اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/daeyat/sara/97.htm?print_it=1

الثقة بالنفس

سارة بنت محمد حسن


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبدا ورسوله

هناك خلل منهجي عام في بعض الدورات الانتقائية للتنمية البشرية أحببت التنبيه عليه لما له من انتشار بين الناس لعل الله أن يوفقنا لما فيه مرضاته

هذا الخلل هو تركيز الكثير من الدورات على الثقة بالنفس وإبراز الإمكانيات الشخصية في الإنسان
ولكي نفهم مكمن الخلل في هذه المسألة فنوضح الآتي:

1- ما معنى الثقة بالنفس؟

في اللغة : الثقة من الوثاق يعني الرباط ...
وجاء في مقاييس اللغة:"الواو والثاء والقاف كلمةٌ تدلُّ على عَقْدٍ وإحكام.
ووثَّقْت الشّيءَ: أحكَمْتُه." اهـ

وفي الاصطلاح قد يحتمل معناها : التعرف على إمكانيات النفس لكي يستغلها الإنسان ولا يهدرها.

وقد يكون معناها الإنسان يرتبط بالنفس أو يضع عقده عليها ووثاقه بها

فإذا كان المعنى الأول فهو حق ولكن التركيز عليه وتكراره يؤدي إلى الثانية ولا شك

ولكي نفهم الأمر أكثر ننتقل لرقم 2

2- أولا السمت العام للكثير من الدورات التي تتناول الثقة بالنفس (الكثير ليس تعميم)

أقول السمت العام يتناول ""التركيز على السمات الشخصية والمميزات بحيث تبرز جدا جدا وكثيرا ما يعتبر البعض أن تعريف الثقة بالنفس هي الإيمان بها! أو "نوع من الاطمئنان المدروس إلى إمكانية تحقيق النجاح والحصول على المبتغى"
وهم وإن كانوا يعترضون على التكبر والغرور والغطرسة والعجب غير أن "الركون" للسبب أو تغليب "السبب" مشكلة!

إن القلب أصلا يتقلب والأيسر أن نعتمد على النفس ونثق في قدراتها ونميل معاها و"""""نغفل""""" عن الاعتماد عن الخالق
إن هذا مرض معروف من أمراض القلوب
والغفلة داء جميعنا يعاني منه بمستويات مختلفة والسعيد حقا من وفقه الله تعالى لتفويض الأمر له مع الأخذ بالأسباب فصار هذا ديدن له لا يكاد يغفل عنه فيسلم قلبه قال تعالى:"يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم"

وكل أعمال القلوب لها شقين: شق الأخذ بالأسباب وشق تفويض الأمر لله ومعرفة قدر النفس وقدر الرب
التوكل للرجاء لحسن الظن ...الخ الخ الخ كل هذه الأعمال يدور رحاها حول هذين المعنيين

وعلى قدر تفويض الأمر لله على قدر ما يحقق العبد العبودية ..ويؤخذ بالأسباب لأن عدم الأخذ بها قدح في العقل ولكن مناط الأخذ بالأسباب الجوارح وليس القلب فلا يكون القلب متعلقا بالأسباب محبة ورجاء ولا ثقة وركونا!
ومن أسهل الأشياء أن يركن المرء للسبب لأن دوام اليقظة والانتباه والتعلق بالله رغم لذته لكن لا يقدر على الديمومة عليه في أغلب الأحوال إلا القليل

ما علاقة الثقة بالنفس بهذا الكلام
بالعودة للمعنى اللغوي والاصطلاحي مرة أخرى سنجد أن تكرار مميزاتنا والاعتماد عليها والوثوق بها ركون إلى ضعيف ..فنحن لو فعلنا ذلك ضيعنا وفرطنا وغفل القلب جزما عن خالق الأسباب ومسببها!

وأما التعرف عليها فقط لاستخدامها مع قوة الاعتماد على الله فهو جيد حسن وهو لا يحتاج كل هذه الضجة والدورات...
وكل هذه الدورات تكرر بقوة كيف نثق في أنفسنا فأين نصيب قوة الاعتماد على الله جل وعلا من ذلك؟

وإنكار الأثر السلبي لهذا التكرار غير مقبول ولا معقول فالسمت العام لمرتادي هذه الدورات يختلف عن سمت المفتقرين لله تعالى العالمين بقدر أنفسهم دون إهدار للإمكانيات والمميزات...ولا أعني بالمفتقرين إلى الله هؤلاء الدروايش المتواكلين

ورغم "الأسلمة" التي يمارسها البعض في هذه الدورات غير أن الأثر السلبي لايزال مستمرا
وهذا بسبب :

3- ارتباط العقد باللفظ

ما معنى ذلك؟
إن الإنسان حين يكرر أنه عبد فقير إلى الله ضعيف لا ملجأ ولا منجى له إلا بالله وأن ما له من مميزات ونعم إنما هي نعم من الله إن شاء وكله إليها فتخذله أحوج ما يكون إليها
هذا سمت
وأما سمت : أنا قادر على فعل كذا ...أنا ذكي "الحمدلله" أستطيع أن أفعل كذا ...أنا ..أنا ..أنا ..الخ هذا السمت وترديده وإبرازه مضر جدا بالقلب

نعم أحيانا نحتاج لمعرفة ذلك والتكلم به مثل ما قال نبي الله يوسف عليه السلام:" اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" لكن هذا لم يصدر عن نبي الله على سبيل التزكية ولا الركون للنفس ومميزاتها ولا هو تكرار مستمر وتضخيم لحالة النظر للأسباب على حساب تعلق القلب بالله
بل هو من باب الإخبار فحسب

وهذا لن يتأتى من باب الإخبار إلا مع ثبات المعنى الصحيح من الافتقار إلى الله ومعرفة قدر العبد وعدم الركون للنفس

فما ظنكم بالمجتمع الذي فيه خلل في معاني الافتقار وصار حاله كحال بني إسرائيل يبتغي سببا يركن إليه ويطمئن لوجوده!

إن القلب يتأثر بما يسمع وبما ينطق به لسانك ...ولسانك يغرف من قلبك

4- هل هناك أدلة على هذا الكلام؟

الأدلة كثيرة بل الدين كله تأكيد على معاني الافتقار إلى الله مع الأخذ بالسبب دون ركون إليه!
فنذكر على سبيل النمثيل دون الحصر

-- قال تعالى:" والذين يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة"
والآية كما في تفسيرها الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:لَا يَا اِبْنَة الصِّدِّيق وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُتَقَبَّل مِنْهُمْ

فهل هذا منهم عدم ثقة بمعنى أنهم مصابون بالوسوسة مثلا وبحاجة لعلاج؟ هل هم لا يدرون هل كانوا مخلصين لله أم مرائين؟

قال ابن كثير:"لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَام بِشُرُوطِ الْإِعْطَاء وَهَذَا مِنْ بَاب الْإِشْفَاق وَالِاحْتِيَاط "
فهؤلاء يأخذون بالأسباب ويجتهدون فيها ولكن في القلب وجل من عدم القبول والسداد لأنهم يعرفون أن القبول منة وفضل من الله تعالى

وهذا وإن كان دليل في الأخذ بأسباب دخول الجنة غير أنه يتأكد في أسباب الدنيا ولا شك فمبدأ الأخذ بالأسباب واحد.

فلماذا لا يثق المرء بنفسه ويقول قد عملتُ فلتقر عيني!
لا ..لا مطلوب ولا محبوب لله ...المحبوب لله ألا يركن الإنسان لنفسه وعمله سواء كان العمل سببا دينيا أو سببا دنيويا

-- وقال تعالى:" يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هوالغني الحميد
وقال تعالى:" حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا

-- كان النبي يقول:"اللهم لا تكلهم إليّ فأضعف ، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم" اختلف في تصحيحه وصححه الألباني
ولا شك أن الثقة بالنفس نوع من الاتكال عليها ...فالسؤال أين قلبك: مع الله أم مع السبب؟

-- وكان النبي يستغفر في اليوم 70 مرة وفي روايات 100 مرة وفي روايات في المجلس الواحد 100 مرة أو 70 وكل ذلك ثابت
لماذا؟ قال إنهلَيُغانُ على قلبي . وإني لأستغفرُ اللهَ ، في اليومِ ، مائةَ مرةٍ

...الغفلة اليسيرة يستغفر منها ...فكيف بغفلاتنا؟ وكيف بحال قلوبنا؟

-- وهو صلى الله عليه وسلم القائل : لن يُدخِلَ أحدًا عملُهُ الجنَّةَ قالوا : ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ ؟ قالَ : لا ، ولاأنا ، إلَّا أن يتغمَّدَنِيَ اللَّهُ بِفَضلٍ ورَحمةٍ ، فسدِّدوا وقارِبوا ، ولا يَتمَنَّيَنَّ أحدُكمُ الموتَ " رواه البخاري وفي رواية:"سدِّدوا وقارِبوا ، واغدوا وروحوا ، وشيءٌ من الدُّلجةِ ، والقصدَ القصدَ تبلُغوا"
وفي رواية مسلم:"سدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا . فإنَّهُ لن يُدْخِلَ الجنَّةَ أحدًا عَملُهُ قالوا ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ قالَ ولاأَناإلَّا أن يتغمَّدَنيَ اللَّهُ منهُ برحمةٍ واعلَموا أنَّ أحبَّ العملِ إلى اللَّهِ أدوَمُهُ وإن قلَّ"

فانظر إلة هذه الكلمات كيف تربي فينا سمت الافتقار مع الأخذ بالأسباب

-- وقال النبي لفاطمة :ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي :" إذا أصبحت وأمسيت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا" حسنه الألباني

لا تكلني إلى نفسي في أي أمر دنيوي أو شرعي

هذا ما يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته لم يقل لها رددي صباحا ومساءا أنا إمكانياتي كذا أنا ابنة النبي أنا ذكية أنا قادرة وقوية على فعل كذا
بل يعلمها أن تعرف قدر نفسها وقدر مولاها

شتان ثم شتان بين شعور الافتقار الله قلبا وقولا وفعلا في الدين والدنيا وهو شعور الذيذ بتفويض الأمر لله تعالى عالما أن كل ما أعمل وكل ما آخذ به من سبب ليس له قيمة وأن ذكائي وخبرتي وقدراتي لا شيء إلا أن يتغمدني الله برحمته

هذا أقرب للصبر والرضا بما يقدره الله ..فرب طالب ذاكر ولم ينجح ...ليبلوكم!
أما أن يكون الأمر مستقرا في النفس أنه إن ذاكرت تنجح ...دون استشعار "إن شاء الله"!

-- قال تعالى :" ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ألا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت"
وجاء مثل ذلك تفسير قوله تعالى :"ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب"

فمهما كان الأمر فعلقه بالمشيئة ولا تركن لنفسك وللأسباب الظاهرة لك...وليست " إن شاء الله" كلمة تجري بها الألسن دون يقظة القلب لمعناها وارتباطه بها!

-- وقوله تعالى في شأن سليمان عليه السلام:"فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني ان أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"
بخلاف شأن قارون حين قال:" قال إنما أوتيته على علم عندي"

-- وقال تعالى :" ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت"

كلنا يعرف قصة غزوة حنين وأن المسلمين قالوا لن نغلب عن قلة وأعجبهم كثرتهم و "مميزاتهم" ونعمة الله عليهم فخذلوا ثم نصرهم الله نصرا من عنده

وفي قصة سيدنا موسى والخضر عبرة كذلك

-- وقال ابن القيم" إن في القلب خلة وفاق لا يسدها شيءألبتة إلا ذكر الله وما ولاه....إلى أن قال:"فيكون صاحبه غنيا بلا مال عزيزا بلا عشيرة مهيبا بل سلطان
فإن كان غافلا عن ذكر الله عز وجل فهو بضد ذلك فقير مع كثرة جدته ذليل مع سلطانه حقير مع كثرة عشريته :اهــ

ويقول كذلك:"
يقول ابن القيم في طريق الهجرتين: فصل فيما يغني القلب ويسد الفاقة:
فيجعلك أهلا لما لم تكن أهله قط
وإنما هو الذي أهّلك بسابق ذكره لك بكل جميل أولاكه لم يكن بك إليه سبيل
ومن الذي ذكرك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام؟؟
ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها وأوقعها في قلبك؟؟" اهــ

-- الأدلة والقصص كثيرة ومن يتتبع سير العلماء وسمتهم يجدهم أبعد الناس عن الركون للنفس لا بلسان الحال ولا بلسان المقال

فتنبه لهذا الباب فإن الافتقار إلى الله لب العبودية فلا ينبغي أن نترك مثل هذا الخلل يعيث فسادا بقلوبنا

اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا

 

 

سارة بنت محمد
  • الأسرة
  • وسائل دعوية
  • درر وفوائد وفرائد
  • تربية الطفل المسلم
  • قضايا معاصرة
  • عقيدة
  • رقائق
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط