اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/daeyat/hajar/1.htm?print_it=1

فوائد اختلاف القراءات
(المَدْخَل والمُدْخَل)

هاجر بنت عثمان بن عبدالله الجغيمان

 
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80].
للآية قراءتان:
الأولى:
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مَدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مَخْرَجَ صِدْقٍ}
قرأ بها قتادة، وأبو حيوة، وحميد، وإبراهيم بن أبي عبلة، والحسن، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، وعليّ، وأُبَيّ.
الثانية:
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}
هي قراءة جمهور القراء، وبها قرأ القراء السبعة.

بعض أقوال السلف ومن جاء بعدهم من المفسرين في معنى الآية:

الأول:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في المدينة حين هاجر إليها صلى الله عليه وسلم
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من مكة حين هاجر منها
الثاني:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في مكة آمنًا ظاهرًا عليها بالفتح
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من مكة آمنًا من المشركين
الثالث:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في المدينة آمنًا على رغم أنف اليهود
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من المدينة إلى مكة آمنًا على رغم أنف كفار مكة ظاهرًا عليهم
الرابع:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في الأمر الذي أرسل به من النبوة
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من ذلك من غير تفريط
الخامس:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في المأمور به
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من المنهي عنه
السادس:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في طاعتك
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: منها سالمًا غير مقصر فيها
السابع:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في الموت
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من الموت إلى الحياة بعد الموت
الثامن:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في القبر إدخالاً مرضيًّا على طهارة وطيب من السيئات
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من القبر عند البعث إخراجًا مرضيًّا ملقى بالكرامة، آمنا من السخط
التاسع:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: الجنة
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من مكة إلى المدينة
العاشر:
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، أي: في كل الأمور والأماكن
أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، أي: من كل الأمور والأماكن

الترجيح:
رجح الطبري القول الأول؛ لدلالة السياق عليه، وذلك لأن هذه الآية سبقها قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} [الإسراء:76]، ومثله ابن كثير، ورجح ابن عطية أنها تدل على العموم، وعلَّلَ كون المقدم في الذكر هو المؤخر في الوقوع بأنه الأهم، ومثله في ترجيح العموم وأن ما ذكر من أقوال هو على سبيل التمثيل لا التعيين أبو حيان الأندلسي، وابن القيم، وهذا هو الأظهر، ومن المعروف أن اختلاف السلف في التفسير هو من اختلاف التنوع لا التضاد، أما إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق فلأن العرب من عادتهم عند المدح ذلك، مثل قولهم: رجل صدق وامرأة صدق مقابل رجل سوء وامرأة سوء، وما ورد في القرآن مضافًا إلى الصدق خمسة، وهي: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.

الفرق بين القراءتين وثمرة معرفته:

الأولى بفتح ميم (مَدخَل)، و(مَدخَل) مأخوذ من الفعل الثلاثي (دَخَلَ) دخولاً، والمعنى: أدخلْني فأدخل دخول صدق.
الثانية بضم ميم (مُدخَل)، و(مُدخَل) مأخوذ من الفعل الرباعي (أَدْخَلَ) إدخالاً، والمعنى: أدخلْني إدخال صدق.
و(مَدخَل) و(مُدخَل) كلاهما يأتيان مصدرًا ميميًّا واسم مكان واسم زمان، والآية جمعت المعاني الثلاثة، وهذا ما يسمى بالتوسع في المعنى، وهو كثير في القرآن الكريم.
وفيها أمر الله رسوله أن يسأله أن يكون الصدق ملازمًا له، في القراءة الأولى: لدخوله وخروجه ومكانهما وزمانهما، وفي القراءة الثانية: لإدخاله وإخراجه ومكانهما وزمانهما.

والفرق بين الفعلين كالآتي:

= دخلتُ دخولاً وخرجتُ خروجًا، أي: دخلتُ وخرجتُ أنا بنفسي.
= أُدْخِلْتُ إدخالاً وأُخْرِجْتُ إخراجًا، أي: أدخلني وأخرجني غيري.

= مع مصدر الثلاثي يكون المعنى سؤالَ الله الدخول في الأمر دخول صدق والخروج منه خروج صدق، والأمر عام في الأقوال والأفعال والأحوال، ودخول الصدق وخروجه يعني أن يكون لله وحده وبالله وحدة، وهذا نفسه هو مضمون (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ فالعبادة الخالصة الصادقة بالأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة متعلقة بتوحيد الألوهية، والاستعانة الخالصة الصادقة بالتوكل على الله والاعتماد عليه والثقة فيه متعلقة بتوحيد الربوبية.
والدخول والخروج إذا كان لله وحده فهو ينفي النفاق والرياء، وإذا كان بالله وحده فهو ينفي الكبر والعجب، لذلك الصدق فيهما مطلوب ويحتاج المرء أن يسأل ربه دائمًا صدق الدخول وصدق الخروج.
وكذلك صدق المكان والزمان يعني طلب أن يكون مكان الدخول ومكان الخروج وزمانهما طيبًا مباركًا ليس فيه إلا ما هو خير ويرضي الله.
= مع مصدر الرباعي يكون المعنى سؤالَ الله الإدخال في الأمر إدخال صدق والإخراج منه إخراج صدق كما هو في الدخول، إلا أن الصدق في الإدخال والإخراج أصعب من الصدق في الدخول والخروج؛ لأنك إذا دخلت في الأمر أو في المكان أو الزمان أو خرجت منهم بنفسك وبرغبة منك فتحرِّيكَ الصدق والإخلاص يكون أسهل مما لو أدخلَكَ غيرُك أو أخرجَك.

= إذا دخلت أنت بنفسك وخرجت فتحرص على أن تحمل كل صفة محمودة فتكون صادقًا مخلصًا نقيًّا قويًّا ثابتًا على صواب ...
وألا تحمل أي صفة مذمومة فلا تكون كاذبًا ولا غاشًّا ولا مخادعًا ولا مرائيًا ولا ضعيفًا ولا متكبرًا ولا على خطأ ...
= وإذا أدخلَكَ غيرُك أو أخرجَك فتحرص على كل جميل وتحذر من كل قبيح، تتحرى الصدق في نيتك، وتجعل أمام عينيك (لله وبالله)، فإن أُدخِلتَ أو أُخرِجت لتكريمك فالصدق في التواضع للخلق والاعتراف بفضل الخالق، أو لتكليفك فالصدق في الإخلاص في العمل وترك ما لا يجوز فيه إن حصل، أو رحمةً بك أو إشفاقًا عليك أو إنقاذًا لك فالصدق في التعلق بربك والتوجه إليه والوفاء لمن أعانك، أو بالغصب والقهر فالصدق في الصبر والثبات والسعي للنجاة واليقين بالفرج والعفو عند المقدرة، أو غير ذلك من أسباب الإدخال والإخراج فالصدق فيها يحتاج إليه كل منا حاجة شديدة؛ لأن المرء إذا دُفع إلى شيء فقد يخفق في ضبط نيته عند توجيهها إلى مرضاة الله، أو يصعب عليه معالجتها بعد انحرافها أو تثبيتها بعد وصولها.

الثمرة:

بعد معرفة الفرق بين الكلمتين في القراءتين لابد من قطف ثمرة هذه المعرفة، والاهتمام بهذا الدعاء وفهمه وقوله في سياق الحال المناسبة له، فإذا دخلتَ أو خرجتَ فتقول في دعائك: رب أدخلني مَدخل صدق وأخرجني مَخرج صدق، وإذا أُدخلت أو أُخرجت فتقول: رب أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق، ثم إن كل دعاء ورد في القرآن مسبوقًا بـــ(قلْ) فعلينا أن نجعله من أدعيتنا التي نحرص عليها ونكررها دائمًا، كقوله سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وكل ما قلتُه في هذه الآية أقولُه كذلك في قوله تعالى:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} [النساء: 31]
وقوله: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 59]
وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ} [المؤمنون: 29]

فائدة:
قرأ جمهور القراء بالضم، وهو المعنى الأشمل ويصلح في كل حال سواء دخلتَ أنت أو أدخلك غيرُك؛ لأن الإنسان مخير ومسير في آنٍ واحد، مخير؛ لأن الله أعطاه عقلاً ومشيئة وإرادة وقدرة واختيارًا، وكذلك مسير؛ لأن الله قدَّر الأشياء سابقًا، وكلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له، وفي دعاء الهم يقول المرء: (ماضٍ فيَّ حُكمُك، عَدْلٌ فيَّ قضاؤك).
وقول الداعي: مَدخل بالفتح يوجه المعنى إلى أن الدخول باختياره، وقوله: مُدخل بالضم يوجه المعنى إلى أمرين، إما أن يكون بقصد إدخاله عن طريق غيره من الناس أو بقصد كون الإدخال من ربه ورب الناس أجمعين، ودخول المرء وإدخاله كلاهما داخلٌ تحت إدخال الرب، وعليه فقولُكَ هذا الدعاء بالضم _مثل ما هو في القراءة المشهورة_ في كل أمر صحيح، وقولك هذا الدعاء بالفتح عندما يكون الشيء من نفسك صحيح أيضًا([1]).
وقد يقول قائل: لماذا أتت قراءة الفتح مع كون قراءة الضم صحيحة في كل حال؟ الجواب: ربما إشارة _والله أعلم_ إلى أنك مسؤول عن دخولك وخروجك فانتبه لذلك، واجعله خالصًا صافيًا موافقًا للشرع، واسأل الله قبل الشروع فيه التوفيق والتيسير لصلاح الافتتاح وحسن العاقبة.

كتبتْهُ هاجر بنت عثمان بن عبدالله الجغيمان


________________________________________
([1]) ويكون الفتح أفضل عند الإصرار على القرار مع وجود من يحذرك منه أو لا يشجعك عليه، فإذا كنتَ مصرًّا على الدخول في شيء أو الخروج منه وخالفَكَ في قرارِك مَنْ هُم حولك ولم تأبه بذلك فعليكَ بعد الاستخارة أن تحرصَ على قولِ هذا الدعاء بفتح الميم في المَدخل والمَخرج؛ لأنكَ عزمتَ وشرعتَ وكلٌّ ضِدُّك، وسيلومونك لو حصل لكَ فيما بعد ما تكره، وهنا أقولُ لك:
سيأتي الخيرُ، كلُّ الخيرِ يأتي إذا صدَّرْتَ أمرَكَ باستخارَهْ
فكُنْ عبدًا رضيًّا مطمئنًّا لِيُسْرٍ لَفَّ أو عُسْرٍ قرارَهْ
استشرْ واستخرْ واسأل اللهَ مَدخل الصدق ومَخرجه وامضِ، فإن تيسَّر فهو الخير، وإن تعسَّر فهو الخير، وكن مطمئنًّا راضِيًا في الحالين.



 

 
  • المقالات
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط