صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سلسلة { اعترافات فتاة } (5)

إعداد حورية الدعوة
@huria_alddaewaa


بسم الله الرحمن الرحيم

 

- 21 -
صباح الخميس المرعب


- هنوف.. هنوف..

تقلبت قليلاً.. ثم فتحت عيني بصعوبة.. نظرت بلمحة خاطفة لساعة الحائط فإذا بها تشير للتاسعة والنصف.. لكن اليوم خميس..

- ماذا هناك.. لماذا توقظينني الآن؟

- استيقظي بسرعة.. شيء هام..

- يا الله صباح خير!..

وبدأت أجلس بتثاقل.. وأنا أتوقع أنها قد أعدت طبقاً للفطور كعادتها وحصلت مشكلة في المطبخ.. يا لنجلاء وهوايتها السخيفة..!!

- أفففففف.. ماذا أحرقت اليوم يا فليحة؟

- لم أحرق شيئاً.. قومي بسرعة.. تعالي.. أمي.. أمي تبكي هناك.. شيء خطير حصل على ما يبدو.. يا الله!.. هل هناك من يبدأ صباح يوم خميس منعش مثلنا؟ بكاء ومشاكل (على الصبح)! يا رب ارحمنا..

- حسناً.. وماذا هناك؟

- أقول تبكي..!

- ليست أول مرة.. اسكتي واذهبي..

- هنوف.. صدقيني.. هذه المرة الأمر يختلف.. مم.. يبدو.. يبدو..

ثم همست لي بصوت خائف واتسعت عيناها وكأنها تخبرني بشيء عظيم..

- يبدو أن أبي قد.. تـ.. تزوج..!

تلقيت صدمة كبيرة.. لكني حاولت أن أتماسك..

- من قال هذا؟

- هذا ما عرفته من همهماتها ودعواتها عليه..

كنت قد سمعت أخباراً كثيرة من هنا وهناك حول هذا الموضوع، وحدثت خلافات كثيرة بين أمي وأبي تخللها موضوع هذا الزواج.. لكني لم أتوقع أن يتحول هذا الكلام فعلاً لواقع ملموس.. كنت أتوقع أن أبي كان يقول ذلك ليغيظ أمي فقط.. ولم أصدق ما قالته هذه المتهورة.. أو.. لم أرغب في تصديقه.. شعرت بأنها تختلف أو تتخيل.. فصرخت بها بقوة لأقذف سيل غضبي عليها..

- (انقلعي)!! اذهبي يا غراب السوء.. حسناً.. فليتزوج.. أريد أن أنام!!

تكورت في سريري وغطيت رأسي حتى أطراف قدمي بالغطاء جيداً.. دفنت رأسي بالمخدة.. وتمنيت لو أعيش في جزيرة صغيرة في المحيط.. تماماً مثل تلك الجزيرة التي كانت تظهر في إحدى حلقات (وودي بيكر) حين كنا صغاراً..

يا سلااااااام.. جزيرة هادئة.. رمال وأشجار جوز الهند.. وأمواج زرقاء صافية.. وأسمع أصوات الطيور.. وأمواج البحر.. فأسترخي في هدوووووووووء..

(ززززززززززززز)

يا إلهي.. ما هذا الصوت المرعب!! زلزال!

أزلت الغطاء عن وجهي لتظهر أمام عيني (سومارتي) الغاضبة تكنس الغرفة بالمكنسة الكهربائية.. صرخت بغضب..

- ألم تجدي غير هذا الوقت لتكنسي فيه؟!!!

صمتت بعناد وأكملت عملها دون أن تلتفت إلي..

يا الله!.. ماذا أفعل.. ياللإزعاج.. مشاكل.. زواج.. بكاء ومكنسة كل هذا في صباح يفترض أن يستمتع الناس فيه..!!

خرجت من الغرفة.. ذهبت للحمام.. وحين غسلت وجهي ونظرت لنفسي في المرآة.. بدأت أستوعب حقيقة ما سمعته من نجلاء قبل قليل.. هل يعقل هذا؟ كلا.. لا يمكن.. لابد وأنها خمنت هذا الأمر.. أو هذه المصيبة.. لا.. لا يمكن.. أن.. يتـ.. أعني.. يتزوج.. أبي.. لا يمكن.. فهو أبي.. أبونا نحن.. نحن وحدنا.. ولن يذهب لغيرنا..

هكذا أخذت أفكر ودقات قلبي تتسارع بقوة..

وحين مررت قرب غرفة أمي.. كان صوت بكائها واضحاً.. وبابها مقفل.. والحزن يجثم على البيت بشكل مرعب.. طرقت الباب.. لكنها لم تفتح..

توجهت للصالة.. كان الصغار مستلقين على بطونهم لمشاهدة بعض الأفلام المتحركة.. وحين رأوني شعروا بأني المنقذ لهم..قفزت رنا الصغيرة أمامي..

- هنوف.. أنا جوعانة.. جوعانة

- اذهبي لسومارتي.. اطلبي منها أن تصنع لك شيئاً..

- كلا.. سومارتي لا تريد.. إنها غاضبة..

فعلاً.. إنها صادقة.. حين تغضب سومارتي فإنها لا تطاق..

لا أعرف لماذا تجتمع كل الأحزان سوية..

رن الهاتف.. لم أكن أرغب قي الرد لكن عزوز (الملقوف) أسرع ورد على الهاتف ليناولني إياه بعد رد السلام.. ففف.. فكانت المتحدثة زوجة عمي.. لابد وأنها تريد الشماتة..

كانت تريد أن تؤكد لي بطريقة أو بأخرى أن أبي قد تزوج.. لم أستطع إكمال المكالمة فقد بدأت الدموع تنهمر من عيني بلا شعور.. وأغلقت الهاتف بقوة..

* * *


في الأيام التالية.. حاولت أن أكون أكثر تماسكاً وأن أبدو متفاءلة أمام أمي التي كادت تنهار في أول الأمر.. وكنا نتحدث برسمية شديدة معها.. فقط نجلس للأكل فتسألنا بعض الأسئلة البسيطة ثم تعود لغرفتها.. ونحن كنا نراعي مشاعرها قدر الإمكان.. حتى الصغار لم يعودوا يطرقون بابها كالسابق..

وفي المدرسة.. كنت أفكر بقلق.. ماذا أقول حين يسألني أحد عن خبر زواج أبي؟ هل أدعو على أبي وأتحدث عنه بغضب وكأنه ارتكب جرماً كبيراً؟.. أم أنكر الخبر وأكذب؟.. أم أحاول أن أتهرب من الأسئلة وأتركها تدور في أعينهم ليتحدثوا في هذا الأمر خلف ظهري؟!

كنت أفكر في هذا الأمر كثيراً، وكنت قلقة بشأنه أكثر من قلقي بشأن زواج أبي نفسه.. لقد وجدت نفسي أخشى مواجهة الآخرين أكثر من مواجهة الواقع الجديد.. وبالفعل.. بدأت الأخبار تعرف طريقها للمدرسة.. وبدأت أسمع بعض الهمسات من خلف ظهري.. مثل:

- هذه.. نعم.. هذه.. مسكينة.. تزوج على أمها.. تصدقين..؟

- نعم.. الهنوف (ما غيرها).. أبوها تزوج على أمها.. تصدقين..؟!

كانت هذه الهمسات تجرحني أكثر من أي شيء آخر.. فقد أصبحت في أعينهم أثير الشفقة والعطف.. وكنت ألمح بوضوح كيف يغيرون بعض القصص والحكايات حين يمرون على قصة رجل تزوج بثانية حفاظاً على مشاعري..

وابتلعت كل تلك الآهات بصمت.. لكني عموماً.. كنت قوية.. وصامدة..

* * *


بعد أيام تحسنت حالة أمي وعادت للابتسامة.. فقد عاد أبي بعد أن سافر مع زوجته لأسبوع لأداء العمرة.. وقد أحضر لأمي طقماً رائعاً من الألماس.. لم أصدق أني أرى أبي!.. حين عدت من المدرسة ورأيته يجلس بهدوء وأمي تبتسم قربه وأمامهم صينية الشاي.. شعرت بسعادة غامرة.. أسرعت وضممته بشدة حتى أسقط عقاله.. ولم أحدثه في الموضوع.. سألنا عن أحوالنا وعن دراستنا كالعادة.. ثم تغدينا معاً وسط ضحكات أخوتي.. وبقي أبي لدينا حتى الغد.. وكان سعيداً جداً.. وكذلك أمي..

وفي المساء التالي سمعتها تتحدث مع خالتي على الهاتف.. أخبرتها أن أبي أحضر لها هدية وأخبرها بأن مكانتها ستبقى الأغلى لديه.. لكن في نبرة صوتها كان لا يزال هناك ألم..

حين دخلت عليها ذات يوم وهي تتصفح الجريدة.. سألتها بغباء وبلاهة – لا أعرف من أين أتتني! يمه هل أنت سعيدة مع أبي؟

رفعت رأسها مستغربة السؤال.. ثم عادت تتصفح الجريدة وهي تحاول أن تتهرب من النظر إلي..

- ليس كثيراً..!

وقلبت صفحة.. ثم قالت وهي تبعد خصلة شعرها خلف أذنها وتتابع القراءة.

- لكني لست حزينة.. الحمد لله.. فأبوك لم يتغير.. على الأقل أصبح يهتم بنا أكثر.. شعرت براحة من ردها الصريح.. والحقيقة أن البيت أصبح فعلاً أكثر هدوءاً منذ زواج أبي.. والمشاكل قلت بينهما.. فأصبح يراعي شعورها أكثر..

وحين يأتي يخرج بنا للنزهة وكأنه يعوضنا عن غيابه عنا.. كل ما هناك هو فقط كلام الناس.. وشماتة الحاقدين كزوجة عمي..

* * *


بعد عدة أشهر أستأذننا أبي في أن نرى زوجته الجديدة.. وسمحت لنا أمي بذلك.. وحين رأيتها انتابني – على عكس ما تصورت – شعور بالراحة والرضا.. فهي ليست كما تقول زوجة عمي فتاة جميلة وصغيرة! .. بل امرأة متوسطة العمر ونصيبها من الجمال قليل جداً.. وعرفت أن الذي أعجب أبي فيها هدوءها وأخلاقها الطيبة.. وقد كانت بشوشة.. مرحة.. وطيبة جداً كما يبدو.. كانت تضحك معنا وتروي لنا القصص عن طفولتها بمرح.. وكأننا نعرفها منذ زمن طويل.. وكان أبي سعيداً لاندماجنا معها..

وبعد أشهر جاء اليوم الذي انتظرناه طويلاً وهو اليوم الذي تتقابل فيه أمي معها.. والحمد لله أنهما انسجمنتا ولم تحدث أية مشاكل.. أنجبت زوجة أبي... وأصبح لي أخوة من أب.. لكنهم مثل أشقائي تماماً.. وكانت لأمي مثل الصديقة والأخت.. ومضت حياتنا سعيدة ولله الحمد.

وكلما تذكرت ذلك الخميس المرعب الذي سمعنا فيه بزواج أبي لأول مرة.. حمدت الله وشكرته.. لأن بعض الأمور تتحول لعكس ما تبدو عليه في أول الأمر..

(وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم)..

مجلة حياة العدد (53) رمضان 1425هـ


- 22 -

بقلم / نورة الفصام

الأمس الذي لن يعود


إلى نصفي الآخر .. مع خالص المحبة :


ربما لن أسلمكِ هذه الأوراق يوماً ما.. ولكنني كما عهدتني.. أحب سرد مشاعري على أسطر وأوراق لم ولن تنتهي حتى تنتهي تلك الصراعات بين كلماتي وأفكاري داخل رأسي.. وسأظل أتمنى أن تصلك هذه المشاعر مخطوطة على رسالة من الذكرى.. أوراقاً تحملها الأيام...

عندما ينتظر الإنسان مستقبلاً بفارغ الصبر.. ظناً منه بأنه سيتخلص من حياة قديمة باردة.. ثم يبدل الزمن صفحاته.. ويجده أصبح حاضراً لم يعلم بقدومه.. تصبح تلك الحياة القديمة في ناظره صفحة من الماضي يتمنى عودتها يوماً ما..


برغم أن كل شيء كان يبدو رائعاً.. ومتكاملاً.. إلا أن صوتاً كان يتردد في داخلي.. بأنه لا يزال مختلفاً... وأن قلبي لم يكن قد اعتاده بعد.. ربما لأنه عاش في ذكريات الماضي كثيراً.. لدرجة أنه ظن بأنه ينتمي إلى هناك.. في كل مرة أحاول أن أقتلعه وأعيده إلى الحاضر تغرقني الذكريات ويصيبني الاشتياق فانكب جاثية على ركبتي.. وأجد نفسي وقد عدت مرة أخرى إلى الماضي.. وهكذا..


كل شيء فيَّ ما زال كما عهدته.. ولكن تلك الابتسامة التي كانت تنبع من أعماق قلبي سابقاً.. أصبحت الآن مجرد ابتسامة جامدة أرسمها كل صباح..


كنت عندما أجر قدمي في ممرات المدرسة.. أحس بأن كل شيء حولي بارد.. وأرى هالة من السواد تغطيه.. فالشمس لا تبدو مشرقة كما كانت في السابق.. والمكان يخيم عليه الهدوء والصمت أكثر من المعتاد.. والفصل.. يبدو قاتماً مظلماً أكثر فأكثر.. في كل يوم أخطو فيه.. حقيبتي تبدو ثقيلة على كتفي أكثر من السابق.. ربما بسبب تغير عدد الكتب داخلها بتغير صفي الدراسي.. أو ربما لأني أصبحت أنتبه لهذه المنغصات كما لم أكن أفعل من قبل..


يحيط بي العديد ممن أعدهم صديقات.. ولكن يبقى ذلك الشعور بالاغتراب وربما الاختلاف يساورني في كل مرة يتحدثون فيها عما حدث في سنوات ماضية.. وأجد نفسي لا أعي مما يقولون شيئاً.. لأنني وبكل بساطة.. جديدة.. ومن طالبات هذه السنة.. ربما لم أعد أستحق ذلك المسمى الذي اعتدت أن تطلقيه علي.. وردة تجيد العيش في أي بيئة تغرس فيها.. أو ربما تلك الوردة قد اقتلعت من بين دفء من تحب.. لترمى على جبين الصحراء محاولة التكيف.. ولكن دون جدوى.. فهي وبكل بساطة أيضاً.. لا تنتمي إلى هناك..


عندما التصق بذلك الكرسي.. كلمات مخطوطة في ذلك اللوح أمامي.. أصوات عديدة حولي لا أستطيع تمييزها.. ولكن صوت المعلمة وحده يتردد بين جدران الفصل.. في لحظة.. ينتابني شعور لا أعلم بما يسمى.. ربما مزيج من الغربة والملل.. تنخفض الأصوات حولي.. أغمض عيني لثانية.. فإذا بكل شيء يتبدل.. وتبدأ مخيلتي بنسج صورة مكان آخر يظل قلبي مردداً بأنه يُفترض أن يكون فيه.. ملامح يألفها قلبي.. تبتسم لها شفتاي.. نعم.. مكان أعرف فيه كل من حولي.. وكل من حولي يعرفني.. أتلمس الكرسي.. ذات الملمس القديم الذي عهدته.. ذات الخطوط والكلمات التي رسمتها على ذات الطاولة التي أمتلكها.. والأهم من ذلك كله.. ذات الطالبة التي اعتدت وجودها بجانبي.. تضحكين على كل تعليق على تلك وذاك مما يجود به لساني أو يخطه قلمي خفية.. وإن كان تافهاً.. وعندما أصمت.. تلوحين بيدك أمام عيني.. لتعيديني إلى الفصل من مكان خيالي آخر.. أرحل إليه..


ينسج اشتياقي نسيجاً رائعاً ليغطي عيني فلا أرى ولا أسمع إلا ما كنت أريده.. حتى أؤمن أن كل ما كان سوى حلم مزعج راودني ليبين لي قيمة ما أملك.. ولكن صوت المعلمة ذاك كان كفيلاً في كل مرة بأن يمزق نسيجي الجميل..


(أنت ياللي هنا!.. قومي جاوبي..) .. أقف منتصبة يهزني الخمول.. وأخلع ذلك النسيج عن عيني محاولة استراق النظر إلى ما خط على ذلك اللوح.. مدعية بأنني مستوعبة لكل ما كانت تقول.. ولكن ما تسأله قد استصعب علي (أنت وش اسمك؟!).... ترتسم على شفاي ابتسامة الدهشة.. وينحني حاجبي إلى الأسفل... (هاه؟!) .. يتساءل داخلي.. (أنا؟!... ألا تعلم اسمي أنا؟!.. غريبة!!.. أنا من كان صيتها وصيت من كن معها ذائعاً في كل مكان.. وصدى أسمائهن يتردد على مسامع القريب والغريب.. أنا؟!.. ألا تعلم ما اسمي؟!.. وقبل أن أنطق بحرف يرد علي صدى صوت داخلي متردداً في جوفي.. بأنني لم أعد من اعتدت أن أكون..


كنت أحاول إقناع نفسي دائماً.. بأن ما أعيشه الآن أصبح ما يعد مدرستي.. وأن أياماً انطوت تحمل حياة سابقة.. وأيام فرشت تحمل حياة أخرى سأعيشها في كل يوم تشرق فيه شمس مكتوب في عمري على فناء هذه المدرسة.. (مدرستي).. كما يجب لها أن تكون.. ولكن الحقيقة تظهر دائماً... عندما كنت أتحدث مع إحدى الصديقات (مدرستكم نظامها غريب.. كنا في مدرستي غير).. وكأن اسمي لا يندرج بينهم.. أو حينما تثقل أذني بكثرة أحاديثهم المشوقة ولكنها تظل أحاديث.. أردف قائلة: (في مدرستكم تتكلمون كثير.. في مدرستي ما كنا نجلس)..


أتعلمين.. أوقفتني عبارة إحداهن يوماً.. (يبدو وأن كل يوم في مدرستكم كان مختلفاً عن سابقه!).. جرفني الحنين بعباراتها وأيقظ معانٍ داخلي لم أكن أعلم بوجودها.. نعم.. أتذكرين كم كنت أمقت التغيب.. ليقيني بأن صفحة اليوم دائماً ما تكون أحرفها مختلفة عن حروف الأمس.. كل يوم كان يعنى بيومه في حياتنا...


كل شيء كان رائعاً.. لحظات ولحظات كانت تنقش على قلبي بذكراها.. دون أن أحس بها.. أو أحس بقيمتها.. ربما بسبب الاعتيادية التي تلونت لي فيها.. وتهيأت أمام ناظري.. وأصبحت أريد شيئاً واحداً.. تغييرها لعيش لحظات جديدة وحياة جديدة بكل معانيها.. أو ربما بسبب ذلك الطمع الذي كان يكبر في داخلي باحثاً عن الأفضل مما هو فيه.. دون أن يعلم أو يتقين.. بأن ما لديه.. هو الأفضل..


دائماً كنت أنادي قلبي الذي سكن الماضي.. طالبة منه عيش الحاضر.. ولو للحظة.. علّه يجيد التأقلم فيه.. يألف قلوباً تجري البهجة بين أوردته مرة أخرى.. فيردَّ عليَّ سارداً ذكريات تلك الأيام التي كانت لحظاتها ترمى خلف ظهورنا.. محسوبة من أعمارنا.. فيمتع أذني بها.. ولكن اشتياقي يضل واخزاً في داخلي ينغص علي تلك المتعة..


ألا تزالين تذكرين تلك الأيام جيداً؟!.. كم أتمنى أن تكون تلك الجدران لا تزال تردد أصوات أحاديثنا.. وتلك الزوايا.. لا تزال تحفظ صورتنا بين تصدعات جدرانها.. نعم... لن أتمنى أن أعود الآن لأحضانها.. لأنني أعلم بأن كل شيء لم يعد كما كان منذ تركته لآخر مرة.. ولكنني أتمنى أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى تلك اللحظات ذاتها.. لأعيشها مرة أخرى.. كنت أعلم أن الحياة صعبة.. ولكنني الآن أيقنت أنها أصعب.. متى ما واجهتها وحيدةً..


نعم.. لا أزال أذكر ذلك اليوم جيداً.. بمرارة.. آخر يوم دراسي من أيام ذلك العام.. أتذكرين تلك الضحكة التي ظلت مرسومة على شفتاي منذ بدايته.. بحجة أنني لم أكن أريد أن أملأ اليوم دموعاً تعيدني إلى منزلي خائبة تثقلني الهموم.. ليس كنهاية كل عام.. أريد قضاءه بسعادة متناهية ليظل مشرقاً في كتاب ذكرياتي.. قد يكون ذلك صحيحاً.. ولكنني كنت أعلم في داخلي أن ذلك مجرد سعادة مصطنعة.. ربما لتوهمي.. بأنني وأخيراً.. سأتخلص من أثقل أيامي.. وسأحصل على ذلك المستقبل بحلته الجديدة.. أو ربما سعادة اختلقتها بمرور الأيام.. لأغطي بوادر جرح بدأ ينشق في داخلي.. وضعف من مواجهة ذلك الجديد والفشل فيه.. جرحٌ لم أكن أظن أنه سيختفي يوماً ما..


لا أزال أتذكر كيف طلبت منك عدم البكاء لتتبعي سياستي الجديدة التي اتخذتها نهاية ذلك العام.. وكعادتك أجبت بالانصياع لما كنت تعتقدين بأنه صحيحاً.. ومنطقياً.. ولكنني أظن بأن قلبك لم يكترث بذلك المنطق.. وظلَّ يذكرك ولآخر لحظة.. بأن ما يمر من حياتك الآن من لحظات.. هي آخر اللحظات.. وأن الأسطر التي يسجلها التاريخ والذكرى الآن.. هي آخر الأسطر الذي سيردف فيها اسمي مع اسمك بجانب بعضهما البعض.. نعم في نهاية ذلك اليوم.. لم أجدك.. أخذت التفت يمينا وشمالاً.. ولكنني لم أجدك.. كانت لحظات معدودة من البحث.. لا تزال صورتك مطبوعة في داخلي.. كنت قد اختبأت عن ناظري في أحد الممرات وانطويت ترسلين دموعاً لم تعد عينيك قادرة على إخفائها طوال اليوم.. وأسقطت تلك الضحكة التي فرضتها عليك.. بعد أن أصبحت ثقيلة على شفتيك.. كم كنت صغيرة حينها.. صغيرة الإحساس والعقل في تلك اللحظة.. برغم تظاهري أنني لم أكن كذلك..


إلا أن الأيام والتفكير كانت كفيلة بأن توقفني على تلك الحقيقة.. كنت تعلمين بأن كل شيء لن يبقى كما كان.. كل شيء سيختلف ويتبدل بعد ذلك اليوم.. ولكنني لم أكن أعي ذلك.. ببساطة.. ظننت بأنه وككل صيف.. سيعود كل شيء كما كان.. وكان ذلك الشعور بالطمأنينة.. يغطي ذلك الخوف والضعف طوال تلك الأيام..

حتى خطوت في هذه المدرسة ولأول مرة.. انقبض صدري.. وأحسست بأن نبضات ذلك القلب أخذت تتسارع.. وأنفاسي أخذت تقل شيئاً فشيئاً.. أحسست بأن كل ما حولي توقف.. الزمن.. الناس. وحتى عمري.. أو هكذا بدا لي..

لا زلت أذكر كيف ظللت أياماً أخادع نفسي.. بأنه هذا هو المستقبل الذي كنت أنتظره.. وأن ما أحس به مجرد أوهام.. ولكن الأقنعة كانت ثقيلة لدرجة أنها سقطت ولم يعد هناك ما يحول بيني وبين الواقع الذي بتّ أعيشه.. نعم.. يظل الإنسان يحقر ما لديه.. ويطمع في المزيد.. لأن مخيلته تبقى تنسج له عالم أفضل وأكمل.. فيصغر ما لديه.. ولا يحس بقيمة ما يملك.. حتى يفقده...


ربما يصيبك التعجب من صيغة الماضي التي سبقت بها عباراتي.. ولكنني أردت أن أخبرك.. بأن الأيام أخذت تسجل ذكريات رائعة في صفحات كتابي رغماً عني.. أردت أن أخبرك بأن قلبي قد قرر وأخيراً أن يجرب حياة الحاضر.. وقد أجاد التأقلم فيها نوعاً ما.. فقد ترك الماضي مكاناً دافئاً يلجأ إليه متى ما حل شتاء الحنين والاشتياق..


نعم.. لم أعتقد يوماً أن يتلاشى ذلك السواد الذي كان مخيماً على جميع أرجاء ما حولي.. فقد عرفت أنه لم يكن سوى دموعٍ تجلدت في عيني.. وزالت مع مرور الأيام...


أردت فقط أن أخبرك.. بأنك لا تزالين ذلك المعنى الجميل في حياتي.. ذلك المعنى الذي يخالط أحلامي وواقعي في كل يوم من أيام عمري.. وأتمنى أن أعود لأعيش لحظة من تلك اللحظات.. لأبين لك عندها كم تعنين لي..

وستظلين يا صديقتي نصفي الآخر.. وكل ما خادعني اشتياقي بأن صورتك بدأت تختفي من داخلي.. أغمض عيني وأرحل حالمة إلى مكان حيث أعلم أنك ستكونين فيه.. دائماً..

أردت أن أخبرك بأني لا أزال تلك الوردة التي تجيد العيش في أية بيئة.. وإنما لم يكن عليَ سوى أن أمد جذوري قليلاً لأن المياه لم تكن تبعد عني سوى أشبار معدودة.. ومهما سجلتّ الأيام من ذكرى ومهما كانت رائعة.. فستسجلها في صفحات أخرى.. تحت عنوان آخر..


كل هذا ليس لأنني وصلت إلى الأفضل الذي كنت أبحث عنه.. إنما لأني خشيت أن أمقت الحاضر وأعشق الماضي.. كما كنت أعشق المستقبل سابقاً.. أخشى أن أظل أتمنى الأمس أن يكون غداً متجاهلة اليوم وما يحمله من معاني.. متناسية بأنه بعد كل أربع وعشرين ساعة.. يكون اليوم أمساً.. سأتمنى كونه غداً يوماً ما..


مع خالص محبتي


نصفك الآخر


مجلة حياة العدد (54) شوال 1425هـ


- 23 -

وماذا لو كنا سبع بنات ؟


 

- ما شاء الله.. سبع بنات؟!!

لا أعرف لماذا كان وجهي يحمر خجلاً وأرد بحياء وبصوت أقرب للهمس..

نعم..

يا حلييييييييييلكم..


كنت أشعر أن نظرات زميلاتي وصديقاتي حين يعرفن عددنا تتجاوز الاستغراب نحو شيء من الاستطراف أو الاستهزاء.. رغم أني أحاول أن أقنعهم أن وضعنا عادي ولا غرابة فيه..


وكان السؤال الجارح الآخر..

- غريبة ما يتزوج أبوك على أمك..؟!

وأحاول أن أقنعهم مرة أخرى أن أبي يحبنا كثيراً وقد نسي الآن موضوع الولد.. ولم يعد يرغب بإنجاب المزيد..

لكن نظراتهم وأسئلتهم السخيفة أو تلميحاتهم نادراً ما تتوقف..

* * *


حين نستعد للذهاب لزواج أو لمناسبة اجتماعية كبيرة فإني أشعر بحرج كبير من الذهاب مع أخواتي.. فمنظرنا يثير نظرات الآخرين كثيراً.. كما يثير شفقتهم واستعطافهم المزعوم علينا..


أجلس على الطاولة محفوفة بأخواتي من مختلف الأعمار.. تمر ابنة عمي مها.. تسلم مع ابتسامة استهزاء..

ما شاء الله كالعادة!.. لوحدكم تملؤون طاولة كاملة..!

كم أكره أسلوبها النزق هذا.. تعاملنا بدونية وكأننا مخلوقات مختلفة.. وكأنها تعتقد أننا سعيدات بوضعنا هذا..


نضطر لمراقبة سلوكنا وتصرفاتنا كثيراً.. يجب ألا نسير معاً ولا نقف معاً وحين تذهب أمي لمكان ما علينا ألا نتبعها جميعاً فنبدو كقطار طريف.. بل نقوم على فترات زمنية متباعدة..


كنت أشعر بأخواتي كقيد يخنقني ويضطرني لأن أشعر بشيء من الدونية والحرج أمام الآخرين..

إنهن بريئات لا ذنب لهن.. لكني بت أشعر بشيء من المقت لهن لما يضعنه على كاهلي من ثقل وشعور بالخجل..

أقنعت أمي أن نضع لنا دوراً للذهاب لبعض الزيارات العائلية حتى لا نثقل كاهل من نزورهم أو نشعرهم بكثرتنا.. وجعلني هذا الأمر أقل حرجاً أمام الآخرين.. لكنه لم ينه مشكلتي التي تزداد كلما كبرت وأصبحت أكثر حساسية من نظرات الآخرين وتلميحاتهم..


بطريقة ما استطاعت نظرة مجتمعي الذي يحيطني أن تجعلني أشعر بالاكتئاب وعدم الرغبة في الخروج.. كنت أنظر لصديقاتي وطريقة حديثهن عن حياتهن فأشعر بالغبطة..

كل واحدة تتحدث عن أمها وكأنها وحيدتها.. خرجت مع أمي.. قلت لأمي.. نفكر أنا وأمي في موديل فستاني..

وهكذا..

وإن حصل كانت هناك أخت أو أختان أو بالكثير ثلاثة.. وهما أكبر بكثير أو أصغر بكثير..

لكن بالنسبة لي فالأمر مختلف..

أنا محاطة بستة أخوات يشاركنني كل شيء.. بدءاً من رعاية والديّ..

فأنا لم أحصل يوماً على انتباه أو اهتمام والديّ لذاتي.. دائماً أسمع الخطاب الجماعي.. أنتن.. سنأخذكن.. سنذهب بكن.. فنحن بالفعل قبيلة أو جيش نسائي كما يطيب لمها ابنة عمي أن ترمي بتلميحاتها السخيفة..

إذا أردت شراء شيء لي.. فيجب أن يتم شراء مثله للجميع.. وإذا أردت الذهاب لمطعم راقٍ مع والديّ فعلينا أن نذهب جميعاً بدءاً بي وانتهاء بجود ذات الأربعة أعوام.. وهنا يصبح المكوث في المطعم مستحيلاً في ظل القرقعة والإزعاج والبكاء والمشاجرات اللافتة للنظر..


أما حين ذهبنا للعمرة العام الماضي فقد كان منظرنا لافتاً بصدق ونحن نسير خلف والدي كالطابور..


كنت أتمنى لو يصبح لي أخ مثل غيري.. أخ أرسله للبقالة.. أو أجعله يخرج ليستلم طلبية التوصيل من المطعم.. يحدثني عن مدرسته ومشاغباته..

بل إنني أتمنى أحياناً أن يكون لي أخ ليراقب تصرفاتي وعباءتي فأضحك في سري عليه وأنا أطيعه بلذة عجيبة..

لكن هذا الأخ عبثاً لم يأتِ.. وبقي حبيس الأحلام كأشياء أخرى كثيرة..

كنت وثلاث من أخواتي قد وصلنا لسن الزواج.. لكن نصيبنا لم يأت بعد لأسباب لا يعلمها إلا الله..

لم يتقدم إلينا خاطب بصفات معقولة – ولا أقول ممتازة.. كانت أمي تنتظر اليوم الذي تزوجنا فيه وتشعرنا بالسعادة.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن بيد أمي ولا أبي.. فهو بيد الله سبحانه وتعالى.

معظم القلة الذين تقدموا لي كانوا إما كباراً في السن أو لهم سوابق أخلاقية أو أنهم لا يصلون.. أو ليس لديهم عمل ثابت كعبد الله ابن عمي فكيف أغامر بحياتي معه؟

لكن زوجة عمي لم تتركنا في حالنا بعد أن رفضنا بأدب شديد ولدها الذي لم يكن عيبه الوحيد أنه لا يعمل.. ولا أنه لم يكمل دراسته، بل هو يدخن ومحاط برفقة السوء هداه الله.. فكيف تريدني هداها الله أن أوافق على ابنها هذا؟

لقد اتفقنا أنا وأمي وأبي على أنه لا يصلح للزواج.. وبقائي مكرمة في بيت أهلي أفضل من أغامر لأعود مطلقة أو أحمل في أحضاني طفلاً بريئاً لا ذنب له..

لكن زوجة عمي لم تقتنع بكل كلامنا وبدأت حرباً شعواء علينا.. أفرغت خلالها كل ما في جعبتها من عبارات حادة وجارحة بحقنا.. قالت إن أمي عليها أن تبدأ في تسويق هؤلاء البنات قبل أن يتجمعن على قلبها – كما تقول.. فهناك نصف دستة من البنات ينتظرن دورهن خلفي!!.. وقالت أن من لديه مثل هذا العدد من البنات عليه ألا يتشدد في شروط الزواج بل يعطيهن لأول طارق!

جرحتني هذه الكلمات أكثر مما فعلت مع أبي أو أمي.. ربما لأن لديهم شيئاً من الجلد وقوة التحمل.. أما أنا فلم تساعدني حساسيتي المفرطة على تحمل هذا الكلام.. وأخذت أبكي ليالٍ طويلة..

وكانت هذه الهجمة سبباً في أن أفكر في وضعي – أو وضعنا- جيداً.. وأعيد حساباتي جيداً.. لماذا علينا أن نتحمل كل هذه الإهانات ورأسنا منكس؟


نظرت لنفسي فإذا أنا فتاة خلوقة ولله الحمد.. مستقيمة بإذن الله.. متفوقة في دراستي.. محبوبة ممن حولي.. وكذلك أخواتي فهن جميعهن صالحات مؤدبات خلوقات.. يثرن إعجاب الجميع بنشاطهن وتفوقهن..

أي فخر هذا لأبي وأمي؟

لماذا نترك للآخرين الفرصة ليشعرونا بالنقص.. ونحن ربما أفضل منهم بكثير..

فكرت في بيت عمي.. ماذا لديهم ليشعرونا بالدونية؟

ثلاثة أبناء فاشلين في دراستهم عابثين متخرجين من مقاهي الشيشة.. وثلاث بنات مرفهات متعجرفات.. لا يعرفن لاحترام الآخرين قيمة.. جل وقتهن يشغلنه بأحاديث هاتفية مشبوهة.. وتبادل أشرطة الأغاني مع صديقاتهن..

سبحان الله..

زوجة عمي نفسها.. لم تحظ يوماً ببر أحد من أبنائها أو بناتها أو اهتمامهم وكثيراً ما اشتكت من سوء أدبهم وتعاملهم معها.. فلماذا تحاول أن تظهرنا نحن بمظهر الأضعف والأقل.. ألأن الله شاء ألا يكون بيننا أخ ذكر؟ فقط لهذا؟ يا للتفكير السطحي السخيف؟

وكأن الله شاء أن تكون هذه المصيبة فرصة لأن أشكر الله على نعمته علينا وأن نكسر قيد الضعف الذي كان يحني رقابنا..


شعرت بعد جدال طويل مع نفسي أني أولد من جديد وأزيل عن نفسي بقايا عالقة من تفكيري السابق وأتخلص من تلك الخيوط اللزجة التي كانت تحيطني وتقيدني عن الكثير وتمنعني من أن أرفع رأسي أمام الآخرين..


لم أكن أصدق إن إنساناً يمكن أن يتغير بين ليلة وضحاها لكني تغيرت هكذا.. لم أعد أشعر بذلك النقص من نظرات الناس لأخواتي.. بل انقلب هذا الشعور إلى فخر حين أنظر لأخواتي بمظهرهن الجميل وحديثهن المثقف المهذب الرقيق.. وتذكرت أنه لم يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان كل نسله من البنات ولم يعش له ولد.. ويكفينا فخراً أننا نستر والديَّ عن النار لأنهما أحسنا تربيتنا بإذن الله..


استغربت أخواتي من التغير الذي طرأ علي فقد بدت الثقة في طريقة حديثي وتصرفاتي، وأنا التي كنت أزرع في نفوسهن الشعور بالنقص والدونية وأردد أمامهن دائماً أني أخجل من ظهورنا معاً وغير ذلك..


ربما ظهر هذا الشعور في داخلي كحاجة فطرية ماسة لمقاومة كل ذلك الهجوم من زوجة عمي وابنتها وغيرهن ممن يحاولن إهانتنا لإرضاء نفوسهن المريضة. لكنه كان شعوراً عارماً وقوياً وسرى في نفسي مثل نهر نبع فجأة في أعماق الصحراء.


أصبحت أشجع أخواتي على الظهور معاً ولا أجد في ذلك أدنى غضاضة، وأحاول أن أزرع فيهن الثقة بأنفسهن والحب والافتخار ببعضهن البعض، بدلاً من التقوقع حول ذاتنا ولوم بعضنا البعض على شيء قدره الله لنا..


وكلما نظرت لأسرتنا وتماسكها ومحبتها لبعضها البعض ورقيها الأخلاقي حمدت الله حمداً كثيراً.. لأن سعادة الإنسان تتبع من رضاه الداخلي وليس من نظرات الناس وأحاديثهم.. حتى لو كنا أكثر من سبع بنات..


مجلة حياة العدد (55) ذو القعدة 1425هـ


- 24 -

ليلة طلاقي


 

وقفت طويلاً أمام الباب الذي طالما طرقته وفتحته.. لكن هذه المرة مختلفة.. مختلفة جداً..

نظرت إلى الساعة.. إنها الثانية عشرة إلا خمس دقائق ليلاً..

شعرت بالخوف.. والخجل من نفسي..

ماذا سأقول.. لأمي.. أبي.. يا ربي أعني..

حاولت أن أبتلع دموعي المالحة.. وأخذت نفساً طويلاً لأستطيع الحديث..

شعرت بالتردد والخوف الشديد مما أقدم عليه.. بل شعرت بالحزن على والديّ.. أشفقت عليهما وعلى نفسي..

نظرت خلفي لعلي أتراجع وأعود.. فإذا به قد ابتعد بسيارته ينتظرني أن أدخل بأسرع وقت ليغرب عن وجهي..

أمسكت مقبض حقيبتي جيداً.. وطرقت الجرس.. مرة أخرى طرقته ولا مجيب.. لابد أنهم نائمون..

يا ربي..

وبعد عدة دقائق.. فتح أخي الباب..

- ماذا هناك؟ خيراً إن شاء الله؟!

لم أعرف ماذا أقول.. هل أتصنع وأذكر أسباباً واهية أم أواجهه بالحقيقة..

- لا شيء.. غداً أخبركم بما حصل..

سكت أخي وهو مستغرب بينما مضيت لغرفتي أسحب حقيبتي.. وشيئاً من فتات نفسي المحطمة.. التفتُّ إليه..

- ششش!.. أرجوك لا توقظ أمي ولا أبي..

ودخلت غرفتي وأنا منهكة تماماً.. منهكة من الألم والخيبة..

نظرت إليها.. لأول مرة أرى غرفتي دافئة وآمنة بهذا الشكل..

كانت مرتبة نظيفة وكأنها تنتظرني لتحضنني..

أحكمت قفل الباب..

ورميت نفسي على سريري لأرتاح.. ولحظتها شعرت أني أدخل دوامة كبيرة..

كنت غير مصدقة لما حصل..

كانت الكلمة تتردد في ذهني كصدى من حلم مخيف وتدور بي بشدة.. (أنت طالق.. طالق..)..

حاولت أن أسترجع الأحداث لكنها كانت لا تصدق.. وكأنها مقطع من فيلم كرتوني خيالي.. لا يمكن..! قبل ثلاثة أشهر فقط.. كنت هنا.. الابنة المدللة.. نعم.. طفلة والديها.. لديها ألعاب وكراسة رسم وألوان كثيرة..

لمحت دفاتري الصغيرة على الرف ومذكراتي هنا وهناك.. وهذه الألعاب والتحف اللطيفة.. لا زالت موجودة..

كنت مجرد فتاة صغيرة بريئة.. لا تعرف عن عالم الكبار أشياء كثيرة..

والآن.. ماذا حدث؟ هل يمكن.. أنا مطلقة..؟! هكذا؟!

شعرت بألم في صدري.. في قلبي تماماً حين تخيلت الصدمة.. آآآآه.. كم هي مؤلمة..

أحتاج من أبكي بين يديه.. وأبكي وأبكي..

دفنت رأسي في وسادتي وبكيت حتى شعرت أن جسمي كله يرتعش من الألم..

وبعد أن ارتويت من الدموع.. بدأت أفكر بما آلمني أكثر..

كيف أواجه أهلي.. ماذا أقول لهم.. كيف أشرح لهم ما حصل وكيف صبرت عليه وعلى تصرفاته الطائشة منذ أول يوم؟.. كيف سأواجه نظرات الآخرين وفضولهم؟.. زميلاتي في الجامعة.. إنهن يعتقدن أني سعيدة تماماً في حياتي فكيف أخبرهن..

كيف أخبر أعمامي وخالاتي.. كيف أواجههم؟ بل كيف أواجه بنات أعمامي وأخوالي؟

يا ربي ثبتني.. يا رب..

لم أشعر بالحاجة الماسة لمن يحتويني ويمسح على رأسي بحنان كما احتجته ليلتها.. لمن أشكو؟ لمن ألجأ؟

بكيت طويلاً لكني وجدت أن البكاء يزيد ألمي ولا يخففه.. ففي كل نوبة بكاء طويلة كنت أشعر بآلامي تتجدد وجروحي تنزف أكثر.. وتظهر المزيد من المواقف المؤلمة أمام عيني.. لكني لم أكن أستطيع التوقف..

بكيت على حالي والذل الذي عانيته لأحافظ على زواجي.. وعلى حال أهلي الذين يترقبون السعادة في وجهي.. بكيت على طفولتي وحياتي التي تغيرت تماماً.. بكيت على الثمن الذي دفعته من شبابي وعمري.. وبكيت على الخناجر المسمومة التي غرسها النذل في قلبي الطاهر المحب.. وعلى كبريائي الذي أهنته من أجله كثيراً..

وكلما شعرت بالأسف على نفسي أكثر كلما بكيت أكثر..

ولوهلة تمنيت الموت..

نعم.. إنه أفضل حل للتخلص من هذا الموقف المؤلم..

تمنيت لو أموت لحظتها فأرتاح من هذا الهم.. وأريح أهلي.. ولعلي أغرس في قلبه بعض الألم فيشعر أنه السبب في موتي من شدة الحزن والقهر.. ويشعر أهله أيضاً بفداحة تعاملهم القاسي معي..

تحمست لهذه الفكرة..

وقررت أن أتوجه الآن لمصلاي وأدعو الله من كل قلبي أن يأخذ روحي الليلة..

اتجهت لحمامي في هدوء وتوضأت..

وحين عدت لغرفتي لمحت شبحاً في مرآتي.. نظرت إليه.. يا إلهي!! ما هذا.. إنها أنا!!

كان وجهي محمراً ومتورماً بشدة من البكاء.. عيناي حمراوان كالدم.. وحاجباي مرتفعان وغير مرتبان.. وأثر صفعته الأخيرة ترك زرقة على عظمة خدي.. شعري منكوش بشعر مخيف.. يا ربي.. أهذا أنا؟!

كنت أشبه الشيطان وإن لم أره!

استغفرت الله!.. ولم أعرف هل أضحك أم أبكي؟!

أمسكت المشط وسرحت شعري وربطته..

وشعرت بالحاجة لوضع شيء من عطر.. فتحت الدرج.. كان هناك زيت زهور اللافندر الذي أحبه.. وضعت شيئاً منه فأشعرني براحة واسترخاء.. يا سلام..

ضحكت في سري.. هذه حصوص التي أعرفها..!

نسيت أني كنت متوجهة لسجادتي..

ذهبت إليها.. ارتديت ثوب صلاتي.. وحين وقفت لأصلي أخذت أفكر..

هل أطلب من الله فعلاً أن يأخذ روحي؟!

أليس هذا عيباً.. أن أيأس وأقنط من الحياة بهذه السرعة.. وبسبب من؟ بسبب إنسان حقير لا يستحق شعرة من شعر رأسي الجاف؟!

سبحان الله.. لقد سمعت يوماً أن الروح ملك الله وليست ملكنا.. وعيب أن ندعو الله لأخذها وكأننا نطلب منه أن يسترد هبته وهديته سبحانه..

لكن طالما أنا هنا وفي مصلاي.. لم لا أطلب منه سبحانه أن يثبتني ويطمئن قلبي ويوفقني لما فيه خيري.. وأن يرزقني زوجاً خيراً من ذلك الزوج..

صليت ركعتين حاولت أن أخشع فيهما.. فشعرت بطمأنينة منعشة تروي قلبي وجوارحي وتغسل آلامي.. ما أجمل أن يشعر الإنسان أنه قريب من ربه.. أنه معه في كل مكان يسمع شكواه ويجيب دعاءه.. بقيت أناجي الله وأشكو له وأشكو من كل قلبي.. رجوته ودعوته بكل ما أريد.. وأنا هنا.. في غرفتي الصغيرة.. كنت موقنة أنه يسمعني وأنه سيجيب دعواي.. وأنه سينصرني ولو بعد حين لأني مظلومة.. فشعرت براحة.. الراحة المنبثقة من معرفتي بوجود أحد يقف معي ويساندني.. وأي أحد.. إنه الواحد الأحد.. القوي العزيز..

كنت كطفل ضائع وجد أباه في سوق مزدحم بعد أن كاد الظلام يحل وهو لا يكف عن البكاء..

(ولله المثل الأعلى).. كان هذا شعوري.. كنت خائفة وحيدة مرتبكة.. والآن.. كلا.. أنا مرتاحة واثقة بإذن الله..

حين انتهيت.. نظرت حولي.. أشرطتي الدينية.. كتيباتي.. منذ متى لم أطلع عليها؟ .. منذ زواجي.. نعم..

كم أشعر بشوق كبير لها..

أدركت حقاً أن الإنسان كلما ابتعد عن ربه كلما شعر بالضعف والوحدة مهما بدا عكس ذلك.. وكلما اقترب منه سبحانه كلما شعر بالقوة والثقة..

في الصباح كنت متماسكة تقريباً.. رويت لأهلي كل شيء بثبات.. لم أكن خائفة كثيراً.. حاولت ألا تهزني نبرة والدي الحزينة وهو يردد (لا حول ولا قوة إلا بالله).. ولا دموع أمي وهي تسمع كيف أصف لها الضرب الذي كنت أتعرض له على يده.. تماسكت بقوة حتى لا أبكي ولا تفلت مني بعض الدموع.. وحين انتهيت ضغطت على نفسي لأبتسم وأنا أقنعهم أن هذا قدر الله المكتوب لي والحمد لله أني خرجت من التجربة دون حمل وأنه طلقني من تلقاء نفسه دون أن يتعبنا معه في المحاكم.. فالحمد لله..


كانت التجربة قاسية جداً لي.. لكني اعتبرتها أقوى اختبار مر علي في حياتي.. وأرجو من الله أن أكون قد نجحت في اجتيازه.. فقد استطعت مواجهة زميلاتي وصديقاتي بوجه باسم راضٍ وأنا أحمد الله.. كما تحملت تصرفات أولئك اللاتي أثبتن رداءة معادنهن حين تركن صحبتي.. واستطعت مواجهة قريباتي وصد أسئلتهن الفضولية بكل صرامة وأدب في نفس الوقت..

أصبحت أهتم بمظهري وصحتي، وحتى ثقتي بنفسي لا أعرف كيف ازدادت بفضل الله..

واستمريت أحصد النجاح في حياتي ودراستي ولله الحمد.. والآن ها أنا ذا معيدة في كليتي.. وأحضر للدراسات العليا.. محبوبة من كل من حولي ولله الحمد.. والأهم أني محافظة على علاقتي بربي دائماً بإذن الله.. لأني أعرف يقيناً أنه هو مصدر قوتي وثباتي.. وسر سعادتي..

------------------


نعم ..

مطلقة أنا !

قلت لي محدثتي بعد أن رأتني أضحك وأمازحها: (أو تبتسمين في يوم طلاقك؟!) مستنكرة عليَّ ذلك الجرم.. الابتسام.. فإليها وإلى كل من حار هذا السؤال في دواخلها.. أقول:


 

وتسألني محدثتي.. وفي قسماتها لحن

الدياجي..

وبريق سيف منصرم..

ما كل ذاك الابتسام؟! وكل ذاك الحسن؟ والثوب الجزل؟!

عجبي يبدد وحشتي..!

وكأنك في يوم عرس!!

أو تضحكين بملء فيك.!

وتقفزين بلا وجل؟!..

فأجبتها:

هوناً عليك حبيبتي.. أتريدني بسواد ثوب أنكفئ في حجرتي؟

بتأوه.. وبأدمع.. أبكي القضاء.. وأقول في أنشودة:

(سأموت قهراً لا محالة)!

هذي مراسيم الشقاء وحشرجاته..

وهذه أدمعي؟!

أنا يا ابنة الأنثى كيان ماثل..

لا يبتغي التجريح والتلميح والرمي..

ما ساقني للجرح حب تسلط..

ولا رغبة في حب ذل تعتلي..

لما رأيت الحسن فارق مهجتي.. ولوحت لي ببسمتي..

مع الغروب سنلتقي...!

آثرتها وبقيت دهراً أرتقب في وحدتي.. أين الغروب؟!..

وأين معه بسمتي؟!

مرَّ الفراق يشوبه عندي أغاريد الربيع.. لينثني سم الأعاصير من دمي..

نعم معذبتي..

مطلقة أنا.. ولي من العمر.. عشرون عاماً.. ما أجملي!!

أقولها بكل فخر.. وابتغي في كربها بركات ربي!

لأنني أنا الأنثى..

أنا المثلى... رغم الأعاصير العجاف..

لا أنحني..

سأظل أرقب من بعيد.. إشراق فجري من جديد..

وأقول في مقطوعة:

رغم الألم.. يبقى الأمل..

يزهر أفانين المقل..

ويقيم للأحلام عمراً.. مشرقاً لا ينتهي..

نعم.. مطلقة أنا..

وسأبتسم..

إيمان الفهيد

مجلة حياة العدد (56) ذو الحجة 1425هـ



- 25 -
لأني أحبك أنت



إلى طالبة غالية

أحبها جدا في الله..

أرجو الدعاء لها بالثبات..

(كلنا سنحاسب عن أعمالنا.. أعمالنا فقط.. لا أحد سيغني عنك أو يساعدك يومها.. لا أمك.. ولا أبوك.. ولا صديقتك.. الكل سيهرب منك.. تخيلي.. كلهم سيتركونك ويفرون منك!! أحب الناس إليك سيتركونك ويهربون..

ولن ينفعك سوى عملك الصالح فقط.. عملك أنت..)..

* * *


كنت أستمع لأبلة حصة معلمة التفسير وهي تشرح لنا بطريقتها المبدعة قوله تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. وفصيلته التي تؤويه) وأنا متأثرة بشدة حتى كادت الدموع تنساب من عيني..

فقد كنت أفكر في نفسي وحالي..

أشعر أن الآية تخاطبني أنا.. نعم..

إنني أجاملهم.. أسايرهم.. أو أخاف منهم.. أخجل كثيراً من تعليقاتهم..

رغم أنهم لن ينفعوني في ذلك اليوم العظيم..

إنهم يحيطون بي.. وهم أقرب الناس إلي..

أبحث جاهدة عمن يساندني.. يعينني.. يثبتني.. لكن دون جدوى..

بل على العكس تماماً.. يسحبوني بشدة نحو عالمهم.. يقنعوني.. يضغطون علي..

فأضعف.. وأتراجع.. والألم يقتلني..

لكن هذه المرة سأتخذ قراراً بإذن الله..

* * *


حين أنظر لصوري مع أمي في الصغر.. أجد طفلة لا تحتوي شيئاً مني..

خصلات شقراء ناعمة مرتبة بتسريحة متقنة جداً.. معطف غاية في الأناقة من الفرو.. وضحكة تبدو ممتعة..

في معظم الصور لم تكن أمي تتركني على الأرض.. كانت دائماً تحملني رغم أن عمري تجاوز الخمس سنوات..

تحملني على كتفها.. تحضنني.. تقبلني.. تداعبني.. أنظر في ملامحها.. فأشعر بغصة..

دائماً تنظر إلي.. تنتظر مني أية كلمة أو ابتسامة لتفرح بها..

كم أحتاجها.. وأحتاج حبها وحنانها..

لكن شيئاً ما في داخلي.. يرفضها.. يبغضها على استحياء لأنها تركتني ولم تقاوم كثيراً من أجلي..

لماذا يا أمي؟ لماذا تركتيني بسهولة؟ لم نسيتيني كل هذه السنوات؟ ولم تسألي عني وتركتيني أكبر وأتجاوز أقسى سنوات الطفولة وأكثرها ألماً بعيداً عنك؟

* * *


تناديني ماما نجوى من بعيد..

جوجو.. هيا.. العشاء ينتظرك..

لا أعرف لماذا شعرت فجأة بالنفور من صوتها!!..

أصبحت – لا أعرف كيف- أنفر منها بعد أن عشت معها سنوات طويلة..

أشعر أنهم كلهم يخنقونني.. يقتلون شخصيتي.. يفرضون علي حياة لا أريدها ولا أحبها..

سرت بتثاقل نحو طاولة الطعام..

لينا وتالا –ابنتاها- سبقتاني للمائدة..

نظرت إليهما.. يرتديان نفس ملابسهما التي تعودا عليها في البيت.. شورت وقميص بلا أكمام..

كل شيء يبدو عادياً للجميع..

أبي الهاديء دائماً يجلس بصمت..

لم أشعر برغبة في تناول الطعام.. أخذت أنظر لهم جميعاً دون أن يشعروا.. أنظر بتفحص..

ماما نجوى تبدو فعلاً كامرأة غريبة.. ملابسها.. شعرها المصبوغ.. كلامها.. والأدهى عاداتها وأفكارها..

تالا..!

....

تالا!! ألا تسمعين؟! كم مرة ينبغي أن أخبرك أن تغلقي الـ Headphone أثناء تناول الطعام؟

ترد تالا بالانجليزية..

أوه ماما.. أرجوك.. إنها تشعرني بالسعادة.. ماذا يضر أن أسمع أثناء الأكل؟

يضر أنك لا تسمعيننا ولا تشاركيننا الحديث.. نريدك معنا يا تالا..

أوف!.. هاه..

وألقت سماعات جهاز التسجيل الموصلة بأذنيها على الطاولة بغضب وقلة احترام..

شعرت بغربة حقيقية في هذه البيئة.. لكني ابتلعت ألمي على مضض.. فكل شيء سيسير هكذا شئت أم أبيت..

* * *


تزوج أبي أولاً بامرأة حين كان عمري ست سنوات.. لكنها لم تبقَ معنا سوى سنتين فقط..

كانت ترفض أن تبقى معي حين أخاف وأحتاجها في الليل.. وذات مرة ضربتني حين بللت سريري بعد ليلة كانت فيها حرارتي مرتفعة.. فغضب عليها أبي كثيراً.. وبعدها تركت البيت ولم أرها بعد ذلك..

وبعد سنتين تزوج أبي بماما نجوى..

وهي إنسانة طيبة.. ولديها ابنتان في سني تقريباً.. لكنها غريبة جداً..

فهي متحررة تماماً.. لباسها.. حديثها.. أفكارها.. كل شيء..

متحررة حد الانسلاخ من هويتها.. دينها.. أعرافها..

لكني لم أكن أكرهها.. ولا أحبها..

لا أكرهها لأنها لم تؤذني يوماً.. ولم تجرحني أو تقصّر قي معاملتي..

ولا أحبها لأني لا أشعر بأي حب لها، ولا لأسلوبها كله في الحياة.. كنت أشعر بالغربة معها..

أما ابنتاها فقد كانت علاقتي بهما سطحية جداً.. لم أكن أحب مشاركتهما احتفالات أعياد ميلادهما.. ولا أحاديثهما التافهة حول (أصدقائهما) في الإنترنت.. ولا سباقهما المحموم لجمع صور ريكي مارتن وتعليقها على جدران غرفتهما..

ورغم أن أمي (أجنبية).. إلا أني لا أتحدث بالانجليزية قدرهما في البيت.. ولا أشعر بانتماء لتلك الثقافة قدر ما يشعران به. وأحياناً أرحمهما.. لأنهما أبعد ما يكونان عن سعادة الروح الحقة..

* * *


لم يكن أبي أبداً جزءاً هاماً من حياتي.. وهو خارج الصورة دائماً..

إنه إنسان طيب وهادئ.. ولا يمكن أن يؤذي نملة.. لكنه مشغول دائماً..

لا يتكلم إلا نادراً.. ولا يهتم بأي شيء في المنزل.. لا يهتم أبداً..

أحس أنه يرحمني ويعطف علي.. لكني لم أشعر يوماً بحبه..

وتنتابني أحياناً فكرة أنه يعتبرني من أخطاء حياته التي يكفر عنها..

إنني مثل ورم صغير مؤلم في حياته.. أشعره بالألم كلما نظر إلى عيني.. فيبتعد عن مواجهتي..

* * *


أشد.. أشد ما يمكن أن يمر على الإنسان من لحظات ألم.. هي تلك التي يمر بها وهو يعلم أن لا أحد ممن حوله .. لا أحد تماماً.. يحس به أو يسانده فيها..

وأشدها على الإطلاق.. التي يشعر فيها أنه لا يعرف إلى أين يهرب من هؤلاء الأقرب إليه..

لا أستطيع أبداً أن أصف شعوري..

كلا.. لا أستطيع.. أن أصف كيف يمكن أن تستلقي في سريرك.. تبحثين عمن يمكن أن يسندك بكلمة.. فلا تجدين سوى الجدران الصماء.. وبرد الوحدة الأليم ينهش قلبك..

لا أب.. لا أم.. لا أحد حولك يدفعك نحو الخير.. أو حتى يساعدك عليه..

أفكر..

كيف.. كيف أستطيع أن أستمر في ارتداء عباءتي المحتشمة رغم غمزاتهم وضحكاتهم؟ كيف أرفض الجلوس معهم أمام قنوات الأغاني التي يفضلنها؟ كيف أرفض أن أجلس سافرة مع أخوالهم وأبناء أخوالهم؟

من أين لي بالثبات يا ربي؟

أبكي.. أريد أمي..

كلا.. أمي لن تنفعني..

أريد.. أريد عونك يا ربي.. يا حبيبي..

لأجلك أنت فقط.. لأني أحبك أنت سأقاوم..

ولأجل رضاك سأتألم..

لأني أعلم أنني على حق.. وهم على باطل.. وهم جميعاً لن ينفعوني يوم الفزع الأكبر..

فألهمني الثبات..

أقوم لأصلي الفجر.. أحاول أن أحصل على لحظة سكينة وخشوع..

وأدعو الله أن يثبت قلبي.. وأن يهديهم جميعاً.. رغم صوت موسيقى الروك القادمة من غرفة تالا..

مجلة حياة العدد (57) محرم 1426هـ



سلسلة { اعترافات فتاة } (1)
سلسلة { اعترافات فتاة } (2)
سلسلة { اعترافات فتاة } (3)
سلسلة { اعترافات فتاة } (4)
سلسلة { اعترافات فتاة } (5)
سلسلة { اعترافات فتاة } (6)
سلسلة { اعترافات فتاة } (7)
سلسلة { اعترافات فتاة } (8)
سلسلة { اعترافات فتاة } (9)

تحرير: حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
حورية الدعوة
  • المقالات
  • قصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط