صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ثمرات بعد سنوات

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


لم تتمالك نفسها كعادتها في كل مرة،دموعها تعبر عن الحزن والفرح،ولكنها هذه المرة كانت تنهمر بغزارة،فقد كان الخبر مفاجأة لها،دموعها سبقت كلماتها في الاندفاع،والتعبير عن مشاعرها الجيّاشة،ها هو أصغر أبنائها الستة يمسك بزمام وظيفة كبيرة،ويلحق أخوته في البذل والعطاء،وخدمة المجتمع،ستة أبناء تقلدوا أعلى المناصب،وشغلوا أماكن حسّاسة لبناء هذا المجتمع،كانت فرحتها غامرة وهي ترى بأم عينها نجاحاتهم المتوالية في شتى المجالات إلى أن أصبحوا علامة بارزة في مجتمعهم،والكل يشير إليهم بالبنان.

في أحيان كثيرة تأخذها الذاكرة إلى الوراء،قبل سنوات طويلة،وبالتحديد إلى فترة الطفولة المبكرة،عندما فقدت والدتها في تلك الفترة،الفترة الحزينة من حياتها،كانت تشعر بأن سعادتها قد ذهبت،وخاصة بعد زواج والدها من امرأة قاسية أذاقتها صنوف العذاب،كانت تستعجل الخطى في أعمالها،تبحث عن رضى الآخرين،ولكنها لم تكن تحصل إلا على جرعات التأنيب،والتوبيخ،فترة من الزمان وتفقد والدها،وتنتقل للسكن مع عمها وزوجته،براءتها كانت توحي لخيالها البريء بأن الحال قد يكون أفضل،ولكن سرعان ما ظهرت لها الأمور جلية وواضحة أمام عينيها،فلن تجد امرأة كأمها ولو جابت الأرض ذهاباً وإياباً،سنوات عمرها القلائل لم تشفع لها،أعمال تنوء بحملها الجبال،تكلّفها زوجة عمها بما هو أكبر من طاقتها،تستقبل ما تؤمر به بابتسامة عريضة،تستجدي الرضا،وتتسول كلمة شكر،ولكنها لم تكن لتحصل على شيء من ذلك.

كانت تنظر بمرارة إلى بنات عمها وهن يقضين أوقاتهن في اللهو والمرح،وكانت تراقب بحسرة أترابها وهن يستمتعن بلحظات طفولتهن،ولكنها لا تكاد تبتعد بخيالاتها إلا وصوت زوجة عمها يناديها بنبرة حادة متوعدة،تذهب على عجل وتلبي النداء،تقوم بأعمالها على أكمل وجه،وتضع نفسها على أهبة الاستعداد دوماً،فما أن تنتهي من عمل إلا ويكون نصيبها الحصول على غيره،لم تكن لتستوعب أسباباً لما يحدث،ولم تدع لنفسها فرصة للتفكير في مجريات حياتها.

في تلك السنة عندما أكملت الثالثة عشر من العمر،كانت المعاملة القاسية على أشدها،فقد أصبحت بنظرهم امرأة يعتمد عليها،ازدادت أعبائها،وتراكمت مسئولياتها،وأصبحت تسابق ساعات يومها لتنجز ما يطلب منها،لم تكن تجد فرصة لتتأمل أو تفكر،أو حتى تستشعر متاعبها كما ينبغي،ولكن ذلك اليوم الحاسم انطبع في ذاكرتها،عمتها من البلدة المجاورة في زيارة غريبة ومفاجئة لعمها،كانت تستمع لشذرات من أحاديثهم،تداعت إلى سمعها كلمة تكررت لعدة مرات،شعرت بأنها المقصودة بتلك الكلمة،كانت ترى الفتيات في مثل عمرها من حولها،ولكنهن يعشن على النقيض من حياتها،لا تعلم عن سبب اعتبارها امرأة كبيرة،بينما هن يتمتعن بكل لحظة من حياتهن،ويعشن لحظات حياتهن متناسبة تماماً مع أعمارهن.

ذهبت عمتها إلى حال سبيلها،وابتسامة خفيفة كانت تعلو وجه زوجة عمها،كانت تسأل نفسها عن سر هذه الابتسامة،ولكن الصمت كان لتساؤلاتها بالمرصاد،كانت تتوجس أمراً لم تدرك كنهه حتى الآن،وكانت تستشعر سعادة خفية تنطق بها العيون من حولها،النظرات مصوبة نحوها،والهمسات تدور بشأنها،وأمر ما يبعث السعادة إلى بعض أهل البيت،أيام قليلة ويقع الخبر عليها وقع الصاعقة،اكتشفت سعادة زوجة عمها،لقد لاحت لها في الأفق فرصة ذهبية للخلاص منها،وعمتها هي الوسيط بينهم وبين أسرة أخرى،لقد بات زواجها وشيكاً،ولم يصرحوا لها به بعد،صويحباتها نقلن لها الخبر،وبنات عمها أكدن لها صحته،وعمها وزوجته يلزمان الصمت،لم تدرك بعد ما يجب عليها،ولم تجرؤ على الكلام،لاذت بالصمت ونظراتها الزائغة تعبر عن مكنون فؤادها،ارتباكها بدا واضحاً،وحركاتها المضطربة تعبر إلى حد ما عما يعتمل في صدرها.

في ذلك اليوم ودّعت بيت عمّها،ورحلت إلى بيت آخر يزيد عدد أفراده عن العشرين،أعطت لنفسها فرصة يسيرة لتعيد الكرّة بأن تحلم بظروف أفضل مما مضى،ولكن أم زوجها كانت لأحلامها بالمرصاد،وأدت الحلم في بداية اليوم الثاني،تفوقت في قسوتها وشدتها على زوجة عمها،كانت تنظر إلى زوجها طمعاً في وقفة صادقة،ولكنه كان يشيح بوجهه خوفاً من غضب والدته،في تلك الفترة بدأت أحاديثها النفسية تتردد بين جوانبها،وبدأت تدخل في مقارنة بينها وبين أخوات زوجها،لماذا تختلف عنهن هنا؟؟ولماذا اختلفت عن بنات عمها فيما مضى؟؟الفترة العمرية نفسها،والأعباء تختلف،بدأت تردد بينها وبين نفسها كلمة الأم،كانت تفتقدها في أحيان كثيرة،وعندما تتراكم الأعباء،وتزداد المشاغل تتذكرها كثيراً،اعتمدت نفس الأسلوب هنا،محاولة إرضاء الجميع،ولكن الكل يوبخها،ويمعن في إذلالها،وأكبر جرعة من الألم كانت تتلقاها عندما كانت خالتها تطالبها بإعادة العمل،لم تكن تستحسن لها شيئاً،ولم تدع الأمور تجري فحسب،بل تمعن في إيذائها وتطويعها في آن واحد.
ازدادت أعبائها بإطلالة صغيرها الأول،وأصبح الاعتماد عليها شبه كامل في كل شيء،لقد أصبحت الآن أماً،أي امرأة كاملة يجب الاعتماد عليها،وعام بعد آخر،كان توافد أبنائها متتابعاً،لم يكن بينهم بنت واحدة،لم يكن اهتمامها بالبنت أو الولد،بل انكبت على تربيتهم والعناية بهم،واستمر شقائها اليومي في بيت أهل زوجها كما كان،كانت تشعر بشيء من السعادة في تلك الوقت،فضحكات أولادها من حولها تثير في نفسها كثير من المشاعر والأحاسيس الدافئة،تشعر بالسعادة لوجودهم معها،تتابع مرحهم وصخبهم وتدعو الله ليل نهار أن لا يبعدها عنهم،كانت ترى أولاد الآخرين في نزاعات دائمة،وخصومات لا تنتهي،لكن الود كان مسيطراً على أولادها،رأت مظاهر من التماسك الأخوي في هذه الفترة المبكرة من طفولتهم،سعادتها بهم كانت تزداد يوماً بعد يوم،ولسانها لا يكف عن الدعاء لهم،كانت تطمح من خلالهم إلى مستقبل مشرق،وكانت ترى فيهم الأمل للخلاص مما وقعت فيه.

ما أسرع الأيام،كلمة نطقت بها شفاهها بصوت خافت عندما غادر ابنها الأكبر البيت لأول مرة متوجهاً إلى مدرسته،أعوام قليلة ويتتابع دخول أبنائها إلى المدرسة الواحد تلو الآخر،تمر الأيام بسرعة،وفي نهاية كل عام دراسي يكون الحصاد،تفوّق واضح لأولادها في مستوياتهم الدراسية،وإخفاق لمن حولهم،كانت تتفكر في هذا الأمر وتشكر الله على هذه النعمة،ولم تشغل بالها كثيراً بالآخرين،وجاء يوم حاسم جعلها تنطق بكلمتها التي طالماً ترددت بين جنبات صدرها،عندما قرر زوجها مغادرة البيت أسوة بأخوته،بعد وفاة والديه،قالتها بصوت مسموع :-
حقاً ما أسرع الأيام!!!!
لأول مرّة في حياتها تجد نفسها تتكلم دون قيود،وتأمر ليهبّ أولادها لتنفيذ أوامرها،زوجها ترك لها مطلق الحرية في التصرف في مملكتهما الجديدة،لم تنسها سعادتها الجديدة مرارة الأيام السابقة،ولم تجردها حريتها من مشاعرها وأحاسيسها،كانت تتذكر سنوات عمرها البائسة دوماً،وتتعهد نفسها في نفس الوقت بأن لا تكون مصدر أذى لأي شخص كان، ومهماً كانت الظروف،توالت الأحداث السعيدة على حياتها الجديدة،شعرت بالاستقرار يحيط بعالمها الجديد،كان لسانها لا يفتر أبداً عن شكر المنعم عز وجل،وصعود أولادها سلالم النجاح درجةً درجة كان يضيف إلى سعادتها شيء كثير.

يتزوج أبنائها الواحد تلو الآخر،كانت في البداية تستشعر قلقاً من طبيعة العلاقة بينها وبين زوجات أبنائها،لا تريد أن يتدخل في حياتها أحد أو يؤذيها،كما أنها قد عاهدت نفسها من قبل أن لا تكون مصدراً للأذى لأي أحد،مخاوفها بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً،فأولادها لم تغيرهم ظروفهم نحوها،وزوجاتهم أصبحن بمثابة البنات لها،والأحفاد كانوا تبعاً لوالديهم في الاحترام وحسن المعاملة،تشعر بالسعادة كلما دخلوا بيتها،وتشعر بالراحة عندما يغادرون،فلم يكن الاتصال بينها وبينهم لينقطع في أي وقت من الأوقات،وعندما ينشغل أحدهم فزوجته تقوم بالمهمة نيابة عنه بصدر رحب.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط