اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/daeyat/sara/12.htm?print_it=1

أنت مجرد طالبة علم

سارة بنت محمد حسن


كانت تشعُر بالسعادة.

لماذا؟

لأنَّها تمكَّنت أخيرًا من التَّدريس بمسجد.

كان مسجدًا بعيدًا.

لكنَّها كانت رغْم كل شيء سعيدةً.

أنتم تعرفون صعوبة أن يُوافق مَجلس إدارة مسجد على تدريسها فيه.

وتعرفون الأسباب طبعًا.

أبلغت حلقتها بالموعد ووصفت لهم المكان.

هل ترون الحلقة؟

ما شاء الله، لا قوَّة إلا بالله.

أتتعجَّبون من كونِهم أقرانَها في السنِّ؟

أتتعجَّبون من وجودِ مَن هم أكبرُ منها في السن؟

هكذا العلم، لا يعرف سنًّا.

إنَّما يعرف ضبطًا وحسنَ تأصيل، وقبل ذلك توفيقًا من الله تعالى.

لكن ليس كلُّ الطُّلاب يعرفون هذا.

هناك مَن يشعر بـ ... بماذا؟

دعنا لا نسبق الأحداث.

نترك لكم الحكم.

بذلت الأخت مَجهودًا مُضْنيًا مع هذه الحلقة لتعلِّمهنَّ ما تعلَّمت.

فقد أفنت سِنَّها الصغيرة في العلم.

تعلَّمن منها شُروح الحديث، والعقيدة الصافية، والسيرة.

أقرأتْهُنَّ القرآن.

لم تقصِّر ولم تألُ جهدًا.

لم تبخلْ عليْهِنَّ بأي شيء ممَّا أعطاها الله من العلوم والفنون.

ومرَّت الأيَّام والحلقة في تقدُّم.

ثُمَّ توقَّفت الحلقة فترةً لظروف وضْع الأخْت لطِفْلها الرَّابع.

ثُمَّ عادت الإدارة تُطالِبُها بعمل نادٍ صيفي للأولاد.

فعادت الأُخت للمسجد وهي تَحمل رضيعَها على كتفها.

وما أدراك كم المشقَّة!

اتَّصلت الأختُ بعدَّة طالبات.

ممَّن حضرن معها في الحلقة، ممَّن أخذن منها عِلْم الاعتِقاد، وقرأْنَ عليْها من كتاب الله.

عرضت عليهِنَّ مساعدتَها في إعادة النَّشاط للمسجد.

لكن هذه المرَّة العمل سينحصِر في حلقات الأطفال.

رحَّبتْ بعض الأخوات، واعترضتْ أُخريات لانشغالِهنَّ بأنشطة في مساجد أخرى.

عذرت الأختُ من اعتذرت.

ولِمَ لا؟ والهدف الجنَّة، فمن عمِل في هذا المسجد أو في غيره فهو يُحقِّقُ الهدف.

وبدأت العمل مع باقي الأخوات، اللاتي اشترطنَ عوْدة الحلقة القديمة.

درس الأخت:
وافقت الأخت، مع الاتِّفاق على أنَّها لن تكون مسؤولة إلاَّ عن حلقتها الخاصَّة بها.

وأنَّ نشاط الأطفال سيكون مسؤوليَّة الطالبات اللاَّتي وافقنَ على العمل.

وبدأت الحلقات.

كانتِ الأُخْت تردِّد دائمًا.

هذا مسجد جديدٌ.

يَحُتاج للصَّبر؛ ليعرفَه النَّاس، ويؤمُّونه.

والأخوات يردِّدْنَ: نعلم هذا جيِّدًا، سنصبِر.

ومرَّ أسبوع.

نعم، لا تتعجَّب.

أسبوع واحد فقط.

يعني ثلاثة أيَّام حضور في المسجد.

ثُمَّ انسحبت الأولى.

ثُمَّ الثانية.

وحضرت الأخت في يوم لتقابِل آخِرَ أُخْت ثابتة على العمل معها في المسجد.

رغْم مرضِهْا حضرت، رغْم مشقَّة الخروج بطفل حضرت.

وظلَّت منتظِرة طويلاً، فلم تحضر الثَّالثة، واتَّصلتْ تعتذر.

عادت الأُخْت لِمنزلها البعيد وهي تتعجَّب.

لماذا لم تفِ أيٌّ من طالباتِها بِما قطعته على نفسها من وعود؟!

لقد كان هناك أطفال، وكان النشاط سيستمر، وسيتَّسِع.

وكمْ نبَّهت على ضرورة الصَّبر.

وكم ردَّدنَ أنَّهن سيصبِرْن؛ ليحقِّقن الحلم.

المسجِد الذي نشأ على السُّنَّة، بأيديهن وعلى أكتافهنَّ.

على التصفية، والتَّربية، على مبادئ الجماعةِ والسُّنَّة.

تعجَّبت مُعلِّمتُهن من الانسحاب السريع.

وتساءلت: لماذا وعدْنَها ومنَّيْنها بتحقيق الحلم؟!

إنَّها تأتي رغم المشقَّة ومعها رضيعها، وتَجلس تنتظرهُنَّ لتُنْجِز وعدَها لهنَّ باستِمْرار الحلقة.

وقد لا يأتي إلا واحدةٌ منهنَّ.

وتتغيَّب الباقيات.

لماذا؟!

بل هي اليوم مريضة لكنَّها آثَرَتِ النزول وفاءً بالوعد.

اتَّصلت بإحدى الطَّالبات التي وعدتْها بالاستِمْرار في المسجد.

وسألتْها بهدوء: لماذا لم تحضري اليوم الاجتماع؟

قالت لها باندفاع: لا أحدَ يحضُر من الأطفال، وأنا آتي وأنتظر ثم أعود لمنزلِي، وهذا النشاط ليس له فائدة، واليوم كان لديَّ عدَّة أعمال، ولم أستطِعْ تأجيلها.

قالت لها بِهدوء ظاهري لا ينمُّ عن ثورتها الداخلية: عجبًا؛ كنتُ اليوم بالمسجد، ووجدت أطفالاً، ولم أجِد معلمات! ثم ألَم نتَّفق أنَّ المسجد يحتاج لصبر؟!

قالت الطالبة بعصبيَّة: لا، لم يعد لديْنا وقت.

قالت لها في حيرة: لم يَعُدْ لديْنا وقت لماذا؟

قالت الطالبة بانفعال: ولماذا نأتي نحن ونَجلس في انتظارِ حضور هؤلاء الأطفال غير المنتظمين، وأنت جالسةٌ في بيتِك لا تُعانين أيَّ مشقَّة!

ضبطت المعلمة أعصابَها بصعوبة، فهي تعرف أنَّ الفرق العمريَّ القليل بيْنَها وبين تلميذتِها أنسى الأخيرةَ حسن الأدب معها.

قالت في هدوء: كم مرَّةً حضرت إلى المسجد من أجل حلقتنا وجلست أنتظر فلم يأت أحد؟

قالت لها الطالبة – ولا تزال منفعلة -: لا أعرف ولا أريد أن أعرف، ليس من شأني؛ أنا منضبطة، وعندما أغيب أعتذر، كما أنَّ هناك مساجدَ قريبة من بيتي، وهي أولى بطاقتي وجهدي.

قالت المعلِّمة وهي لا تزال تُحافظ على هدوءِ كلِماتها: وهل منعْتُك من العمل في أي مسجد؟ لقد عرضت عليك الأمْرَ من بدايتِه بمنتهى الصَّراحة، فهل ظهرت هذه المساجدُ فجأة؟ ثُمَّ إنَّني أعاني المشقَّة أيضًا في الذهاب إلى الحلْقة الخاصَّة بكم، وكان الأفضل لي إذًا أن أوفِّر طاقتي، وأبحث عن مسجد قريب من بيتي الجديد.

ثُمَّ صمتتِ المعلمة لحظة، ثم قالت: على أيِّ حال مادام هذا منطقكم، فأنا لا أستطيعُ الاستِمرار في تدريس الحلقة إلا عندما تفينَ وعودَكن، وتُقِمن المسجِد على أكتافكن. أنا لم أُجْبِر أحدًا على شيء و ...

قاطعتْها الطالبة بانفعال: لا يهمُّ، لا تُدرِّسي في الحلقة؛ فالعلم لن يقِفَ عندك، العلم في كلِّ مكان، وأنت الخاسرة.

سكتتِ المعلِّمة مبهوتة!! ثُمَّ قالت للطَّالبة: حسنًا أستأذِنُك الآن فأنا مُرْهقة جدًّا.

قالت لها: مع السلامة.

ظلَّت المعلِّمة مصدومة ممَّا حدث.

هل هذا هو الأدب؟!

هل هذا هو الأدب مع مَن تعلمت على يده؟! لماذا؟!

هل صِغَر سنِّها يُتيح لطلَبَتِها تعدِّي حدودِهم معها؟ وبِهذه الطَّريقة المَهينة؟!

ألَم يشفع لها عند طالِبَتها معلومة تعلَّمتها على يديْها؟!

ليْتها عاملتْها حتَّى كصديقة لا كمعلِّمة، ليتَها تعاملت معها بذوْق وأدب العرف بين الأصدقاء، لكن جرحتْها بقسوة، وليت الجرح كان لنصحٍ صادق!

هي لا تريد أن يبجِّلنها لأنَّهنَّ تعلَّمن على يديْها، لكن لا تحب أن تُهان، ولِماذا تُهان؟!

ظلَّت تؤنِّب نفسها وتقول: لعلَّها أحسَّت أنَّني استكبرتُ عليْها.

ظلَّت في هذا الحُزْن عدَّة أيَّام، ثُمَّ عاودت الاتِّصال بالأخت لتؤلِّف قلبها، ففي النِّهاية هما أُخْتان في الله.

قالت لها بجفاء: أنا متضايقة منك.

سكتت المعلمة على مضض ثم قالت: لماذا؟

قالت: لأنَّك تتطاولين بعلمك عليَّ.

قالت المعلِّمة: عن أي تطاوُل تتحدثين؟

قالت: لأنك تريدين فرْض رغباتِك علينا.

قالت المعلمة: فرْض ماذا؟ رغباتي أنا؟ اسمعي يا صديقتي، أنا لم ولن أُجْبِر أحدًا أن يدرس في مكانٍ ما يَخصُّني مقابل العِلم الذي يصيبُه مني؛ فالعِلْم ليس حِكْرًا على من ينفِّذ رغباتي، لكِنْ ألَم أتَّصل بك في بداية المسجد أنت والأُخْريات، أنت وافقتِ على التدريس في المسجد في حين اعتذر غيرك، أليس كذلك؟

قالت: بلى.

قالت المعلمة: هل طردتُهم من الحلقة؟ هل منعتُهم الدَّرس؟

إنَّني أقدِّر ظروف كلَّ أخت، أخت قد تتحمَّل مشقَّة الحضور للمسجد يومًا واحدًا؛ لكي تحصل علمًا نافعًا، وأخرى لا تستطيعُ الاستِمْرار لعدَّة أيام، أنا احترمتُ رغباتِهنَّ ولم أشترط على أحدٍ للحضور للحلقة أن تُدَرِّس في المسجد. بل حتى مَن وافق على التَّدريس لم أشترِطْ عليْه أسلوبًا معيَّنا، لم أفْرِض عليه أيَّ شيء.

هناك مَن قطع وعدًا على نفسِه، بدون إكراه منِّي وبدون اشتراط منِّي، كنتِ تتحدَّثين عن مسجد تُديرينَه بنفسِك على السُّنَّة، كانت أمنيَّتك قبل أن تكون أمنيتي، وعندما تمكَّنَّا من البدْء في تَحقيق الحلم ورأيْنا المشقَّة انسحبْنا، وليْتنا انسحبْنا بهدوء!

توقَّفت المعلمة لحظةً ثُمَّ أكملتْ بِحزن: انسحبتِ وأنت تلقين أحجارًا صمَّاء عليَّ، جرح شديد أن يُصيبَني منك أنتِ بالذَّات مثلُ ما أصابني من الكلِمات القاسية الجارحة.

أخبريني يا صديقتي، هل يصحُّ أن يصدر هذا من إحْدى صديقاتي فضلاً عن طالباتي؟

انفعلت الأخت وقالت: ما هذا؟ أنتِ لسْتِ معلِّمة كبيرة إلى هذه الدرجة، ماذا تظنِّين بنفسك؟ ما هذا الغرور؟! أنت مجرَّد طالبة علم صغيرة، جلستِ معنا عدَّة جلسات لنتذاكر، فهل صيَّرتِ نفسَك بذلك شيْخَتَنا ومعلِّمتَنا؟ أنتِ مثلُنا جميعًا لا فضْل لكِ عليْنا.

ثم إنَّك تتعاملين باعتِبار أنَّ حلقتَك لا مثيلَ لَها، هل ظننْتِ أن إجازاتِك تُتيحُ لكِ أن تتكبَّري عليْنا هكذا؟!

بهتت المعلمة، وبحَّ صوتُها، فلم تستطِعْ أن تُصْدِر صوتًا، ثم استجْمعتْ قوَّتَها وقالت: أتكبَّر عليْكُنَّ؟! وهل صدَر منِّي شيء من هذا؟

أكملتْ بانفعال: نعم، كلُّ لهجَتِك ولُكْنتك تدلُّ على هذا، هل تظنِّين أنَّ متابعة الشَّيخ فلان لِهذه الحلقة، وموافقته على تدريسِك فيها يدلُّ على أنَّك أفضل؟! فقط نَحنُ قبِلْنا أن نُذاكِر معك؛ لأنَّنا كنَّا نَحسبُك على خير، وهذا شرف لك، وكان جديرًا بكِ أن تسجُدي لله شُكْرًا على أنَّ هناك مَن يَحضُر هذه الحلقة معكِ رغم صغر سنِّك، وأكرِّرُها لك، لن نذهَبَ للمَسْجِد ثلاثة أيام وأنت جالسة في بيتك، ولا تتعلَّلي بالرَّضيع، وعدم تدريسِك في الحلقة لا يهمني، وأنتِ الخاسرة.

قالت المعلمة: حسنًا هذا يَكفي، أستأذِنُك الآن.

قالت الأخت - وهي لا تزال منفعلة -: تفضَّلي.

مرَّ أسبوع ثُمَّ اتَّصلت أختٌ أُخْرى بِها، وقالت في أسف: لقد بلغني ما حدَث واتَّفقت أنا وسائر الحلْقة على الاعتِذار لك.

قالت المعلمة وهي تقاوم عبَراتِها: لا عليك.

قالت في صوتٍ يقْطر حرجًا: لا أعرف ماذا أقول، لكن ...

قاطعتْها المعلِّمة: أعرف أنَّه لا ذنبَ لك، لكنِّي حقًّا مُرهقةٌ وحزينة.

قالت الأخت في لَهْفة: خذي وقْتَك لكن لا تتركي الحلقة، لقَدِ استفدنا أيَّما استفادة.

قالت المعلمة في ألَم: الله المستعان.

وأنْهت الاتصال.

ومرَّت السَّنوات، ولَم تقُم لهذه الحلقة قائمة.

حقًّا، إنَّ سوء الأدَب مع المعلِّم - ولو كان أقلَّ قدرًا أو سِنًّا - يُذْهِب بركة العلم.
وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.


 

سارة بنت محمد
  • الأسرة
  • وسائل دعوية
  • درر وفوائد وفرائد
  • تربية الطفل المسلم
  • قضايا معاصرة
  • عقيدة
  • رقائق
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط