اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/daeyat/zainab/359.htm?print_it=1

الكتاب المقدس وصياغاته المتواصلة

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

 


ما من إنسان يجيد القراءة ويطالع محاولات تجميع وطباعة نصوص الكتاب المقدس، منذ أولي محاولات صياغته حتى عصرنا هذا، إلا ويُذهل من كم الاختلافات والمتناقضات التي يتضمنها، بل وعمليات القص واللصق التي لا تُعد ولا تحصي.. ويكفي مطالعة الدراسات التي قام بها العالم ألفْريد كُوين (1921 ـ 2018) (A. Kuen)، وقد كرس كل حياته لدراسة الكتاب المقدس وكيفية تكوينه. وفي سن الخامسة والخمسين دعاه المعهد الإنجيلي "إيمايوس" في سويسرا، كأستاذ، ليتفرغ لأبحاثه حول كيفية صياغة وتكوين الكتاب المقدس. ويقول عنه البعض: "أنه كان يكتب مثلما يتنفس"! وهو أقرب تشبيه لتقييم وفرة إنتاجه وانضباطه، إذ ترك حوالي تسعين كتابا أغلبها متعلق بالكتاب المقدس وتكوينه عبر العصور. لذلك يعتبرونه مرجعية متفردة.

وقد عاونه على هذا الإنتاج المبهر علميا اجادته التامة للغتين العبرية واليونانية القديمتين. وهو ما سمح له بالقيام بهذا الجهد اللافت للنظر. وأول ما يخرج به القارئ المتصفح لأعماله هي صدمة محبطة حول ذلك الكتاب المقدس، الذي عانى على مر التاريخ من التغيير والتبديل والحذف والتأليف، منذ تجميع أولي صفحاته التي تتبدل من طبعة لطبعة بل وحتى أخر طبعة. وهو ما أكده ربي ثلاث مرات: {يحرفون الكلم عن مواضعه}.

ولو ألقينا نظرة خاطفة على ما قام به إجمالا ألفريد كُوين، لهالنا كم عمليات النقل والتغيير والتعديل، بل كم الطبعات التي دخلت التاريخ ثم يتم تغييرها أو تصويبها، وجميعها تتخبط حول الأصول الرئيسية التي تاهت ويتم استنتاج معانيها. الأمر الذي نتج عنه عشرات الطبعات الرسمية المختلفة. وتُعد الترجمة "السبعينية"، وهي باللغة اليونانية نقلا عن العبرية البداية المزعومة. قام بترجمتها اثنان وسبعون يهوديا في الإسكندرية التي استقروا بها بعد هدم الرومان للمعبد سنة سبعين وطرد اليهود كلّية من فلسطين.. والترجمة المسماة "الڤولجات" وهي باللاتينية، نقلا عن اللغة العبرية، وهي أساس آخر لذلك الكتاب المقدس الذي لا أصول له على الإطلاق..

وأول معلومة صادمة في تاريخ صياغة الكتاب المقدس هي ان الكيان الكنسي برمته لا يمتلك أية مخطوطات أصلية للست وستين إصحاحا المكونة له، وإنما لديه نسخ منسوخة عن نسخ سابقة النسخ المنسوخ. وفيما يتعلق بالعهد القديم، "الترجوم"، فهي ترجمة بالآرامية عن العبرية التي تلاشت بعد نفي اليهود وأصبحت اللغة العبرية لغة غريبة. ويقول الفريد كُوين ان هذا هو النص الذي كان يستخدمه يسوع وأتباعه في المعابد اليهودية.

ففي القرن الثالث قبل الميلاد كان الاهتمام بالديانة اليهودية كبيرا وتمت ترجمة العهد القديم باليونانية. وهي ما يُطلق عليها الترجمة السبعينية التي استخدمها المسيحيون الأوائل. أي إن المسيحيين بدأوا بنصوص مترجمة قد ضاعت أصولها أو لا أصول لها..

ومنذ القرن الثاني تمت ترجمة الكتاب المقدس عدة مرات باللاتينية عن الأصول اليونانية. وفي القرن الرابع كان البابا داماز قد طلب من القديس چيروم أن يُدمج الخمسين نسخة مختلفة متداولة ليخرج منها بكتاب واحد. فجمع نسخ العهد القديم نقلا عن العبرية، والمزامير نقلا عن النسخ المختلفة للسبعينية، والعهد الجديد من قرابة خمسين نسخة مختلفة ومتداولة آنذاك. وهذه النسخة المجمّعة التي قام بدمجها وصياغتها القديس چيروم استغرقت خمسون عاما لتستقر في المجتمع تحت اسم "الڤولجات" (Vulgate) أو الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس. وقد أشار چيروم إلى الكتب التي يجب استبعادها تماما وأطق عليها "أبوكريفا"، أي الأناجيل المحذوفة. إلا أن الكنيسة الكاثوليكية قد أدمجتهم فيما بعد رغم استبعاد القديس چيروم لها على أنها مزيفة. وأصبحت هذه "الڤولجات" هي النسخة الرسمية للكتاب المقدس طوال القرون الوسطي، وظلت معتمدة في الكنيسة حتى القرن العشرين.

الكتاب المقدس في عصر الإصلاح: نُسخ الملك چيمس، ونسخة أوليڤتان، وأوستروالد:
هناك ثلاثون ترجمة تقريبا للكتاب المقدس بالألمانية قبل ترجمة لوثر. وقد بدأ بالعهد الجديد اعتمادا على النَص اليوناني للاهوتي إيراسم، وهي تراكمات عاجلة لمختلف المخطوطات. أي أن الترجمة التي قام بها لوثر بها بعض الأخطاء إلا أنه ما من أحد في ذلك الوقت كان بإمكانه أن يحددها. وقد لاقت هذه الترجمة نجاحا كبيرا، إذ أنه بدلا من اللجوء الي الترجمة الحرفية، جاهد ليكون النص منطقيا مفهوما من رجل الشارع. ثم بدأ ترجمة العهد القديم بالتعاون مع بعض المختصين لجعل النص واضحا..

وفي القرون الوسطي تمت ترجمة أجزاء من الكتاب المقدس عدة مرات باللغة الإنجليزية. ثم قام ڤيكليف بعمل ترجمة كاملة. وعلي الرغم من تحريم الملك والبابا لتداولها فقد بيع منها مئات النسخ.. وفي القرن السادس عشر تمت ترجمات جديدة أهمها ترجمة الأيرلندي تندال (Tyndale) الذي قتلته الكنيسة خنقا سنة 1536. ثم صدرت ترجمة الملك چيمس سنة 1611 وقد استعان تقريبا بتسعة أعشار ترجمة تندال. وقد هوجمت هاتان الترجمتان ولم تستقرا إلا بعد أربعين عاما لتظل متناولة لمدة قرنين تقريبا.

أما بالنسبة للغة الفرنسية فقد ظهرت ترجمة لوفڤر للعهد الجديد سنة 1523، مستعينا بالڤولجات لكنه قام بتغيير 59 فقرة عن النص اليوناني. وتم نشر كتابه المقدس سنة 1530. وفي عام 1535 تم نشر الكتاب المقدس وفقا لمنظمة جبل الزيتون بالاستعانة بالمخطوطات العبرية واليونانية. وفي عام 1744 ظهرت ترجمة اوسترڤالد اعتمادا على ترجمة دافيد مارتان، لكن ترجمة الكلمات العبرية واليونانية لم تكن أفضل وفقا لألفريد كُوين.

الترجمات المعاصرة لكتاب المقدس:
ظهرت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ترجمات جديدة أهمها داربي، ولويس سجون، والكتاب المقدس لمعهد القدس، وتوب TOB ـ وجميعها بالفرنسية. وقد لعبت الجماعات الإنجيلية دورا كبيرا في نشر الكتاب المقدس والترجمات الجديدة. وفي أواخر القرن التاسع عشر صدرت طبعة الأب كرامبون، وهو أول نص كاثوليكي تتم ترجمته عن الأصول العبرية واليونانية. وظلت الترجمة الكلاسيكية حتى منتصف القرن العشرين.

وتوالت الترجمات والطبعات، ففي 1950 ظهرت الترجمة الكاثوليكية للقس ماردسو، وترجمة لينار سنة 1955، وترجمة الكتاب المقدس للقدس سنة 1956 بأسلوب فرنسي يصعب فهمه، وقد عمل بها ثلاثة وثلاثين مترجما بمعاونة العديد من المفسرين، مما نجم عنه اختلافات شديدة بين الإصحاحات. وقد تم اختصار كلماتها في الطبعات التالية فوصل عددها الي 27000، ثم الي 14000، بينما العهد الجديد اليوناني فيتكون من خمسة آلاف كلمة.. وتقليل الكلمات واضح أنه يعني حذف أجزاء غير مرغوب فيها.

ولا بد من الإشارة الي الترجمة المسكونية للكتاب المقدس المعروفة باسم توب TOB، التي قام بها علماء كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس. والنتيجة، على حد قول الباحث ألفريد كُوين: "كتاب مقدس لا يُغضب أحدا" فكل فريق قد حذف أو عدّل ما لا يروقه.. وفي عام 1985 ظهرت طبعة الكتاب المقدس الارتجالية للصهيوني أندريه شوراكي التي يصعب فهمها لكنها حظيت بدعاية فائقة.. وقد قام بعمل ترجمة لمعاني القرآن الكريم بهدف توحيد الرسالات الثلاثة، وترجم كلمة الرحمن اشتقاقا من كلمة رحم المرأة قائلا: "أن الله يعطي رحمه لمن يشاء"..

كلمة حول المخطوطات:
من الواضح أن الترجمة عن نصوص يونانية ضاعت أصولها يؤكد أن النتيجة ستكون نصوص ارتجالية مليئة بالأخطاء والأهواء كما هو واضح في الصور بعاليه، كما يثبت يقينا أنها لا تمت إلى الوحي بأية صلة.. فالنقل عن نقل منقول من حضارة ضاعت معالمها وهي أبعد ما تكون عن الحضارة المعاصرة لتكوين المسيحية.. كما أن الأبحاث التي تمت في القرن العشرين لم تسمح بالعثور على مخطوطات للعهد الجديد بعد جيلين من "الأصول" المعروفة، خاصة أن النصوص القديمة غير كاملة أو تالفة بفعل الزمن.

أي أن الطبعات التي لا تعد ولا تُحصي للكتاب المقدس لا أصول أصلية لها. وذلك بخلاف تغيير النص نفسه من عصر إلى عصر، إن لم يكن من طبعة الي طبعة أحيانا. وسأضرب مثلا واحدا لجملة موجودة في النص العربي طبعة 1671 من العهد القديم وهو مترجم عن الڤولجات وموجود بها. ويقول النَص:
"فجمع داود جميع الشعب وسار إلى رابة فحارب أهلها وفتحها. وأخذ تاج مَلكهم عن رأسه وكان وزنه قنطارا من الذهب، وكان فيه جواهر مرتفعة، ووضعوه علي داود وغنيمة القرية أخرجها كثير جدا. والشعب الذين كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بموارج حديد وقطعهم بالسكاكين وأجازهم بقمين الأجاجر كذلك صنع بجميع قري بني عمون ورجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم" (سفر الملوك الثاني 12: 29 ـ 31).

وقد تم حذف هذه الفقرة من العديد من الطبعات الأجنبية والعربية وأصبح الإصحاح الثاني عشر من سفر الملوك الثاني يتوقف عند الجملة 20 أو 21.. وهناك بعض الطبعات التي غيرت المعني وأنه بدلا من القتل والنشر والحرق في كمائن الطوب تم تعيينهم كعمّال وموظفين يعملون على هذه الأجهزة!

والطريف أن أغلبية المسيحيين لا يعرفون أو يتجاهلون ان الفاتيكان قد تراجع عن مقولة: "ان الرب هو مؤلف الكتاب المقدس"، في مجمع الفاتيكان الأول سنة 1869، قائلين "أن الرب قد ألهم الحواريين عن طريق الروح القدس". وفي مجمع الفاتيكان الثاني المنتهي سنة 1965، تم التوصل أثناء المناقشات الي عبارة تقول: "إن هذه الكتب وإن كانت تتضمن الناقص والباطل، فهي مع ذلك تُعد شهادات لعلم تربية إلهي". ويقول النص الفرنسي:
« Ces livres, bien qu’ils contiennent de l’imparfait et du caduc, sont pourtant les témoins d’une pédagogie divine » !
وتم استبعا ان الرب هو الملف. والغريب أنه بعد كل هذا التاريخ الثابت والمدوّن، والذي ينص بصريح العبارة طوال ألفا عام تقريبا، على ان الكتاب المقدس لا أصول له وأنه من صياغة البشر، وأنه نقل عن نقل منقول ولا أصول له، يُجيّش الفاتيكان كل أتباعه لاقتلاع الإسلام وتنصير العالم..

وقد وصف ربي من قاموا بهذا التحريف المتواصل قائلا:
{أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} ‎﴿عبس٤٢﴾‏؛
أما كل ما قاموا به من تغيير وتعديل وتبديل في نصوص لا أصول لها، عبر مئات السنين، لتأليه المسيح ولابتداع الثالوث، فلخصها ربي سبحانه بإعجاز معجز قائلا في سورة الإخلاص:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‎﴿١﴾‏ اللَّهُ الصَّمَدُ ‎﴿٢﴾‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‎﴿٣﴾‏ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‎﴿٤﴾‏}.


زينب عبد العزيز
21 أكتوبر 2021

 

 
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط