اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/daeyat/sahar/97.htm?print_it=1

التصنيف المقيت..

 أ.سحر المصري


لم يمضِ على التزامها بالإسلام سوى شهر.. تعرّفَت على تعاليمه التي لم تكن تفقه منها شيئاً حين سكنت في الحرم الداخلي للجامعة مع صديقة أختها المحجّبة.. وبعد فترة من الإحتكاك بها أحبّت الدِّين وتحجبت مثل صديقتها قبل أن تكتشف أنه لباس خاص بمجموعة معيّنة وليس اللباس الشرعي الكامل فتغيّره لما حدّده الشرع..
تقف في قاعة الدرس تنتظر الدكتور ويقف بجانبها شابٌ ملتحٍ يحملق فيها.. ليس معجباً بالتأكيد فنظراته تقدح شرراً ووراء تحديقه قصة لم تفهمها.. انتهت الحصّة ولا زالت أسئلة كثيرة تدور في خلدها وما إن خرجت من القاعة ورأت صديقتها حتى صعقتها بالرد على استفسارها.. “إنّه يحدّق بك لأنك تلبسين مثل الجماعة الفلانية.. وهو من جماعةٍ أُخرى تكفِّر من دونها“! تسمّرت في مكانها كأن اللغة التي تسمعها ليست بالعربية التي تفقه.. وبادرت بالسؤال: “أليس مسلماً؟! وأنا ألستُ مسلمة؟! لِم يكفّرني؟؟ ولِم يكرهني وهو لا يعرفني أصلاً؟!” كانت تلك المرة الأولى التي تعرف هذه الفتاة فيها أنّ الإسلام التي عشقت يترجمه أبناؤه وِفقاً لقواميس مختلِفة.. وابتدأت رحلة الصدمات.. فهذا سلفي.. وذاك إخواني.. وذلك صوفي.. وتحريري.. ونقشبندي.. وتكفيري.. و.. و.. و..
أرّقها الوضع الجديد الذي اكتشفته وجعلها تسأل شيخاً تثق به.. ما الذي فرّق بين هذه الجماعات ولِم يكره البعض منهم الآخر؟
وكان ردّ الشيخ متوازناً.. إذ أوضح لها أنّ المسلمين منقسمون إلى فئات وحركات وأحزاب وتيارات.. فكلّ فئةٍ ترى أنها تستطيع أن تُحيي الإسلام بطريقة معيّنة.. فالبعض يرى إعادته عن طريق تغيير المجتمع بدءاً من الفرد وآخرون عن طريق تغيير النظام السياسي أولاً والبعض بالسلاح والبعض بالعلم ومنهم مَن يكتفي بالنفحات الروحانية والزهد وهكذا.. وأضاف: إنّ الأوْلى أن يجتمع هؤلاء جميعهم قلباً وروحاً ليكملوا البناء ولكن الحاصل أنّ كل حزبٍ بما لديهم فرِحون ويعتبرون أنفسهم الفئة الناجية وباقي الأمّة ضلّت الطريق.. ويحاربون أفكار بعضهم البعض ويبثّون الكراهية والحقد في أفراد مجموعاتهم تجاه الآخرين ويتطاولون على رموز مَن خالفهم حتى باتت الأمّة مشرذمة، وقد أهلكتها نزاعات أبنائها أكثر مما طحنتها مؤامرات أعدائها.. “هو سمّاكم المسلمين” مظلّة كبرى تجمع تحتها كل المسلمين فلِم يرتضي هؤلاء أن يكونوا تحت مظلاّت صغرى تفرّق أكثر مما تجمع؟!

بقيت كلمات الشيخ تحفر في ذهنها سراديب كلما سبرت أغوار الحياة مع المسلمين كلما أمعنت في وجوه الاختلاف بين أفراد هذه الأمّة التي لن تموت بإذنه.. وأصبحت تعي تماماً أنه لا بد من التصنيف المقيت بين صفوفها لأنّ أفرادها اعتادوا على ذلك ويصعب محو هذه الآفة التي تحكّمت في ضمائرهم..
فإن استشهد كاتبٌ بأقوالٍ للإمام حسن البنا فهو من الإخوان المسلمين.. وإن نقل فتوى من الإمام ابن تيمية فهو سلفي.. وإن سرد عبارة أعجبته لابن عطاء الله السكندري فهو صوفي.. وإن اقتبس فكرة للنبهاني فهو تحريري.. ولئن ذكر أسامة بن لادن فهو من القاعدة! وإن دافع عن مظلومين من فئات طحنتها الأنظمة فهو منها.. وقد يكلّفه ذلك إعراض القرّاء عن متابعته لأنه قد تم تصنيفه مسبقاً فلا داعي لقراءة ما يقول اللهمّ إلاّ لتتبّع “سقطاته الفكرية”!
وهذا أيسر مثال.. فما فوقه أعظم.. فقد تتفرّق القلوب ليصل الأمر إلى التشابك بالأيدي والتقاتل من أجل أمور فرعية فيها نظر.. وأعداؤنا من بعد رؤيتهم لهذا التقاتل الداخلي والوهن والتباغض بين أبناء الأمّة يضحكون ويطمئنون أنّ النصر لا يزال من المسلمين بعيد.. بُعدَ قلوبهم عن بعضها البعض!!
ولا أدري إلى أين مآل الأمّة وقد تخاصم أبناؤها ووصلوا هذا الدرك من التفكير والتكفير والبُعد عن أصالة الدين وهم يعتقدون أنهم محسنون! ما الذي يمنع أن نأخذ من كل معين ما يفيد الفكر والعقل ونستقي من كل أحدٍ ما يميّزه؟! لِم نضع “الفيتو” على علماء ودعاة ومشايخ لمجرد انتمائهم الحركي؟ ولِم نفتح ملفات يتم فيها تصنيفهم ثم نركنهم وأفكارهم ومنتوجاتهم الفكرية على الرفوف لمجرد الانتماء؟!
المبكي في الأمر ليس فقط هذا التصنيف والفرار من كلّ ما ومَن صُنِّف ضمن “المحرّمات أو الممنوعات” بل تجرّؤ حتى العوام على التعدّي على أمور لا تحق إلا لله جل وعلا.. فتقرّر أنّ أعمال هذا لن تُقبَل وأنّ جهود هذا هباءاً منثوراً.. ويكانّ الفهم والتقوى والقبول لا يكون إلا لهذه الفئة! وإنّ هذا لافتراء على الإسلام والشريعة عظيم!
تخبرني إحداهنّ وهي أربعينيّة أنها أخذت بفتوى عالِمٍ تثق بعلمه محسوبٌ على فئة هي حتى لا تنتمي إليها.. فحين علمت صاحبتها بذلك “قررت” أنّ عملها كله لن يُقبَل وأن تعبها كله قد ضاع طيلة السنوات العشر الماضية! فمَن الذي أخبر تلك الأخت التي تتبّع نهجاً مخالِفاً ورأياً فقهياً مختلفاً أنّهم – دون خَلقِ الله أجمعين – مقبولين وعلى صواب ومَن خالفهم قد أُحبِط عملهم؟ أليس هذا قِمّة التعالي والمغالاة والتعصّب وعدم فهم جوهر الدِّين؟!
شيخٌ يحارب الأفكار الدخيلة على الإسلام ويحذِّر الناس من مغبّة دخول جحر الضبّ واتّباع عادات وتقاليد من نخالفهم العقيدة وهذا أمر طيب ورائع.. ولكنه نفس الشيخ الذي يجمع في عقر داره ولمرّات عديدة قريبه مع فتاة “يحبها” ولا يوجد أي رباط شرعي بين هذا وتلك!! فيسهّل منكراً ووقوع معصية لفتاة وشاب وقد يصل الأمر إلى اللمس المحرّم!! فأي تناقض هذا؟! وبأي حق يصنّف مَن خالفوه النهج ضمن زمرة المميّعين للدِّين الفاقدي للتقوى؟
لستُ هنا بمعرض الدفاع عن فئة دون أُخرى.. فلا تكاد تسلَم أي جماعة من هذا المرض العضال! ولكنها دعوة للجميع بكل أطيافهم أن يعوا حقيقة الإسلام وأن يُظهِروا الدِّين كما نزل فإنّهم بفهمهم الخاطئ ونهجهم المريض يُنفِّرون الناس من الإسلام ويجعلون الآخرين يعتقدون أنّ ثمّة شرخ في الشريعة والأمر أنه نقص في الفهم والتطبيق لدى المسلمين ليس أكثر!
“التقوى ههنا” وأشار عليه الصلاة والسلام إلى القلب.. فمَن ذا الذي يملك – إلا الله جل وعلا – أن يطّلع على القلوب ليعلم إن كانت صادقة أم لا.. ومَن ذا الذي يجرؤ على التعدّي وتصنيف المسلمين بين صالحٍ وطالحٍ وأنّ هذا إلى الجنّة وذاك إلى السعير؟! وأنّ الذي من شيعته وعلى نهجه هو التقي وغيرهم في البغي والغي يرفلون؟؟
ألا يكون أولئك من الظالمي أنفسهم قبل غيرهم بهذا النهج الغريب؟!
ألم يأن للذين آمنوا أن يكفّوا ألسنتهم عن إخوانهم في الدِّين؟!
“إنّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحدة” واحدة! واحدة!! فلِم يجعلوها مثنى وثلاث ورباع؟؟
“ولا تنازَعُوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم” وقد ذهبت ولم يبق لها أثر.. واستأسد الجميع على المسلمين بسبب هذه الفرقة بينهم!

تحتاج الأمّة للإلفة والرحمة بين أبنائها كأساسٍ أوَّلي للنهوض بها.. فلا تنازع ولا تناحر ولا شقاق بينهم.. ولو التزم المسلمون بهذا النهج وبعُدوا عن منهج التصنيف المقيت لابتدأت الروح تسري في الجسد من جديد.. وأنت وأنا مسؤولون.. ولا يغيّر الله ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.. فلنبدأ بأنفسنا.. لعل الله جلّ وعلا يُحدِث بعد ذلك أمرا..
 

سحر المصري
  • اجتماعية
  • أُسرية
  • دعوية
  • بوح روح
  • جراح أُمّة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط