صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الزمن القادم
المجموعة الأولى

   

د. عبد الملك القاسم

 
 (1) الرحيل

ســألتُ الـدارَ تُخبرنـي *** عن الأحبـاب ما فعلـــوا
فقالت لي: أنـاخ القــوم *** أيـاماً وقــد رحـــلوا
فقلـلتُ فأين أطلُبــهم *** وأيُ منـــازلٍ نزلــوا
فقـالت بالقبــور وقـد *** لقــو والله مـا فعلــوا
--------------

بدت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم... ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم...
تبحث عنها تجدها في مصلاها.. راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء.. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل...
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي.. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أنني عُرفتُ به.. ومن أكثر من شيء عُرفَ به.. لا أؤدّي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاماً متنوعةً لمدة ثلاث ساعات متواصلة.. ها هو الأذان يرتفع من المسجد المجاور..
· عدت إلى فراشي..
تناديني من مصلاها.. نعم ماذا تريدين يا نورة؟
قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تُصلي الفجر..
أوه.. بقى ساعة على صلاة الفجر وما سمعتيه كان الأذان الأول...
بنبرتها الحنونة –هكذا حي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش... نادتني.. تعالي أي هناء بجانبي.. لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها.. تشعر بصفائها وصدقها.. لا شك طائعاً ستلبي..
ماذا تريدين...
اجلسي..
ها قد جلست ماذا لديك..
بصوت عذب رخيم: (كل نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة)..
سكتت برهة.. ثم سألتني..
ألم تؤمني بالموت؟
بلى مؤمنة..
ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة..
بلى.. ولكن الله غفور رحيم.. والعمر طويل..
يا أختي.. ألا تخافين من الموت وبغتته..
انظري هند أصغر منك وتوفيت في حادث سيارة.. وفلانة.. وفلانة.
الموت لا يعرف العمر.. وليس مقياساً له..
أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها المُظلم..
إنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت.. كيف أنام الآن.. كنت أظن أنك وافقت للسفر معنا هذه الإجازة..
فجأةً... تحشرج صوتها واهتز قلبي..
لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً.. إلى مكان آخر.. ربما يا هناء.. الأعمار بيد الله.. وانفجرت بالبكاء..
تفكرت في مرضها الخبيث وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً.. ولكن من أخبرها بذلك.. أم أنها تتوقع هذا الشيء..
ما لك تفكرين؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة..؟
هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة؟
كلا.. ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء..
وأنت إلى متى ستعيشين.. ربما عشرون سنة.. ربما أربعون.. ثم ماذا.. لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة..
لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا أما إلى جنة أو إلى نار.. ألم تسمعي قوله الله: (فمن زُحزِحَ عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)؟
تصبحين على خبر..
هرولتُ مسرعةً وصوتها يطرق أذني.. هداك الله.. لا تنسي الصلاة..
الثامنة صباحاً..
أسمعُ طرقاً على الباب.. هذا ليس موعد استيقاظي.. بكاء.. وأصوات.. يا إلهي ماذا جرى..؟
لقد تردت حالة نورة.. وذهب بها أبي إلى المستشفى.. إنا لله وإنا إليه راجعون..
لا سفر هذه السنة.. مكتوب عليّ إلقاء هذه السنة في بيتنا بعد انتظار طويل..
عند الساعة الواحدة ظهراً.. هاتفنا أبي من المستشفى.. تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعة..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير.. عباءتي في يدي..
أين السائق.. ركبنا على عجل.. أين الطريق الذي كنت أذهب لأتمشى مع السائق فيه يبدو قصيراً.. ماله اليوم طويل.. وطويل جداً..
أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي التفت يمنة ويسرةً.. زحام أصبح قاتلاً ومملاً..
أمي بجواري تدعو لها.ز أنها بنت صالحة ومطيعة.. لم أرها تضيع وقتها أبداً..
دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى..
هذا مريض يتأوه.. وهذا مصاب بحادث سيارة. وثالث عيناه غائرتان.. لا تدري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة..
منظر عجيب لم أره من قبل...
صعدنا درجات السلم بسرعة..
إنها في غرفة العناية المركزة.. وسآخذكم إليها.. ثم واصلتِ الممرضة إنها بنت طيبة وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها..
ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد..
هذه هي غرفة العناية المركزة..
وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إلي وأمي واقفة بجوارها.. بعد دقيقتين خرجتْ أمي التي لم تستطع إخفاء دموعها..
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط أن لا أتحدث معها كثيراً.. دقيقتين كافية لك..
كيف حالك يا نورة..؟
لقد كنت بخير مساء البارحة.. ماذا جرى لك..
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: وأنا الآن ولله الحمد بخير.. الحمد لله ولكن يدك بادرة..
كنت جالسة على حافة السرير ولامست ساقها.. أبعدته عني.. آسفة إذا ضايقتك.. كلا ولكني تفكرت في قول الله تعالى: (والتفتِ الساقُ بالساق إلى ربك يومئذ المساق) عليك يا هناء بالدعاء لي فربما استقبل عن قريب أول أيام الآخرة..
سفري بعيد وزادي قليل.
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت.. لم استمرت عيناي في البكاء.. أصبح أبي خائفاً عليّ أكثر من نورة.. لم يتعودوا هذا البكاء والانطواء في غرفتي..
· مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين..
ساد صمت طويل في بيتنا..
دخلت عليّ ابنة خالتي.. ابنة عمتي..
أحداث سريعة..
كثر القادمون.. اختلطت الأصوات.. شيء واحد عرفته.. نورة ماتت.
لم أعد أميز من جاء.. ولا أعرف ماذا قالوا..
يا الله.. أين أنا وماذا يجري.. عجزت حتى عن البكاء.. فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير.. وأني قبلتها.ز لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً.. حين نظرت إليها مسجاه.. على فراش الموت.. تذكرت قولها: والتفتِ الساق بالساق) عرفت حقيقة أن (إلى ربك يومئذ المساق).
لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة..
وحينها تذكرت من قاسمتني رحم أمي فنحن توأمين.. تذكرت من شاركتني همومي.. تذكرت من نفّست عني كربتي.. من دعت لي بالهداية.. من ذرفت دموعه ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب.. الله المستعان..
هذه أول ليلة لها في قبرها.. اللهم ارجمها ونوّر لها قبرها.. هذا هو مصحفها.. وهذه سجادتها.. وهذا.. وهذا.. بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي..
تذكرتها وبكيت على أيامي الضائعة.. بكيت بكاء متواصلاً.. ودعوت الله أن يرحمني ويتوب عليّ ويعفو عني.. دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو..
·  فجأة سألت نفسي ماذا لو كانت الميتة أنا؟ ما مصيري؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني.. بكيت بجرقة..
الله أكبر.. الله أكبر.. ها هو أذان الفجر قد ارتفع.. ولكن ما أعذبه هذه المرة..
أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أرددّ ما يقوله المؤذن.. لفلفت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر .. صليت صلاة مودع.. كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها..
إذا أصبحت لا أنتظرُ المساء..
وإذا أمسيتُ لا أنتظرُ الصباح..


 (2) الغفلة

شيع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال: إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يُزهد في أوله [1] وإن أمراً هذا أوله لحقيقٌ أن يُخاف آخره..[2]
 
---------------
 
اللهم ارحمنا إذا درس قبرنا.. ونُسي اسمنا.. وانقطع ذكرنا.. فلم يذكرنا ذاكر.
ولم يزرنا زائر..
اللهم ارحمنا إذا أهلونا.. اللهم ارحمنا إذا كفنونا.. اللهم ارحمنا إذا على أكتافهم حملونا...
·  كان الشريط يسير بسرعة.. وكنت أتابع دعاء الإمام بتركيز ولهفة. أعدت هذا الدعاء.. مرة.. وأخرى.. كلما قاله ودعا به حق.. ستنقطع بنا الحياة..
وسنُغسل.. ونكفن.. ثم نوضع في لحد تحت الأرض.. ويُنسى اسمنا.....
ولكن ذاك الصوت المقترن بالخشوع.. جعلني أتوقف برهة.. وأعيد الشريط مرة ثالثة..
لقد كانت أختي.. مثال الأخت الداعية.. المجتهدة.. لقد حاولت أن أكون محافظاً على الصلاة.. وعلى الطاعات.. حاولت بكل ما تستطيع... بالكلمة.. وبالشريط.. والكتاب..
·  وفي أحد الأيام.. عندما ركبت معي في السيارة.. أخذ بنا الحديث.. وعندما هممنا بالنزول.. وضعت هذا الشريط في جهاز خرجت من العد.. بحركة عفوية.. لا شعورية.. ضغطت على الشريط.. وأنا لا أذكر ما فيه.. ولكني كالعادة أتوقع.. كلمة مغناة.. من التي أحبها.. ولكن شاء الله أن يكون هذا الشريط..
سمعته في صباح ذاك اليوم.. وأعدته في المساء.. وبعد العشاء..
سألتها ما هذا الشريط الذي وضعتيه..؟
قالت.. هل أعجبك!!
قلت لها.. لا شك..
ولم تكن العادة إجابتي بهذا الترحيب..
فرِحَتْ.. وكان بيدها كتاب فوضعته جانباً.. أعادت سؤالها..
هل أعجبك صوت الإمام وقراءته..؟
قلت لها.. نعم..
كانت هذه الإجابة مقدمة لحوار طويل.. ولقد كان مثل هذا الحوار متكرراً.. ولكنه هذه المرة اختلف كثيراً.. في النهاية.. قالت لي.. سأقرأ عليك ما قرأته قبل قليل..
(مرّ الحسن البصري بشاب مستغرق في ضحكه وهو جالس مع قوم في مجلس.. فقال له الحسن..يا فتى.. هل مررت على الصراط؟
قال.. لا.. قال.. فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار..؟ قال.. لا..
قال: فما هذا الضحك.. صمتنا برهة.. ثم التفتتْ إلىّ..
إلى متى هذه الغفلة...؟


 (3) الهدية

قال عمرو بن قيس: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله..
 
---------------
 
أنهيتُ دراستي في المعهد الصحي بعد مشقة.. فلم أكن منضبطاً في دراستي.. ولكن الله سبحانه يسر لي التخرج..
وعينتُ في أحد المستشفيات القريبة من مدينتي.. الحمد لله أموري متيسرة.. وأعيش بين والديّ.
قررت أن أجمع مهراً لزوجتي.. وهو ما تحثني عليه والدتي كل يوم.. كان العمل يسير بشكل جدّي ومرتب.. خاصة أن عملي في مستشفى عسكري..
كنت أحب الحركة لذلك نجحت في عملي نجاحاً طيباً.. مقارنة بدراستي النظرية المملّة..
المستشفى يضم موظفين من مختلف الجنسيات تقريباً.. وكانت علاقتي بهم علاقة عمل.. كنا أنهم كانوا يستفيدون من وجودي معهم كابن للبلد.. فأنا دليلهم للمناطق الأثرية.. والأسواق.. كما أنني كنت أذهب ببعضهم إلى مزرعتنا.. وكانت علاقتي بهم قوية. وكالعادة.. عند نهاية عقد أحد الموظفين.. كنا نقوم بعمل حفلة توديع..
وفي أحد الأيام قرر أحد الأطباء البريطانيين السفر إلى بلاده لانتهاء مدة عمله معنا..
تشاورنا في إقامة حفل وداع له.. وكان المكان المحدد هو مزرعتنا... تم الترتيب بشكل عام.. ولكن كان يأخذ جل تفكيري.. ما هي الهدية التي سأقدمها له.. وبخاصة أنني عملت ملازماً له لفترة طويلة..
وجدت الهدية القيمة والمناسبة في نفس الوقت.. هذا الطبيب يهوي جمع القطع التراثية.. وبدون تعب ولا مشقة..
والدي لديه الكثير من هذه المقطع .. فكان أن سألته.. وأخذت منه قطعة تراثية من صنع المنطقة قديماً.. وكان ابن عم لي حاضراً لحوار مع والدي..
وأضاف لماذا لا تأخذ له هدية على شكل كتاب عن الإسلام.. أخذت القطعة التراثية.. ولم آخذ كلام ابن عمي على محمل الجد.. إلا أن الله يسر لي الأمر بدون بذل جهد.. ذهبت من الغد لشراء الصحف والمجلات من المكتبة.. فوجدت كتاباً عن الإسلام باللغة الإنجليزية.
عادت كلمات ابن عمي ترن في أذني.. راودتني فكرة شرائه خاصةً أن سعره زهيد جداً.. أخذت الكتاب.. ويوم الاحتفال بتوديع زميلينا.. وضعت الكتاب وسط القطعة التراثية وكأني أخبئه.. قدّمت هديتي.. وكان وداعاً مؤثراً.. فهذا الطبيب محبوب من جميع العاملين..
سافر صاحبنا.. مرت الأيام والشهور سريعة.. تزوجت ورزقت طفلا..
·   ذات يوم وصلتني رسالة من بريطانيا.. قرأتها بتمهل فقد كانت باللغة الإنجليزية.. مبدئياً فهمت بعض محتوياتها.. والبعض لم أفهمه.. عرفت أنها من صديق قديم طالما عمل معنا ولكنني رجعت إلى ذاكرتي.. اسمه أول مرة أسمعه.. بل وغريب على سمعي (ديف الله) هذا هو اسمه..
أغلقت الرسالة أحاول أن أتذكر صديقاً اسمه (ديف الله) ولكنني عجزت عن تذكر شخص بهذا الاسم.. فتحت الرسالة قرأتها مرة أخرى.. بهدوء انسابت الحروف ببساطة وسهولة.. هذا جزء من رسالته..
الأخ الكريم ضيف الله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. لقد يسر الله لي الإسلام وهداني على يديك.. فلن أنسى صداقتك معي.. وسأدعو لك.. أتذكر الكتاب الذي أهديتني إياه عند سفري.. لقد قرأته ذات يوم وزادت لهفتي لمعرفة الكثير عن الإسلام.. ومن توفيق الله لي أنني وجدت على غلافه عنوان ناشر الكتاب. فأرسلت إليهم أطلب المزيد.. فأرسلوا لي ما طلبت.. والحمد لله شع نور الإسلام في قلبي.. وذهبت للمركز الإسلامي وأعلنت إسلامي.. وغيرت اسمي من جون إلى (ضيف الله) أي إلى اسمك.. لأنك صاحب الفضل بعد لله.. كما أنني أرفق لك صورة من شهادة إشهار إسلامي.. وسأحاول القدوم إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج..
أخوك في الإسلام.. ضيف الله.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أغلقت الرسالة.. بسرعة أعد فتحها.. بدأت أقرأها من جديد..
هزتني الرسالة بقوة.. لنني أشعر بالصدق في كل حرف من حروفها.. بكيت كثيرا.. كيف أن الله هدى رجلاً إلى الإسلام على يدي وأنا مقصر في حقه.. كتاب لا يساوي خمسة ريال يهدي به الله رجلاً..
أصابني حزن.. وفرح.
فرحت أن الله هداه للإسلام بدون جهد مني.. وحزنت كثيراً.. لنني سألت نفسي أين أنا الفترة الماضية عن العاملين معي.. لم أدعهم للإسلام.. لم أعرّفهم بهذا الدين..
ولا كلمة عن الإسلام تشهد لي يوم القيامة..
لقد حادثتهم كثيرا.. مازحتهم كثيراً.. ولكنني لم أحدثهم عن الإسلام لا قليلاً ولا كثيراً.
هدى الله ضيف الله للإسلام.. وهداني إلى محاسبة نفسي وتقصيري في طاعته.. لن أحقر من المعروف شيئاً ول وكتاب بريال واحد فقط..
فكرت قليلاً لو أن كل مسلم أهدى من هم حوله كتاباً واحداً فقط.. ماذا يكون..
لكنني صدمت مرة أخرى.. من هول ما قرأت..
·  بعض الحقائق عن أفريقيا تقول:
-  تم جمع مبلغ 139 ألف مليون دولار أمريكي في أمريكا لأغراض الكنيسة.
- تم تجنيد 3968200 مبشر نصراني خلال نفس السنة..
-  وُزّع من الإنجيل 112564400 نسخة..
-  بلغ عدد محطات الإذاعة والتلفزيون النصرانية 1620 محطة.
هذه الإحصائية مأخوذة من المجلة الدولية لأبحاث التنصير الأمريكية.. العدد 1 مجلد 11 – 1987م.
تساءلت.. أين نحن.. على أقل الأحوال..
- كم سائق لدينا غير مسلم.. وكم خادمة لدينا غير مسلمة..
- كم .. وكم.. ألمٌ تسبقه دمعة.. ولكن يبقى السؤال.. أين العمل .. أين العمل..


 (4) القوت الضائع

قال الحسن البصري: أدركت أقواماً كان أحدهم أشحُ على عُمرةٍ منه على دِرهمة.
 
-----------
 
طفلي الصغير منذ مساء أمس وصحته ليست على ما يرام.. عندما عدت مساء هذا اليوم من عملي قررت الذهاب به إلى المستشفى.. رغم التعب والإرهاق إلا أن التعب لأجله راحة.
حملته وذهبت.. لقد كان المنظرون كثير.. الصمت يخيم على الجميع.. يوجد عدد من الكتيبات الصغيرة استأثر بها بعض الاخوة..
أجلت طرفي في الحاضرين.. البعض مغمض العينين لا تعرف فيم يفكر.. آخر بتابع نظرات الجميع.. آخرون تحس على وجوههم القلق والملل من الانتظار.
يقطع السكون الطويل..صوت المنادي..برقم كذا.. الفرحة على وجه المُنادي.. يسير بخطوات سريعة.. ثم يرجع الصمت للجميع..
·  لفت نظري شاب في مقتبل العمر.. لا يعنيه أي شيء حوله.. لقد كان معه مصحف جيب صغير.. يقرأ فيه.. لا يرفع طرفه نظرت إليه ولم أفكر في حاله كثيراً لكنني عندما طال انتظاري عن ساعة كاملة تحول مجرد نظري إليه إلى تفكير عميق في أسلوب حياته ومحافظته على الوقت.
ساعة كاملة من عمري ماذا استفدت منها وأنا فارغ بلا عمل ولا شغل. بل انتظار ممل.
أذّن المؤذن لصلاة المغرب.. ذهبنا للصلاة.
في مصلى المستشفى.. حاولت أن أكون بجوار صاحب المصحف بعد أن أتمنا الصلاة سرت معه وأخبرته مباشرةً إطلاقاً وهي أيام وليالي تنقضي من أعمارنا دون أن نحس أن نندم..
قال.. إنه أخذ مصحف الجيب هذا منذ سنة واحدة فقط عندما حثه صديق له بالمحافظة على الوقت.
وأخبرني.. أنه يقرأ في الأوقات التي لا يستفاد منها كثيراً أضعاف ما يقرأ في المسجد أو في المنزل بل إن قراءته في المصحف زيادة على الأجر والمثوبة إن شاء الله تقطع عليه الملل والتوتر.. وأضاف محدّثي قائلاً إنه الآن في مكان الانتظار منذ ما يزيد على والنصف..
وسألني..
متى ستجد ساعة ونصف لتقرأ فيها القرآن..
تأملت.. كم من الأوقات تذهب سدى.. كم لحظة في حياتك تمر ولا تحسب لها حساب..
·  بل كم من شهر يمر عليك ولا تقرأ القرآن..
أجلت ناظري.ز وجدت أني محاسب والزمن ليس بيدي. فماذا أنتظر؟
قطع تفكيري صوت المنادي.. ذهبت إلى الطبيب.
أريد أن أحقق شيئاً الآن..
بعد أن خرجت من المستشفى.. أسرعت إلى المكتبة.. اشتريت مصحفاً صغيرا..
قررت أن أحافظ على وقت. فكرت وأنا أضع المصحف في جيبي..
كم من شخص سيفعل ذلك..
وكم من الأجر العظيم يكون للدال على ذلك..


 (5) السعادة

أحسـنت زنك بالأيــام إذ حَسنُت *** ولم تخف سوء ما يأتي بـه القـدر
وسالمتـك الليالي فأغتــررت بها *** وعنـد صفـو الليالي يحدث الكدر

--------
بعد أن أكملت دراستي الثانوية.. تقدمت بأوراقي للالتحاق بالجامعة.
ولكن كان هناك أمر جديد.
فقد تقدم لخطبتي شاب يدرس في أمريكا.. وتمت الموافقة.
·        لابدّ من السفر إلى بلاد الغربة.. فرحت بذلك فرحاً عظيماً. سأعيش في أمريكا.
جل ما يؤرقني.. كيف بهذه السرعة تنازل عني أهلي بل كيف وافقوا على الغربة الطويلة خاصةً أنهم لا يعرفون الرجل من قبل.. وأنا لا أزال في هذا السن..
تمتعت بشهر العسل كما يقولون.. واستقريت في منزلنا الجميل في أمريكا.
مرت الأيام حلوة وجميلة.. شاهدت معظم المناطق في أمريكا.. كان زوجي يحرص على أن أشاهد كل شيء..
وحتى يكون لدي ثقافة عن كل شيء..
لكن أيام الصفاء لم تدُم طويلاً.. كنا حسب تصوري الآن.. في مرحلة مراهقة عقلية.. فقد بدأت حركة المد والجزر في حياتنا.
كنا مهملين في كل شيء حتى في أداء الصلاة.. الشيء الوحيد الذي كنا نحرص عليه.ز أن يكون لدينا ثقافة عن كل شيء..
وامتداداً خلافنا.. يقضي معظم وقته خارج المنزل.. خاصةً في الليل..
لم نرزق خلال تلك السنوات الثلاث بمولود.. لعل هذا ساعد على اتساع حدة الخلاف بيننا أصبحنا نصل أحياناً إلى حافة النهاية.. نهاية حياتنا الزوجية..
استمرت هذه الحالة..
عندما عدنا لزيارة الوطن. لحظ أهلي الضعف والإرهاق علي. قررت أن أصارح والدتي بكل شيء..
بدورها نقلت الصورة كاملة إلى والدي.
أخذني أبي جانباً.. سألني أسئلة كثيرة ودقيقة كلها تدور حول زوجي ومعاملته لي..
وأخيراً مدى استقامته.
بعد مهلة منحنى إياها والدي للتفكير.. طلبت الطلاق.. كنت أتوقع أن يكون الأمر سهلاً.. خاصةً إننا اتفقنا على الطلاق مرات عديدة في أمريكا ولكن زوجي رفض الطلاق إلا بشروط كثيرة.
من أبسطها.. رد المهر كاملاً.. وبعد أخذ ورد.. انتهت الأيام المزعجة.. ومما زاد كراهيتي له.. طلباته عند الطلاق.. على الرغم من أنني ساندته في دراسته.. ودفعت له من مبالغ كانت معي.. بل إن مرتبي كاملاً ثلاث سنوات كان بيده..
على أية حال دُفع له ما أراد.. ودُفع لي ما أردت..
عدت لحياتي القديمة.. تقدمت إلى الجامعة.. وأبديت رغبة في الانضمام إلى قسم اللغة الإنجليزية.. وذلك لإجادتي لها من خلال السنوات التي عشتها في الغربة..
ولكن شاء الله أن أقابل إحدى زميلاتي في المرحلة الثانوية.. بعد السلام الحار.. والسؤال الطويل.. أخبرتها أنني أحمل أوراقي للانضمام إلى قسم اللغة الإنجليزية.
زميلتي لم يبق على تخرجها سمى عام دراسي واحد.. وتدرس في قسم الدراسات الإسلامية.
من خلال وقفتنا البسيطة استطاعت أن تقنعي بالانضمام إلى قسم الدراسات الإسلامية.
فهناك.. كما ذكرت لي المعلومات التي ستستفيدين منها.. كما أنك ستتعرفين على جميع طالبات القسم بحكم معرفتي لهن.. وهناك ما يرضيك من النشاطات اللامنهجية.. من محاضرات وندوات.
وهذا الجانب اللامنهجي.. أعادني إلى مرحلة الطفولة حيث كنت أحب تلك النشاطات.
واتكلت على الله كما قالت لي.. لا تترددي.
بسرعة كبيرة لم أكن أوقعها.. أصبحت عضوة نشطة في هذا القسم.. أصبحت أشارك في إعداد الندوات وفي ترتيبها.. كما أن المجموعة التي كنت معها يطغى عليها جانب المرح.. وهذا ما فقدته منذ ثلاث سنوات.
رجعت لي صحتي.. وعادت الحياة تدب في عيني.. كما يحلو لأمي أن تقوله لي.
·        لا وقت فراغ لدي كما يقال.
فأنا أعد بحثاً.. أو أراجع مقرراتي الدراسية.. وأحياناً أقوم بالتحضير لإلقاء محاضرة على زميلاتي لمدة عشر دقائق..
أصبحت لدي همة كبيرة وعزيمة صادقة.. المجتمع الذي أعيش فيه جعلني لا أنسى الفريضة.. بل تعداه إلى التطوع في النوافل من صلاة وصيام.. حمدت الله أي سير لي الدخول إلى هذا القسم.. حيث الرفقة الصالحة.
قررت مع مجموعة من زميلاتي.. أن نحفظ القرآن..
كان قراراً بالنسبة لي.. يعني أنني مقبلة على مرحلة جديدة.. بدأنا في حفظ القرآن.. كنت متخوفة في البداية أنني لن أستمر.. ولكن الله يسر لي الاستمرار وأعانني على الحفظ بدون مشقة.. كما أنني بدأت استدرك ما فاتني فقررت التركيز على كتب العقيدة والفق..
سبحان الله عندما سافرت لأمريكا كنت أعتقد أنني في قمة السعادة.. ولكنني عرفت أن البعد عن الله ليس فيه سعادة مطلقة.. وإن كان شكل السعادة يلوح.
·   امتد نشاطي إلى بيتنا.. بدأت أختي تحفظ القرآن معي.. خصصت جزءاً من وقتي.. لكي أقرأ على والدتي ما يفيدها.. خاصةً الأحكام المتعلقة بالنساء.. الحمد لله كثرت وتنوعت الأشرطة الإسلامية في بيتنا.. لا أذهب لزيارة أحد إلا ومعي مجموعة منها على شكل هدية. لم أضع مناسبة دون فائدة.
تغيرت حياتي تماماً.. انظر إلى الدنيا بمنظار جديد.. وأنها دار ممر.. وليست دار مقر.
لم يكدر صفو حياتي.. سوى أن زوجي السابق عاد من أمريكا بعد أن أنهى دراسته.
وزارتنا والدته تطلب الصفح ونسيان الماضي والعودة إلى زوجي السابق.. قبلت رأسها وقلت لها إنني نسيت الماضي كله.. وعفوت رجاء أن يعفو الله عنه.
رفضت طلبها ولكنني ودعتها ولم أنس أن أرسل له هدية.. عبارة عن مجموعة من الأشرطة.ز تحث على التوبة ومحاسبة النفس.. غير ما ذكرت لا وقت لدي سوى التفرغ الكامل لدراستي..
نسيت أن أذكر لكم أنه تقدم لخطبتي الكثير.. كان أهمهم بالنسبة لي أخ لإحدى زميلاتي..
رفضت وأخبرتها إنني عاهدت الله أن لا أتزوج حتى أحفظ القرآن كاملا.. وحاولت أن تقنعي.. لكن أخبرتها أن هذه هي آخر سنة دراسية لنا في الجامعة.. وكذلك آخر سنة لأكمل حفظ القرآن.
سكتت ولم ترد عليّ..
بعد عام دراسي كامل.. أنهيت دراستي الجامعية.ز كنت أطمح لأن أعمل معيدة في الجامعة.. ولكن شاء الله.. غير ذلك..
عُينتُ في مدرسة قريبة من منزلنا.. واستمرت نشاطي اللامنهجي.. فوضعت جدولاً للمحاضرات تعده الطالبات.. كما أنني جعلت هناك نشاطاً لحفظ القرآن.
سارت الأمور في المدرسة بشكل مفرح.. كأننا أسرة واحدة..
·        وفي مساء ذلك اليوم..
زارتني زميلتي وأخبرتني.. أنني وعدتها بالزواج بعد حفظ القرآن..
والآن لا عذر لديك..
وافقت.. وتم كل شيء حسب السنة.. لا إسراف.. ولا تبذير.. ولا حفلات..
نِعمَ الرجل.. خُلق.. ودين.. وقيام ليل..
لا تسألوني كيف عشت معه.. كأننا ننتظر بعضنا.. طوال هذه السنين..
قال لي إن الذي جعله يصر على خطبتي.. هو حرصي على حفظ القرآن..
الحمد لله مغير الأحوال.. من أمريكا.. وثقافة كل شيء.. إلى حفظ القرآن..
الحمد لله الذي أدركتني رحمته قبل الفوات...
 


(6) إنذار

تُروعُنــا الجنـائزُ مقبـــلات *** ونلهــو حين تذهـب مدبـــرات
كروعــة ثلةٍ لمغـار ذئـــبٍ *** فلمــا غاب عـادت رائعـــات

-----
عشت مرحلتي الدراسية الأولى مع والدي..
في بيئة صالحة اسمع دعاء أمي وأنا عائد من سهري آخر الليل..
أسمع صوت أبي في صلاته الطويلة.. طالما كنت أقف متعجباً من طولها.. خاصةّ عندما يحلو النوم أيام الشتاء البارد..
أتعجب في نفسي وأقول.. ما أصبره.. كل يوم هكذا.. شيء عجيب.
لم أكن أعرف أن هذه هي راحة المؤمن  وأن هذه هي صلاة الأخيار.. يهبُون من فرشهم لمناجاة الله..
 بعد المرحلة التي قطعتها في دراستي العسكرية.. ها قد كبرت وكبر معي بعدي عن الله..
على الرغم من النصائح التي أسمعها وتطرقُ مسامعي بين الحين والآخر..
عُينت بعد تخرجي في مدينة غير مدينتي وتبعد عنها مسافة بعيدة.. ولكن معرفتي الأولى بزملائي في العمل خففت ألم الغربة على نفسي..
انقطع عن مسامعي صوت القرآن.. انقطع صوت أمي التي توقظني للصلاة وتحثني عليها.. أصبحت أعيش وحيداً.. بعيداً عن الجو الأسري الذي عشته من قبل..
تم توجيهي للعمل في مراقبة الطرق السريعة.. وأطراف المدينة للمحافظة على الأمن ومراقبة الطرق ومساعدة المحتاجين.. كان عملي متجدداً وعشت مرتاحاً.. أؤدي عملي بجد وإخلاص.. ولكني عشت مرحلة متلاطمة الأمواج..
تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه.. كثرة فراغي.. وقلة معارفي.. وبدأت أشعر بالملل.. لم أجد من يعينني على ديني.. بل العكس هو الصحيح..
من المشاهد المتكررة في حياتي العملية الحوادث والمصابين.. ولكن كان يوماً مميزاً..
في أثناء عملنا توقفت أنا وزميلي على جانب الطريق.. نتجاذب أطراف الحديث.
فجأةً سمعنا صوت ارتطام قوي..
أدرنا أبصارنا.. فإذا بها سيارة مرتطمة بسيارة أخرى كانت قادمة من الاتجاه المقابل.. هبينا مسرعين لمكان الحادث لإنقاذ المصابين..
حادث لا يكاد يوصف..شخصان في السيارة في حالة خطيرة.. أخرجناهما من السيارة.. ووضعناهما ممدين..
أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية.. الذي وجدناه فارق الحياة.. عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار..
هب زميلي يلقنهما الشهادة..
قولوا: لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..
لكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء.. أرهبني بالموقف.. وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت.. أخذ يعيد عليهما الشهادة..
وقفت منصتاً.. لم أحرك ساكناً شاخص العينين أنظر.. لم أر في حياتي موقفاً كهذا.. بل قل لم أر الموت من قبل وبهذه الصورة.. أخذ زميلي يردد عليهما كلمة الشهادة.. وهما مستمران في الغناء..
لا فائدة..
بدأ صوت الغناء يخفت.. شيئاً فشيئاً.. سكت الأول وتبعه الثاني.. لا حراك..
فارقا الدنيا..
حملناهما إلى السيارة.ز وزميلي مطرق لا ينبس ببنت شفه.. سرنا مسافة قطعها الصمت المطبق..
قطع هذا الصمت صوت زميلي فذكر لي حال الموت وسوء الخاتمة.. وإن الإنسان يختم له إما بخير أو شر.. وهذا الختام دلالة لما كان يعمله الإنسان في الدنيا غالباً.. وذكر لي القصص الكثيرة التي رويت في الكتب الإسلامية.. وكيف يختم للمرء على ما كان عليه بحسب ظاهره وباطنه..
قطعنا الطريق إلى المستشفى في الحديث عن الموت والأموات.. وتكتمل الصورة عندما أتذكر أننا نحمل أمواتاً بجوارنا..
خفت من الموت واتعظت من الحادثة.. وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة..
ولكن نسيت هذا الموقف بالتدريج..
بدأت أعود إلى ما كنت عليه.. وكأني لم أشاهد الرجلين وما كان مهما.. ولكن للحقيقة أصبحت لا أحب الأغاني.. ولا أتلهف عليها كسابق عهدي.. ولعل ذلك مرتبط بسماعي لغناء الرجلين حال احتضارهما..
·  من عجائب الأيام..
بعد مدة تزيد على ستة أشهر.. حصل حادث عجيب.. شخص يسر بسيارته سيراً عادياً.. وتعطلت سيارته.. في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة..
ترجل من سيارته.. لإصلاح العطل في أحد العجلات.. عندما وقف خلف سيارته.. لكي ينزل العجلة السليمة..
جاءت سيارة مسرعة.. وارتطمت به من الخلف.. سقط مصاباً إصابات بالغة..
حضرت أنا وزميل آخر غير الأول.. وحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله..
شاب في مقتبل العمر.. متدين يبدو ذلك من مظهره.. عندما حملناه سمعناه يهمهم.. ولعجلتنا في سرعة حمله لم نميز ما يقول.
ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا..
سمعنا صوتاً مميزاً..
إنه يقرأ القرآن.. وبصوت ندي.. سبحان الله لا تقول هذا مصاب..
الدم قد غطى ثيابه.. وتكسرت عظامه.. بل هو على ما يبدو على مشارف الموت.
·  استمر يقرأ بصوت جميل.. يرتل القرآن..
لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة.. كنت أحدث نفسي وأقول سألقنه الشهادة مثل ما فعل زميلي الأول.. خاصةً وأن لي سابق خبرة كما أدعي..
أنصتُ أنا وزميلي لسماع ذلك الصوت الرخيم..
أحسست أن رعشة سرت في جسدي.. وبين أضلعي.. فجأة.. سكت ذلك الصوت.. التفت إلى الخلف.. فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد..
ثم انحنى رأسه..
قفزت إلى الخلف..
لمست يده..
قلبه.
أنفاسه..
لا شيء..
فارق الحياة..
نظرت إليه طويلاً.. سقطت دمعة من عيني.. أخفيتها عن زميلي.. ألتفت إليه وأخبرته أن الرجل قد مات.. انطلق زميلي في البكاء.ز أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف.. أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً.
وصلنا المستشفى..
أخبرنا كل ما قابلنا عن قصة الرجل.. الكثير تأثروا من حادثة وقبل جبينه..
الجميع أصروا على عدم الذهاب حتى يعرفوا متى يُصلى عليه ليتمكنوا من الصلاة عليه.
اتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى.. كان المتحدث أخوه.. قال عنه.. أنه يذهب كل اثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية.. كان يتفقد الأرامل والأيتام.. والمساكين.. كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة الدينية.. وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين.. وحتى حلوى الأطفال لا ينساها ليفرحهم بها.. وكان يرد على يثنيه عن السفر ويذكره له طول الطريق.. إنني استفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته.. وسماع الأشرطة والمحاضرات الدينية.. وأنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها..
من الغد.. غص المسجد بالمصلين.. صليت عليه مع جموع المسلمين الكثيرة.. وبعد أن انتهينا من الصلاة حملناه إلى المقبرة.
أدخلناه في تلك الحفرة الضيقة..
·  وجهوا وجهه للقبلة..
عسى الله أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير.. وأن يجعل قبري وقبر كل مسلم روضة من رياض الجنة..


 (7) العـودة

إن تَبق تُفجــع بالأحبـة كلهــم *** وفنــاء نفسِـك لا أبـالك أفجــع

------
سقطت على الأرض مغشياً عليها..
ليست المرة الأولى.. فهي تعاني من إرهاق نفسي متواصل منذ أن تزوجت قبل سنتين..
لقد أخبروها أنه رجل طيب.. وفيه خير..
تستطيعين التأثير عليه لكي يتدارك أمور دينه.. ويحافظ على الصلاة مع الجماعة..
وأنت يا بنيتي.. قد تزوجت أختك الصغرى قبلك.. وأعتقد أن هذا هو الأصلح لك..
وأصرت أمي على هذا الخاطب.. فهو ميسور الحال.. ومن عائلة معروفة.. ومركزه الوظيفي جيد..
مظاهر براقة لا تهمني..
فقد سألت عن الدين.. هذا ما يهمني.. أريد رجلاً صالحاً يعينني على الخير وعلى الطاعة.. إن أحبني أكرمني وإن كرهني سرحني سراحاً جميلاً. فما أكثر ما نسمع من تلك القصص المبكية من ظلم الأزواج ومشاكلهم مع زوجاتهم لقلة الخلق والدين.
كنت أحلم بمن يوقظني للصلاة في جوف الليل..
كنت أدعو الله في ظلام الليل ودموعي تتساقط أن يرزقني الرجل الذي يعينني على الطاعة وأعيش معه على مرضاة الله.. نسير سوياً متجهين إلى الله.. نقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الطيبين..
كنت أحلم بالرجل الذي يربي أبنائي تربية إسلامية صحيحة..
كأنني أقف بالباب أرمقه هو وابني وهما ذاهبان إلى المسجد.. دعوت الله أن يتردد على مسامعي.. قول زوجي..
كم حفظت اليوم من القرآن..
وكم جزءٍ قرأت.. أحلم أنني أقف بطفلي أمام الكعبة وأدعو له.. سأنجب أكب عدد من الأبناء طالما أن في ذلك..
وأنني سأخرج للدنيا من يوحد الله.. طالما حلمت الأحكام الكثيرة ولطالما متعت نفسي بتلك الأحلام.. الحمد لله على كل حال.. احتسبتُ الأجر وصبرت على زوجي.. في البداية كان ينهض للصلاة.ز مع مرور الأيام بدأ يتثاقل..
ماذا تريدين.. الله غفور رحيم..
سأصلي..
الوقت مبكر..
هذا هو الرد السريع عندما أحثه على صلاة الجماعة حتى لا تفوته.. أحس أنه يتغير مع إلحاحي إلى الأفضل.. على الأقل هذه ما أتفاءل به..
كنت أخشى رفقاء السوء فقد حدثني عن بعضهم.. أصبحت أخشى عليه من تأثيرهم.. فكرت في طريقة قد تكون مجدية أكثر من نصحي له.
لماذا لا أعرفه على الشباب الصالح فقد يتأثر بهم..
زوج صديقتي شاب طبيب وملتزم وصالح إن شاء الله.ز أسرعت للهاتف.. رحبت صديقتي بالفكرة وشجعت زوجها.. أخبرته أن صديقتي ستأتي ومعها زوجها.. زارتني صديقتي هي وزوجها..
قلبي يرجف من الفرح.. عس الله أن يلقي في قلبه حبه. كلما طال وقت الزيارة كلما زادت دقات قلبي..
·  ودعت زميلتي عند الباب..
رجعت إليه بسرعة..
جلست أضغط على أصابعي بقوة.. انتظره يقول شيئاً.. نظرت في عينيه.
فقال.. لقد كان لطيفاً وذو خلق عالٍ.. ولكنه لم يبد حماساً للقائهم وللذهاب لهم كما وعدهم برد الزيارة.. حاولت بشتى الوسائل والسبل.. أن أعينه على المحافظة على الصلاة في المسجد.
الآن إلحاحي زاد بعد أن أنجبت منه ابناً.. أسهر الليالي الطويلة لوحدي..
هو يقهقه مع زملائه وأنا أبكي مع طفلي..
أكثرت من الدعاء له بالهداية..
قررت أن أصلي صلاة الليل في غرفتنا بجواره عسى أن يستيقظ قلبه.. أحياناً يستيقظ ويراني أصلي.. وفي النهار ألاحظ عليه أنه يتأثر من صلاتي وطولها..
مساء ذلك اليوم أخبرني أن أجهز له ثيابه.. سيسافر.. إلى المدينة الفلانية في رحلة عمل.. لا أعرف صدقه من غيره.. غالباً يسافر ولا يتصل بنا.. أحياناً أخرى يتصل ويترك رقم غرفته وهاتفه.. إذا تصل عرفت أين هو.. لكن أحياناً كثيرة لا أعلم أين يذهب.. ولكني أحسن الظن بالمسلم إن شاء الله.
في مدة سفرته سأخصه بالدعاء.. في اليوم التالي لسفره.. اتصل بنا.. هذا رقم هاتفي.. الحمد لله.. اطمأننت أنه في المملكة..
انقطع صوته ثلاثة أيام.ز وفي اليوم الرابع..
أتى صوته.. لم أكد أعرفه،، صوت حزين.. ما بك.. سأعود الليلة إن شاء الله..
في تلك الليلة لم أنم من كثرة بكاءه.. ماذا جرى لك.. أخذ في البكاء كالطفل.. ثم تبعته في البكاء وأنا لا أعلم ماذا به.. وبعد فترة سادها الصمت الطويل.. أخذ ينظر إليّ.. والدموع تتساقط من عينيه..
مسح آخر دمعة ثم قال: سبحان الله زميلي في العمل..
·   سافرنا سوياً لإنجاز بعض الأعمال.. ننام في غرفتين متجاورتين لا يفصلنا سوى جدار واحد.. تعشينا ذلك المساء.. وعلى المائدة.. تجاذبنا أطراف الحديث.. ضحكنا كثيراً.. لم يكن بنا حاجة للنوم.. تمشينا في أسواق المدينة.. لمدة ساعتين أرجلنا لم تقف عن المشي.. وأعيننا لم نغضها عن المحرمات.
ثم عدنا وافترقنا على أمل العودة في الصباح للعمل لإنهائه.
نمت نوماً جيداً.. صليت الفجر عند الساعة السابعة والنصف..
اتصلتُ عليه بالهاتف لأوقظه.. لا يدر.. كررت المحاولة.. لعله في دورة المياه.. شربت كوباً من الحليب كان قد وصل في الحال.. اتصلت مرة أخرى.. لا مجيب..
الساعة الآن الثامنة وقد تأخرنا عن موعد الدوام.. طرقت الباب.. لا مجيب.. اتصلت باستعلامات الفندق لعله خرج.. ولكنهم أجابوا أنه موجود في غرفته..
لابدّ أن نفتح لنرى..
أصبح الموقف يدعو للخوف.. احضروا مفتاحاً احتياطياً للغرفة.. دلفنا الغرفة..
أنه نائم..
يا صالح..
ناديته مرة أخرى..
رفعت صوتي أكثر وأنا اقترب منه..
نائم ولكنه عاض لسانه..
ومتغير اللون..
ناديته..
اقتربت أكثر..
لا حراك..
التقرير الطبي يقول: أنه مات منذ البارحة بسكتة قلبية مفاجئة.. أين الصحة.. والعافية.. والشباب.. البارحة كنا نسير سوياً.. لم يشتكِ من شيء.. ليس به مرض ولم يشتك من مرض أبداً..
أعدت حساباتي..
هذا موت الفجاءة لا نعرف متى سيأتي.. بل بدون مقدمات..
سألت نفسي لماذا لا أكون أنا صالح.. ماذا سأواجه الله به.. أين عملي.. ماذا قدمت.. لا شيء مطلقاً..
عرفت أنني مقصر في حق الله..
 سكت زوجي.. بكى وأبكاني.. وبكينا سوياً..
حمدت الله على هذه الهداية.. عشنا بعدها كما كنت أحلم أو أكثر..
في الأسبوع التالي..
شكر لي جهدي معه وحرصي على هدايته.. وأخبرني أننا سوف نذهب لأداء العمرة والمكوث في مكة نهاية الأسبوع.. لنبدأ صفحة جديدة مع الاستقامة..
أكاد أطير من الفرح.. فأنا لم أذهب إلى مكة منذ أن تزوجت..
·        ضُحى ذلك اليوم ذهبت إلى الحرم.. الإعداد قليلة.. فترة صيف وليس هناك زحام..
حقق الله ما كنت أحلم به..
وقفت بابني أمام الكعبة.. لكني لم أستطع الدعاء له لأنني بكيت وبكيت.. حتى تقطع قلبي..
في الغد.. إن شاء الله اليوم سنطوف طواف الوداع وسنغادر هذه الأرض الطاهرة..
بعد طواف الوداع.. عدنا من الحرم لنستعد للسفر ما هذا الذي معك.. هذا كتاب ابن رجب جامع العلوم والحكم.. هذا كتاب ابن القيم زاد المعاد في هدي خير العباد.. هذا كتاب الوابل الصيب لابن القيم.. هذا كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.. وهذا القرآن الكريم بحجم صغير.. لن يفارق جيبي..
·         أيتها الحبيبة..
هذه معالم في طريقنا إلى الدار الآخرة..
ثم أخذ يردد وهو يحمل الحقائب.
(ربي اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء.. ربي اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب).


(8) دعاء

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته *** يبقى الإله ويودي المالُ والولد

--------
 
تزوجت منذ ما يزيد على سبع سنين..
الحمد لله كل ما أنشده – من وجهة نظري – وجدته.. فأنا مستقر في عملي.. مستقر في زواجي..
لا أشكو إلا الملل.. فأنا وزوجتي لم نرزق أطفالا.. وبدأ الملل..
وكثرت زيارات الأطباء..
كل جهد أتقد أنني بذلته..
سافرت للداخل والخارج..
عندما أسمع عن طبيب قادم متخصص في العقم.. أحجز لديه موعداً..
التحاليل كثيرة والأدوية أكثر..
·        ولكن لا فائدة..
أصبح أكثر حديثنا أنا وزوجتي في الطبيب الفلاني
وماذا قال.. وماذا سنتوقع..
التوقعات تستمر لمدة سنة أو سنتين.. فمرحلة العلاج طويلة..
منهم من أخبرني أن العقم مني..
فأمسكت بيده..
وعبرت به الجزء الأول من الطريق.. ووقفنا في المنتصف.. ننتظر خلو الشارع في الجهة الأخرى من السيارات..
ووجدها فرصة ليسألني..
بعد أن دعا لي بالتوفيق والصحة..
هل أنت متزوج؟
فأجبته بنعم..
فأردف قائلا..
ألك أبناء..
فقلت له لم يقدر الله ذلك..
منذ سبع سنين ونحن ننتظر الفرج..
عبرنا الطريق.
ولما أردت أن أودعه قال لي.
يا بني لقد جرى لي ما جرى لك وأخذت أدعو في كل صلاة.. (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين)
والحمد لله لي من الولد سبعة فضغط علي يدي وقال: لا تنس الدعاء..
ولك أكن أحتاج إلى توصية..
فقد وجدت مفقوداً لي..
أخبرت زوجتي بما حدث لي..
وتجاذبنا الحديث..
أين نحن عن الدعاء كل شيء بحثنا عنه وجربناه..
ولك طبيب نسمع به طرقنا بابه..
·        فلماذا لا نطرق باب الله؟
وهو أوسع الأبواب وأقربها..
تذكرت زوجتي أن امرأة مسنة قد قالت لها منذ سنتين..
عليك بالدعاء..
ولكن كما قالت زوجتي..
كان في ذلك الوقت لدينا مواعيد لا حد لها مع الأطباء..
أصبحت مراجعاتنا للأطباء مراجعة عادية.
بدون تلهف وبدون قلق..
مراجعات عادية..
 نبحث عن علاج محدد فقط..
يكون سبباً من الأسباب..
وتوجهنا إلى الله بقلوبنا..
في الصلوات المكتوبة وفي جوف الليل..
تحرينا أوقات الإجابة..
ولم يخب الظن..
ولم نُرد.
بل فتح الله باب الإجابة..
وحملت زوجتي..
ووضعت طفلة..
تبارك الله أحسن الخالقين..
لن نخف الفرح ولا السرور..
ولكننا الآن نردد.. (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً).


 (9) لمن كان له قلب

مازال يلهَجُ بالرحيل وذكـــره *** حتى أنــاخ ببـابـه الجَمـــال
فأصـابه متيقضـاً متشمـــراً *** ذا أهبــهٍ لم تلهــــه الآمـال


------
لازلت أتذكر وأنا طفل صغير..
أنني أدخُلت المستشفى لمدة أسبوع من جراء برد أصابني.. وعند خروجي سمعت الطبي يخبر والدي بأن صحتي الآن جيدة ولكن قد يكون لهذا المرض تأثير في المستقبل.
مضت سنين طويلة..
أصبحت شاباً ثم أباً..
أحياناً أشعر بالتعب والإرهاق من أقل مجهود أبذله..
ذهبت إلى المستشفى لإجراء فحوصات كاملة..
تبين أن لدي ضعف في صمامات القلب..
وإن هذا الضعف من جراء برد أصابني في فترات سابقة أدى إلى روماتيزم في القلب..
حاولت أن أقنع الطبيب بعلاج أو راحة.. تغني عن العملية.. ولكن أ×رني..
·        أن حاجتك إلى العملية ستكون بعد عدة شهور..
 وستتأكد من ذلك بنفسك..
وفعلاً بعد عدة شهور.
بدأ الضعف ينتابني والإرهاق يبدو عليّ..
وقررت الرضى بقضاء الله وقدره وأن أسلم أمري إلى الله.. بعد إجراء فحص شامل وما يتبعه من إجراءات..
ثم أخذ موعد لكي أحضر للمستشفى للإقامة وذلك قبل موعد إجراء العملية بيوم..
وكان ذلك..
بدأت زيارة الأقارب في اليوم الأول..
كنت مرتاح البال مطمئن الخاطر..
جلست مدة تزيد على ساعة مع الطبي الجراح الذي سيقوم بإجراء العلمية.
في الليلة التي سبقت موعد العملية.
نمت نوماً هادئاً.
لم أفكر في شيء مطلقاً..
ومع آذان الفجر استيقظت..
سمعت الأذان..
وتردد صداه في داخلي..
نز كياني..
طرقني هاجس..
تغير هدوئي..
لا أعرف ماذا جرى لي..
العملية صعبة..
ربما أن هذا آخر أيامك في هذه الحياة..
ربما هذا آخر أذان تسمعه في حياتك..
وأخذت تتجاذبني الهواجس من كل جانب..
أين كنت فيما مضى..
سؤال جعل الدمع ينهمر من عيني..
مرت حياتي الماضية كحلم..
أين أنا عن الآخرة..
ها هو الموت قد اقترب..
وحين رفعت بصري..
فإذا بالممرض يقف على رأسي..
ما بك..
لم أجبه..
ليس لدي جواب..
لكنه لاحظ اضطرابي وقلقي.. وربما أنه يتوقع ذلك فقد كان يحمل بيده إبرة منومة..
سلمت يدي..
وأنا أعلم أنني سألم قلبي للجراح..
وقبل ذلك كله..
سيُفتح صدري..
وسيتوقف قلبي عن النبض طوال مدة العملية..
وعند الانتهاء من العملية..
سترسل شجنة كهربائية لتنشيط القلب وإعادته مرة أخرى للنبض..
وفي حالة عدم الاستجابة..
ستكرر الصدمة الكهربائية مرة ثانية..
بعدها سأحمل على الأعناق..
معرفتي بكل التفاصيل هي التي جعلتني أرى الحياة هينة ورخيصة..
كيف أنني فرطت في عمري..
غفوت بعد ذلك لحظات من أخذ الإبرة..
علمت فيما بعد..
أن الجراح عمل في قلبي لمدة ثمان ساعات متواصلة..
حمدت الله أن قلبي استجاب للصدمة الكهربائية الأولى..
·        بعد خروجي من المستشفى..
كل يوم آخذ في مراجعة أيامي..
أتذكر تلك اللحظة التي انهمر الدمع فيها وأنا على سرير الموت..
كيف سأواجه الله..
وبماذا..
وكلما تذكرت تلك اللحظة..
ازددت طاعةً وقرباً من الله..
وكلما جذبتني نفسي للتقصير والكسل..
تذكرت ذلك الموقف..
حمدت الله أنني عدت للحياة من جديد..


 (10) الباب المفتوح

ولما قســا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلتُ رجـائي نحـو بابك سُلما

-------
 
على الرغم من أنني كنت مشتغلاً بدراستي الجامعية إلا أن لدي بعض الوقت أقضيه في مزاولة هوايتي المفضلة – كما يقال – وهي المراسلة..
فقد اشتركت في مجلة دولية للمراسلة.. وكانت لي علاقات مع أصدقاء كثيرين في أنحاء العالم فقد كنا نتبادل الصور والطوابع.
وفي نهاية السنة الثالثة الجامعية وقبل اقتراب العطلة الصيفية.. فكرت في أن أسافر لعدة دول..
أولا: أترف على تلك الدول..
ثانياً: أتعرف على الأصدقاء الذي لي علاقة ببعضهم منذ سنتين أو أكثر..
من الناحية الاقتصادية..
الموضوع بالنسبة لي سهل حيث أنني لن أصرف مبالغ كثيرة.. سأحل ضيفاً على الأصدقاء لمدة يومين أو ثلاثة.. إلى أسبوع..
ومن جهة أخرى سيقوم الأصدقاء بتعريفي على الأماكن الأثرية والمواقع السياحية.. فسأكون محفولاً مكفولا..
نظمت خط سير رحلتي من المملكة فقررت أن أزور فرنسا أولا بعد ذلك أغادر إلى أسبانيا ثم إلى المغرب ثم إلى مصر وأخيراً أعود إلى بلادي..
وخط سيري هذا رتبته مع العديد من الأصدقاء الذين في هذه الدول ورحبوا بزيارتي.. كما أنني لم أرتبط بحجز للسفر.. بل تركت الأمور حسب ارتياحي في كل دولة..
·   أنهيت العام الدراسي.. ونجحت والله الحمد بتفوق.. أخبرت أهلي بسفري.. لم يكن لديهم ممانعة في ذلك.. أحضرت آلة تصوير وبعض الأوراق الضرورية..
كما أنني لم أنس عناوين وهواتف الأصدقاء أقنعت نفسي أنني سأسافر للسياحة.. لا للمظاهر والبهرجة.. لذا اشتريت من الملابس أبسطها.. وحملت من المال ما يكفيني..
لغتي الإنجليزية لم تساعدني في محطتي الأولى حيث يتكلم الشعب الفرنسي اللغة الفرنسية ولكن عندما استقلت سيارة أجرة من المطار إلى مدينة باريس..
عرف أن اللغة الإنجليزية يتحدثها أصحاب الفنادق والمحلات الكبرى..
نزلت في فندق متواضع وكان الجو بارداً.. وملابسي يبدو أنها لن تقوم بالواجب.. فجسمي بدأ يرتعش من البرد.. الليلة الأولى مضت.
وسرني أنني عندما اتصلت على صديقي وكان في مدينة بعيدة عن باريس وأخبرته بقدومي.. أطهر لي السرور وأخبرني أنه سينتظرني غداً عند محطة القطار في مدينته..
في الغد حملت حقيبتي.. وركبت القطار..
ولا شك أنني عاتبت نفسي لكثرة التقاطي للصور.. خوفاً من نفاد الأفلام التي معي..
ولكن المناظر الطبيعية.. تأسرك بجمالها..
قبل وصول القطار بفترة..
أخرجت صورة صديقي الفرنسي أتفحصها.. لكي أتعرف عليه.. فأنا لم أره ولم يرني من قبل..
لم أجد صعوبة عند توقف القطار ونزولنا في التعرف على صديقي..
سار بنا إلى منزله.. وكان يتلكم الإنجليزية.. لغة المراسلة بيننا..
قضيت أياماً جميلة عندهم.. امتدت لخمسة أيام.. ثم بعد أن شاهدت مدينته وزرت مناطق السياحة فيها..
سافرنا سوياً إلى مدينة أخرى مكثنا فيها يومين ثم عدنا إلى باريس معاً وأمضينا فيها ثلاثة أيام عند أحد أصدقائه..
·        بعدها غادرت إلى ألمانيا..
نفس مشكلة اللغة من جديد فالألمان لا يتكلمون إلا اللغة الألمانية.
في ألمانيا ارتحت أكثر لأن صديقي يملك سيارة.. وهذا ساعدنا على حرية الحركة وإن كان أفقدنا بعض المتعة من السفر في القطار والرحلات الجماعية..
على أية حال.. مكثت في ألمانيا لمدة أسبوع وكان صديقي يمضي إجازة مثلي.. فلم نُقم في منزلهم سوى يوم واحد.. ومن ثم أخذنا في التجوال في ألمانيا.. بل إننا قطعنا مسافة تزيد على خمسة آلاف كيلو متراً من الطرق.. وهذا كلفنا ثمن شراء وقود السيارة.. وكان هذا الثمن مناصفة بيننا..
رأيت ألمانيا أكثر من فرنسا.. كما أن صديقي الألماني وضعه المادي جيد.. وله أقارب في مناطق متفرقة من ألمانيا.. وإن كان أقاربه لم يقدموا لنا شيئاً يذكر..
·        غادرت ألمانيا إلى أسبانيا وقد خططت لتكون الإقامة أطول فيها..
دمعتك في أسبانيا تسبق نظرك..
ماذا ترى بالأندلس.. ألم تسمع قصيدة الرثاء في سقوط الأندلس..

لكل شيء إذا مـا تـم نُقصــان *** فلا يُغــر بطيب العيــش إنسـان
هي الأمـور كمـا شاهدتها دولً *** من سـره زمـُن ساءته أزمــــان

يعتصر قلبك ويعجز لسانك.
اتصف الآثار.. عظمة في الدولة.. وعظمة في البناء.. هذا مآله..
كلما دخلتُ مسجداً اهتز قلبي..
كم من الركع ذهبوا.. كم من العباد دلفوا..
والناس مشغولة..
هذا الفسيفساء.. وهذا عقد.. وهذا.. كأن الإسلام مباني..
على الرغم من أنني أزور المسجد المجاور لنا إلا قليلاً.. لكن مساجد الأندلس تختلف..
بل كم مرة دخلت مسجد الحي ولم يهتز في جفن.. وأنا داخل للصلاة..
والآن تهتز جوانحي وأنا سائح.. لا مصل ولا عابد...
حدثني صديقي الأسباني عن عدل المسلمين عندما كانوا هنا.. وحدثني عن معلومات تاريخية..
لا أعرف صحتها من خطئها.. كلما هنالك أنني أحرك رأسي عند نهاية كلامة.. لا أجد جواباً..
ولكن قلبي يهتز..
يتحدثون عن التاريخ الإسلامي.. تاريخ آبائي وأجدادي.. ولا أعرف عنه شيئا.. بل إنني أفكر.. هل أنا من أحفاد من فتح الدنيا..؟ غادرت الأندلس وأنا حيران بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى..
وصلت بطريق البحر إلى المغرب..
ثم سافرت بالحافلة إلى قرية صديقي المغربي وكانت بالقرب من الحدود الجزائرية.. أقبلنا على القرية.. قرية وادعة في وسط الصحراء.. تذكرني بقريتي.. لم نحتج للعنوان..
أين بيت جابر.. الكل يعرفه.. وجه غريب.. الكل ينظر إليّ.. أخذني أحدهم عندما عرف أنني قادم من أرض الحرمين.. حمل حقيبتي بإصرار عجيب..
طرقنا الباب.. هذا والد جابر.. لم أعط فرصة لأن أعرف نفسي..
هذا قادم من مكة..
احتضنني.. تفضل.. حفاوة بالغة.. أخجلتني.. لقد كانوا ينتظرون قدومي بشوق منذ أسبوع. أعدوا لي الحفلات كما ذكروا..
بعد شرب الشاي.. وضعوا لي غرفة مرتبة..
·        في المساء..
قالوا إن أهل القرية يريدون أن يروك.. (ماذا...)
يرونني.. وضُعتُ على المنصة في الحفلة.. وتكلم مسئول الحفل.. فرحب بي ترحيباً حاراً.. وكان الحفل يضم أغلب أهل القرية إن لم يكن كلهم.. رجالاً.. ونساءً وأطفالاً..
بعدها تحدث إمام المسجد عن فضل مكة المكرمة والمدينة المنورة.. ورحب بي..
·        وكانت المفاجأة الصاعقة لي..
يتحدث إليكم القادم من أرض الوحي من مهبط القرآن الكريم من أرض مكة والمدينة.. كنت قبل ابتسم عندما تحدثوا.. ولكن عندما طلبوا مني الحديث..
تغير وني.. ارتعدت فرائصي.. أتعقد لساني..
لم أتعود أن أتحدث في جمع كهذا.. ثم ماذا أقول.. وأنا طالب الاقتصاد.ز لا معلومات شرعية أو ثقافية لدي..
ولكن الله يسر.. فقد تحدثت إليهم عن الحرم والكعبة.. والحج.. وتكلمت كثير عن الحج فهو موضوع بسيط درسته منذ القدم ولدي معلومات سنوية متجددة من خلال الإعلام خلال موسم الحج..
ودعوت الله يحجوا إلى مكة..
فكان أن تعالت الأصوات والبكاء.. والتأمين..
يعلم الله أنني خفت من الموقف خوفاً من الله.. بدأت أتحدث بشكل منفعل وكأنني أخاطب نفسي بالتوبة.. خنقتني العبرة وأنا أتحدث..
فبكيت.. سكت الجميع برهة.. وأنا أصابني ذهول من نفسي.. كأني في حلم عجيب..
قام الجميع يسلمون عليّ ويتحدثون بكلام لا أفهمه.. نصفه بكاء ونصفه الآخر بلهجة محلية..
بعد هذا المشهد وكأنني أشاهد تمثيلية وأنا بطلها.. دُعينا إلى العشاء.. وكان عشاء يكفي لجميع الحاضرين.. لكنني لم أكن أتلذذ بالأكل..
في داخلي شيء لا أعرفه..
ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب على نفسي..
وبكيت..
بل إنني وضعت وجهي على وسادتي.. حتى ابتلت من الدموع حاولت أن أخفض صوتي حتى لا يسمعني أهل البيت..
لا أعلم متى توقفت عن البكاء.. ولكن النوم غلبني وأنا أبكي.. ولعل عناء السفر ساعدني على النوم.
طُرق الباب علي..
صلاة الفجر..
خرجت إلى المسجد.. وصليت بخشوع قلب.. وبكيت في الصلاة.
أصبحت شارد الذهن.. لا أعلم ما أصابني.. لا أعلم كيف قضيت أيامي.. لكن ليالي كانت بكاء وكان الشرود بادياً علي في النهار..
قررت أن أعود إلى بلادي..
رغم إصرارهم على المكوث.. ولكنني عزمت على العودة.. وكان خط سيري إلى جدة.. انتقلت من جدة إلى مكة.. ومكثت أسبوعاً في الحرم.. لا أخرج إلا لحاجة ضرورية..
بدأت أقرأ القرآن بتمعن.. أصلي بخشوع.. أطوف بطمأنينة..
·        أين أنا عن كل هذا.. أين السنين الماضية..
لم أستطع أن أراجع حساباتي.. لأنه يغلبني البكاء.. والندم الشديد.. كنت إذا تفكرت في الماضي..
أفتح المصحف وأقرأ.. دموعي لا تفارقني.. أين هذه الدموع السنين الماضية..
لا أعلم..
هدأ روعي تلك الدروس التي تقام في الحرم..
اشتريت كتاباً بعنوان: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) وآخر عنوانه: واحات الإيمان لعبد الحميد البلالي.
وقبل هذا وذاك..
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب..


(11) حامل المسك

قيل لعبد الله بن عمر: توفى فلان الأنصاري قال: رحمه الله، قالوا ترك مائة ألف. قال: لكن هي لم تتركه.
 

--------
 
أصابته ضائقة مالية شديدة تردد أوضاعه.. وقل ما في يده.. وتفرق أصحابه..
يتذكر أنه منذ عشر سنوات قدم استقالته من وظيفته.. تحول إلى الأعمال الحر.. تغيرت أحواله بعد الاستقالة.. كثرت أمواله.. انتقل إلى فلة كبيرة.. تزوج المرأة الثانية.. أسفاره لا تعد.. أنغمس في الملذات والمحرمات بدون حد.. يسمع الأذان.. ولا يبعد المسجد من مكتبه سوى أمتار محدودة ولا يذهب للصلاة.. بل إن له فترة طويلة ما سجد لله سجدة.. مشغول لا وقت لديه..
في بيته كالحيوان.. يأكل ويشرب وينام.. حتى تربيته لأولاده.. لم يسألهم يوماً هل يعرفون الصلاة أم لا.. في أمواله يتساوى لديه الحلال والحرام. لا يهمه الوسيلة.. المهم النتيجة.. فهذه قاعدته التجارية..
·   ولكن.. خلال السنتين الماضيتين.. تردت الأمور التجارية.. بدأ يحاول المستحيل حتى يحافظ على أعماله وأرباحه السابقة.. ولذلك بدأت أعماله تأخذ طابع الفوضى.. كالغريق يريد النجاة..
بدأ أصحاب الربح السريع يزينون له هذا المشروع.. وذاك المشروع.. هذا المشروع فشل ولم ينجح.. وهذا يساوي نصف ما دفع فيه.. خلال السنتين كثر الدائنون.. وكثرت مشاكله.. تذكر كيف كان قبل الاستقالة من الوظيفة.. الآن مصروفاته باهظة ودخله قل.. بدأ يأخذ القروض من البنوك..
خلال سنة واحدة تراكمت عليه الديون وعجز عن السداد.. انتقل إلى مرحلة جديدة في حياته.. مرحلة المطالبات في المحاكم ولدى الحقوق والشرطة.. أصبح عمله فقط محالة إرجاء حقوق الدائنين إلى وقت آخر.. مرت الشهور.. وحلت الديون.. وبدأت ملمح الشجون.. تارة بالتهديد والوعيد.. وتارةً بتقديم الشكاوي.. هذا ما فعله الدائنون..
باع جميع ما يملك.. فتله.. سياراته.. أراضيه.. أملاكه التجارية.. سدد الجزء الأكبر..
·   تبقى جزء من الديون أمهله أصحابها رأفةً به.. انتقل إلى بيت صغير جمع فيه زوجته وأبناءه العشر.. السائق والخادمة لا وجود لهما عنده.. الليل يقضيه في هموم وغموم..

في وسط هذه المشاكل خطرت في باله زيارة صديقه محمد.. سوف يساعده بمبلغ من المال.. فهو صديق طفولته.. ورفيقه في الوظيفة..
هل يذهب إليه.. أم لا.. على الرغم من أن محمد عندما زاره قبل سنتين تضايق من المظاهر البراقة.. ومن أصوات الموسيقى والصخب في بيته.. ولكنها الحاجة..
صمم واختار وقتاً مناسباً.. أنه وقت العصر من نهار الغد.. في منتصف العصر لبس ثوبه..
جرس الباب يطرق.. من.. (قولوا غير موجود) أنه صاحب البيت يريد الإيجار.. أين أبوكم.. غير موجود.. اضطر أن يتأخر نصف ساعة حتى يبتعد صاحب البيت عن الباب..
خرج على عجل وركب سيارته.. اتجه إلى منزل محمد.. نفس البيت القديم إذ لم يغيره.. وصل إلى بيت محمد بعد آذان المغرب مباشرةً.. من بالباب.. أنا صالح.. أين محمد.. لقد ذهب إلى المسجد وسيعود بعد الصلاة.. ركب سيارته.. اطرق برأسه.. من العيب أن ينتظر في السيارة والناس يمرون بجواره ذاهبين للمسجد.. ثم ماذا لو خرج محمد ووجده لم يصل مع الجماعة.. ثم أين يذهب..
لست على وضوء.. سأهذب للصلاة ها هو المسجد..
توضأ ثم ذهب للمسجد.. أدرك الركعة الثانية من صلاة المغرب.. بعد الصلاة قام أحد المشائخ وأمسك بمكبر الصوت..
بعد أن أثنى على الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، .. فق أريد من وقتكم خمس دقائق.. بدأ يتحدث عن الطاعة.. وإنها سبب الحياة السعيدة ألم تسمعون قول الله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً) وتطرق لاستقامة الإنسان في الحياة.. وعدد بعض الفوائد الاتجاه إلى الله.. وذكر الرزق.. رفعت رأي لأنظر إليه فهذا ما يهمنى.. تابع تفسير قول الله تعالى: ومن يتق اللهَ يجعل له مخرجاً ويرقه من حيث لا يحتسب) فذكر أن الزرق يأتيك من أبواب لا تطرقها ولا تتوقع أن يأتيك منها.. اكمل الخمس دقائق ووفى بوعده..
وقلت في نفسي ليته أخلف بوعده فحديثه دخل قلبي.. أين أنا من هذه الآيات والأحاديث.. لقد كنت تائهاً لم أعرف الله إلا في هذه الشدة.. الحمد لله أنني عرفته..
آثار في نفسي شجوناً كثيرةً.. فأنا منكسر النفس من الناحية المادية.. وأثارني لقوله أن هذه أسباب المعاصي.. فتذكرت غفلتي..
دمعت عيني.. وتنهدت.. خرجت من المسجد.. ها هو محمد.. دخلنا إلى منزله الله أكبر صديق عمر.. بمعنى هذه الكلمة.. هش لي ورحب بي في وقت هرب فيه كل من حولي.. كيف أولادك.. كيف صحتك.. ما هي أخبارك..
·   يا محمد لا تستعجل.. سأخبرك بكل شيء.. طال حديثي وفصلت له كل شيء.. بعد أن انتهيت.. أجابني جواباً أسمعه لأول مرة في حياتي.. هذه رحمة من الله لك..
لقد أكلت من الحرام أكثر من الحلال. وتركت واجباتك الدينية.. وابتعدت عن الله.. لعل في هذا أيقاظ لقلبك.. لتعرف أن المادة لا تعني شيئاً.. بل سيحاسبك الله كما في الحديث يسأل المرء عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به..
ولكن الحمد لله على كل حال.. كم تبقى من ديونك.. سأكفلك في جميع ما تبقى.. وهذا المنزل المجاور لي اشتريته منذ خمس سنين ولقد خرج المستأجر منذ شهرين.. وحلف عليّ أن أسكن به حتى يسر الله أمري.. احتضنته وأنا أودعه..
رجل صالح بمعنى الكلمة.. على خلق ودين..
بعد أسبوع سكنا بجوار محمد.. له مجلس كل يوم اثنين مع بعض الاخوة يقرؤون في بعض الكتب الدينية.. بدأ أبنائي يحفظون القرآن في المسجد مع أولاده.. بدأت أشعر بطعم الحياة.. بدأت أموري تتحسن.. والأهم من ذلك ديني.. وبيتي.. بعد صلاة الفجر أجلس في المسجد حتى تشرق الشمس..
لقد أشرقت شمس الإيمان في داخلي..


(12) الزمن القادم

هــذا توفى النفوسُ مـا كسبـت *** ويحصـد الزارعـون ما زرعــوا
إن أحسنــوا أحسنـوا لأنفسهــم *** وإن أســاءوا فبئــس ما صنعوا

-------
اشتعل الرأس شيباً..
ها قد شارفت على الخميس..
على الرغم من عشقي للقراءة..
إلا أن الوقت أخذ يضيق بي..
أصبحت مباهج الدنيا تأخذ متعة القراءة مني..
هذا ابن قادم وذاك حفيد لا تمل رؤيته..
حياة تسير على ما أتمناه.
لا يكدر صفوها شيء..
نهاية يوم الخميس حانت..
بعد يوم طويل.. حافل بالزيارات والمرح..
ودعتُ أبنائي وبناتي وأحفادي..
صرخ هاجس في داخلي..
هذه الدنيا عجب..
اجتماع وفرقته..
سيرحل الجميع..
وسيودعون ويودعون..
ستبقى وحيداً..
ما هذه الأفكار..
بسرعة.. تلفت يمنةً ويسرةً..
مجموعة من الكتيبات ذات الحجم الصغير دائماً تقع تحت نظري..
لا شك أن ابنتي الصغرى هي التي وضعتها..
فهي تهديها إلي بين حين وآخر وتُحثّني على قراءتها..
كتاب أذكار الصباح والمساء..
كتاب زاد المسلم اليومي..
ماذا بعد..
هنا كتيب صغير..
لا يتجاوز أربع صفحات..
لا يحتاج إلا لأربع دقائق قراءة..
تناولته.. بسرعة استكملت قراءته..
أصابني الدوار..
هممت بصوت خافت..
لا أغسل..
ولا أكفن..
ولا يُصلى علي..
ولا أدفن مع المسلمين..
ماذا بعد..؟
أنا ابن الخمسين..
هكذا ستكون نهايتي..
لا..
بل هناك المزيد سأعيد لكم القراءة مرة أخرى..
ولكن بالتفصيل..
الكتاب بعنوان:
حكم تارك الصلاة [3]..
خلاصته..
أن تارك الصلاة كافر..؟
أبعد هذا العمر.. أوصف بذلك..
صوت بعيد..
ولَم لا؟؟
ألست تارك الصلاة من أحكام.
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج، فإن عقد له وهو يصلي، فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة.
ثانياً: أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة.
ثالثاً: أن هذا الرجل لا يصلي إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته، لماذا؟
لأنها حرام ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها.
رابعاً: أنه لا يحل له أن يدخل مكة أو حدود حرمها.
خامساً: أنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث.
سادساً: أنه إذا مات لا يُغسل ولا يكُفن ولا يُصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين إذًا ماذا يصنع به؟
·   يخرج به إلى الصحراء ويحفر له ويدفن بثيابه لأنه لا حرمة له. وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميت وهو يعلم أنه لا يصلي ن يقدمه للمسلمين يصلون عليه.
عشت حلم الواقع..
وضعت الكتاب جانباً..
رفعت يدي إلى رأسي.. ضغطت عليه بقوة..
سقطت شيبة..
نظرات إليها.. أبعد هذا الشيب؟ لا أغسل ولا أكفن.. ولا يُصلى عليّ..
هذه نهايتي..
هذا ما جمعته في الدنيا..
الله..
كلمة خرجت بقوة من أعماق قلبي..
أهذه نهايتي..
أين نحن غافلون.. فلا شك أني مقصر.. بل ومفرط.. ولكن خمسون سنة.. ولا أجد ناصحاً.. يقول لي ذلك.. كيف..
·        مسئولية من هذه..؟
غسلت الزمن الرديء بدموع التوبة..
عاهدت نفسي أن أكون ناصحاً لكل مخطئ..
نهضت قائماً..
سيصلى عليّ..
وسأدفن إن شاء الله مع المسلمين..


(12) الخاتمة

فلــو أنا إذا مُتنا تُركنــــــا *** لكــان المــوت راحـة كل حي
ولكنــا إذا مُتنــا بُعثنـــــا *** فنســأل بعده عــن كل شــيء

------
 
كانت معرفتي به بسيطة.. أحياناً متفرقة، أراه في المسجد وأياماً كثيرة لا أراه.. كنت أسلم عليه بحرارة وكنت في شوق إلى معرفته والتحدث إليه..
عندما انصرفنا من صلاة العصر.. وقفت أنا وزميل لي خارج المسجد نتحدث.. فإذا به قادم.. وسلم على زميلي ثم سلم عليّ.. وبدأ أنهما على معرفة سابقة.. فقد كانا زميلي دراسة..
تجاذبنا أطراف الحديث وطلبت منهما موعداً لزيارتي في منزلي.. فوافقا واتفقنا على الاجتماع بعد صلاة العصر عداً..
سألت زميلي عنه فحدثني بأنه إنسان فيه خير كثير.. فاستفسرت عن سبب غيابه عن المسجد أياماً طويلة خاصةً وأنه جار للمسجد.. فأخبرني أن صديقه هذا له رفقاء سوء في العمل فإذا اتصل بهم تراه يتغيب عن المسجد ولا يحضر للصلاة وتكثير أسفاره..
وتحدثنا طويلاً عن أفضل الطرق لإبعاده عن رفقاء السوء.. طمأنت زميلي وقلت سأحاول إبعاده عنهم قدر المستطاع.. ادع الله أن يعنني على ذلك وسأحتسب الأجر عند الله..
كان الاستعداد للموعد العصر وفرحت به كثيراً لعل الله أن يهديه على يديّ..
أخبرت بعض الأصدقاء وقلت لهم نريد أن تبعده عن رفقاء السوء وهذا لا يتم إلا بالتعاون بيننا جميعاً وكسب مودته وحبه لعل الله أن يهديه..
تمت الزيارة في موعدها وحصل ما كنت أريد، فالرجل محب للخير.. قريب للنفس..
تشعب بنا الحديث وكان بعض حديثنا عن الجو الممطر هذه الأيام وأن في منطقة كذا ربيع وأرض خضراء..
شاركنا في الحوار فإذا به صاحب معرفة بالمناطق الخضراء ذات المناظر الخلابة.. فأشار بأن المنطقة الفلانية أفضل من جميع المناطق وذلك لأنها أرض رملية مغطاة بعشب أخضر وبين تلك الكثبان الرملية غدير ماء.. فاتفقنا على الخروج نهاية الأسبوع لهذا الموقع الجميل..
وصمم أن نكون ضيوفه ولكننا رفضنا...
قلنا له نكفي منك الفكرة ومعرفة الطريق.. وبعد مشاورات أصبحت الرحلة مشاركة من الجميع في كل شيء ما عدا الفكرة فهو صاحبها..
جو ربيعي جميل ومنتزه تحفه الرمال من جميع الجوانب..
وهذه الروضة وسط الرمال.. من أجمل المناطق.. فعلاً.
·   أصبح الرجل يودنا ويحبنا ونشأ بيننا الكثير من المحبة والألفة.. خاصةً أن الرحلات للمناطق البعيدة تعني التقارب بين الجميع.. استمرت صداقتنا مع بعض مدة طويلة وأصبح الخروج إلى البر يتم بدون مقدمات لأننا اتفقنا على الخروج نهاية كل أسبوع..
وأصبح هناك ترتيب لجدولنا اليومي في الرحلة واستفادة من الوقت سواء من ممارسة الرياضة أو من استقطاع وقت للراحة.. وكان هناك درس بعد صلاة الفجر يعقبه آخر بعد صلاة العصر مدته قصيرة.. وعانيت من ذلك معاناة شديدة بسبب هذا الارتباط الأسبوعي للخروج خارج البيت..
فقد كان هذا الوقت بالنسبة لي بمثابة تفرغ كامل للقراءة والكتابة.. إضافةً إلى أنني ألغيت الكثير من ارتباطاتي العائلية.. أصبح صاحبنا محافظاً على الصلاة ودوام على صلاة الجماعة في المسجد بما في ذلك صلاة الفجر وظهرت عليه سيما الصلاح والاستقامة.
وقد كان لارتباطي الخاص به فرصة لقربه مني فقد باح لي بالكثير مما يعانيه من قبل.. ومراحل ضياعه..
حيث كان يتيماً وتربى في بيت جده..
استمرت علاقتنا هذه لمدة شهرين كاملين.. بعدها قدر الله لي أن انتقل من بيتي إلى مكان آخر في أطراف المدينة لقربه من مكان عملي وانقطعت تلك الأيام والرحلات وحتى الاتصال الهاتفي.. لعدم وجود هاتف لديّ..
وقد غبت بسبب ذلك فترة ليست طويلة عن هذا الشخص وحتى عندما اتصل عليه في بيته يقولون غير موجود..
·   وسبحان مغير الأحوال فقد أخبرني بعض الزملاء ممن كان يذهب معنا أنه عاد لرفقاء السوء وعاد لبعده عن الله جل وعلا.. وأخذت الأسفار جل وقته..
فقد أهمل عائلته ورجع إلى سالف عهده فترك صلاة الجماعة وبدأ يتراجع إلى الخلف..
بدأ يسمع الأغاني.. ترك حفظ القرآن.. ترك السباب الصالحين.. ترك الكتب القيمة..
تحسرت على ذلك ودعوت الله لي وله.. وحثثت بعض الاخوة على معاودة تلك الرحلات..
بعد مدة هاتفني أحد الزملاء وكان صوته متغيراً.. وأخبرني أن فلاناً توفي..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
ماذا جرى له فمنذ مدة لم أره ولم أجده في بيته فقد اتصلتُ عليه كثيراً.. قال لي أنه سافر إلى شرق آسيا مع رفقاء السوء وتناول جرعة كبيرة..
تناول جرعة كبيرة من مادة مخدرة..
مات هناك وحُمل في تابوت على متن الطائرة العائدة ومعه تقرير يثبت أن وفاته كان سببها تناول المخدرات.
وجلت إيما وجل من سوء خاتمته وأيقنت أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء..
فهو لم يستمر في توبته..
بل رجع إلى ما كان عليه..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
تقلب في حياته من الشر إلى الخير..
ثم عاد إلى طريق الشر وختم له بنهاية سيئة..
قال أهله..
ليته مات بأي شيء إلا هذه الموتة وهذا التقرير..
رفعت يدي إلى السماء ودعوت من كل قلبي..
(يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك).

---------------------
[1] يعني الدنيا.
[2] يعني القبر.
[3]  لفضيلة الشيخ محمد بن عثمين
 


مع الشكر لموقع عـودة و دعـوة
http://www.awda-dawa.com/
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

قصص مؤثرة

  • قصص الرسول
  • قوافل العائدين
  • قصص نسائية
  • قصص منوعة
  • الحصاد المر
  • مذكرات ضابط أمن
  • كيف أسلموا
  • من آثار الدعاة
  • قصص الشهداء
  • الصفحة الرئيسية