صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







إلى وزير العدل .. " وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا" !

 

 عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

 
بسم الله الرحمن الرحيم ..

فقد قرأت ما نَشره وزير العدل "د . محمد العيسى" - وفقه الله - في "صحيفة الرياض" في حوار مطول، وعلمت أنه بُشّر بمقال الدكتور في "بعض المواقع العلمانية والليبرالية" قبل نّشره بنحو يومين، ولم أهتم بالرّحِم بين المقال واليد المبشرة به، قدر الاهتمام بالعدل الموضوع، والعهد المأخوذ على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس .

لم أجد جديداً في مقالة الدكتور، بل هي من العمومات والنصوص المطلقة، وكنت أظنه قبل قراءة المقال على حال من سعة الاطلاع غير تلك الحال، فمسألة "الاختلاط" بالمفهوم الذي يُدعى إليه ليست مسألةً بالغة من الخفاء واللطف حداً يدق عن فطنة العالم ويزيد عن تبصره، فالعالم المتشبع بالاطلاع على علل الشريعة ومقاصدها، يفرق بين مقامات النصوص والأخبار، ويُدرك أن منها مقام حكاية عينٍ ونقل إجمال، ومنها مقام تقرير وتعليم وتحقيق، فيَرد نصوص الشريعة إلى موردها اللائق، وأما غيره فتتجاذبه المتعارضات مجاذبةً تقوده حينها الشهوة الخفية إلى ما لا يريده الله، وتُعميه عما سواه .

ومن المُسلم عقلاً أن من المجازفة الاحتجاج بما ورد في أحد أوصاف الموصوف في سياق الجواز، على وصفٍ آخر له انفرد حُكمه بنص، وإذا وُصف الموصوف بجميعها، لم يكن إفراده بوصف واحدٍ منها دليلا على مساواة ذلك الوصف لبقيتها، وبمثل هذا الاحتجاج والفَهم ظهرت البدع في أصول الدين المقتضية البيان عند نزول الوحي أكثر من الفروع، وُحجج الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة، والمرجئة في إخراج العمل من الإيمان، هي من هذا النوع من الاستدلال، ناشئة عن عدم إحاطة بموارد النصوص، والغفلة عن غرضها، وكيف لو ملك الخائض في الاختلاط نصاً صريحاً من الوحي، كما يملك الخوارج كقوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين": "قتال – المسلم - كفر" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" فكان بين يديه نحو "الاختلاط جائز بين الجنسين"، ماذا سَيُبقي من رأي سائغ لمن خالفه، كيف وهو متجرد من ذلك كله، فصفة العالم العدل الجمع والتحرير بأوضح حُجة وأسهل سبيل، فلا يكون ممن خفيت عليه أشياء، وحضره شيء، فيَضل ويُضل .

ومن كوامن النفس، وبواطنها الخفية إذا اندفعت بقوّة بلا تجرّد إلى تقرير مسألة أو دفع حُجة قوية، الإغضاء عن نقض ما تقرره النفس من وجوه أخرى، فكفار قريش يعترضون على محمدٍ كونه: (بشراً مثلهم) فقالوا: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون) بينما لم تلفت نفوسهم إلى إلههم "الحجر"، فرضي المشركون بالإله الحجر، وردوا نبوة النبي لأنه بشر ! لأن النفس منشغلة في صد محمد، والطعن في نبوته، على أي وجه كان، منصرفةً عن طلب الحق، كَحال من يُفتّش في كُتب السنة ليَقفَ على نَصٍ مُشتبه، ويَضع أُصبعيه في أُذنيه عن سماع دِرَّة عُمر على رؤوس الرجال وهو يُفرِّقهم عن النساء، كما رواه الفاكهي في "تاريخ مكة" وهذا النحو ليس من طرائق أهل العدل والعلم والإيمان.

ومع العلم أن الناس يتفاوتون في الخطاب، فمنهم من لا يقتنع إلا بالدليل والحجة، وإذا ذُكّر تذكر، ومنهم مماذق لا يرعوي إلا بالجدل، ومنهم مكابر معاند لا يصرفه عن شغبه إلا الزواجر والقوارع، وإني لأحسب معالي الوزير د . محمد العيسى من الصنف الأول، وقد تناول في مقاله المذكور مسألة الاختلاط على سبيل الإجمال، والتعميم :
فقرر – وفقه الله- أن مصطلح الاختلاط من المحدثات في الشريعة، بعبارات مختلفة فقال: («الاختلاط»، وهو ما لا يعرف في قاموس الشريعة) وقال: (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم ) إلى غير ذلك ..

من المتقرر أن الشريعة تدور مع المعاني والحقائق، والمصطلحات تولد للتقريب والإفهام، ومع ذلك فمن المجازفة أن يطلق أن مصطلح "الاختلاط": (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم) وهذا ليس من التحقيق والتحري في شيء، والنصوص في جميع القرون منذ الصدر الأول إلى يومنا لا يخلو قرنٌ من بيان "الاختلاط وتحريمه" بل وفي سائر المذاهب الفقهية، مع الإقرار أن الفقهاء في سائر القرون على هذا المصطلح، خاصة، وما في حكمه ومعناه .

ففي السنة ما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن جريج قال قلت: لعطاء بن أبي رباح: كيف يخالطن الرجال يعني في الطواف !؟ قال: لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة مع الرجال لا تخالطهم.

وروى أبو داود في "سننه" عن أبي أسيد الأنصاري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: ( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن ( أي ليس لكن أن تسرن وسطها ) الطريق عليكن بحافات الطريق) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به .
وزعم الدكتور أن مصطلح "الاختلاط" حادث، ولا تعرفه دواوين الشريعة، هو من القطع بغير تقدير، والخبط الذي ليس من العلم في قبيل ولا دبير، وما يدري الناقد من أي باب يلج إليه، ليُنير فيه مصباح الحق، فهو دارٌ مشرعة الأبواب والزوايا، وما يزال الرجل في فُسحة من أمره حتى يضع علمه في قِرطاس العلم، فالعقول محابر، والأقلام مغاريف، وكُل إناء بما فيه يَرشح.

فأما دعواه أن "الاختلاط" مصطلح حادث لفظاً ومعنىً لا تعرفه "قواميس الشريعة" ولا "مدونات أهل العلم"، فينيره العلم :


ففي القرن الأول والثاني:
قال فقيه البصرة التابعي الجليل الحسن البصري (22 هـ-110هـ): إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة . رواه الخلال .
وبمعنى قوله قال إمام التفسير من التابعين مجاهد بن جبر (21هـ-104هـ) كما رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/157): قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى): كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية.
وبنحوه قال عطاء بن أبي رباح كما تقدم، وقد ضرب عمر بن الخطاب من اختلط بالنساء من الرجال كما يأتي .

وفي القرن الثالث:
إمام الحنفيه أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (229-421 هـ) في "شرح معاني الآثار": (1/485) روى عن مغيرة عن إبراهيم، قال: "كانوا يكرهون السير أمام الجنازة. قال: فهذا إبراهيم يقول هذا، وإذا قال: "كانوا" فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله، فقد كانوا يكرهون هذا، ثم يفعلونه للعذر، لأن ذلك هو أفضل من مخالطة النساء إذا قربن من الجنازة) انتهى .

وفي القرن الرابع والخامس :
قال أبو الحسن الماوردي الشافعي (364 - 450 هـ) في "الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني" (2/51) : (والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال مأمورة بلزوم المنزل).
وقال في "أدب الدين والدنيا" (ص268) عند تعريفه للديوث: (هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم) انتهى .
وقال الحافظ البيهقي أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (ت: 458هـ)في "شعب الإيمان"(13/260): (فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته مخالطة الرجال ومحادثتهم والخلوة بهم) .
وبنحوهم قرر عصريهم السرخسي الحنفي (ت:490) في "المبسوط" (4/197)

وفي القرن الخامس والسادس:
قال الفقيه المالكي أبو بكر محمد بن الوليد القرشى الأندلسي، أبو بكر الطرطوشى (451 - 520 هـ) كما في "المدخل لابن الحاج" (2/297) عند كلامه على اجتماع الرجال بالنساء عند ختم القرآن: (يلزمه إنكاره لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء) انتهى .

وفي القرن السابع :
قال ناصح الدين المعروف بابن الحنبلي فقيه الحنابلة في زمانه (ت: 634هـ) كما في "ذيل طبقات الحنابلة" (4/195): (وأما اجتماع الرجال بالنساء في مجلس .. محرم ) .
وقال الإمام النووي أبو زكريا يحيى بن شرف عُمدة الشافعية (631-679هـ) في "المنهاج شرح صحيح مسلم": (2/183): (وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك) انتهى .
وبنحوه قرر عصريه الفقيه الأصولي ابن دقيق العيد (ت:702هـ) كما في "الفتح" (2/620).

وفي القرن الثامن:
قال قاضي مصر وفقيهها عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم ابن جماعة (694 - 767 ) في "هداية السالك":"ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة ..."

وفي القرن التاسع :
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (773هـ-852) في "فتح الباري" (2/336) : (فيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت) انتهى .

وفي القرن العاشر:
قال شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي الشافعي (ت1004) في "نهاية المحتاج شرح منهاج النووي": (8/272) في ذكر سياق ألفاظ القذف: ( قوله: يا قحبة) لامرأة (قوله صريح كما أفتى به) أي ابن عبد السلام، فلو ادعى أنها تفعل فعل القِحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال هل يُقبل أو لا ؟ فيه نظر . والأقرب القبول لوقوع مثل ذلك كثيراً) انتهى .

وهذا ما قرره عصرية الإمام الحطاب الرعيني المالكي (ت: 954) في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل" (4/154) وأبو السعود في "تفسيره" (ت: 982هـ) (5/40) .

وفي القرن الحادي عشر:
قال مفتي الحنفية في زمانه أحمد بن محمد ، أبو العباس الحسيني الحموي (ت 1098 هـ) في كتابه "غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر لابن نجم" (2/114) في حكم العرس المختلط: (وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها اختلاط النساء بالرجال) انتهى .

وفي زمنه قال الفقيه شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (1044 - 1126 هـ) في كتابه "الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (2/322) عند كلامه على وجوب حضور الوليمة عند الدعوة إليها إلا عند المنكر قال: (قوله: "ولا منكرٌ بيِّنٌ" أي مشهور ظاهر, كاختلاط الرجال بالنساء, أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير, أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه).

وفي القرن الثاني عشر:
قال الفقيه سليمان بن محمد البجيرمي (1150-1221) في "حاشيته على الشربيني" (2/461): (الِاختلاط بهن –النساء- مَظِنَّةُ الفساد) .
وهذا ما قرره في ذات القرن الإمام الشافعي سليمان بن عمر الجمل (ت: 1204هـ) في "حاشيته على شرح منهج الطلاب": (7/197).

وفي القرن الثالث عشر: قال فقيه الشافعية في زمانه عبدالحميد الشرواني (ت:1230-1302) في "حاشية تحفة المحتاج"(8/205) في سياق ذكر ألفاظ القذف الصريح منها وغير الصريح قال: (أي –القذف بـ- يا قحبة صريح أي لامرأة ولو ادعى إرادة أنها تفعل فعل القحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال فالاقرب قبوله لوقوع مثل ذلك كثيرا عليه فهو صريح يقبل الصرف) انتهى بحروفه.
وقال ابن عابدين محمد أمين بن عمر الدمشقي فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره (1198 – 1252) في "رد المحتار على الدر المختار" (6/355) مبيناً حرمة الاختلاط عند المناسبات: (لما تشتمل عليه من منكرات، ومن اختلاط الرجال بالنساء) انتهى

وقال مفتي القطر الحضرمي في زمانه العلامة عبدالرحمن بن محمد باعلوي الشافعي (1250-1320) في كتابه "بغية المسترشدين" (ص537) : (ويقطع مادة ذلك أن يأمر الوالي النساء بستر جميع بدنهن ، ولا يكلفن المنع من الخروج إذ يؤدي إلى إضرار ، ويعزم على الرجال بترك الاختلاط بهنّ) .

وقال العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت: 1250هـ) في "تفسيره فتح القدير) (5/203): ( لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف ، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء ، فربما يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين) انتهى .
وانظر "حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني" (ت:1221): (2/461)، وحاشية الشرواني (ت: 1302) على تحفة المحتاج (3/173) والآلوسي (ت: 1270هـ) في "تفسيره": (9/328).

وفي القرن الرابع عشر:
قال محمد رشيد بن علي رضا (ت: 1354هـ) في "تفسيره المنار" ( إنه لعار على بلاد الانكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال) انتهى .
وبنحوه قال عصريه محمد جمال الدين القاسمي (ت: 1332 هـ) في "تفسيره" عند ذات الآية .

وما تُرك من النقول أكثر مما ذكر، والنصوص التي فيها النهي صراحة بغير لفظ الاختلاط لا تُحصى عداً كالأمر بمجانبة النساء ومباعدتهن، والضرب والتأديب على ذلك، كما روى عبدالرزاق في "مصنفه" عن أبي سلامة قال : انتهيت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يضرب رجالاً ونساءً في الحَرَم، على حوضٍ يتوضئون منه، حتى فرَّق بينهم، ثم قال: يا فلان. قلتُ: لبيك وسعديك، قال: لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء ؟!
وإن النفس لتعجب ممن يعلم إطباق السلف والخلف ثم يحيف في حق الحق، (مصطلح الاختلاط لا يعرف في قاموس الشريعة الإسلامية) و (بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم) فعن أي مدونات علماء يتحدث الدكتور العيسى، أمدونات علماء الإسلام ؟! أم علماء الغرب ؟!

ثم ألا يعلم الدكتور – وفقه الله - أنه يخوض في مسألة "متقررة" عند سائر المذاهب على اختلاف مشاربهم، وأصلها من قطعيات الشريعة، وإنما يختلف العُلماء في بعض لوازم ذلك المنكر، كإسقاط حد القذف على من قذف امرأة تختلط بالرجال، وكقبول شهادة الرجل الذي يختلط بالنساء، فنص على عدم القبول أئمة وخلق كالقرافي في "الفروق" (4/156) وابن فرحون في " منهج الأحكام" (1/361) وغيرهما.

وكل ما بناه الدكتور العيسى من تقريرات في "مقاله" هي فرع عن ذلك القطع بغير تقدير، فمن ذلك ذكره لحديثٍ مُجملٍ قال: (وفي هذا السياق ما ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث - رضي الله عنها - «إن أناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب»، وذكر شراح الحديث بأن هذا أصل في المناظرة في العلم بين الرجال والنساء) انتهى .

المناظرة في العلم والتعليم، لا ينكر وجوده أحد، وهذا تعميم أورد فهماً خاطئاً، ولو تحقق له صفته علم أنه أُتي من تلقينٍ، وإدامة نظر في مقالات صحفية، لا تُري القاريء إلا ما ترى، تُسوِّدها أقلام ذاهلة، أحبوا شيئاً فطوَّعوا له النصوص، المناظرة في العلم بين الرجال والنساء التي يستنبطها العلماء الحذاق من النصوص، هي على حالٍ وصفها مسروق بن الأجدع كما في الصحيحين قال: سمعت عائشة وهى من وراء الحجاب.

وكما ذكره البخاري في "تاريخه" ترجمة عبد الله أبي الصهباء الباهلي قال: رأيت سِتْر عائشة رضي الله عنها في المسجد الجامع، تُكَلِّم الناس من وراء السِّتر ، وتُسأل من ورائه.

وكما جاء في "المسند" عن عبد الله أبي عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: جاء قوم من أصحاب الحديث فاستأذنوا على أبي الأشهب، فأذن لهم فقالوا: حَدِّثنا. قال: سلوا. فقالو : ما معنا شيء نسألك عنه، فقالت ابنته - من وراء السِّـتْر -: سَلُوه عن حديث عرفجة بن أسعد أُصيب أنفه يوم الكُلاب .

وأما احتجاجه في الأسواق والبيع والشراء، فهي طرقات لا مواضع جلوس وقرار وحديث، ومع هذا فهذه الاستثناءات لم يرتضها الصحابة تمام الرضا وإنما خففوا فيها بلا مبالغة، فقد روى أحمد عن على رضي الله عنه قال: (بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في السوق، أما تغارون، ألا إنه لا خير فيمن لا يغار).

وأما خروج النساء في الجهاد، فالمقطوع به الذي لا يشك به عاقل أن هذا من باب الضرورات الصرفة، وانشغال الرجال بضرب الأعناق ومتابعة العدو وترقبه، ثم هن مع ذلك متأخرات بعد الرجال معهن محارمهن ولا يتصور عاقل خروج نساء الصحابة إلا وأزواجهم معهم يبتن حيث يبيتون ويرتحلن حيث يرتحلون، وأي ضير في ذلك، ثم كيف يقاس هذا على اختلاط المرأة بالرجال في ميادين العمل والدراسة؟! كيف وقد أمر الله أهل العلم بالعدل والإنصاف: (وإذا قلتم فاعدلوا) .

وإني أذكر الدكتور – وفقه الله - بتقوى الله، ويوم العرض عليه، وأذكره بأعظم ما يُفسد على العبد دينه كما في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، وأذكره بأن الأمر ديِن، ودَين سيتم القضاء فيه بين يدي الخالق وحده، والواجب فيه الوفاء بالحق بلا جمجمةٍ أو دِهان، أو السكوت فإن السكوت "لا يُكتب"، (والله ورسول أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) .
والله يتولانا وإياه، بمنه وكرمه .
 



عشر وقفات مع تصريح معالي الوزير
سليمان بن أحمد بن عبدالعزيز الدويش

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمدلله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فقد اطلعت على ما صرَّح به معالي وزير العدل - حفظه الله - , وما أدلى به من رأي حول جامعة الملك عبدالله , ثم ما تناوله من مناقشة لقضية الاختلاط , وكيف بلغ به الحد إلى تبديع هذا المصطلح , واتهام المانعين للاختلاط , وتصويرهم وكأنهم شرعوا من الدين مالم يأذن به الله , وأنهم يخلطون بسوء فهم بين الخلوة والاختلاط , وما ساقه من شواهد وأدلة تدعم رأيه .

ولي مع ما قاله عدة وقفات :

الوقفة الأولى : لا أعلم أحداً ممن تحدث عن هذه الجامعة استنكر تأسيسها , أو طالب بطمس معالمها , أو ناشد الملك بإلغائها , بل كل من تحدَّث عنها أثنى عليها على اعتبار أنها جامعة علمية بحثية تطويرية , وهذا الصرح وغيره من الصروح المماثلة له , مما تحتاجه الأمة , وتعتبره مفخرة لها , ولكنهم توقفوا عند مسألة الاختلاط , ورأوا أن ذلك يسيء إلى حلم خادم الحرمين الشريفين , وهم بهذا يريدون لهذا الحلم أن يتحقق بأبهى صورة , وأجمل حلة , ولهذا فالحديث عن مكانة هذه الجامعة , أو مسيس الحاجة لها , أو أنها واجهة حضارية , لا مكان له في مناقشة من اعترض على مسألة الاختلاط , لأن ذلك التلبيس مصدره الإعلام الإقصائي المتجني , الذي أراد تشويه صورة من اعترض , بتلفيق تهمة محاربة العلم والحضارة له , وهي تهمة انطلت على كثير ممن انبرى للمناقشة , فزعم أن المعارض للاختلاط رافض للجامعة بالكلية , وهذا مما يجب أن يفطن له المناقش , حتى يكون عدلا في مناقشته , وحتى لا تتأسس المناقشة على أرضية متوترة .

الوقفة الثانية : دعني أسلم لك أن الاختلاط جائز , وأنه لاشيء فيه , وسأسألك أيهما أبعد للفتنة وجوده أو عدمه ؟ , فإن قلت : وجوده أبعد , فقد تكلَّفت مالا يجمل بك تكلفه , وخالفت السنن والفطرة , وإن قلت : بل تركه أبعد , فكان الأجدر بك أن تساهم في تحقيق حلم القائد – حفظه الله – بأكمل الصور وأبهاها , وهذا على اعتبار أن الأمر في الاختلاط جائز , فكيف والأمر به محل نزاع قوي , لايسقطه ما ذهبت إليه .

الوقفة الثالثة : قبل أن أنتقل إلى ماسقته من الأدلة والشواهد , سأنتقل بك إلى حقبة من الزمن مضت , كان الحاكم فيها مؤسس هذه البلاد , وكان العلماء فيها هم أشياخ أشياخك , ولا إخالك إلا وقد قرأت ما سطره الملك المؤسس – رحمه الله - , حول الاختلاط , وما حكاه من أنه من الأخطار والفساد والفتنة , وكلامه في هذا من أنفس الكلام وأجمله , فهل يليق بأحد أن يتهم هذا الرجل بمجاوزة الشريعة , أو المغالاة فيها , أو الابتداع في دين الله , أو الجهل في التفريق بين الخلوة والاختلاط ؟ .
أعتقد أن من قرأ كلامه , ورأى ما سطَّره علماء المسلمين في ذلك العصر الذي ينادى فيه المفتونون بالاختلاط , ورأى ماجرّه التساهل فيه من فتنة على المجتمعات التي تساهلت فيه , أدرك أن المانعين له , أكثر فطنة , وأعمق رؤية , وأعظم حمية , وأبعد في النظر في مقاصد الشريعة , وأقرب لموافقتها , ومعرفة حكمتها , ممن أخذوا بالمتشابه , أو استمسكوا بأهداب الأمور .

الوقفة الرابعة : ما ذكرته من التوجس في شأن الاختلاط , وأنه لايعرف في قاموس الشريعة إلا في أحكام محدودة كمباحث الزكاة , المنبتة الصلة عن معنى هذا المصطلح الوافد ، ليشمل في الطروحات المتأخرة ببدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم ، في سياق تداخل مصطلحها المحدث بمصطلح الخلوة المحرمة التي لا تجيزها فطرة أي مسلم له كرامة وشيمة ، فضلاً عن احترامه لأحكام شريعته التي صانت الأعراض، ووضعت السياج المنيع، لأي سبيل قد تخترق هذه المُسلَّمة الإسلامية المتفق عليها .
أقول : هذا من اللبس الذي وقعت فيه أنار الله بصيرتك , لأن الاختلاط ليس أمراً محدثاً كما ظننت , ولفظه ليس مبتدعاً , وليس يلتبس على من أنكره أمره بمسألة الخلوة المحرمة , بل ذلك الادعاء من تلبيسات الإعلاميين , التي آسف أن تكون انطلت عليك , فتلقفتها حقيقةً مسلَّمة , لأن من أنكر الاختلاط يعرف الفرق بينه وبين الخلوة , وهو حين يستدل لمنعه , فلا يستدل بأحاديث الخلوة المحرمة , بل تراه يذكر أحيانا أنه " الاختلاط" يشتد حرمةً إذا صاحبته الخلوة , أو كانت نتيجة له , وهذا دليل على تفريقه بين الأمرين .
وكنت أتمنى لو أنك طالبتهم ببيان ماعندهم حول ما أوردته من الشبه , قبل أن تنفي وجود هذا المصطلح في مدونات أهل العلم , لأن هذا من القول على أهل العلم بلا بينة , ولا أظنك تجهل ماجاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله حيث قال : ( قال لي ‏ ‏عمرو بن علي ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أبو عاصم ‏ ‏قال ‏ ‏ابن جريج ‏ ‏أخبرنا قال أخبرني ‏ ‏عطاء ‏إذ منع ‏ ‏ابن هشام ‏ ‏النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن ‏ ‏وقد طاف نساء النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏مع الرجال قلت أبعد الحجاب أو قبل ؟ قال : إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب قلت: كيف يخالطن الرجال ؟ قال: لم يكن يخالطن كانت ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏تطوف ‏ ‏حَجْرة ‏ ‏من الرجال لاتخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن ‏ ‏البيت ‏ ‏قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال وكنت آتي ‏ ‏عائشة ‏ ‏أنا ‏ ‏وعبيد بن عمير ‏ ‏وهي مجاورة في جوف ‏‏ثبير ‏ ‏قلت وما حجابها قال هي في ‏ ‏قبة تركية ‏ ‏لها غشاء وما بيننا وبينها غيرذلك ورأيت عليها درعا موردا ‏ ) , وماجاء في فتح الباري للإمام ابن حجر رحمه الله ونصه : ( قال ابن دقيق العيد : هذا الحديث عام في النساء , إلا أن الفقهاء خصوه بشروط : منها أن لا تتطيب , وهو في بعض الروايات " وليخرجن تفلات" قلت : هو بفتح المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات , ويقال امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح , وهو عند أبي داود وابن خزيمة من حديث أبي هريرة وعند ابن حبان من حديث زيد بن خالد وأوله " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " ولمسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود " إذا شهدت إحداكن المسجد فلاتمسن طيبا " انتهى . قال : ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه منتحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال ) , أو ما في الطرق الحكمية للإمام ابن القيم رحمه الله حيث ورد ما نصه : ( وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولا سيما إذا خرجت متجملة بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية والله سائل ولي الأمر عن ذلك , وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق , فعلى ولي الأمر أن يقتدى به في ذلك , إلى أن قال رحمه الله : ( ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة ) .
وغير ذلك من كلام أهل العلم كثير وكثير , ولكني تركته خشية الإطالة , فلا أدري يامعالي الشيخ , هل تعتبر من نقلت عنهم من أهل العلم , وهل ترى أن ماسطروه فيها مدونات علمية , أم أنك لاتراهم بلغوا هذه المنزلة ؟ .
فإن كنت ترى علميتهم وأهليتهم فلماذا نفيت وجود هذا المصطلح في مدونات العلماء ؟ , وإن كنت لاترى ذلك فليتك تخبرنا عن العلماء الذين عنيتهم بقولك حتى ننظر في الأمر , ونراجع ثقتنا بهؤلاء الأئمة الأثبات !! .

الوقفة الخامسة :
ما ذكرته بقولك : ( لقد حرم مفهوم الاختلاط المحدث ، ونعى ( من حيث يعلم أو لا يعلم ) على مشاهد في السيرة النبوية ، وسيرة الخلافة الراشدة ، وسلف أمتنا الصالح ، ومن لازمة التعقب على المشرع ، يقول المولى جل وعلا : « ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون » . وفرق بين لقاء تجمعه الحشمة والعفة على رؤوس الأشهاد ، متوخياً التحفظ من أي طريق قد تفضي للمحظور الشرعي ( كالخضوع في القول ، والتبرج ، والزينة ، والتساهل في التحفظ ، وغض البصر ، واحتكاك أي منهما بالآخر ) ، وبين لقاء على غير هذا الهدي الإسلامي المبارك . وبضوابط الشريعة سار ركب المجتمع المسلم ، في صور حية نشهدها كل يوم في شعائرنا : كالصلاة والحج والعمرة ، وكذا معاملات الناس بيعاً وشراء ، حيث دعيت المرأة للشهادة « واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء » ، وكيف تكون شهادة المرأة على البيوع كما أراد الله ، وهذا المصطلح المحدث (الاختلاط) بين أظهرنا خالطاً بينه ، وبين مفهوم الخلوة المحرمة . ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : من الذي أحدث هذا المفهوم ؟ , وهل فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , ورضي عنهن , من المحدثات , وقد سقته لك من صحيح البخاري رحمه الله ؟ .
المسألة الثانية : لماذا جعلت من دعى إلى البعد عن الفتنة ممن ينعى من حيث يعلم أو لايعلم مشاهد في السيرة النبيوية , وسيرة الخلفاء الراشدين , وسلف الأمة الصالح , وهاقد أوردت لك من أحوالهم ما يؤكد إنكارهم لأمر الاختلاط , وإذا كان الحريص على دفع الفتنة ينعى تلك المشاهد , فقل لي بربك ماحال من دعى إلى الاختلاط أو هوَّن من شأنه ؟ .
المسألة الثالثة : من قال إن من لازم إنكار الاختلاط التعقب على شرع الله ؟ , ولماذا لايكون العكس هو الصحيح , وأن من لازم إباحته القول على الله بلاعلم , وذلك لأن الاختلاط مما ورد استهجانه حتى في الأمم السابقة ( قالتا لانسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) .
المسألة الرابعة : هل تعلم لقاء تجمعه الحشمة والعفة على رؤوس الأشهاد , أعظم من الالتقاء في بيوت الله تعالى ؟ , فإن قلت : نعم , فراجع نفسك , وإن قلت : لا , فلن تكون أغير على الأمة , ولا أنصح لها , ولا أبرَّ بها , ولا أصدق معها , ولا أدرأ للفتنة عنها , من محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( لو تركنا هذا الباب للنساء . قال نافع : فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات ) رواه أبو داودوغيره عننافععنابن عمررضي الله عنهما , قال صاحب عون المعبود في شرح هذا الحديث ما نصه : ( في شرح الحديث : باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال : ( لوتركنا هذا الباب ) : أي باب المسجد الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم( للنساء ) : لكان خيراً وأحسن لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد . والحديث فيه دليل أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال بل يعتزلن في جانب المسجد ويصلين هناك بالاقتداء مع الإمام ، فكان عبد الله بن عمر أشد اتباعاً للسنة ، فلم يدخل من الباب الذي جعل للنساء حتى مات ) , ومرَّ معنا قبل كيف كانت عائشة رضي الله عنها تصنع في الطواف , ومثلك لايخفاه أن دور التعليم المختلطة , وخاصة في زمننا هذا , وفي ظل تعدد الثقافات , ومايسمى بالحريات , فلن يستطيع أحد تطبيق نظام يمكن من خلاله منع بعض تلك المحرمات التي ذكرت , ومنها غض البصر , أو إبداء الزينة من الثياب ونحوها , بل كيف يمكن غض البصر في مثل تلك الأماكن وقد رأينا ماتجاوز غض البصر إلى التصوير جنبا إلى جنب , والجلوس على طاولة واحدة للحديث أو الأكل أو غيره .
المسألة الخامسة : لا أدري هل أنت تعيش الواقع كما هو , أو ينقل إليك !! , لأني رأيتك تستشهد بالصلاة على إجازة الاختلاط , وأنت تعلم أن مساجدنا ولله الحمد بما في ذلك الحرمان الشريفان , لايسمح فيها باختلاط الجنسين , إلا مايكون في الطواف عند اشتداد الزحام , وصعوبة التفريق , ومثل ذلك في الشهادة أو البيع والشراء , فإنها لاتكون على نحو مايكون في دور التعليم المختلطة , بل هي لحظة يسيرة عابرة , دعت إليها الحاجة , في حين لم تدعُ الحاجة إلى الاختلاط في التعليم , بل ثبت أن الاختلاط في التعليم مما يعيق نجاحه , ومما يخلق مفاسد في الأخلاق لا يجوز إنكارها أو تجاهلها , وإذا كنا نسمع اليوم من المشاكل في الأسواق , والفتن والفساد والفوضى , مع وجود المحتسبين وأهل الغيرة , فكيف حين يغيب الآمر والناهي , وهذا مما لاحجة لك فيه , فاحتجاجك في البيع والشراء , وذهاب المرأة للسوق , يثبت أن الاختلاط خطر , فإنه إذا كان وقع فيها " الأسواق " الفساد , بل وقع فيما حاجة الناس إليه أشد كالمستشفيات ونحوها , و فيما لايخطر على بال وقوعه فيه كالحرمين , فمن باب أولى أن يقع فيما هو أكثر بعداً عن عين الرقيب البشري .
المسألة السادسة : الاستشهاد بشهادة المرأة لاحجة فيه , ولايصلح بمن يناقش مسألة علمية أن يتناولها بهذا الطرح البارد , فالله بدأ بالرجلين , وأخبر أنه إن لم يكونا فيصار إلى رجل وامرأتين , ولايلزم من ذلك أن يقع الاختلاط , ولو وقع الاختلاط لكان محمولا على الحاجة إليه , وهو يختلف عمَّا لاحاجة إليه , بل الحاجة تدعو إلى تركه .

الوقفة السادسة :
قولك : ( إننا - بفضل الله - لا نقل غيرة على محارم الله، ولا على تقديرنا لأبعاد الفساد الأخلاقي الذي ينافي مقاصد العلم والمعرفة ، ويفسد المجتمعات ، لكننا أمام شريعة غراء فهمت عن أحوال الناس مقصادهم وما تصلح به أمورهم ، فوضعت قواعد وحواجز فحرمت أموراً ، وأجازت أخرى ، بضوابط لا تفضي للمحرم ، وتلك شريعة الكمال التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد ، وتحذير نصوصها من الخلوة المحرمة ، والتبرج أمام الأجانب أو لبس الزينة ، أو الخضوع في القول ، وأمرها بغض البصر ، شاهد على أن المرأة تحضر المجامع ، وتكلم الرجال بقدر الحاجة ، ولو لم تكن كذلك لما كان لهذه النصوص معنى ، ومن غار على الحرمات فوق غيرة الشرع ، دخل في حيز الوسوسة ، وسوء الظن بالناس ، والتعقب على الشريعة . )
أقول : هذا هو المؤمل منك , والمظنون فيك , ونحن نرى مثلك أن من غار على الحرمات فوق غيرة الشرع ، دخل في حيز الوسوسة ، وسوء الظن بالناس ، والتعقب على الشريعة , كما نرى أن من برر لها , أو سوَّغ وجودها , أو قلل من خطرها , فهو إما مغفل أو مفتون , لكن هل هذا ينطبق على من أنكر اختلاطاً يجمع أكثر من منكر , كالتبرج , والبعد عن غض البصر , والحديث مع الرجال بما يجاوز قدر الحاجة ؟ , وكيف وقد أثبت الواقع أن الاختلاط في التعليم سبب للفساد الأخلاقي , وهذا ليس وسوسة , ولا تهويلاً , وقد ذكرتَ أن الفساد قد وقع في بعض دور العبادة التي مقامها وحقها التعظيم والاحترام , أفلا يكون غيرها مما هو أكثر أمكانا لوقوع الشر والفتنة ؟, بل قد صرَّح المؤسس – رحمه الله – منذ عقود , نقلاً عمَّن قابله من ساسة الغرب بذلك , فإذا كان هذا الفساد منهم في تلك العصور , فكيف الحال به في زمننا هذا ؟ .

الوقفة السابعة : ما استشهدت به من النصوص , وما سقته من الأدلة , لايعارض من قال بعدم جواز الاختلاط , فالذي أوردته محمول على الحاجة , أو هو محتمل لايُقطع بالاستدلال به , وليس فيه معنى الاختلاط الذي نحن بصدد الحديث عنه , فمداواة الجرحى , أو الدخول إلى السوق , أو الشهادة , أو نحو ذلك من الحاجات التي لايمكن تسويغ الاختلاط بسببها , بل لو دعت الحاجة إلى ماهو أعظم من ذلك لجاز فعله شرعا , ولعلي أشتشهد لك بمثال قريب حيٍّ , في قصة غريقة حائل , وكيف أنه لم يتحدث أحد عن ملامسة الرجل للمرأة , أو إمساكه بها , بل كلُّ من شاهد ذلك المقطع أكبر فعل هؤلاء الأبطال , وأثنى عليهم , لأن الأمر أكبر من حديث عن مسألة كهذه , وهكذا منهج أهل العلم , وبهذا جاءت الشريعة الغراء , وكم سمعنا للعلماء الذين ينكرون الاختلاط , أنه إذا دعت الحاجة إلى تدخل الرجال للكشف على المرأة وعلاجها , فإنه والحالة هذه يجوز لها تمكينهم من ذلك وبما تدعو إليه الحاجة , لأن الضرورات تقدر بقدرها , ولهذا فالاستشهاد بما كان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعملنه , من مداواة الجرحى , أو نقل الموتى , لاحجة لمن استدل به , فهذه ضرورة وحاجة , فكيف إذا انضاف إليه وجود المحارم , والبعد عن دواعي الفتنة .
وأما وعظ النساء وتذكيرهن , فليس فيه دليل على الاختلاط بهن , ولا أدري كيف يمكن الاستدلال به على واقع مغاير لهذه الصورة تماما , إلا أن يكون المراد حشد أكثر قدر من النصوص ولو سيقت في غير موضعها !! .
ومثل ذلك ما وقع من التماري عند أم الفضل رضي الله عنها , حول صوم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة , فهو لاحجة فيه , لأنه ليس صريحا في الاختلاط , والتماري قد يقع بين الناس وهم غير مختلطين .
وكذلك ما وقع من خدمة المرأة لزوجها , وتقديم الطعام , فقد صرَّح العلماء أن ذلك جائز عند أمن الفتنة , مع لزوم الستر والحشمة , وهذا مما يتنافى مع واقع التعليم المختلط , فلا الفتنة فيه مأمونة , ولا الحشمة فيه كما يجب , ومغالطة الواقع , وتكذيب العين , من المكابرة التي لاتجوز , ولدينا من شواهد الحال مايندى له الجبين , فهاهي أحوال المستشفيات , التي أذنت بالاختلاط , ورأت أنه ضرورة , واحتجت بأن كثرة الإمساس تقلل الإحساس , أو أن شرف المهنة يمنع من التجاوز , قد أزكمت منكراتها الأنوف , ولولا أن المصلحة تقتضي ترك الحديث عن بعض مالافائدة من ذكره , لذكرت ما يندى له الجبين .
وما كان يقع من نساء الأقدمين , لم يكن بالصورة التي عليها واقع التعليم المختلط , ولا هي بالصورة التي ينكرها المنكرون , بل الفرق بين الصورتين شاسع , والبون واسع , وإذا كانت عائشة رضي الله عنها تقول : لقد أحدث النساء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مالو رآهن لمنعهن من الخروج إلى المساجد , فكيف لو رأت عائشة رضي الله عنها ما عليه نساء زماننا هذا , وما يراد لهن , فالله المستعان .

الوقفة الثامنة : قولك : ( أننا لا نجد فرقاً بين جمع عام مشمول بحسن المقصد وسمو الهدف ، يجتمع - على نبل غايته ورحابة فنائه - الرجال والنساء ، يحفهم السمت المنوه عنه ، وبين جمع آخر بين الرجال والنساء على مقصد تعبدي نجده تحديداً في طوافهم سوياً ، بالبيت العتيق ، وسعيهم بين الصفا والمروة ، ورميهم الجمار على صعيد واحد ، تتجلى في جمعهم المبارك آداب الإسلام الرفيعة ، وكل هذا مشمول بالمدلول اللغوي والمصطلح المحدث للاختلاط فهل نمنعه ؟ ، أو نغالي في التوجس ونقول : ينظم ذلك ، فساعة للرجال وساعة للنساء , لأن الزمن تغير ، وأصبح يفضي إلى شر ، وأن من الأشرار من رصد في مواطن العبادة وهو يتعاطى المنكر مستغلاً هذه الشعائر المختلطة ، إن أفق الإسلام أسمى من هذا كله ، وأكثر احتياطاً وتحفظاً وغيرة على محارم الله ، وقد أبقى مشهده على مر الزمان يقف أعظم شاهد على أن مصطلح الاختلاط دخيل على قاموس الشرع.)
أقول : أين هذا الجمع المشمول بحسن المقصد وسمو الهدف الذي تتحدث عنه ؟ , حقيقة لست أدري هل أنت تتخيَّل ما تتحدَّث عنه , أم إنه شيء وقفت عليه ؟ .
نحن نتحدث عن صالات مختلطة , ومجاميع مختلطة , يجلس الرجال فيها مع النساء , ويتباحثون , ويتبادلون الأحاديث الودية , وتلبس المرأة فيها ملابس متبرجة , ولايجوز الإنكار عليها , وربما أكلوا سويا , وجلسوا على مقعد واحد , أو طاولة واحدة .
أسألك بالله يامعالي الشيخ : هل زرت موقع جامعة الملك عبدالله , ورأيت الصور المعروضة فيه , وهل تدين الله تعالى بجوازها ؟ .
نحن لانشك لحظة في حسن نية خادم الحرمين – حفظه الله – ونرى أنه محب للخير , يحب نفع أمته , لكننا من دافع محبتنا له , وخوفنا عليه , ورغبتنا أن يتحقق حلمه بما ينفعه عند الله , وقفنا لنبين أن الاختلاط في الجامعة يسيء إلى هذا الحلم العظيم , ويسيء إلى سمعة هذا الرجل المحبوب , ويسيء إلى سمعة المملكة العربية السعودية , التي فاخرت ولازالت تفاخر باحترامها للمبادىء , وعدم تنازلها عن القيم .
لقد رأيت بأم عيني صوراً لنساء يلبسن إلى الركبة , وقد تجملن بالمساحيق , وحسرن عن رؤوسهن , واختلطن بالرجال , فبالله عليك هل هذا من الحشمة التي تنشدها , أو تزعم وجودها ؟ .
إنني ورب النعمة لا أرى إلا أن هذا من التدليس على ولي الأمر , وعدم النصح له , وعدم كشف الواقع كماهو , لأنني لايمكن أن أتصور أن خادم الحرمين – حفظه الله – الذي غضب من فعل الصحفيين , ومايخرجونه من صور النساء , يقبل أن يكون هذا حلمه , أو مما ينسب إليه , فلتكن ممن ينصحون له بصدق , وينقلون له الواقع كماهو , وإياك أن تقول مالاتعلم , أو تجادل عمَّا تجهل حقيقته .
لولا خوفي من الله , من أن أقوم بنشر الصور المحرمة , لضمنت مقالي هذا صوراً لايقرها مسلم , ولايرضاها غيور , وكلها من موقع الجامعة نفسها , وليس مما ينسب إليها , أو يلفق عليها , فكيف أذنت لنفسك , وكيف أجزت لها , وأنت ترى أن من الخطأ محادثة المرأة الرجل بمايزيد عن الحاجة , وقد تعدى الأمر إلى ما يمكن اعتبار هذا عنده من اللمم عياذا بالله , أن تقارن بين هذه التجاوزات , ومايقع اضطراراً في دور العبادة أو غيرها .
يجب عليك وأنت وزير العدل , وقد عملت في القضاء , ولايخفاك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره , أن تقول ما وقفت على علمه , لاماتخيلته وظننته , فهذا موقع الجامعة متاح لك ولغيرك , ولديك من القدرة الوصول إليه بيسر وسهولة , فزره وتعرَّف على مافيه , ففيه من الصور مما أذن بنشره , سواء التقط في الجامعة أو خارجها , ما يجعل الحليم يحار , لأنه إذا كان هذا ما أذن به موقع الجامعة الرسمي , وهو يرى احتدام النقاش حولها , ومع هذا أجازها بكل ثقة , فما ظنك بما وراء الكواليس والأكمات , فإن رأيت أن ذلك الاختلاط الذي نشرت صوره , والتقطت هنا وهناك , مما جلست تنافح عنه , وتعسف النصوص لتجويزه , فمالتبرج المنهي عنه في نظرك , ومالزينة المحرم كشفها في رأيك ؟ .
وإن رأيت أن صور الاختلاط المنشورة في الموقع مما يخالف ماذهبت لتبريره , فيلزمك والحالة هذه أن تبين ماتعتقده دينا , وأن تبلغ ولي الأمر بما رأيت , حتى تكون ناصحا ومحبا .

الوقفة التاسعة : ما ذهبت إليه من أننا لو عممنا قاعدة الاختلاط لمنعنا من اجتماع الرجال والنساء في الأسواق والأماكن العامة، فلا ترى المرأة وحولها رجل، لدخول ذلك في معنى الاختلاط المحدث!!.
هذا من التكلف , والأمور لاتؤخذ بمثل هذه الافتراضات , فأنت تعلم أن بين الأمرين فرق , فالاختلاط الذي تدفع إليه الحاجة , وهو مضبوط بضوابط الشرع , ليس كالاختلاط الذي لاحاجة له , أو مافيه مفسدة راجحة , وليت شعري هل بعد قولك هذا سنحكم على من أصدر هذا الأمر الملكي ذا الرقم 11651 في: 16/5/1403هـ ونصه : ( إن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاطها بالرجال أمرٌ غير ممكن، سواءً كانت سعودية أو غير سعودية، لأن ذلك محرمٌ شرعاً؛ لما يفضي إليه من شرٍّ وفتنة وفوضى أخلاقية ) , بالإحداث والوسوسة ؟ , ولماذا لم نشاهد هذا الحماس في الحديث عن هذه القضية , وتبديع القائلين بها , واتهامهم بالبعد عن الفهم , ووصفهم بالتناقض إلا الآن !! .

الوقفة العاشرة : رأيت في مقالك الخوف من الوقوع في المخالفة والبدعة , وهذا جميل , وهو يدفعني لمطالبة معاليكم , بأن يبدي رأيه في بعض المسائل التي نراها في زماننا هذا , وقد ذكر أهل العلم أنها من المحرمات , ومع هذا فلازالت قائمة يُعمل بها ومن ذلك مثلاً :
1 – حكم شراء السندات .
2 – حكم نشر صور النساء الكاشفات لماهو مجمع على تحريم كشفه كالشعر والذراع والساق .
3 – حكم التعاملات الربوية في البنوك .
4 - حكم بيع كتب الإلحاد والزندقة في معرض الكتاب .
5 - حكم السخرية من أحكام الشريعة في الصحف والمجلات والقنوات .
وهناك قائمة أخرى من المحرمات , هي بانتظار ماتتفتق عنه غيرتكم الدينية , وخشيتكم من المخالفة والبدعة , فإن لم يكن لمعاليكم جواب عنها , فلماذا أخذتك الحماسة للحديث عن أمرٍ خالفت فيه من تصدر للفتيا وأنت لازلت تلتقم الثدي , وحشدت له الجهد والطاقة , وبالغت في مناقشته , حتى لكأنه لم تكن الجناية على الإسلام إلا به !! .
والله لو أنك استنفدت الطاقة في تقرير حكم شرعي أهمل الناس العمل به , ونطقت فيه بما أمِنك الله عليه , وجعلك مكلَّفا ببيانه , لكان أليق بك أن تتجشَّم مسألة بهذه الحماسة , خالفت فيها من هو أوثق منك وأعلم , وطاش فيها سهمك , واتهمت مخالفك بما لايحسن من مثلك قوله عن مثلهم , فالله المستعان .
هذه وقفات يسيرة سقتها على عجلة من أمري , ولعل الله أن ييسر لي فسحة من الوقت لمناقشة الموضوع بشيء من التفصيل .
اللهم اهدِ ضال المسلمين , وعافِ مبتلاهم , وفكَّ أسراهم , وارحم موتاهم , واشفِ مريضهم , وأطعم جائعهم , واحمل حافيهم , واكسُ عاريهم , وانصرمجاهدهم , وردَّ غائبهم , وحقق أمانيهم .
اللهم أصلح الراعي والرعية.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا , واحفظ عليها دينها , وحماة دينها , وورثة نبيها , واجعل قادتها قدوة للخير , مفاتيح للفضيلة , وارزقهم البطانة الناصحة الصالحة التي تذكرهم إن نسوا , وتعينهم إن تذكروا , واجعلهم آمرين بالمعروف فاعلين له , ناهين عن المنكر مجتنبين له , ياسميع الدعاء .
هذا والله أعلى وأعلم , وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .


وكتبه
سليمان بن أحمد بن عبدالعزيز الدويش
أبو مالك mamal_m_s@hotmail.com

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

للنساء فقط

  • المرأة الداعية
  • رسائل دعوية
  • حجاب المسلمة
  • حكم الاختلاط
  • المرأة العاملة
  • مكانة المرأة
  • قيادة السيارة
  • أهذا هو الحب ؟!
  • الفتاة والإنترنت
  • منوعات
  • من الموقع
  • شبهات وردود
  • فتاوى نسائية
  • مسائل فقهية
  • كتب نسائية
  • قصـائــد
  • مواقع نسائية
  • ملتقى الداعيات
  • الصفحة الرئيسية