف حتى الشهادتين
من ربك..؟ ما دينك..؟ من نبيك..؟..
لم تردد في منزلنا أبداً.. أدخلناه مدرسة مع أطفال الجيران.. وتركنا مدرسةً لأطفال المسلمين.. ما تبقى من وقته
حرصنا فيه على تعلمه للغة الإنجليزية.. رغم صغر سنه..
مشاهدة التلفاز والفيديو.. خروجه مع أطفالهم..
هذا جهدنا نحوه
صلتنا بالطلبة هنا منقطعة.. واتصالنا ببلادنا متقطع
ربما طرقنا هاتف يخبرنا بموت فلان.. أو بزواج قريب.. في غربتنا تحملت مسئولية كل شيء..
شراء ما نحتاجه وحتى تسديد الفواتير..
يُهوّن حياة الغربة.. طفلي.. وشيءٌ من فرحة العودة..
رغبتي في زيارة الأهل لا حد لها.. ولكن..؟!
• مكالمة طويلة من والد زوجي أتت..
وأصر على أن نزورهم هذا الصيف..
ولكما طالت المكالمة فرحت بذلك.. لعلمي إلحاح والده..
بعد أعذار واهية..
سيأتون بدوني.. لديّ ما يشغلني..
وضع سماعة الهاتف.. انتظرته يقول شيئاً.. ولكنه كان متوتراً.. بعد تململٍ قال..
أصر والدي.. وأنا لا أستطيع الذهاب.. وقتنا ضائع بين ذهابٍ وعودةٍ.. قلت له.. لنا سنتين لم نذهب.. اذهبوا أنتم رتبت حجزي.. حزمت حقائبي..
سأغادر مدينتي إلى العاصمة..
أمكث فيها ثلاثة أيام.. أحتاج إلى كثير من الهدايا..
في الطريق فرح ابني..
سنذهب إلى فلان.. وفلان.ز وعدّد الكثير من الأسماء.. لم تغب عن ذاكرته
وعندما دخلنا المدينة سأل عنهم..
قلت.. ليس الآن..
بعد ثلاثة أيام..
في هذه المدينة تتذكر الوطن.. السواح في كل مكان..
السُمرة تعلو الوجوه.. وتُرى العباءة في الأسواق..
فرحت بهذا القرب من الوطن
بدأنا نقترب..
يومٌ أو يومين ونحن هناك
في اليوم الأخير لنا هنا.. بعد أن انتهيت من شراء ما أحتاجه.. ذهبت بابني إلى الحديقة
البط قريبٌ جدّاً.. والحمام يلامس يدك..
الناس في كل مكان.. والأطفال.. يمرحون
بدأ ابني يرمي ببقايا الأكل إلى البط حتى اقتربن
على كرسي جلست وحيدة.. وكان بجوار ابني طفل يحادثه..
ما أسرع المعرفة.. إنه صفاء القلوب..
ناديت ابني ساسمه..
وأتت بدلاً عنه أم الطفل الذي بجواره..
سلّمت وهشت ورحبت..
سائحةٌ مثلي..
قلت بفرح.. لا بل مغادرة..
كالطفلة أحتاج إلى من يحادثني..
امتدحت المكان وفرحة الصغار..
دعتني لشرب الشاي معهم..
وسط أرض خضراء.. يتوسطها الشاي والقهوة..
عَرّفتني.. هذه والدتي.. وهذه أختي.. وهذه زوجة أخي.. ما شاء الله.. عائلة كاملة..
أنست بالحديث معهن..
قادمٌ من بعيد. ينظرون إليه.. ويمازحون..
أقبل.ز نسبقه عصا في يده.. هذا والدنا..
سلّم.. ولم يجلس.. ولكنه رفع صوته..
لا نسمع أذاناً ولا إقامةً..
دعا لبلاد المسلمين دار خير وصلاة..
نادوا فلاناً وذهبت إحداهن تبحث عن الطفلين..
أسرع ابني وجلس بجانبي.. أما الطفل الآخر.. فلعله اعتاد الأمر وضع سجادة.. ووقف بجواره.. وكبّر للصلاة..
مشدودةً عينا ابني.. وهو يرى ذلك
وما إن ركع.. ورفع من السجود..
حتى وقف.. وقال بصوتٍ عالٍ.. فَرِحاً..
يصلي.. مثل بابا عبد العزيز
سألتني والدتهم. ما شاء الله..
أبوه اسمه عبد العزيز..؟
أشحتُ بوجهي عنها.. وأنا أخفي عينيّ..
أسندت رأس ابني إلى صدري..
ما أكبر الجريمة في حقك..
أشرت برأسي أن.. نعم.. عندما أعادت السؤال..
• ماذا أصابني..؟
إعصارٌ هزّ أعماق قلبي..
لم ير والده يصلي. قط..
عبد العزيز.. جده..
لم تدعني دمعتي أكمل ..
قالت بتنهدٍ
إنا لله وإنا إليه راجعون..
قرّبت ابني.. مسحت على رأسه..
وقالت..
(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)
هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم..
هل تقبلين أن تكوني كافرة..؟
هل تقبلين أن تتزوجي كافر..؟
هل تقبلين..!!


(3) دمعة في فرح
قال أحمد بن حرب..
إن أحدنا يؤثر الظل على الشمس ثم لا يؤثر الجنة على النار

--------------

امتلأت الغرفة بالمهنئات..
أنظر إلى زميلاتي وقريباتي.. الكل يُسلم.. ويبارك..
بارك الله لكما وبارك عليكما.. وجمع بينكما في خير..
ويدعو بالتوفيق والذرية الصالحة
بعد دقائق..
جلست وحيدة أترقب القادم.. سقطت من عيني دمعة عندما تذكرتُ أمي وهي تدعو لي بالزوج الصالح
كأنني في حلم.. رجعت بالذاكرة سنين طويلة..
صبحا ذاك اليوم..
أين أمي..؟ أين ذهبت..؟
ارتفع صوتي أطول من هامتي.. فأنا ابنة خمس سنين
أعدتُّ السؤال.. أين أمي..؟
كانت الدموع.. الجواب
هناك من أضاف.. بصوتٍ ضعيفٍ.. قطعة البكاء ذهبت إلى الجنة إن شاء الله..
لا أعرف في ذلك اليوم.. من أبكى الآخرة..؟
أهي أنا وأخي صاحب الثلاث سنوات.. أم بكاء من حولنا..؟ أمسكت بيد أخي نبحث عن أمنا
تعبت أقدامنا من الجري هنا.. وهناك..
صعدنا إلى الدور العلوي..
طرقنا أبواب الغرف جميعاً.. ذهبنا إلى المطبخ..
ورغم التعب.. لن نجدها..
عندها.. تأكدتُّ أن أمي ليست في المنزل
ضممتُ أخي إليّ.. وبكيت
من التعب والإرهاق غفونا..
بعد ساعة أو ساعتين.. أمسكتُ بيد أخي.. لنعيد البحث.. لم نجدها في المنزل.. رغم كثرة النساء
لقد كانت ملء السمع والبصر.. ولكن أين اختفت..؟
بعد صمت طويل.. ووقوفٍ مستمر.. تذكرتُ بفرح..
• هناك مكان لم نبحث عنها فيه.. إنه ظل الشجرة..
كانت تُحب ذلك المكان.. بسرعة أجري
تعبنا من نزول الدرج.. وسقط أخي من شدة جذبي له.. ولكننا في النهاية.. لم نر سوى الشجرة..
نظرت أعلى الشجرة.. تحتها.. كل مكان وقع عليه بصري.. ليس هنا سوى الشجرة.. وبقايا زرعٍ كانت تُحبه
ولكن أين أمي..؟
فجأةً..
تعالت الأصوات.. رأيت الرجال وقد تنادوا
أطرقت سمعي.. وأشخصت بصري..
لحظات من الحركة السريعة..
مروا من أمامنا يحملون شيئاً على أكتافهم
قلت لأخي حين سألني.. ما هذا..؟
قلت له ببراءة الأطفال..
هذا شيء ثقيل.. فالكل يشارك في حمله..
لم أكن أعرف أن تلك المحمولة.. هي.. أمي..
وإلا لأمسكت بها.. ولم أدعها تذهب..
اختفى الرجال..
هدأت الأصوات.. وساد الصمت..
جلسنا نلعب في التراب بطمأنينة..
في ظل الشجرة.. كعادتنا عندما تكون أمي بجوارنا..
هذا أول يوم نخرج فيه إلى الحديقة بدون حذاء..
نعطش.. فلا نجد الماء..
أقبلت إحدى قريباتي وأخذتنا معها إلى الداخل..
• في صباح الغد..
بدأنا مشوار البحث في كل مكان..
استجمعت قواي.. قلت لأخي وهو يبكي حولي..
سترجع أمي.. وستعود.. وستعود..
هبت جدتي مسرعة عندما ارتفعت أصواتنا بالبكاء..
ضمتنا إلى صدرها..
لازلت أتحسس دمعتها التي سقطت على رأسي..
• كلما شاهدت أمّاً قبلتها.. فيها رائحة أمي..
تذكرت يوماً.. أنها قالت لي عندما أغضبتها
سأذهب.. وأترككم..
لازلتُ أتذكر حين أتينا لزيارتها في المستشفى..
بجوار سريرها.. حملني أبي.. وقال لها.. هذه أروى..
ضمتني وقبلتني.. ثم قبلت أخي..
تساقطت دموعها وهي تضغط على يدي الصغيرة.. وتقبلها بقوة كل يوم يطرق سمعي.. آخر صوتٍ سمعته منها..
أستودعكما الله الذي لا تضيع ودائعه..
ثم أجهشت بالبكاء.. وعطت وجهها..
أخرجونا من غرفتها.. ونحن بكاءٌ.. ودموع..
بدأنا.. رحلة التنقل
رحَلتُ.. من دارٍ كان لي فيها أبٌ وأمٌ.. وأخ..
رحَلَتْ ونحن رحلنا..
بعد خمس سنوات..
رجعتُ إلى دار أبي.. قادمة من بيت جدتي..
أنا.. وأخي..
وغائب الموتِ لا ترجون رجعتــه *** إذا ذوو غيبـةٍ من سفرةٍ رجعــوا
امرأةٌ في بيت أبي..
هذه أسماء.. سلّموا عليها..
ليست أمي.. لكنها نِعْم الزوجة لأبي..
اهتمت بتربيتنا تربيةً صالحةً.. حرصت علي متابعة دراستي..
بدأت تحثني على حفظ القرآن.. اختارت لي الرفقة الصالحة.. هيأت لي ولأخي.. ما نريد.. بل أكثر من ذلك..
أحياناً كثيرةً نُغضبها.. لكن رغم ذلك..
كانت المرأة الصبورة.. العاقلة..
لم تُضع دقيقة من عمرها بدون فائدة..
لسانها رطبٌ من ذكر الله.. جمعت بين الخُلق والدين
ملأت فراغاً كبيراً في حياتنا..
هذا هو تفسيرها للمعاملة الطيبة.. عندما سألتها فيما بعد..
• قلت لها.. أنتِ تختلفين عن زوجات الآباء
فأني الظلم.. وأين المعاملة السيئة..
قالت.. أخاف الله.. وأحتسب الأجر في كل عملٍ أقوم به.. أنتم أمانة عندي.. لا تعجبي..
حتى في ترتيب شعرك أحتسب الأجر..
ثم يا أروى.. كم تحفظين من القرآن..؟
أليس لي أجرٌ إن شاء الله في ذلك..
ألي لي أجرٌ في تربيتك التربية الصالحة..
كل ما عملتُه.. ابتغاء مرضاة الله.. وأضافت..
كما أن الإنسان يطلب الأجر والمثوبة في العبادات كالصوم والصلاة فأنه يطلبها في المعاملة..
المسلم يا بنيتي مطالبٌ بالمعاملة الحسنة..
• قاطعتها.
ولكننا نتعبك.. وقد نضايقك..
يا أروى.. في كل عمل تعبٌ ونصبٌ.. الجنة لها ثمن..
تعلمين أن في الصيام تعب وفي الحج مشقة..
والله سبحانه وتعالى يقول (فمن يعمل مثقالَ درّةٍ خيراً يّره، ومَن يّعملْ مثقالَ ذرّةٍ شراً يَّره)
ما ترينه حولك من ظلم زوجات الآباء لن يمر دون حساب.. بل حسابٌ عسير..
ما ذنبُ يتيم يُظلم.. وصغيرٍ يُقهر
الظلم ظلماتٌ يوم القيامة
قلت لها.. والعبرات تخنقني..
هذه دعوة أمي رأيتها في حُسن معاملتك لنا..
فالله لا تضيع ودائعه..
• فجأةً..
طرق الباب..
دخلت زوجة أبي.. سلّمت.. وباركت
قبلتُ رأسها.. ولها عندي أكثر
مثال المرأة المسلمة
قالت.ز ودمعةٌ منها تُودّع..
لا تنسي أن تحتسبي عند الله كل عمل تقومين به..
ثم أضافت على عجلٍ لا تفارقه الابتسامة..
لقد حفظتِ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها.. ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت)
والآن.. جاء دور التطبيق..
قلت في نفسي..
ما أخطأ أبي حين تزوج امرأة صالحة..
ما أخطأ أبي حين تزوج امرأة تخاف الله...


(4) إيقاظ قلب..

قيل للحسن: يا أبا سعيد.. كيف نصنع، نُجالس أقواماً يخوفونا حتى تطير قلوبنا..
فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن، خيرٌ لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك خوف..

--------------

تتحدث.. وحديث الموت على لسانها..
فلانٌ كذا.. ومات.. وفلانٌ.. ومات..
في لحظة صفاء.. سألتها..
أما تعبتِ من ترديد حديث الموت
قالت بلطف.. كفى بالموت واعظاً..
• هاتفتها يوماً.. سنزورك نهاية الأسبوع ولكن بشرط.. أن لا تتعبي نفسك
قاطعتني.. التعب لأجلك راحة.. لك مَحبةٌ في القلب.. أكملتُ شرطي الآخر..
قلت.. ولا تتحدثين عن..
سبقتني وقالت.. الموت
وافقت بعد حديث متبادل يتخلله الفرح
وأكملتُ..
إن متُّ فلا تروي قصتي.. كان جوابها
قد قلت إذ مدحوا الحيـــاة فأكثروا
في المـوت ألف فضيلـة لا تُعــرف
أخبرت زوجتي بموعد الزيارة..
فرحت وأنا أخبرها
ابتسمتُ وقلتُ.. اشترطت عليها أن لا تتحدث عن الموت والمؤمنون عند شروطهم..
قالت بحماس واضح.. الشرط لك.. أما أنا.. فلا كلما زُرتُها شعرت أنني أستعيد نشاطي في العبادة..
لعل الله يوقظ قلبك..
ننسى.. وننسى.. حتى تُذكّرنا..
انظر إلى عملها.. لتعرف فائدة تذكر الموت
في لحظات السكوت البسيط.. تُسبح وتستغفر
تصلي قيام الليل أكثر من صلاتي وصلاتك وهي مرهقة مريضة لا تغتاب أحداً.. ولا تبتسم إلا في حق..
إذا رأت غير ذلك ردت ردّاً جميلاً أو خفضت رأسها..
تعمل في صمتٍ.ز ولا تتحدث..
لم تقل يوماً.. إنني فعلت.. وفعلت..
تواضع عجيب وإخفاءٌ للعمل..
أينما كان الخير بحثت عنه.. ودلّت عليه
في زيارتنا..
النظرات تُذكّر بالشرط.. ووَفّت وإن كنت مازحا..
أكرمتنا أكرمها الله..
ورفعت منزلتنا أنزلها الله مع النبيين والصديقين والشهداء..
قالت عن زوجها
إذا نسي قلّما قد أتى به من المكتب.. أو استعارة من زميل له.. كتب ذلك في ورقةٍ صغيرةٍ ووضعها في صالة المنزل..
تبرئة لذمته.. وردّا لحق
عرفتُ أن ذلك استعداداً لطارق يطرق فجأةً.. ويأخذ بغتة..
كان ذكر الموت بعيداً يلوح.. رغم شرطي..
تعجبت!! في قلمٍ واحد يكتب ذلك !!.. أين أنا منه..؟
لو روى لي هذا الأمر غيرها.. لم أصدق بسهولة..
أو حسبت أنه ورعٌ يروى من القرون الأولى..
سألتها يوماً مازحاً..
كم تصلين من ساعةٍ قيام الليل..
قالت.. أنت تعرف أن الوتر سنة مؤكدةٌ لا ينبغي لأحدٍ تركه.. ومن أصر على تركه رُدتْ شهادته..
تبسمت.. وأضاقت.. أنت تستكثر كل شيء..
كان أحدهم إذا بلغ الأربعين طوى فراشه..
هذا مع صلاحهم فيما مضى من أعمارهم..
أين أنت...؟


(5) الثبات..

صبراً جميـلاً ما أسـرع الفرجا *** من صدق الله في الأمــور نجــا
من خشـي الله لـم ينلــه أذى *** ومـن رجـا الله كان حيـثُ رجـا

--------------

منذ ستة أشهر بدأت أستعد لزواجي..
خطوةُ أولى..
بثت عن ذات الدين.. لم أجد صعوبة في ذلك..
أثني على المرأة خيراً.. وذُكرت عندي بذكرٍ حسن..
تقدمت لوالدها.. شيخٌ وقور جاوز الستين من عمره..
لم أتعجب من طريقته في الحديث وتبسطه معي..
ولكني تعجبت عندما سألني.. من إمام مسجدكم..؟
لعله بدأ السؤال عن معرفتي من هناك
استخرت الله في أمر هذا الزواج.. صليت صلاة الاستخارة.. وجدت الارتياح التام
• وعندما استقرت الأمور.. وعلمت بالموافقة
بقي هناك أمر.. قدمت خطوة.. وأخرت أخرى
كيف سأفاتح الشيخ في ذلك..
لم أخش من عدم الموافقة.. لكن جهل البعض بالحكم الشرعي في ذلك ربما يُحرجُك..
عقب الشيخ على طلبي..
هذا أمرٌ أمرَ به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)
وخبر للجميع اختصار الطريق..
من الآن ينتهي كل شيء.. خير من أن يكون هناك شيء غداً.. لم يقف الأمر هنا.. بل بدأ شهر العمل.. خطوات متلاحقة.. شهر التأثيث وما يتبعه من تجهيز..
لا أعرف الأسواق.. ولا إلى أين أذهب..
ولكني اختصاراً لوقتي.. فضلت الشراء من أماكن القريبة.. وإن كان الثمن أغلى.. فوقتي أثمن عندي من زيادة في المال
كلما تعبتُ من البحث والشراء.. تذكرت أن ذات الدين ستسكنه.. فرحت وهان التعب..
يوماً.. ركبت عائداً محملاً.. تعلو محياي الابتسامة..
تزول سريعاً.. فتحت المذياع..
ماذا تسمع.. جراحٌ للمسلمين في كل مكان..
أخبار القتل والتعذيب تُفزعك.. تطفي ريق ابتسامتك
تتقطع أنياط قلبك.. وأنت تسمع.. إنهم يذبحون كالخراف رحم الله زماناً مضى..
عاتبت نفسي.ز كيف نهنأ لك الابتسامة..
وأنت تسمع.. وترى..
أنـى اتجهت إلى الإســلام في بلـد
تجـده كالطيــر مقصوصـاً جناحاه
اختفت الابتسامة سريعاً كما أتت.. وحُقّ لها ذلك..
فكرت كثيرا.. تأملت واقعي..
فأنا داعية.. جُل وقتي خارج عملي الرسمي وهبته للدعوة..
وما بين الوقتين وهو قليل.ز جعلته للقراءة..
أحياناً أحتاج لساعات أطول من ساعات النهار لأنجز عملي سؤال عريض.. كيف سأوفق بين ذا.. وتلك..؟
ولكني كلما تذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نبي هذه الأمة ومعلمها وقائدها..
استطاع رغم أعباء الرسالة أن يعطي كل ذي حق حقه..
فهو النبي القائد.. والمربي الموجه.. والقاضي الحاكم..\
أعمالٌ لا نهاية لها
ورغم ذلك.. كان نعم الزوج.. ونعم الأب..
كان صلى الله عليه وسلم في خدمن أهله وكان يمزح مع زوجاته بما يدخل السرور إلى قلوبهن.
ويقص لهن القصص.. ويستمع إلى قصصهن.
بل سباق صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها..
سبقته مرة.. وسبقها أخرى..
تضاءلتُ عند نفسي..
تذكرتُ من يهمل في حقوقه الزوجية.. ويبرر ذلك بضيق الوقت.. وكثرة المشاغل.
تذكرتُ من إذا دخل بيته كأنه أسدٌ يزمجر وسيف مصلت.. لا يهنأ أهل بعيش حتى يغادر المنزل..
هواجس خطرت.. سرعان ما تبددت..
• مع اقتراب الموعد.. رُتّب جدل لليلة الزواج..
محاضرة بسيطة..
مسابقات ثقافية للصغار
دفٌ ونشيدٌ للنساء..
ووزع إهداءٌ لكل من شاركنا الفرحة
كتابٌ.. وشريط..
نعم المرأة.. أدبٌ وخلقٌ.. وعفاف
لا تسمع صوتها إلا همساً.. ولا فراغها إلا تسبيحاً
ما أبديتُ أمراً.. إلا قدّمت رغبتي ورضاي..
ما سألتها عن شأنٍ.. إلا قالت..
ما ألسُّنة في ذلك..
لم يخطر ببالي أن هذه المرأة الوادعة.. الهادئة
ستكون غير تلك
ذات يوم.. أُرهقت أعصابي.. وكُدِّرَ خاطري..
وأحببت أن أسمع رأيها.. فهي زوجتي.. وأم أبنائي..
أصواتٌ هادئة.ز ذلك هو حديثنا..
وواصلتُ.. بعد مقدمة طويلة
تعرفين أن باب الدعوة طريقٌ طويلٌ.. وشاق.. محفوف بالمكاره.. ربما آخذ من وقتك.. وأقصّر في حقّكِ..
بل ربما.. وربما..
لم تدعني أتم حديثي..
كالجبل الواقف قوةً وثباتاً.. تحدثت..
وقتي.. إن كان للدعوة فقد وهبتك إياه..
وهل رأيت دعوة دون مكاره.. ومشاق..
أين قراءتك لكتب التاريخ والسير..
من الذي يُطعمنا.. ويكسونا.. أهو أنت..؟
(وما مِن دابةٍ في الأرضِ إلا على الله رزقها..)
كالسهام أصابت مقتل
طفلٌ وأنا أسمع نثر الدّرر
تأملت ريق عينيها.. وهي تدعو لي بالتوفيق
عند آخر كلمةٍ طرقت أذني
أسمعتها صوتي بقوة..
أنتِ امرأةٌ.. بألف امرأة..


(6) سؤال حائر

رضيـتُ بالله في عسـري وفي يسـري *** فلسـتُ أسلكُ إلا أوضــح الطُـــرق

--------------

الفرحةُ في منزلنا.. ولكن الحيرة تأخذني
أين أتجه.. وإلى أين أذهب..؟
على مفترق الطرق أقف..
أنهيت دراستي الثانوية بتفوق..
أي طريق أسلك.. ولأي كلية أتجه؟
فكرتُ.. معي والدي.. ووالدتي
كان عمي.. أن أخدم الإسلام في أي مجال..
ترددتُ كثيراً..
فكرة قديمة تجول في خاطري
كلية الطب.. ولكن!!؟
هناك عقبات ومحاذير.. كيف إذاً..؟
استخرت الله.. رددت الأمر إلى أهله..
نحن في نعمة.. جواهرٌ بين أيدينا.. وأقمارٌ تسري في ليالينا أمسكتُ بالهاتف..
سمعت صوت الشيخ المميز..
سألت.. وأجاب
إذا كان لديك المقدرة فلا تترددي.. واشترط المحافظة على الحجاب وفضلتُ أن أتخصص في طب النساء والولادة كما أشار بذلك
عورات المسلمين يجب حفظها
توكلت على الله..
بدأت السنة الأولى بفرح لا يسعه المكان
كان همي.. همٌ الطبيبة المسلمة..
لم أكن الوحيدة.. هناك الكثيرات..
حفظ القرآن.. جزءٌ من نشاطنا..
الدروس والمحاضرات متكررةٌ
محافظةٌ تامةٌ على الحجاب.. واعتزاز واضح بالدين
سنواتٌ تحصيل مرت.. سبع سنوات سريعة..
كسبت فيها صحبةٌ طيبةً.. ورفقةً صالحةً..
كان يوماً مهمّاً في حياتي..
هذا المساء.. سأكون مسئولة عن قسم الولادة..
ما إن أقبلت تتألم.ز تمشي الهوينا..
احتسبي الأجر.. ولكِ دعوةٌ لا تُرد..
قلقٌ في العيون.. ولحظات انتظار طويلة
صرخ الطفل.. وأنا منهكةٌ.. مرهقة..
ولم يغب عني ما كنا نحرص عليه..
بسم الله عليكَ.. وتابعتُ وأمهُ تنظر..
اللهم اجعله من حفظة كتابك.. وحملة سنة نبيك..
فرحتُ بمسلم يوحد الله في الأرض..
الأم.. لا تسل عن الأم..
قالت بعد يومين..
تمنيت أن ابنتي طبيبة..
وأخبرتني أن زوجها قال..
فرحتي بالطبيبة تقف عندك وأنتِ في تلك الحال..
أكبر من فرحتي بطفلي..
دعا لك..
ستر الله وجهها عن النار وأكثر من أمثالها..
الحمد لله.. ما ضاع جهدي
تركت منزلي في مساء متأخرة.. وفي أوقات مختلفة
تحملت الكثير.. ستراً العورات المسلمين
تعودت على حياة المستشفى رغم التعب.. ورغم كل شيء..أستبشرُ خيراُ بما أقوم به.. ودعاءً بظهر الغيب أرجو
• يوماً خرجت من المستشفى
أخبرتني أختي أن زواج فلانة ليلة الخميس القادم
دعوت لها بالتوفيق والذرية الصالحة..
وقلت لأختي مازحة..
إن شاء الله.. بعد عام تأتي إليّ..
رتبُ أموري.. لعلي أحضر الزواج..
مناسبات عديدة لم أتمكن من حضورها
كالعادة..وبكل بساطة
سَلّمَت.. أنتِ فلانة..؟
وسط زحام النساء.. ربما أخطأت
قلت لها.. لا.. أنا فلانة
ولمحتها من بعيد تسأل إحدى الحاضرات وتشير إليّ
حدثني قلبي..
الموضوع.. رما زواج
فرحٌ جديد في قلبي لم يطرقه منذ سنتين أو أكثر..
لم أخفِ ابتسامتي وأخبرت زميلتي..
قالت.. أعرفهم..
وزاد فرحي.. واطمأننت..
بعد أسبوع حافلٍ بالسرور.. والأماني
ترجع بسرعة..
وأد الفرحة مبكراً.. وقتل الابتسامة في مهدها
فأنا طبيبة..
لعل في الأمر خيراً.. والخير فيما اختاره الله
ولكن نفسي.. تقول..
هل أخطأت عندما حفظت الوصية.. وأطعتُ الأمر..
وقفت صامدة أما كل شيء لا حفظ ديني..
اخترت أصعب الطرق
تخطيت العقبات.. صابرةُ ثابتة..
أطعت الله ورسوله..
خاطبته بقوة.. ودمعةٌ لا تسقط
غداً أنت تفرح بوجودي عندما تأتي بزوجتك
واليوم لا تضحي بالقليل معي حفظاً لنساء المسلمين..
أين التعاون على البر والتقوى..؟
اجبني.. نساء المسلمين..
نتركهن لمن..؟
غالبتني دمعتي..
وسقطت..
ورغم ذلك.. عهدٌ عليّ أن أخدم الإسلام
يخترق الحواجز..
سؤالٌ حائر!!
نتركهن لمن..؟


(7) نحن وأنت

قال أوس بن عبد الله:
نقل الحجارة أهون على المنافق من قراءة القرآن

--------------

ودعتُ أهلي.. حزناُ لفراقهم
فرحاً بقدمي إلى هذه الأرض..
لأول مرة أدخل المطار.. ولأول مرة سأركب الطائرة
ستصعد بنا إلى أعلى.. وأكون معلقاً بين السماء والأرض مشاعر متلاحقة.. وعواطف متقلبة..
زحف الخوف على قلبي..
لم يكن هناك متسع للتفكير في عملي..
أين هو..؟ وكيف..؟
ألمح خيالاً يلوح بناظري.. وأنا مرتدٍ ملابس الإحرام
هذه أمنيتي..
تحملت من أجلها الغربة والصعاب..
يُهدّئ ذكرها رجف الخوف في قلبي
تجاذبتني الخواطر.. وسرتُ مع دروب كثيرة
قطع تفكيري موظف الجوازات.. ناولته جواز سفري
• ما هي مهنتك.. راعي غنم..؟!!
أجبته.. نعم..
بعد خروجي من صالة المطار
استقبلني صاحب العمل.. فرِحاً.. متبسماً..
استبشرت خيراً..
لم ألمح سوى أنوار المدينة من بعيد.. ثم اختفى كل شيء.. الأسئلة تتوالى.. كم سنة رعيت الغنم..؟
تعرف أمراضها وأسقامها..؟
وما أن فرغ من الأسئلة الطويلة والنوم يغالبني..
حتى توالت النصائح..
لا تُفرط.. ولا تُهمل.. عليك بالجد والاجتهاد
أقبلنا على خيمةً صغيرةٍ.. بعدما اجتزنا طُرقاً وعرة..
هذا مسكنك.. فَرحتُ سعة المكان.. وبالهدوء الجميل..
خيمتي في مكان مرتفع..
ويسكن معي فيها أكوام من العلاف والشعير..
لم تترك لي سوى ركن صغير..
ما تبقى من الخيمة كان مطبخي..
استيقظت لصلاة الفجر.. بعد نومٍ مريح..
• بدأت أول يومٍ من أيام عملي..
نظرت إلى غنمي.. واحدة واحدة..
انطلقن أمامي.. وانطلقت أحمل طعامي
استويت على ظهر دابتي..
(سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)
ارتفعت الأتربة على أثر سير الغنم
ونحن نسير الهوينا.. بدأت الخيمة تختفي..
التفت إليها مودعاً
موعد الإياب غروب الشمس
بعد مسير طويل.. حططنا رحالنا..
تفقدت المكان.. وأطعمت الصغار
أذنتُ لصلاة الظهر
تردد صدى صوتي في الأماكن القريب..
اطمأننتُ أن الغنم حولي.. أقمت الصلاة.. وصليت
رحلتُ بعيداً حيث مسجدنا هناك..
تذكرت بداية حفظي للقرآن
عاد صوت والدي إلى مسامعي.. وهو يوصني بحفظ القرآن
فرصةٌ لا تعرض.. وغنيمةٌ باردة..
ليس لدي ما يشغلني.. ومَن هنا يُحادثني..؟!
من شدة الحر.. لم أزد على ثلاث لقيماتٍ أكلتها..
وعندما حانت العودة..
كنت قد اتخذت القرار المهم.. سأحفظ القرآن إن شاء الله
نعم وأنا راعي الغنم
شكرت الله على هذا التوفيق
وأن عملي خارج المدينة. هنا رغم شدة العيش وقسوة الحياة لا غيبةٌ.. ولا نميمةٌ.. ولا فتن.. صفاءٌ في كل شيء..
ما إن تراءت الخيمة.. حتى أسرعت الخراف والنعاج
سريعاً وصلن إلى حيث الماء..
توضأت وأذنت لصلاة المغرب
هذا كان أول يومٍ لي هُنا.. وأيامي هكذا..
يوم الجمعة أسير على قدميّ لأشهد الصلاة
أخبرت صاحب العمل
أني ما جئت إلى هنا إلا رغبة في أداء مناسك الحج..
ولكنه أجاب ببرود واضح.. بقي شهور.. ولم أر ذلك الحماس تسألني..؟ هذا هو قدومي..
ولكنك تعجب كيف حفظت القرآن؟؟.
• في الصباح وأنا ذاهبٌ بغنمي.. أراجع ما حفظته أمس.. وعندما يستقر بي المقام.. أبدأ بالحفظ
وإذا قفلتُ عائداً راجعت ما حفظته في يومي.. وأكرر المراجعة صباح الغد..
يومي الخميس والجمعة.. مراجعةٌ لكامل حفظي..
سأله رفيقي متعجباً..
ليس لديك مذياع.. ولا تلفاز..؟ ... ولا تقرأ الصحف..؟
كيف تعرف أحداث العالم..؟... وماذا يجري..؟
معزول عن العالم أنت.. هذا واقعك..
تطوعت للإجابة.. ماذا استفدنا..؟ وماذا استفاد..؟
اعتدل الراعي في جلسته.. همومي قليلة.. وفي وقتي متسع يُشغلني مرض غنيمة من الغنيمات.. أو تمزّق في ثوبي..
هذه الأحداث الكبرى عندي..
أما ولادة نعجة من النعاج فهذه الحدث العالمي..
قلت لرفيقي.. كيف ترانا على هذه الدنيا.. نجري.. ونجري ولا نقرأ القرآن شهراً أو شهرين..
قلنا له..
حياتك خير من حياتنا.. أنت وغنيماتك خيرٌ من دنيانا..
وما أن ركبنا عائدين..
حتى وضع رفيقي يده المذياع
وقال..
حديث الناس هذه الأيام
تمزّق في طبقة الجو العليا..!!


(8) لغة الأرقام

قال أبو إسحاق الطبري:
كان النّجاد يصوم الدهر ويفطر على رغيف ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة أكل تلك اللقم التي استطعها وتصدق بالرغيف...

-------------

مًحدثي لا يعرف سوى لغة الأرقام.
تسأله سؤالاً.. تجد الجمع والطرح أولا.. ثم يأتيك الجواب..
في ليلة سفر باردة.. ساد فيها الصمت والإرهاق
قال لي.. كم تتصدق كل سنة من مالك..؟
عجبتُ من السؤال بعد طول سكوت
ولكنه أصر على السؤال مرة أخرى.. وقبل أن أجيب.. سألته.. لماذا..؟ وأنت تعلم أن إخفاء الصدقة خيرٌ من إعلانها كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (سبعةٌ يظلهم الله بظله، يوم لا ظل إلا ظله) وذكر منهم (رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه..).
ولكنه شدد في السؤال.. واحترت في الجواب
فكرت.. كم أتصدق في سنة كاملة..؟
سؤال يمر عبر السنة.. أيام وشهور مضت
بعد أن لاحظ طول تفكيري.. دعني اُقرِّبُ لك السؤال
نحن الآن في منتصف الشهر..
مضى نحو أسبوعين من بداية هلال هذا الشهر
كم أنفقت في أوجه الخير والبر..؟
أجبته بسرعة وبدون تردد.. لم أنفق شيئا إطلاقاً..
هز رأسه.. وأصاب بغيته.. وعاد للغة الأرقام وقرر بعد برهة أنت لا تتصدق في اليوم ولا بشق تمرة.. أرأيت كيف..؟
تعجبت من حسابه.. ولكنه أضاف..
أنت لا تتصدق إلا إذا وجدت فقيرا.. أليس كذلك..؟
قلت له.. نعم.. هز رأسه..
متى تجد ذلك الفقير المحتاج.. أو متى بحثت عن فقير..؟
ولا أقول فقيراً فقط.. بل من أقاربك أو جيرانك..؟
كان جوابي داخل نفسي.. لم أبحث.. لا عن جارٍ ولا قريب..
لو فرضنا أنك تتصدق كل يومٍ بريال.. لأصبح مجموع ما تنفق في عام كامل ثلاثمائة وستون ريالاً..
مبلغٌ زهيد.. انتظر الجواب
قلت له موافقاً.. نعم هذا صحيح..
ولكني أعلم أنني لا أتصدق بهذا المبلغ في عام كامل.. رغم قلته واصل حديثه.. بعد أن أكملت جوابي
باب الصدقة باب كبير من أبواب العبادة فيه سدٌ لحاجة فقير.. وكسوةٌ لعارٍ.. ولقمةٌ لجائع.. وإغاثةٌ لملهوف.. وتعليمٌ لجاهل.. لقد وهبك الله هذا المال.. ومرتبك يزيد على ثلاثة آلاف ريال ماذا قدمت للإسلام والمسلمين..؟
هل اشتريت كتاباً لإخوانك وجيرانك..؟
هل شاركت في بناء مسجدٍ ولو بالقليل..؟
كم شريطاً إسلامياً أهديت..؟ كم فقيراً واسيت..؟
مجالات الخير كثيرة.. ومتعددة..
ولكن.. أرأيت كيف نحن محرومون من هذا الأجر!!
لماذا لا تخصص مبلغاً ثابتاً كل شهر..
مما زاد عن حاجتك ينفق في أبواب الخير..
• ثم هناك الكثير تستطيع أن تقدمه.. خذ مثلاً.. وعليك الجمع.. لو استغنيت عن كأس من اللبن تشربه في اليوم لوفّرت ريالاً كاملاً.. يكفي.. شراء وجبة كاملة لعائلة مسلمة..
لم تر الطعام من يوم أو يومين
لو تركت شراء ثوبٍ واحد مما زاد عن حاجتك كل عام.. لأنفقت مبلغ مائة وخمسين ريالاً تكفي لشراء كتب في العقيدة توزع على مدارس المسلمين.
زوجتك.. لو رغبت فيما عند الله..
وتبرعت بثمن شراء فستان واحد فقط كل عام.. مائة وخمسون ريالاً تكفي لتكلفة برنامج إذاعي إسلامي لمدة عشرين دقيقة..
في بلادٍ، الحربُ لا هوادة فيها بين المسلمين والمنصرين
أرأيت كيف فَعلتْ؟
ألبسها الله لباس الأمن يوم الخوف.. وكساها لباس التقوى..
وجعل ما تركته في الدنيا ستراً لها عن النار يوم القيامة..
أخي.. منزلك الذي تزينه بأنواع الزينة والكماليات..
ألا تستغني ولو مرة واحدة عن شيء من ذلك؟
إذا لوفرت مبلغاً يزيد على خمسمائة ريال..
يكفي لكفالة ثلاثة طلاب يحفظون القرآن الكريم لمدة عام كامل
الله أكبر.. أرأيت كيف؟
نعمةٌ جعلها الله في يدك.. فلا تمنعها عن طريق الخير..
أخلف الله عليك ما أنفقت.. ورزقك دعوة صالحة..
ترتفع إلى السماء من قلب طفلٍ مسلمٍ يحفظ القرآن.. أنت ترعاه..
ابنك.. لماذا لا يكون له مشاركةٌ في الخير..
لو أخبرته يوماً أنك ستتبرع بقيمة هذه اللعبة..
لدعم المسلمين وإعانتهم
لرأيت الفرح على وجهه.. فهو ابن الإسلام..
بمبلغ خمسة وثلاثين ريالاً تبرعاً منه..
تقيم صلب مجلة شهرية إسلامية لمدة عام كامل.. ترفع لواء التوحيد..
وتحارب البدع والشركيات..
تكون أنت مشتركاً فيها بالدعم البسيط.. وبالإطلاع والفائدة..
رفع الله ابنك في عليين.. يوم أن رفع لواء التوحيد
التفت إلىّ.. وقال..
أرأيت كيف.ز ولا يتأثر ملبسك.. ولا مأكلك.. ولا مسكنك أمضى خنجراً في قلبي.. عن لقمة طعام واحدة..
ما زاد عن حاجتكم في وجبة طعام.. يكفي عائلة كاملة لمدة أسبوع .
العيــن تكبـي من مُصَابَكِ أُمّتــــي
فإلــى متــى يا أمّتـــي ننعــاك
سكتنا برهةً..
وأنا أغالب دمعة حائرة في مهجتي.. تبحث عن مخرج..
أضاف بصوتٍ غلبه التأثير..
كم فقير ستُطعم.. وكم من مُستحقٍّ ستُعطي..
كم من باب خير ستطرق.. وكم من الأجر ستجمع
هذا بابٌ من أبواب.ز لو نظرت جانباً آخر.. لرأيت العجب لو ترك السائح المسلم سفر هذا العام وتبرع بتكاليف سفره.. لأطعم وكسا قرية مسلمة.. بل وربما قريتين لمدة عام كامل.. هزّ يده.. هناك الكثير.. تركني أسترجع لغة الأرقام مرة أخرى وأنين أطفال المسلمين يطرق أذنيّ
أين أنتم عنا يا مسلمون..؟


(9) الفـــرار

واتــق الله فتقــوى الله مـا *** جاورت قلـب امــرئٍ إلا وصل
ليس مـن يَقطُــع طُرقاً بطلا *** إنمـا مـن يتـق الله البطــــل

--------------

كلما تجلّت ذاكرتي ورأيتُ خيال عبد الله..
رأيتُ هامة تطاول السحاب
مَن قدّم حياته ونفسه فداءُ للإسلام..
في زمنٍ.. بخل البعض عن تقديم ريال..
تكبُر في هذا الرجل كل شيء.. همته.. عزمه.. إصراره.. في زمن الخور والضعف فيه همةُ الرجال
في زمن الانحراف تجد الاستقامة..
في وجوه الناس عبوسٌ وخبث.. على محياه البشاشة والخير
في زمن الهروب.. أحب الإقدام
كثرت الملهيات وتعددت ولكنه.. بقي الشاب الملتزم الثابت
تلمح في عينيه هم الإسلام..
لم يلتفت يمنة ولا يسرة للدنيا.ز كان هاجسه رفعة الإسلام..
أجازته لا يقضيها إلا في خدمة المسلمين..
في زمن الشباب.. أجاب..

سألتنــي في حمـانـا ظبيـة *** أتحـب الشـوق في عيــن صبية
قلت لا أعشـق حُسنــاً ظاهراً *** أو أرى الحـب عيونـاً نرجسيـة
إنمــا أعشق صـدراً عامـراً *** يحمـل المـوت ويزهـو بالمنيـة
أدركـت سـري وقالت ظبيتي *** أنت لا تعشـق غيــر البنـدقيـة

ولأنه لم يضع بندقيته إلا منذ ليلتين قادماً من أرض الجهاد
فرحتُ بمقدمه.. وسررت برؤيته.. أجاب بحزن لفرحي..
لم يكرمني الله بالشهادة حتى الآن.. وهل الشهادة لكل من أراد..؟
مع أنني هذه المرة لم أحمل بندقيتي..
حملت كتباً لتوزيعها هناك.. كتب التوحيد والعقيدة والفقه..
إنهم في أمس الحاجة إلى المدرسين والدعاة..
لم أجد صعوبة في توزيع الكتب..
بل الصعوبة في أن تجد من يُدرسها..
في أعلى قمة جبلية في المنطقة..
انتهينا من توزيع الكتب على غرفة.. تسمى مدرسة..
أخبرونا أن الطائرات تقصف المكان
أسلحتنا.. لا ترد هذا الحديد الطائر
أما أسلحة الأهالي فبعضها يعود للحرب العالمية الثانية.. وربما الأولى..
في وسط هدوء تُسمعُ فيه الهمسة.. بدأ أزيز الطائرات يقترب أسرعنا إلى مخبأ في أحد الكهوف
وهنحن نردد الشهادة ونتلو القرآن
رفيقي.. إذا أراد شيئاً جذبني..
لم نعد نسمع بعضنا من شدة الأصوات
نُطل على قرى صغيرة متناثرة أسفل الجبل
بعضها به عشرة بيوت.. وبعضها أكثر.. يصل إلى الخمسين بيوت صغيرة بسيطة.. مبنية من الحجر.. لونها لون الطبيعة..
يُرى واضحاً القصف على تلك الدور الصغيرة.. التي لا تحتاج إلى كل هذا.. فهي على وشك السقوط..
شعرنا أننا في مأمن..
وإن الأمر موجه إلى قرى معينة أسفل الوادي..
أمسكت بمنظار كان معي..
بدأت أجيله بني تلك المساكن.. وحول الصخور الكبيرة
وربما امتد بعيداً لأرى النهر..
يهتز وتتغير الصورة.. مع اهتزاز الأرض من حولنا..
موقفٌ تعجز عن وصفه..
شدةٌ.. وضيق..
تذكرت قول النبي صلى الله عندما سُئل.. ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)
لحظاتٌ قاسيةٌ وزمنٌ عصيب..
الأرض ترجف.. والسماء تقذف..
ونحن بينهن.. فتنةٌ وأي فتنة..
يمر بالبعض.. الدعة والراحة والأمن في بلده..
منهم من يرى ابنه أو ابنته الصغيرة.. تدعوه.. ليعود
فتنة الدنيا.. وفتنة الموت.. لكن المؤمن يرد بثباتٍ وقوة..
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)
في هذا المكان..
الأحداث سريعة..سباقٌ مع الموت..
نُكبر.. ونتشهد.. بسرعةٍ لا يقف لسانك معها..
نفسك تحدثك بأن هذه آخر تكبيرة في حياتك
وآخر تشهد.. لا إله إلا الله.. أجلت طرفي..
فإذا البلدةُ القريبة بدأت تُقصف
ارتفعت أعمدة الدخان مختلطة بالأتربة..
• في الطرف الشرقي من البلدة..
منزلٌ وحيدٌ.. غرفة أو غرفتنا صغيرتان..
يبعد عن بيوت القرية خمسين متراً إلى الجبل
ما إن بدأت البلدةُ تهتز.. والمنازل تسقط
حتى خرجت من هذا المسكن
امرأةٌ.. وأي امرأة
عارية.. لا غطاء
حافية.. لا حذاء
تجري بقوة.. لا تعرف أين تتجه وإلى أين تذهب
الخوف أخذ منها كل مأخذ
بدون وعي..
اتجهت يساراً خطوات سريعة.. ثم عادت تجري يميناً..
بعد لحظات..
لحقتها ابتنها التي لم تتجاوز الخمس سنوات
هروبٌ.. فرار..
الأمر.. حياةٌ وموت.. نفسي نفسي..
سارت الصغيرة يساراً وهي تجري بسرعة
حتى اصطدمت بحجر كبيرة.. وسقطت..
بعد دقائق.
انجلى الغبار.. وهدأت الأصوات.. بدأنا النزول من الكهف.. وأنا أتفكر في هول ذلك اليوم..
(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يغنيه)..


(10) رحِمهُ الله

حُكــم المنية في البرية جاري *** ما هذه الدنيــا بـدار قـــرار
بينا يـرى الإنسـانُ فيها مخبراً *** حتـى يُـرى خبراً مـن الأخبـار

--------------
للحياة تجديد.. وللاخوة لقاء..
زيارة الأصدقاء..
فرحٌ في القلب.. وراحة للنفس
تباعدت بنا الأيام..
الأوقاتُ تمر سريعة..
شهرٌ أو يزيد لم أر عبد الله..
تذكرت عتابي له.. ولومي لتأخره في الزيارة..
لا نراك إلا كل شهر..
هذا حق الأصدقاء عندك..
هذه المرة سيكون العتاب أكثر..
نحن في نهاية شهر رمضان ولا نراه..
هاتفني مرةُ واحدةُ على عجل..
الحياةُ أخذت كل شيء..
لا وقت حتى نستأنس بالجلوس معه..
وقفت مشاغله حائلاً دون الزيارة..
عبته محبة.. ولومه اخوة..
هذه الأيام.ز لا وقت لدي أنا أيضاً..
فأنا إمام المسجد
ولكن لعلي أراه ولو لبعض الوقت..
• هاتفني..
سأزور بدون موعد
رمضان قد رتب وقتك..
فأنت بين مراجعة حفظك. وبين الراحلة بعد صلاة التراويح..
وما بقي من الوقت استعدادٌ لصلاة القيام..
رغم كل الظروف.. لابدّ أن نراك..
بعد يومين..
قدومُ مبارك.ز ولكنه قدومٌ متأخر..
ذاهبٌ إلى صلاة القيام..لا تختار إلا هذا الوقت..
أحببت أن أراه بعد الصلاة..
اعتذر بكثرة المشاغل..
ووجد لي عذراً.. فأنت تحتاج إلى الراحة..
ولدي عمل يجب أن أنجزه الآن قبل الغد..
استدركت نسيانه..
صلاة القيام..
تمهلَ في الإجابة.. ولاحظتُ ذلك
الليلة نختم القرآن
لابدّ أن تصلي معنا..
وأكملت مازحاً.. عندما لاحظت سكوته..
لا تُضيعها..
قد تكون آخر ختمةٍ في حياتك..
وكانت كذلك..

بينما الفتى مرح الخطا فرح بما *** فقوّم النفس بالأخــلاق تستقــم
إذ قيل: بـات ليلــةً مـا نامها *** إذ قيـل: أصبح مثخنـاً ما يٌرتجى
إذ قيـل: أصبح شاخصًا وموجهاً *** ومعللاً إذ قيل: أصبح قـد مضـى

………
آنس الله وحشتك
رحم الله وحدتك
أنت في صحبة البلى
أحسن صحبتك..
وكان رحمه الله...
 


(11) أم الأبناء

صلاحُ أمـرِكَ للأخلاق مرجعه *** فقـوّم النفس بالأخــلاق تستقـمِ
والنفسُ من خيرها في خير عافية *** والنفسُ من شرها في مرتـع وخِـم

--------------

هاتفني ظُهراً على غير عادة
أخبرني بأنه سيأتي حالاً..
إنا لله وإنا إليه راجعون.. نبرات صوته متغيرة..
ربما أن في الأمر شيئاً..
شابٌ في مقتبل العمر
يحمل هموم الدنيا فوق رأسه
هذا ما يدعيه..
منحك الله الصحة.. والزوجة.. والأبناء
ولكنك توحي لنفسك بهذه الهموم
لقد شاب شعركَ وأنت شاب..
رفع رأسه.. وقال.. كلا فأنا أحمل هموم الدنيا..
يكفيك من هموم الدنيا زوجة تنكد عليك حياتك
وتكدر صفاء أيامك
لا تقل هذا.. يا أخي..
هدىء من غضبك.. وزن الأمور
زوجتك تقدرك.. وتحترمك
ما علمت شيئاً فيها راحتك إلا أتته
يكفيك منها.. أنها أم لأبنائك
ترعاهم.. وتُعلمهم.. وتتفقد أمورهم
كيف تقبل الآن.. أن تتحدث عنها هكذا
تجعل الغضب يُنسيك كل شيء
تمحو الزلة كل خير..
إن كان هذا صحيحاً..
أين الصبر والحلم
حسن الخلق معها.. ليس كف الأذى عنها فقط..
لا..
بل احتمال الأذى منها.. والحلم عند غضبها..
هدأ بعض من غضبه.. ولكنه أتم حديثه..
لم يمر بنا أسبوع واحد دون مشكلة.. أو مشاكل..
هذا يكفي لأن تعذرني..
ولا تعجب من ثورتي وغضبي..
قلت له.. من سبب هذه المشاكل..
بسرعةٍ.. أجاب.. هي طبعاً..
وأنت..
هل يعقل أنها سببٌ لكل هذه المشاكل..
وأنت بريء...؟!
لكأني أرى الكثيرات يتحملن سيئ أخلاق أزواجهن..
يصبرن حسن غضبه..
يأمر.ز ويهني.. يُهين.. ويُزبد..
وأكثر..
وهو.. بريء..!!
• أضفتُ
دعني أسألك.. أكثر من سؤال.ز
هر يده.. وقال..
سأجيب وبصدق.ز أريد حلاً لمشاكلي..
تعبت مما أنا فيه..
التفتُ إليه..
لا تسمعني جوابك الآن.. أجب بينك وبين نفسك..
سأجعلك الحكم..
ففيك الخصامُ.ز وأنت الخصم.. والحكم..
متأكد.. أنه لا توجد أمور أساسية تجعلك تكره زوجتك..
فيما مضى..
تُثنى على دينها وخلقها.. وحسن تدبيرها..
وفي لحظةٍ يُنسى كل شيء..
زيادةٌ في ملح.. أو نقص في التوابل والبهارات..
يسقُط كل شيء..
أما فقد أزرار.. وعدم كي الثوب جيداً
فهي إلى دار الأهل سريعاً..
الطامة الكبرى..
إن نسيت أو.. أخطأت..
تهديدٌ.. ووعيد..
وربما نفذ..
كم من البيوت هُدمت.. وكم من الأطفال ضُيعوا..
ثم بعد سنوات.. يأتيك الندم..
لو رويتُ لك قصة غضبك ومجيئتك إلىّ ظهراً على لسان رجل آخر.. لأستغربت.. ولرما أخذتك النخوة..
ألا يصبر على زوجته..
الأمر لا يستدعي كل هذا.. كل بيتٍ فيه مشاكل..
سألته..
• أليس هذا هو صحيح..؟
لماذا إذا تجاوزت كل هذا..؟!
ثم إذا كانت هي صاحبة المشاكل لكها..
أليس لك نصيب.. أم أنت كامل..
دعني أتجاوز حدي.. وأقول
لعلك السبب الرئيسي في كل هذا.. ولك نصيب الأسد..
تمهلت قليلاً بعد أن رأيت قسمات وجهه وقد تغيرت..
يا أخي..
أولى الناس بالبشاشة وحسن الخلق أهلك..
أحق الناس بالكرم والجود بيتك..
أنت كرجل..
لك أختُ اليوم.. ولك بنتٌ غداً
هل ترضى بمعاملتك لزوجتك أن تكون معاملة زوجٍ لابنتك..؟
إذا كان الجواب
نعم.. فنعمت المعاملة..
وأنت نعم الرجل.. وأبشر بالخير في الدنيا والآخرة..
فهن لا يكرمهن إلا كريم.. ولا يُهينهن إلا لئيم
وإن كان غير ذلك..
فإني أذكرك الله.. والدار الآخرة..
واعلم أن أول رابحٍ من حسن الخلق.. أنت
تهدَأ أعصابك.. وتستقر أمورك.. ويُحبك أهل بيتك
بحركة عفوية.. تحركت يدي
• هون الأمور.. تَهُنْ.
هذه أم أبنائك
تخدمك فلا تشتكي.. تُضحي لك بصحتها وشبابها ولا تستكثر..
وفي كل يومٍ تناديك..
فليتك تحلـو والحـياةُ مريـرة *** وليـتك ترضى والأنـامُ غضـابُ
إذا صحـح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فـوق التـراب تـراب
لو خدمك رجلٌ وأكرمك.. يوماً أو يومين
لبالغت في الثناء على كرمه وخلقه وأدبه
زوجتكم تخدمك السنين الطوال
فلا تُشكر..
هذه أم أبنائك تحمّل هفوتها.. وتجاوز عن زلتها
احفظ لها معروفها.. واشكرها عليه
تكسب ودها.. وصادق محبتها
وقبل ذلك..
تُؤجر
• تابعت حديثي..
متأكد أن ما أساؤك.. قليلٌ جدّاً عمّا بذلته من غضبٍ وتوتر أعصاب..
ما أنفقته من صحتك.. ووقتك وراحتك.. وفقد المحبة بينكما أغلى وأثمن.. من الأمر الذي غضبت لأجله..
أليس كذلك..
وأحببتُ أن أطمئنه.ز هذه أمور عارضة.. تمر بكل البشر
على ألا تتجاوز حدودها وتترك سلبياتها..
أخي..
ألسنا في هذه الدنيا للعبادة
ألا تعرف أن من أنواع العبادة.. حسن الخلق
تؤجر.. على رفع اللقمة إلى فم زوجتك
إنفاقك على بيتك.. خير أنواع الصدقة
في جهادٍ.. وأنت تبحث لهم عن الرزق الحلال
ليست الحياة أوامر.. ونواهٍ
في الإسلام
ما بين الزوجين أكبر من ذلك..
ثم...
دعني أسألك..
أين ذهبت مروءات الرجال..؟!


(12) العاصفة

كأن المنـايا قد قصـد إليــكَ *** يردنـك فانـظـر ما لهن لــديكَ
سيأتيـك يومٌ لست فيـه بمكرمٍ *** بأكثـر من حثـو التـراب عليـكَ

--------------

أسرع مما توقعت.. بدأ العد التنازلي لموعد زواجي..
كلما قرب الموعد.. كبرت المسئولية وتضاعف الجهد
الهواجس والأفكار.. لا تفارقني..
كان ترتيبي.. أن ما بقي الآن شهر أو يزيد
سأنتهي من كل شيء..
الأمر بسيط.. ولا يحتاج إلى وقتٍ طويل
اكتشفت متأخراً..
إنني أضعتُ أسبوعاً كاملاً في اختيار المفروشات
وآخر في تجهيز.. المطبخ..
الآن.. هناك متسع.. بقي أسبوع.. تنفست الصعداء..
الأحلام الوردية تطاردين.. والفرحة تلاحقني
تركت خيالي يسري.. ولا ينام
بدأت التردد بكثرة على منزلي..
أستمتع بالجلسة.. وبهدوء المكان أقرب الشاي.. أمد قدمي استرخاء تام.. وحلمٌ مبكر.. أتصفح الجرائد وأقرأ المجلات كل موضوع له علاقة بالزواج والأبناء دخل ضمن اهتماماتي
عنوان جذاب.. اقرأ قبل أن تتزوج
قلت بهدوء..
كلٌ يخاطبني هذا الأسبوع.. ابتداءً من الأطفال حتى الصحف والمجلات
استرسلت في القراءة.. نصائح كثيرة.. ومتتالية
الفحص الطبي قبل الزواج.. أعدت القراءة مرة أخرى
فوائده.. وأخيراً ضرورته..
لازمتني الفكرة خلال يومين.. سيطرت على ذهني ورأيت أن أفعل
• الخطوة الأولى.. إجراء فحص أولي.. ثم بدأت إعطاء التحاليل للمختبر..
مراجعة الطبيب بعد ثلاثة أيام..
رحلت مع أحلامي..
وعندما جاء الموعد.. تثاقلت..
ما الفائدة من الفحص.. الجميع زوجوا بدون ذلك
وعندما تذكرت أنني قد دفعت لهم كامل المبلغ
نهضت.. ورغم ذلك وصلتُ متأخراً..
انتظرت مدة تزيد على نصف ساعة..
وعندما حان دخولي على الطبيب.. مشيتُ بخطواتٍ بطيئة..
أخرج أوراق التحاليل.. وبدأ يقرأ..
قلب الأوراق مرة أخرى.. استرق النظر إلىّ أكثر من مرة..
وعندها سألته.. ها هناك شيء..؟
وضع الأوراق على طاولته.. بدون مقدمات..
يوجد اشتباه بسرطان في الدم
لم أصدق ما سمعت.. هول الصدمة جعلني لا أنطق..
وأنا أنظر إليه.. تحدثت العيون وسألت
كيف..؟
لا تخف مجرد اشتباه.. دعني أفحصك مرة أخرى
لم أستطع أن أتحرك من مكاني.. شعر أنه أخطأ في مواجهتي..
مد يده.. وساعدني.. ألقيت بنفسي..
بدأت أتنفس بقوة لأتأكد من أنني على قيد الحياة
فتح عيني.. وأطال النظر.. سمع دقات قلبي..
الأمر هين وبسيط.. نعيد التحاليل..!!
أتيت بآمالٍ وأحلام.. وخرجت بهمومٍ وأحزان
كل ذلك في لحظات..
• هِمتُ على حالي.. أوقفت سيارتي جانباً..
أغمضت عينيّ..
في ماذا.ز وأنا أنتظر الموت أفكر..
فكرت.. وفكرت.. نفسي.. أهلي.. وأخيراً.. هي..
خل أخبرها..؟ ماذا أقول..؟
لو أكدت التحاليل وجود المرض.. أسكت أم أخبرها
لا وقت.. أيام فقط.. زواج أم ..لا..
لم أعرف النوم تلك الليلة
في الصباح تركت عملي واتجهت إلى المختبر
والدم يؤخذ مني.. قلت له.. خذ أكثر.. حتى نتأكد..
ولعله أخذ ما يرضيني.. وأكثر
لم يبق في عروقي دم.. بقي همٌّ.. وغم
لم أتوقف عن التفكير.. لعل الأمر خطأ..
ولكن شيء في داخلي يقول.. إن الأمر حقيقة
تركت منزلي..
إبريق الشاي منذ مساء البارحة تركته على أمل العودة كطائر أغلق عليه قفصٌ من حديد..
يطير.. ويطير.. يبحث عن مخرج..
يصطدم بكل جهة يتجه إليها.. ولا يبالي.. لكن بدون نتيجة
• كل من قابلني
وجهك متغير.. هذا وجه من يرد الزواج
كل هذا فرحٌ بالزواج..؟
بدأت تخاف من الآن..؟
حديثهم.. في وادْ.. وأنا في وادٍ آخر..
ثلاثة أيام.. انتظارٌ طويلٌ..طويل
قطعاً لحالة الشك.. ذهبت إلى عيادة أخرى
وفي نفس اليوم.. اتصلت بالعيادة الأولى
لم يأت شيء.. لا.. بعد غدٍ
ما أطول غدٍ وبعد غدٍ.. أنتظر الموت أو ..أمل الحياة
ألغيتُ زيارتي ومواعيدي..
حتى شراء ما بقي من الكماليات لمنزلي تركته
لا أريد أن أرى أحداً.. أنظر إلى الدنيا نظرة مُودّع
اُخبّأ وجهي عن أمي..
أستقبل الأيام وأرى دمعتها عندما أنعى إليها
أما أبي.. فحزنٌ يقطع الكبد
يمازحني في أمر الزواج.. وأقول بصمت.. غداً..
• في اليوم الثالث هدأتُ..
فكرت إن كان الأمر حقيقةً لن أتزوج
ولكن حب الحياة ينازعني
الكثير.. عاشوا بأمراضٍ مثل هذا وأكثر
الأعمار بيد الله. إذا أخبرها..
في الساعة الرابعة والنصف.. وقفت أمام العيادة مهموماً..
لعل الطبيب يحضر مبكراً.. وجاء الطبيب.. ولم يأت التقرير
انتظرت ساعتين.. أطول عندي من سنتين
وعندما أخبرني الطبيب بوصول النتيجة
وقفت بسرعة.. فتح التقرير..
بدأت أرتجف.. كأنني في شتاء بارد..
أما قلبي..نبضات سريعة.. وضرباتٌ قرية
ركبتيّ.. لا أعرف لماذا لم تستطيعا حملي..
ورغم العرق الشديد والنفسُ المتلاحق..
بشرني.. الحمد لله..
ولم أدعه يكمل.. رميت بنفسي عليه..
تراجعت.. اقرأ مرةً أخرى.. تأكد من كامل الأوراق..
خرجتُ لا تعني الفرحة.. أسلم على من أرى
ذهبت مسرعاً إلى منزلي..
لا يزال الشتاء في داخلي.. والعرق على جبيني
استرخيت.. ولكن لم أستطع البقاء
ركبت سيارتي..
سلمت على والدتي..
لاحظت أنني مجهد.. والفرحة تعلوني.. وأي فرحة..
ما بك..؟!
مظروفٌ في يدي يحكي كل شيء..
عقب أخي.. بعتاب.. ولا تُخبرنا بذلك..
ابن آدم ضعيف.. ولكنه جبارٌ مستكبر
يُسقطه رغم غروره وكبريائه..
فيروسٌ صغير.. جرثومةٌ لا تُرى
يخاف الموت.. لا يعمل له
يفرح بالصحة.. والعافية.. ولا يستفيد منهما
تمر الأحداث.. وتنزل النوازل..
وهو.. في أمرْ آخر..
أما أنت
فقد بُعثت من جديد..
ولكن..
فهــن المنـايا أي وادٍ حللتـه *** عليـها القـدوم أو عليـك سَتقـدِمُ
هناك متسعٌ الآن..
أعد حساباتك..


(13) أيام لا تعود

يـا من يُعــد غـداً لتـوبتـه *** أعلـى يقـينٍ مــن بلـوغ غـدٍ
المـرء في زلل علـى أمــل *** ومنيــة الإنســـان بالرصــدِ
أيـامُ عُمــرك كلهـا عــدد *** ولـعل يومـك آخــر العـــدد

-------------

حركتُ رأسي.. وأنا أنتزع ورقة التقويم
هذه آخر ورقة في تقويم هذا العام
انتهت سنة كاملة من عمري.. دون أن أشعر
وهل عمري إلا عددٌ من السنوات
كلما طويت واحدة أدنتني من القبر
وقفت أتأمل غروب شمس عام كامل.. لن يعود
طُويت صحائفه وحُفظت..
ماذا فيها..؟
لكل بداية نهاية.. ولكل سبيل غاية
الحمد لله الذي مدّ في عُمري
كم من حبيب فقدنا.. وكم من ميتٍ دفنّا
الحمد لله على طول الأعمار
تعالي يا زوجتي العزيزة
أعرف أنكِ تفرحين بهذا النداء..
أكيد..
ولكن الأمر أكبر من ذلك
هذه ورقة تحكي لكِ قصة عامٍ كاملٍ انتهى
تُقدمُ لكِ العزاء..
في عام تصرمت حباله.. وتقطعت أيامه
تعالي نستجمع قوانا..
علنا نستعيد دقيقة واحدة من عمرنا..
هل نستطيع..؟!
ساعاتٌ طوال أضعناها دون فائدة..
مواسم خيرٍ مرت دون عمل..
عام مضى.. ولمن نستطيع إرجاع لحظة واحدة منه..
لن نقدر على أن نزيد في زمنٍ مضى
تسبيحةً واحدة.. أو تحميدة واحدة..
لو تأملتِ..
كم من الوقت مر دون فائدة.. لوجدت الكثير
لنتوقف قليلاً..
كل شيء عسى أن نسترجعه إلا الوقت
دعينا نُحاسب أنفسنا..
بعد طول استماع..
قالت..
أنت لا تحاسب نفسك إلا كل سنة
أما تجارتك.. وعملك.. فكل يوم
ألم تفكر في آخرتك..؟
أين أنا بعد مائة عام..؟
أطرقتُ أفكر..
ثم ما إن أقبلت حتى تردد صوتها
أين ذهبتَ...؟
قلت لها.. أين أنا بعد مائة عام..؟؟
أنت تعرف أن القبر مسكنك..
عُمرك رأس مالك
ولسوف تسأل عن إنفاقك منه وتصرفك فيه
أنتم معشر الشباب..
الكسل رفيقكم.. والهمة الضعيفة أنيستكم
كل من صلى وصام.. حسب أنه بلغ المنتهى
لا شك في وجوبها.. ولكن
أليس للإسلام نصيبٌ غير ذلك في قلبك
كلُ منكم يستطيع أن يقدم الكثير
أمــا لله والإســـلام حـقٌ *** يدافـع عنـه شبــانٌ وشيــب
عاد سؤالها يهز قلبي..
ماذا ستقدم في هذا العام..؟!


(14) قطار.. ونحن المسافرون

أتيـتُ القبــور فناديتُـــها *** فأيـن المُعظَّــم والمُحتقــــر
وأيــن المُــدلُّ بسلطــانه *** وأيـن العظيــم إذا مـا افتخـر
تنـادوا جميعــاً فلا مخبــر *** ومـاتـوا جميـعاً وأضحـوا عِبر

--------------

أصبحتُ وأنا أشعر بالكآبة.. وسِمةُ الحزن ترتسم على محياي
لا أعرف سبباً مباشراً لذلك..
ولكن.. لعله بعد حديث المساء..
فقد اجتمعنا زملاء الدراسة وأصدقاء الطفولة
تحدثنا عن حياتنا.. عن أعمالنا
خرجت بانطباع عام
الغالبية لديهم المال..
ينفقون كما يحلو لهم.. وكما يشاءون
فلانٌ مثله.. أو يزد
وأنا.. أقل الجميع
لعلي شعرت بالحزن.. وأصبحت الكآبة رفيقتي..
• موعدي بعد صلاة العصر مع عبد الرحمن
شابٌ في مقتبل العمر دمث الأخلاق.. حلو المعشر
حاضر النكتة.. من خيرة الشباب
لعل في زيارته تخفيفاً لما أشعرُ به
وكما توقعت..
ما إن أحس أن هناك شيئاً في داخلي
حتى تلاحقت أسئلته
ما بك..؟
ه هناك ما يكدر صفو أيامك..؟
احمد الله على ما أنت فيه من نعمة
ثم أضاف بنبرة فيها عتاب
والله إنك في نعم لا تُحصى ولا تعُد
وألوها.. نعمة الإسلام..
تمهّل في الحديث.. وأكمل
أنت حالك كحال رجل جاء إلى أحد الصالحين..
فشكا إليه ضيقاً في حاله ومعاشه واغتماماً بذلك
فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف..؟
قال: لا..
قال.. فبسمعك..؟
قال: لا..
قال له: أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة..
سكت برهة.. ثم أجبته بصوت ضعيف..
الحمد الله..
جاءت كلماته الصادقة.. وهو نعم الصديق..
هل بقي شيءٌ من الدر وضيق الصدر..؟
تذكّر أمراً.. عندما رفع صوته وسألني بحدة..
كيف جعلت للضيق في صدرك مكاناً..؟
يومٌ كامل يصول ويجول الكدر والهم في قلبك..؟
أين أنت عن الصلاة وقراءة القرآن؟
كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فرِع إلى الصلاة..
كل يومٍ لا تفوتك فيه قراءة الصحف والمجلات..
أين قراءة صحف ربك..؟
أين أنت من القرآن..؟
على أي حال تريد أن تُزيل كل شيء في خاطرك.. وتستعيد صفاءك
رفعت رأسي.. وأجبت..
نعم قال.. هيا..
إلى أين..؟
لا تسأل أين..
بعد أن أغلقت باب السيارة..
من النعم وسائل النقل المريحة..
تذهب متى تشاء براحة وطمأنينة
هل حمدت الله أنك تعيش في دار الإسلام وبين المسلمين
تسمع النداء كل يوم خمس مرات
تُربي أبنائك على التوحيد الخالص..
• في الشارع العام..
هدأ من سرعة السيارة
ثم سار في اتجاه اليمين
إلى أين يا عبد الرحمن..؟
هذه المقبرة..!!
أعرف أن هذا طريق المقبرة..
وأن هذه التي أمامنا مقبرة..
تمهل ولا تستعجل الأمور..
لماذا تخاف..؟
دعنا ندخلها بأقدامنا.. قبل أن يُدخَلَ بنا محمولين..
هذه دارنا الثانية.. دعنا نزورها..
السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم اللاحقون، يرحم الله المتقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية.. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم..
واغفر لنا ولهم..
بعد السلام على أهل القبور
تركت عينيّ تتجول في مساحة المقبرة
أرضٌ جرداء..
سكونٌ مخيف..
صمتٌ متواصل..
لا تسمع حديثاً رغم كثرة الساكنين
قبورٌ متراصة.. وجيرةٌ متباعدون.. لا يعرف بعضهم بعضاً
تضُم الطفل الرضيع
والأمير والوضيع
الشيخ الكبير هنا قبره
والعروس التي وسدت الثرى ليلة زفافها هنا مرقدها
هنا من كان منعماً في الدور والقصور
أما هناك..
قبر الشاب المكتمل الصحة.. والقوة..
من سقط فجأة.. ودفن فجأة..
وهذه القبور المحفورة تنتظر الساكن الجديد
تنتظر الجنازة القادمة..
ربما أنا..؟!
وربما أنت..؟!
قطع تفكيري..
ما رأيك في هذا القبر..
وهذا اللحد..
ماذا تقول فيه..؟ هذا صندوق العمل
هذه دارك الثانية..
يا عبد الله..
انزل في هذا القبر..
أجبته بسرعة.. وبصدق.. لا أستطيع
ومع إجابتي تراجعت قليلاً وابتعدت عن حافة القبر.. خَوف أن أسقط..
أما عبد الرحمن فقد تقدم.. ونزل في القبر..
بسم الله.. ووضع جنبه في اللحد..
ما أحقر الدنيا.. هذه داري بعد الموت.. اللهم اجعل قبري روضة من رياض الجنة
بعد برهةٍ.. قفز من القبر.. وأسمعني صوته..
(أفحسبْتُمْ أنما خلقناكمْ عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجَعون..)
بل سنُرجع.. بلى.. سنُرجع
التفت إليّ وهو يزيل التراب.. انزل يا عبد الله لتزول همومك
أصابتني قشعريرة.. تمالكت نفسي.. ولما رأيت إصراره.. نزلت ما أضيف القبر ولحده.. موحشٌ ومظلم..
حتى الحركة لا تستطيع
أن تتحرك
يا عبد الله.. صوتٌ من أعلى يناديني..
قدّر لنفسك أنك مت.. ودُفنت
ما العمل الصالح الذي قدمت..؟
أجلت طرفي يمنة ويسرة داخل القبر
تفكرت في أمرين
هوان الدنيا.. وطول الأمل..
سنرحل جميعاً ونترك كل شيء..
إلا العمل الصالح..
 


مع الشكر لموقع عـودة و دعـوة
http://www.awda-dawa.com/
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

قصص مؤثرة

  • قصص الرسول
  • قوافل العائدين
  • قصص نسائية
  • قصص منوعة
  • الحصاد المر
  • مذكرات ضابط أمن
  • كيف أسلموا
  • من آثار الدعاة
  • قصص الشهداء
  • الصفحة الرئيسية