صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وسيبقى الإنسان جاهلا نفسه

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
اكاديمية سعودية في جامعة الدمام


اليوم أجد صورا مغايرة لما عرفت.. ولما عايشت، وصادفت.. وأعترف أن الإنسان سيبقى جاهلا لنفسه ولقدراته، وسيبقى في حاجة لحماية قوة قادرة على صنع المعجزات


شاهدت في حياتي نماذج من الناس، منها ما هو ناصع كبياض الثلج وقت سقوطه، ومنها ما هو ملوث بمطامع ومفاسد تتجدد بتجدد الأوقات، وكلاهما يسعى في طريق مختلف، وكلاهما يتناول القضايا العامة من زاوية مختلفة، وكلاهما يضحك.. ولكن لضحكتهما دلالة مغايرة، فذاك يضحك على ألم غيره وهذا يضحك لفرح غيره، وذاك اعتاد أن يدفع بيده وهذا اعتادت يده مساعدة من حوله، وذاك تراه متهجما أمام من أقبل عليه وهذا باش في وجوه المقبلين، وذاك يبحث عن الكلمات الجارحة فيصوغها بعناية لعلها تصيب الهدف، وهذا يجد كلماته تنساب دون جهد لتضفي على الأجواء جمالا أخاذا تصل وتلامس النفوس الطيبة.
هذا وذاك يعيشان بيننا ويتعاملان معنا، وكلاهما يترك في نفوسنا أثرا لا يمحى، فقد نعفو ولكننا لا ننسى، وقد نبتعد ولكننا لا نجحد الفضل، ومن يعتقد أنه نجا أو سينجو من ظلم أوقعه على ضعيف فإنه واهم، حتى لو استطاع بجاهه وسلطانه الهروب من عقوبة حالية، فلن يتمكن من الفرار من عقوبة واقعه عليه وبه، لا محال، ومن اعتقد أن إحسانه أصبح هباء منثورا أو أن المحسن إليه نسي أو أنكر، فمن المحال أن ينسى رب العباد الرحمن الرحيم الكريم المنان.
لقد عشت طفولتي المبكرة خارج البلاد، ولم أعد إلا في بداية شبابي، لأعود مجددا للعيش في الخارج.. قبل الاستقرار بحمد الله نهائيا في حضن هذه الأرض الطيبة، ومن خلال حياتي التي قضيتها هنا أو في الخارج أدرك أن النفوس في مجملها متشابهة فخيرها وشرها واحد إلا إذا كان هناك محرك إيماني يحركها بهذا الاتجاه أو ذاك، أو محرك نفسي يحرضها للسير في الظلام.
لقد وجدت أناسا تخاف من إعلانها عن نجاح تتوخاه، فهي ترى النفوس حولها جائعة مستعدة للانقضاض، بل لا تكتفي بذلك، فهي دائما متربصة بمن حولها تحاول الكشف عن المستور لعلها توقع غريمها في مكروه، وهناك من يتصارع حول مقعد خيل إليه أنه الأمل المنشود، فبه يتحقق حلم الماضي، وبه تستكين نفسه وروحه، وعرفت من انقبض على نفسه فبالكاد ما يتفاعل وينتج.. يعيش جل حياته في عالم الأحلام التي يظن أنها من الممكن أن تأتي ولو بعد حين.. ودون بذل أي جهد معتبر.
عايشت من اعتقد أن الفشل ليس النهاية بل البداية.. وأنه قادر على تحويل مساره إلى النجاح.. عرفت كيف حول الإيمان بالله العلي القدير إنسانا عاش الفشل وذاق مرارته إلى فرد ناجح يقف بعنفوان على قمة النجاح، عرفت من يداوم الوقوف على الأطلال مذكرا نفسه بأيام الخوالي، بأيام انتفض الناس من حوله بعد أن أوجعوه بالسهام واللوم والتقريع.. وكيف عمد أن يعاود التجربة بأي حال من الأحوال.
كما رأيت دموع مظلوم وكيف حولت صاحبها إلى حاقد ينتظر الفرصة للنيل من ظالمه.. أو حتى من قرابة هذا الظالم، وكيف مارس هو الظلم بعينه.. ودافع عن ذلك، كما رأيت من امتهن خدمة الناس وتقديم العون لهم، باذلا لهم نفسه وجاهه وعزه.. متجاوزا ظلما أوقعوه عليه.
ورأيت من أعزه الله فأمده بكل ما يمكن أن يخطر على بشر من نعيم الدنيا والآخرة، ومع ذلك لا عرف طريق الكبر، ولا نسي ربه.. فتعامل مع من هو مدرك لبغضهم بتواضع جم.. فأحسن إليهم وهو مستحضر تماما كراهيتهم، فعل ذلك دون تردد، فعل ذلك وهو واضعا طاعة الله أمام عينه وفي وجدانه.
رأيت من أنكر ذاته وأهله ومجتمعه وصافح - بل وقبل - أيادي من خالفوه في الظاهر والباطن، وليتجرع المرارة ولو بعد حين، شاهدت من هرع لإرضاء من ظنه منتصرا فصفق له وهلل، وليوضع وعلى الفور في آخر الصفوف، فلا يسمع له صوتا ولا يرى لهيكله حراك.
لقد مررت بمن لا يجد رادعا فيعمد إلى القذف والسباب ويداوم عليهما، ويعدها من سماته التي يفاخر بها، بل يعدها علامة على نبوغه وقوة شخصيته، ولقد وقفت أمام من لا أفهم توجهه فهو يعمد إلى تقديم الوعود للحصول على مراده ثم ما يلبث أن يتراجع بمجرد أن يحقق المراد، يفعل ذلك دون النظر في الأضرار المترتبة على وعود أخلفت.. بل لا يلبث أن يبرر تطلعاته المخالفة لوعد قطعه، مصورا تطلعاته وكأنها لب الحياة، وما عداها هباء منثور.
عايشت من يمر مرور الكرام على واجباته التي تعهد القيام بها، فالمهم بالنسبة له هو السير على أرض ممهدة بلا عائق يعوق تحركاته إلى الأمام.. يسعى بكل ما لديه ليصل إلى الهدف ولو على حساب من حوله.
ولكني حتى اليوم أجد صورا مغايرة لما عرفت.. ولما عايشت.. ولما صادفت.. واعترفت أن الإنسان سيبقى جاهلا لنفسه ولقدراته، وستبقى نفسه تحارب بهذا الاتجاه أو ذاك، وسيبقى في حاجة لحماية قوة قادرة على صنع المعجزات، قادرة على تحويل الظلام إلى نور، وعلى إهدار الباطل ونصر الحق.. الإنسان في ظل هذه المعمعة عليه أن يعترف أنه عاجز تماما دون التوكل على الله الواحد الأحد، السميع المجيب، إيمان كهذا يرفع عنه المصائب ويخفف عنه المهالك ويمده بصبر نهايته الفرج بإذن الله

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط