صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الفوائد المنتقاة
من (سيرة الإمام البخاري)
من "هُدى الساري لابن حجر"
تأليف/ أبو عماد مساعد بن حامد الزهراني

انتقاها/ عبدالعزيز محمد العاصمي
@alasmi_802

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 

[سبب التأليف]
وقفت على أسطر نفيسة من كتاب شيخنا المحدث الأستاذ الدكتور/ عبدالعزيز بن عبدالله الشايع من كتابه الماتع (الكتب الستة وأشهر شروحها وحواشيها وأبرز الدراسات المعاصرة عليها). حيث ذكر أن من أفضل التراجم للإمام البخاري: ترجمة الحافظ ابن حجر له في (هُدى الساري) ثم قال فضيلته: لو تصدى عارف للاعتناء بها وإفرادها بالنشر مبوبة مرتبة لحصل بذلك خير كبير.أهـ. فوقعت هذه العبارة في قلبي موضعًا، وعزمت من لحظتها على صنع ذلك.

[اسمه ونسبه]
هو: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه الجُعْفِيّ.
وبردزبه بالفارسية: الزراع، كذا يقوله أهل بخارى، وكان بردزبه فارسيًا على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجُعفي، والي بُخارى، فنُسب إليه نسب ولاء عملًا بمذهب من يرى أن من أسلم على يديه شخص كان ولاؤه له، وإنما قيل له الجعفي لذلك.

[من كرامات أمّه عندما كان أعمى في صغره]

روى غُنْجَار في تاريخ بخارى، واللالكائي في (شرح السنة) في باب كرامات الأولياء منه أن محمد بن إسماعيل ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم - عليه السلام - في المنام فقال لها: (يا هذه، قد ردّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك). قال: فأصبح وقد ردّ الله عليه بصره.

[سعة حفظه وإتقانه منذ صغره]
قال الفِرَبْرِيُّ: سمعت محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري يقول: سمعت البخاري يقول: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكتّاب. قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ قال: عشر سنين، أو أقلّ، ثم خرجت من الكتّاب، فجعلتُ أختلفُ إلى الداخليّ وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: سُفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم؛ فانتهرني فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلتُ: هو الزبير، وهو ابن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم وأصلح كتابه وقال لي: صدقت. فقال له إنسان: ابن كم حين رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة سنة.
قال البخاري: فلما طعنتُ في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء، يعني: أصحاب الرأي.

[بدايته في التصنيف]
قال البخاري: فلما طعنتُ في ثماني عشرة صنفتُ كتاب (قضايا الصحابة والتابعين) ثم صنفتُ (التاريخ في المدينة عند قبر النبي ﷺ).

[قوّة حفظه رحمه الله]

قال حاشد بن إسماعيل: كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فلمْناه بعد ستة عشر يومًا، فقال: قد أكثرتم عليّ فأعرضوا عليّ ما كتبتم، فأخرجناه فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلْنا نُحكِم كتبنا من حفظه.

[بدايته في التحديث]

قال أبو بكر بن أبي عَتاب الأَعْيُـن: كتبنا عن محمد بن إسماعيل وهو أمرد، على باب محمد بن يوسف الفريابي. قال الحافظ ابن حجر: كان موت الفريابي سنة اثني عشرة ومائتين، وكان سنّ البخاري إذ ذاك نحوًا من ثمانيةَ عشر عامًا أو دونها.
وقال البخاري: ما جلست للتحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم، وحتى تظرت في كتب أهل الرأي، وما تركتُ بالبصرة حديثًا إلا كتبته.

[أثر مال أبيه الحلال في صلاحه]

قال أحمد بن حفص: دخلتُ على إسماعيل والد أبي عبدالله عند موته، فقال: لا أعلمُ من مالي درهمًا من حرام ولا درهمًا من شبهة.

[مروءته وعدم نقض نيته]
قال غنجار في تاريخه: كان حُمل إلى محمد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه أبو حفص، فاجتمع بعض التجّار إليه بالعشيّة، وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجار آخرون، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف درهم فردّهم، وقال: إني نويت البارحة أن أدفعها للأولين، فدفعها إليهم وقال: لا أحب أن أنقُض نيتي.

[مهارته في الرمي وتورعه عن المظلمة]

قال ورّاقه: وكان يركب إلى الرمي كثيرًا، فما أعلم أني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين.
وقال: ركبنا يومًا إلى الرمي، فجعلنا نرمي فأصاب سهمُ أبي عبدالله وتد القنطرة التي على النهر، فانشق الوتد، فلما رأى ذلك نزع السهم وقال لي: يا أبا جعفر لي إليك حاجة - وهو يتنفّس الصعداء - فقلت: نعم، قال: تذهب إلى صاحب القنطرة فتقول له: إنا أخللنا بالوتد؛ فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله، أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حل، وكان صاحب القنطرة حُميد بن الأخضر فقال لي: أبلغ أبا عبدالله السلام وقل له: أنت في حل مما كان منك فإن جميع ملكي لك الفداء، فأبلغته الرسالة فتهلل وجهه، وأظهر سرورًا كثيرًا، وقرأ ذلك اليوم للغرباء خمسمائة حديث، وتصدق بثلاثمائة درهم.

[تركه للغيبة]

قال ورّاقه: وسمعتُه يقول: ما اغتبت أحدًا قط منذ علمتُ أن الغيبة حرام.
وقال بكر بن مُنير: سمعتُ محمد بن إسماعيل البخاري يقول: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني أغتبتُ أحدًا.

[خشوعه في صلاته]

قال بكر بن منير: كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي فلسعه الزُّنْبُور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي. فنظروا فإذا الزنبور قد ورّمه في سبعة عشر موضعًا، ولم يقطع صلاته. وقال ابن حجر رُوِّناها عن ورّاقه أنه قال: كنتُ في آية فأحببتُ أن أُتِمّها.

[من شعره رحمه الله]

أخرج الحاكم في تاريخه من شعره قوله:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغتهْ
كم صحيح رأيتَ من غير سُقْم ذهبَتْ نفسه الصحيحة فلْتهْ
ولما نُعي إليه عبدالله بن عبدالرحمن الدّارمي الحافظ أنشد:
إن عشتَ تُفجعُ بالأحبة كلهمْ وبقاءُ نفسك لا أبا لك أفجعُ

[ثناء مشايخه وأقرانه والناس عليه]

قال البخاري: كان إسماعيل بن أبي أويْس إذا انتخبتُ من كتابه؛ نسخَ تلك الأحاديث لنفسه، وقال: هذه الأحاديث انتخبها محمد بن إسماعيل من حديثي.
وقال قتيبة بن سعيد: جالستُ الفقهاء والزّهاد والعباد، فما رأيتُ منذ علقتُ مثل محمد بن إسماعيل: وهو في زمانه كعُمر في الصحابة، وقال أيضًا: ولو كان محمد بن إسماعيل في الصحابة لكان آية.
وسُئل قتيبة عن طلاق السكران، فدخل محمد بن إسماعيل؛ فقال قتيبة للسائل: هذا أحمد بن حنبل، وإسحاق بن رَاهُويَه، وعليّ بن المديني، قد ساقهم الله إليك. وأشار إلى البخاري.
وقال أحمد بن حنبل: ما أخرجتْ خراسان مثل محمد بن إسماعيل. رواها الخطيب بسند صحيح.
وقال يعقوب الدَّوْرَقي، ونعيم بن حمّاد: محمد بن إسماعيل البخاري فقيه هذه الأمّة.
وقال بُندار محمد بن بشار: هو أفقه خلق الله في زماننا، وقال أيضًا: أنا أفتخر به منذ سنين.
وقال البخاري: قال لي محمد بن سلام البِيكَنْدِي: انظر في كتبي، فما وجدتَ فيها من خطأ فاْضرب عليه، فقال له بعض أصحابه: من هذا الفتى؟ فقال: هذا الذي ليس مثله.
وقال حاشد بن إسماعيل: رأيتُ إسحاق بن رَاهُويَه جالسًا على المنبر والبخاري جالس معه وإسحاق يحدث، فمرّ بحديث فأنكره محمد؛ فرجع إسحاق إلى قوله، وقال: يا معشر أصحاب الحديث، انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه، فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج إليه لمعرفته بالحديث وفقهه.
وقال البخاري: أخذ إسحاق بن رَاهُويَه كتاب التاريخ الذي صنفته؛ فأدخله على عبدالله بن طاهر الأمير فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرًا؟
وقال البخاري: (ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني وربما كنتُ أُغرب عليه). قال حامد بن أحمد؛ فذُكر هذا الكلام لعلي بن المديني فقال لي: دع قوله، هو ما رأى مثل نفسه.
وقال البخاري: ذاكرني أصحاب عمرو بن علي الفلّاس بحديث، فقلتُ: لا أعرفه؛ فسرّوا بذلك، وصاروا إلى عمرو فقالوا له: ذاكرنا محمد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه، فقال عمرو: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث.
وقال أبو عبدالله الفربري: رأيتُ عبدالله بن منير يكتب عن البخاري وسمعته يقول: أنا من تلامذته. قال ابن حجر: عبدالله بن منير من شيوخ البخاري، قد حدث عنه في الجامع الصحيح، وقال: لم أرَ مثله.
وقال يحيى بن جعفر البيكندي: لو قدرتُ أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلتُ؛ فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم.
وقال أبوسهل: سمعتُ أكثر من ثلاثين عالمًا من علماء مِصْر يقولون: حاجتنا في الدنيا النظر إلى محمد بن إسماعيل.
وقال إمام الأئمة أبو بكر بن الخزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل.
وقال الإمام أبو عيسى الترمذي: لم أرَ أعلم بالعلل والأسانيد من محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال له الإمام مسلم: أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك.
وقال أبو عمرو الخفّاف: هو أعلم بالحديث من أحمد وإسحاق وغيرهما بعشرين درجة، ومن قال فيه شيئًا فعليه مني ألف لعنة.
وقال الإمام الحافظ ابن حجر: ولو فتحتُ باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخّر عن عصره لفني القرطاس ونفدت الأنفاس؛ فذاك بحر لا ساحل له.

[عدد من يحضر مجالسه]

قال عبدالله بن حماد الآمُليّ: كنتُ أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفًا.

[سعة حفظه رحمه الله]

قال محمد بن حمدُويَه: سمعت البخاري يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.
وقال ورّاقه: قلت له: تحفظ جميع ما أدخلتَ في مصنفاتك؟ فقال: لا يخفى عليّ جميع ما فيها، وصنّفت جميع كتبي ثلاث مرات.

[دواء الحفظ عند البخاري]

قال له ورّاقه: قلت له مرة في خلوة: هل من دواء للحفظ؟ فقال: (لا أعلم) ثم أقبل عليّ فقال: (لا أعلمُ شيئًا أنفع للحفظ من نُهْمة الرجل ومداومة النظر).

[فضائل جامعه الصحيح]

قال البخاري: ما وضعتُ في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصليتُ ركعتين.
وقال: صنفتُ الجامع في ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله.

[منامات في البخاري]

قال نجم بن الفضيل: رأيتُ النبي ﷺ في المنام خرج من قبره والبخاري يمشي خلفه، فكان النبي ﷺ إذا خطا خطوة يخطو محمد، ويضع قدمه على خطوة النبي ﷺ.
وقال الفربري: رأيتُ النبي ﷺ في النوم، فقال لي: أين تريد؟ فقلتُ: أريد محمد بن إسماعيل. فقال: أقرئهُ مني السلام.
وقال أبو زيد الـمَرْوَزيّ: كنتُ نائمًا بين الركن والمقام؛ فرأيتُ النبي ﷺ في المنام فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل.

[عرضُ البخاري صحيحه على شيوخه]

قال أبو جعفر العُقيليّ: لما صنف البخاري كتاب الصحيح عرضه على علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم؛ فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.

[بركته على الإمام مسلم]

قال أبو الحسن الدَّارَقُطْنِي الحافظ: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء.

[اختبار العلماء لعلمه وحفظه]

قال أبو أحمد بن عدي الحافظ: سمعت عدة من مشايخ بغداد يقولون: إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه؛ فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يُلقوا ذلك على البخاري، فسأله رجل من العشرة عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: لا أعرفه. فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ، والبخاري يقول: لا أعرفه. والعلماء حوله يلتفتون إلى بعض ويقولون: فهم الرجل. ومن لم يفهم القصة اتهم البخاري بالعجز، وهكذا حتى فرغ العشرة كلهم والبخاري يقول: لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول وقال له: أما حديثك الأول فقلت كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا، وصوابه كذا، ثم صحح للثاني، ثم للثالث، حتى صحح أحاديث الرجال العشرة كلهم، وردّ كل متن إلى إسناده، فأقرّ الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
قال ابن حجر رحمه الله: هنا يُخضع للبخاري، فما العجبُ رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظًا، بل العجبُ من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة.

[حفظه للحديث أكثر من أهل البلد نفسه]

قال يوسف بن موسى الـمَرْوَزيّ: قال البخاري قبل أن يبدأ في مجلسه للإملاء الذي بالبصرة: يا أهل البصرة، أنا شاب، وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها؛ يعني: ليست عندكم. فتعجب الناس من قوله. فأخذ في الإملاء فقال: حدثنا عبدالله بن عثمان بن جبلة بن أبي روّاد العتكيّ ببلدكم، قال: حدثني أبي، عن شعبة، عن منصور وغيره، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بن مالك: أن أعرابيًا جاء إلى النبي ﷺ فقال: (يا رسول الله، الرجل يحب القوم ...) الحديث. ثم قال: هذا ليس عندكم عن منصور، إنما هو عندكم عن غيره.
قال يوسف بن موسى: فأملى عليهم مجلسًا من هذا النسق يقول في كل حديث: روى فلان هذا الحديث عندكم كذا، فأما من رواية فلان؛ يعني التي يسوقها. فليست عندكم.

[قوّة تمكنه في دقائق علم العلل على الأئمة]

قال أبو حامد الأعمش الحافظ: قرأ عليه إنسان حديث الحجاج بن محمد عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (كفارة المجلس إذا قام العبدُ أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك). فقال الإمام مسلم: في الدنيا أحسن من هذا الحديث! ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح، تعرفُ بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا؟ فقال محمد بن إسماعيل: إلا أنه معلول. فقال مسلم: لا إله إلا الله - وارتعد - أخبرني به! فقال: أسترُ ما ستر الله هذا حديث جليل، رواه الناس عن حجاج بن محمد عن ابن جريج. فألحّ عليه وقبّل رأسه وكاد أن يبكي فقال: اكتب إن كان ولا بُد: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا موسى بن عقبة، عن عون بن عبدالله قال: قال رسول الله ﷺ: (كفارة المجلس...) فقال له مسلم: لا يُبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك.

[ما حصل بينه وبين الذُّهليّ من سوء فهم، وما حصل له من محنة في ذلك وهو بريء]

قال أبو محمد بن عديّ: ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده؛ حسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث: محمد بن إسماعيل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثًا، فألحّ عليه، فقال البخاري: (القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة). فشغّب الرجل وقال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
فقال الذهلي: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ولا يُجالس ولا يكلّم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه، فانقطع الناس عن البخاري إلا الإمام مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة.
قال محمد بن نصر: سمعته - أي البخاري - يقول: من زعم أني قلتُ: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو كذاب، فإني لم أقله، فقلت له: يا أبا عبدالله، قد خاض الناس في هذا، فأكثروا. فقال: ليس إلا ما أقول لك.
وقال أبو عمرو أحمد بن نصر: يا أبا عبدالله، هاهنا من يحكي عنك أنك تقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: يا أبا عمرو، احفظ عنّي: من زعم من أهل نيسابور - وسمّى غيرها من البلدان بلادًا كثيرة - أنّني قلتُ: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو كذاب، فإني لم أقله إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة.

[من مصنفاته رحمه الله]

ومن تصانيفه (الأدب المفرد) و (رفع اليدين في الصلاة) و (القراءة خلف الإمام) و (بر الوالدين) و (التاريخ الكبير) و (التاريخ الأوسط) و (التاريخ الصغير) و (خلق أفعال العباد) و (الضعفاء) فهذه الكتب موجودة ومرويّة لنا بالسماع أو بالإجازة، و كذلك كتاب (الجامع الكبير) و (المسند الكبير) و (التفسير الكبير) و (الأشربة) و (الهبة) و (أسامي الصحابة) و (معجم الصحابة) و (المبسوط) و (العلل) و (الكنى) و (الفوائد).

[من روى عنه من مشايخه]

روى عنه: عبدالله بم محمد الـمُسندي، وعبدالله بن منير، وإسحاق بن أحمد السُّرماري، ومحمد بن خلف بن قتيبة ونحوهم.

[من روى عنه من أقرانه]

روى عنه: أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي عاصم، وموسى بن هارون الجمَّال، ومحمد بن قتيبة البخاري، وأبو بكر الأَعْيُن.

[من أكابر الآخذين عنه]

أخذ عنه: الإمام مسلم بن الحجاج، وصالح بن محمد الملقب بِجَزَرَة، وأبو بكر إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر الـمَرْوَزِي، وأبو عبدالرحمن النسائي، وأبو عيسى الترمذي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وأبو بكر البزّار، وأبو بكر بن أبي داود، وأبو القاسم البغوي وغيرهم.

[ما وقع بينه وبين والي بخارى وصيانته للعلم من الإهانة]

قال بكر بن منير: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احملْ إليّ كتاب الجامع والتاريخ لأسمع منك، فقال محمد بن إسماعيل لرسوله: قل له: إني لا أُذِلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي، أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان؛ فامنعني من المجلس؛ ليكون لي عذر عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم، قال: فكان سبب الوحشة بينهما.

[حبه للقاء الله]

قال عبدالقدوس بن عبدالجبار: خرج البخاري إلى خَرْتَنْكَ؛ قرية من قرى سمرقند، وكان له بها أقرباء فنزل عندهم. فسمعته ليلة من الليالي، وقد فرغ من صلاة الليل يقول في دعائه: اللهم قد ضاقت عليّ الأرض بما رحُبت فاقبضني إليك. قال: فما تم الشهر حتى قبضه الله.

[ذكرُ موته وما حصل له من كرامات]

قال ورّاقه: سمعت غالب بن جبريل، وهو الذي نزل عليه البخاري بخَرْتَنْكَ يقول: إنه أقام أيامًا فمرض حتى وجّه إليه رسول من سمرقند يريدونه أن يخرج إليهم، فتهيأ للركوب، فلما مشى قدْر عشرين خطوة قال: أرسلوني فقد ضعفتُ، فأرسلناه، فدعا بدعوات ثم اضطجع، ثم سال منه عرق كثير، وكان قد قال لنا: كفنوني في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، قال: ففعلنا، فلما صلينا عليه ووضعناه في حفرته، فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ودامت أيامًا، وجعل الناس يختلفون إلى القبر أيامًا يأخذون من ترابه إلى أن جعلنا عليه خشبًا مشَبَّكًا.
وقال عبدالواحد بن آدم الطواوسي: رأيت النبي ﷺ في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع، فسلمتُ عليه فردّ السلام، فقلت: ما وقوفك هنا يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمد بن إسماعيل، قال: فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيتُ فيها النبي ﷺ.

*** انتهى بحمد الله ***
الجمعة
١٨/ ٧ / ١٤٤١ هـ
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
فوائد وفرائد
  • فوائد وفرائد من كتب العقيدة
  • فوائد وفرائد من كتب الفقه
  • فوائد وفرائد من كتب التفسير
  • فوائد وفرائد من كتب الحديث
  • فوائد وفرائد منوعة
  • غرد بفوائد كتاب
  • فوائد وفرائد قيدها: المسلم
  • فوائد وفرائد قيدها: عِلْمِيَّاتُ
  • الرئيسية