صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أفلا يتدبرون القرآن؟!

عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصين.

 
العناصر:
1- مقدمة.
2- هل هو من عند الله؟
3- في القرآن جميع العلوم النافعة.
4- كيفية التدبر ووسائله.
5- ثمرات التدبر
6- صوارف التدبر.
7- أيهما أفضل؟
8- الاقتصاد في قراءة القرآن.
9- من هم أهل القرآن؟
10- بأي شيء نبدأ؟
 



الحمد لله علم القرآن، وجعله في أعلا درجات البيان، وحفظه من الزيادة والنقصان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعهد بحفظ حروف كتابه؛ فلا يزال محفوظًا في الصدور والأوراق، وبحفظ معانيه فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
 
مقدمة
فإن "القرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد، والأثير في المادة، والكهرباء في الكون، تُعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها"(1)، فكذلك القرآن سر من الأسرار، أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، وليس على العقول والأفئدة شيء ألذ من تكشف هذه الأسرار، وإزاحة الأستار، وهي لا تظهر إلا بتدبر وتفكر، وتأمل ونظر.
قرآن مركب من "ألفاظ؛ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكُرُ الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وناره(2)، ومتى وعدت مِنْ كَرَمِ الله جعلتِ الثُّغورَ تضحكُ في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعُدُ من حَمَى(3) القلوب"(4).
فيه معاني أعذب وأطيب من الماء البارد الحلو للعطشان، وأرق من نسيم الجنان، هي نور يضيء للمؤمنين طريق الحياة ليصلوا إلى بر الأمان، أعظم من نور الشمس للأكوان.
ولقد صدق من قال:

وكتاب ربك إن في نفحاته ***  مِنْ كُلِّ خيرٍ فوقَ ما يُتوقع
نورُ الوجودِ وأُنسُ كلِّ مُرَوَّعٍ *** بِكروبِه ضاق الفضاءُ الأوسع
والعاكفون عليه هم جلساء من *** لجلاله كُلُّ العوالم تخشع
فادْفِن همومك في ظِلال بيانه ***  تَحْلُ الحياةُ وتطمئن الأضلع
فبكل حرف من عجائب وحيه *** نبأٌ يُبشِّر، أو نذيرٌ يقْرعُ

قال جرير بن عبد الله البجلي: "أوصيكم بتقوى لله، وأوصيكم بالقرآن؛ فإنه نور بالليل المظلم، وهدى بالنهار، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء فقدِّمْ مالك دون دينك، فإن تجاوز البلاء -أي زاد، ولم يدفعه المال- فقدم مالك ونفسك دون دينك؛ فإن المخروب من خَرُب دينُه، والمسلوب من سُلِب دينُه، واعلم أنه لا فاقة بعد الجنة، ولا غنى بعد النار"(5).
يرفع الله بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين؛ فعن نافع بن عبد الحارث أنه استناب مولاه عبدَ الرحمن بنَ أبزى على مكة لما خرج للقاء عمر في عُسفان، فقال عمر لنافع: من استخلفت على أهل الوادي؟ -يعني مكة-، قال: ابنَ أبزى، فقال عمر: ومن ابنُ أبزى؟! فَقَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا, فَقَالَ: اسْتَخْلَفْت عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟! فقال: إنه عالم بالفرائض، قارئ لكتاب الله؛ فقال عمر: إما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن يرفع الله به أقوامًا، ويضع به آخرين))(6).
إن أجمل حديث وأشرفه، وأحسن مجلس وأطيبه، ما كان في القرآن الكريم، كلام الله، وحديثنا اليوم عن تدبر القرآن، وهو أعظم مقصود نزل لأجله القرآن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29)} [سورة ص 38/29].
 
هل هو من عند الله؟
سؤال غريب حقًا، غريب أن يصدر من مسلم، على أناس مسلمين، وهل فينا من يشك في أن القرآن من عند الله؟!
كلا، بحمد الله، ليس فينا من يشك في ذلك، ولكننا نريد أن نستخرج من القرآن ما يدل على هذه القضية دلالة قاطعة، لا يداخلها شك؛ لتكون حجة لنا أمام المنكرين، أو المتشككين، أو الطاعنين.
إن كل سورة في القرآن، بل كل كلمة، بل كل حرف يدل على أنه من عند الله، إن المسلم تصيبه الحيرة حين يريد أن يستدل على أن هذا القرآن من عند الله! أرأيت لو أن الشمس طالعة، والجو صحو، ليس به غيم، فقال لك رجل مبصر: ما الدليل على أن النهار موجود، وأن الشمس مشرقة؟ فهل تجد حجة أعظم من أن تقول: ألا تنظر بعيني رأسك؟!
وهكذا القرآن، وجوده دليل على من نزل من عنده، وتكلم به، قراءتك له، وتدبرك لمعانيه يكفيك لتعرف أنه من عند الله، كم قصةً قرأتها فأعجبتك، ثم لم تجد في نفسك ما يشدك لأن تقرأها مرة أخرى، ولو أنك قرأتها مرة ثانية، لم تجد ما يشدك لأن تقرأها ثالثة، أما القرآن، فلا يزداد إلا حلاوة كلما عدنا إليه، في كل قراءة تجد من اللذة والأنس ما لم تحس به قبل ذلك.
فمن سأل هل القرآن من عند الله؟ فيكفينا أن نقول له: ألا تفكر بعقلك؟! وتنظر ببصيرتك؟! كما قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]، وقال تعالى: {أفلم يدبروا القول} أي: أفلم يتفكروا في القرآن، ويتأملوه ويتدبروه، فلو أنهم فعلوا لعلموا أنه من عند الله حقًا، وأنه لا يمكن لبشر أيًا كان أن يأتي بمثله.
ومع هذا فإن الأدلة على أنه من عند الله كثيرة بحمد الله، ومتنوعة، ومن أعظمها في هذا الزمان ما ظهر من الأبحاث العلمية المبنية على التجارب الحسية، والتي توافقت مع القرآن وتطابقت معه.
ولن أذكر شيئًا من هذه الأبحاث؛ فلها مجالها الخاص، ولأنها مبنية على معرفة هذه الأبحاث والاطلاع عليها، والتأكد من صحتها، ولكني سأذكر لكم شيئًا واحدًا، يستطيع أن يدركه كل عاقل، ويفهمه كل شخص يمتلك أدنى درجات التفكير، وهو: أن "تسأل التاريخ؛ كم مرةً تنكَّر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين، فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أممًا منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد، وصنعوا ما يكفي القليلُ منه لضياع هذا القرآن كُلاً أو بعضًا، كما فُعِل بالكتب قبله"(7)، فهل ضاع شيء من القرآن؟ وهل فقد منه شيء؟ وهل فقد شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
بل سلوا صحف الأخبار اليومية، وطالعوا حوادث الساعة في زماننا هذا؛ كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان، والخِداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [سورة الأنفال 8/36]، هل تعلمون أمةً أضعفُ من أمة الإسلام؟ هل تعلمون دمًا في هذا الزمان أرخصُ من دم المسلم، وأرضًا استبيحت كما استبيحت أرض المسلمين؟، وهل تعلمون قوة أرضية هي أقوى من قوة الكفار، واقتصادًا أقوى من اقتصادهم، وساسة أدهى من ساستهم؟ قد اجتمعت في أيديهم قوة السلاح، والاقتصاد، والسياسة، والكلمة والدعاية، ومع هذا كله فإنا نقول لهم بكل ثقة وثبات: حاولوا أمرين اثنين، أو أحدهما إن عجزتم عنهما معًا، ونحن نؤمِنُ لكم، ونترك ديننا لأجلكم، ونؤمن بقرآنكم الجديد:
أول هذين الأمرين: أن يحرفوا القرآن، ويمحوه عن وجه الأرض، ولن يستطيعوا أن يفعلوا، أتدرون لماذا؟ لأن الذي يمسك القرآن أن يزول ويحرَّف، هو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، هل يستطيعون أن يأتوا بالشمس من المغرب، وهي تخرج من المشرق؟ كلا، فكذلك لا يستطيعون أن يحرفوا القرآن، ويمحوه عن وجه الأرض، وصدق الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [سورة التوبة 9/33].
وثاني هذين الأمرين: أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وباب التحدي مفتوح، منذ أن نَزلَ القرآن والناس يعيشون حياة بسيطة، لم ينفتح عليهم من زينة الدنيا وزخارفها وحلاوتها وقوتها، ما انفتح في هذا الزمان، إلى أن نَثَرتِ الدنيا من زينتها وبهائها وزخارفها وفتنتها ما لم يره من قبلنا، وباب التحدي مفتوح {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟! قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)} [سورة يونس 10/38].
ولعلكم سمعتم بمحاولتهم البائسة، إنها مُضحكةٌ فعلاً، إن أصغر حافظ للقرآن يستطيع أن يرد عليهم، بل إن أقل مسلم عامي لا يقرأ ولا يكتب، لا يستطيعون أن يروجوا عليه قرآنهم.
ولكن! هل يعني هذا أن ننام، وأن نتكل على هذه العناية الإلهية، ونترك السعي لحفظ القرآن، والذود عن حياضه الشريفة؟ كلا، إنما يُحفظ القرآن ويُنصر بقوم يحبون الله ويحبهم، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
 
في القرآن جميع العلوم النافعة.
قال مسروق: "من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين، وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة".
قال الذهبي معلقًا على هذا القول: "هذا قاله مسروق على المبالغة؛ لعِظَمِ ما في السورة من جُمَلِ أمور الدارين، ومعنى قوله "فليقرأ الواقعة": أي بتدبر وتفكر وحضور، ولا يكن كمثل الحمار يحمل أسفارًا"(8).
وقال يحيى بن عمار: "العلوم خمسة: عِلمٌ هو حياة الدين، وهو علمُ التوحيد، وعِلمٌ هو قوت الدين، وهو العِظَةُ والذكر، وعلمٌ هو دواءُ الدين، وهو الفقه، وعلمٌ هو داءُ الدين، وهو أخبار ما وقع بين السلف -يعنى من النزاع، والقتال والخصام- وعلم هو هلاك الدين، وهو الكلام"(9).
وهذه العلوم الثلاثة كلها في القرآن الكريم؛ ففيه علم التوحيد، وعلم الوعظ والذكر، وعلم الفقه.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [سورة النحل 16/89].
 
كيفية التدبر ووسائله.
لقد حثنا الله على تدبر كتابه، وتأمل ما فيه من الآيات والحجج، والحقائق والعلوم، فقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟! وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟! (24)} [سورة محمد 47/24]، إن التدبر في القرآن يكون في التأمل بمعانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك.
وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [سورة يوسف 12/2]، فالمقصود من جعله عربيًا بينًا ليحصل لنا العقل والاهتداء بفهمه وتدبره، ومن لم يفهم لم يتدبر، قال الحسن البصري: "ما أنزل الله من آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت، وماذا عُني بها".
ومن أهم الوسائل التي تعين على التدبر:
1- تفريغ القلب من الانشغال بغير الله، والتفكر في غير كتابه، فاقرأ القرآن وقلبك فارغ من كل شيء إلا من الله، ومحبته، والرغبة في فهم كلامه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [سورة ق 50/37].
2- الترتيل عند قراءة القرآن، وتحسين الصوت به، وتحزينه، فإنه معين على التدبر والتأمل، ولهذا يجد الإنسان من نفسه حب سماع القرآن حين يقرأ به القارئ الماهر، ذو الصوت الحسن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف مرة يستمع لقراءة أبي موسى، وقال إنك قد أعطيت مزمارًا من مزامير آل دواد.
ومعرفة التجويد وضبط قراءة القرآن على شيخ متقن، من أهم الأمور التي تعين على الترتيل؛ لأن التجويد هو إعطاء الحروف حقها ومستحقها، وإنما يكون ذلك بتعلم كيفية القراءة الصحيحة.
3- استشعار عظمة الله، وأنه يكلمك بهذا القرآن، حتى كأنك تسمعه منه الآن، قال سلْم الخواص: "قلت لنفسي: اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تكلم به؛ فجاءت الحلاوة"(10). أي أنه لما استشعر هذا المعنى، وحمل نفسه على التفكر بهذا الفكر أحس بحلاوة القرآن، ولهذا روي عن علي أنه قال: "إذا أردتُ أن يكلمني الله قرأت القرآن، وإذا أردت أن أكلم الله قمت إلى الصلاة".
4- محاولة فهم معاني القرآن، بالرجوع إلى التفاسير التي تهتم ببيان المعنى، دون دخول في دقائق اللغة والإعراب، أو المسائل الفقهية، ومن أحسن هذه التفاسير تفسير ابن كثير، وتفسير ابن سعدي، وتفسير سيد قطب، وإن كان فيه بعض الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها المسلم، لكنه جيد من حيث بيان المعنى، فهو يذكر أمورًا جليلة جملية.
أما إن كان الإنسان لديه همة وحرص فإنه يستطيع أن يراجع كتب التفسير الأخرى التي تفيض في بيان المعاني، وتذكر كثيرًا من الفوائد الجمة.
5- ربط القرآن بواقعك الذي تعيش فيه، وذلك بالنظر في المواعظ التي يذكرها، والقصص التي يحكيها، وكيف أن الله أهلك أممًا كثيرة لما كذبوا وأعرضوا، وأن هذا المصير ينتظر كل من أعرض عن الله، وكفر برسله، مهما كانوا في قوة وعزة.
وأيضًا: بالعمل بالأحكام التي فيه، فمثلاً إذا قرأت قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)} [سورة الإسراء 17/36]، فإنك تحمل نفسك على عدم الكلام إلا في شيء تعلمه، وتمتنع عن الكلام في أمر لا تعلمه.
وإذا قرأت قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [سورة ق 50/18]، انتهيت عن الكلام الباطل، وما لا نفع فيه؛ لأن كل كلمة تقولها فهي مرصودة.
وهكذا كان الصحابة يفعلون، فعن عطاء بن السائب  أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز تراقيهم(11).
6- معرفة بعض الأبحاث العلمية، التي تعتمد على التجارب الحسية، والتي تسمى بالحقائق العلمية؛ ففيها فوائد جمة، وزيادة فهم لمعنى الآية، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [سورة فصلت 41/53].
 
ثمرات التدبر.
1- حصول اليقين في القلب، كما قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} [سورة الجاثية 20]، فمن قرأ القرآن بتدبر وتأمل حصل له اليقين التام؛ لأن القرآن كالماء العذب، والقلب كالشجرة التي لا تستطيع أن تعيش وتنمو إلا بهذا الماء، فالقلب كلما تفكر في معاني كلام الله حصل له الري والشبع، والنمو والاستقرار، والثبات والعلو، ولَمَّا علم الله حاجة القلب إلى مثل ذلك كرر هذه المعاني الشريفة في كتابه، ونوع في بيانها، وضرب لها الأمثال، وصرف فيها من أنواع القول ما يحصل به للقلوب المتدبرة حياة لا تموت معه أبدًا.
2- زيادة الإيمان، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} [سورة التوبة 9/124]، وإنما ازداد المؤمنون إيمانًا بسبب فهمها، واعتقاد ما فيها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، ثم مع ذلك مستبشرون، يبشر بعضهم بعضًا بهذه المنة العظيمة، من إنزال الآيات وفهمها، والعمل بها، مما يدل على أن صدورهم منشرحة، وقلوبهم مطمئنة، فيبادرون إلى العمل مع فرح واستبشار.
أما المنافقون، ومن في قلوبهم مرض؛ فبسبب إعراضهم عن الفهم والتدبر يسأل بعضهم بعضًا أيكم زادته هذه إيمانًا؟! فلا يرون في هذه الآية زيادة إيمان، بل ربما زادتهم شكًا إلى شكهم، ومرضًا إلى مرضهم، بسبب إعراضهم عن فهمها وتدبر معانيها.
3- حصول العلم الصحيح، ودفع الشبه عن القلب، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [سورة فصلت 41/44]، أي هذا القرآن يهدي المؤمنين إلى العلم الصحيح، الذي يثمر لهم العلم النافع، ويدفع عنهم أمراض القلوب والأبدان، فلا يكون في قلوبهم شك ولا ريب؛ لأنهم فهموا مراد الله، وعرفوا مقصوده؛ فاندفعت عنهم الأخلاق السيئة، والأعمال القبيحة.
4- الإعراض عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)} [سورة التوبة 9/38]، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [سورة طـه 20/131]، قال الحسن : "يا ابن آدم: والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حُزْنُك، وليشتدَّنَّ في الدنيا خوفُك، وليكثُرَنَّ في الدنيا بكاؤك".
5- معرفة حقيقة الدنيا، وأنها ظل زائل، ما جمعت إلا لتفرق، وما أضحكت إلا لتبكي، وما أعطت إلا لتسلُب، كثيرها قليل، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [سورة يونس 10/24]
6- الاعتصام والاجتماع في مقابل الفرقة والتشرذم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [سورة آل عمران 3/103].
7- الشعور بالأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)} [سورة الأنعام 6/82].
8- حصول الرهبة والخوف، ثم الرجاء والطمأنينة، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [سورة الزمر 39/23]، فحين نسمع آيات الوعيد والتهديد، يحصل للقلوب قشعريرة وخوف، تخشى أن يقع بها هذا الوعيد؛ فإذا سَمِعتْ آيات الوعد والترغيب حصل لها اللين والاطمئنان، وهذا من هُدى الله الذي يهدي به من يشاء.
 
صوارف التدبر.
1- القلوب اللاهية، فالقلب اللاهي هو الغافل، المنشغل بدنياه، الغارق في مطالبه الدنيوية، وهمومه المعيشية، فهؤلاء يستمعون القرآن بآذانهم، ولكنه لا يصل إلى قلوبهم؛ لانشغالها بأمور أخرى، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)} [سورة الأنبياء 21/2-3].
2- الأقفال على القلوب، كما قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)} [سورة الأنعام 6/25]، وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)} [سورة الكهف 18/57]، وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها}.
وإنما عاقبهم الله بوضع الأغلال على قلوبهم لأنهم لم يقصدوا باستماعه طلب الحق ومعرفته، والعمل به، ولأنهم كفروا به أول مرة، ولِمَا وقع في قلوبهم من حب المعاصي والتعلق بها، والركون إلى الدنيا والرضى بها، والاطمئنان إليها.
إن من أخطر الأمور أن يتعلم المسلم العلم ثم لا يعمل به، أو يداهن في الدعوة إليه، أو يُعرِض عنه بعد ذوقه لحلاوة الإيمان، قال أبو العباس محمد بن السَّمَّاك: "كم من شيء إذا لم ينفع لم يضر، لكن العلم إذا لم ينفع يضر"(12).
إن كل من قرأ القرآن، ولم يتذوق حلاوته، ولم يجد في قلبه إقبالاً على الطاعة، وحبًا لها، ولم يفهم مراد الله حق الفهم، فليعلم أن على قلبه أقفالاً، وأنه قد حيل بينه وبين الخير، فليتفقد نفسه، وليراجع واقعه.
3- التنطع في إقامة الحروف، والوسوسة في إخراجها من مخارجها. قال ابن تيمية(13): "ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن؛ إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك؛ فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شُغْلُ النطق بـ {أأنذرتهم} وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو، وكسر الهاء، أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت، وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان".
فكل هذه الأمور مَنْ تجاوز فيها الحد فقد خرج عن المقصود منها؛ لأن المقصود هو فهم المعنى، وهي وسيلة إليه؛ فإذا انشغلنا به فقد اشغلنا عن المقصود بالوسيلة.
لكن من الناس من إذا سمع هذا الكلام ترك تعلم التجويد بالمرة، ولم يلتفت إلى الحِلَقِ التي تُعلِّم القراءة الصحيحة، وانشغل بأمور أخرى، وإذا قرأ لا يحسن القراءة، ويلحن لحنًا جليًا يحيل المعنى، ويحتج بمثل هذا الكلام، وهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من الغلو والجفاء، فالغلو هو المبالغة في تعلم المخارج وضبطها، والجفاء هو الإعراض مطلقًا عن تعلم ذلك، والتوسط والاعتدال هو تعلمها بما يعين على إقامة اللسان، وعدم الوقوع في الخطأ، ثم يجعل همته في تفهم معانيه.
4- جعل القرآن للأحزان والمآتم، فيقرأ القارئ، والناس لاهون، وإذا أصغوا بآذانهم فإنما يدفعهم لذلك حسن الصوت، أما المعنى وتدبر ما يقرأ فلا يحصل منه شيء، ولهذا لما توفي ابن أحد العلماء سنة عشر وخمسمئة، وعمر هذا الابن سبعٌ وعشرون سنة، وكان قد تفقه وناظر في الأصول والفروع وظهر منه أشياء تدل على دينه وخيره حزِن عليه أبوه، وصبر صبرًا جميلًا، فلما دُفِن جعل يتشكر للناس، فقرأ قارئ: {يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين} فبكى هذا العالِم، وبكى الناس، وضج الموضع بالبكاء؛ فقال العالم للقارئ يا هذا: إن كان يهيج الحزن فهو نياحة, والقرآن لم ينزل للنوح بل لتسكين الأحزان(14).
 
أيهما أفضل: الترتيل بتدبر مع قلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة؟
إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه يرى حرصهم على التلاوة بتدبر وتأمل، وفهم وتذكر، أكثر من حرصهم على كثرة القراءة وسرعتها، والإكثار من الختمات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)} [سورة المزمل 73/1-4]. أي اقرأه بترسل وتمهل؛ لأنه يحصل بذلك التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به.
وهكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وكانت قراءته مدًا.
وقال ابن مسعود: "لا تهذوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدَّقَل(15)، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
وقرأ علقمة على ابن مسعود، وكان حسن الصوت، فقال: رتل فداك أبي وأمي؛ فإنه زين القرآن.
وقال عبد الرحمن بن أبي  ليلى: دخلتْ عليَّ امرأة وأنا أقرأ سورة هود، فقالت: يا عبد الرحمن! هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها.
لكن لا يعني هذا أن المسلم لا يقرأ بسرعة في بعض الأحيان؛ لكي يضبط حفظه، أو يُنهي ورده اليومي، بل إن القراءة في حد ذاتها ولو كانت سريعة فيها أجر وثواب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولمن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))(16).
ولهذا قال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت لا بد فاعلاً فاقرأ قراءةً تُسمِعُ أُذنيك، ويعِيها قلبُك(17).
وعلى هذا يمكن أن نقول: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا؛ فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أوقف أرضًا في مكان مهم ترتفع قيمة العقار فيه، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أوقف عددًا من الأراضي كثيرة، لكنها في مكان بعيد، وقيمتها زهيدة(18).
 
الاقتصاد في قراءة القرآن.
هل يمكن أن نطالَب بالاقتصاد في قراءة القرآن، مع هذا الأجر العظيم في قراءته، وأن لك بكل حرف عشرَ حسنات، إلى أضعاف كثيرة؟!
الجواب نجده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ -أي زوجة ابنه- فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((الْقَنِي بِهِ)) فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ: ((كَيْفَ تَصُومُ؟)) قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: ((وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟)) قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: ((صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ)) -أي في الأسبوع- قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ، وَصُمْ يَوْمًا)) قَالَ قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ، صَوْمَ دَاوُدَ، صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً)) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم، قَالَ: ((وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ)) قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ((فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)).
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه, وإكرام ذي السلطان المقسط))(19)، فقوله: ((غير الغالي فيه والجافي عنه)): أي الذي سلك السبيل الوسط في التعامل مع القرآن؛ فلم يعرض عنه بالكلية، ولم يغل في قراءته والتنطع في مخارج حروفه، والانشغال بذلك عن العمل به، ولم يغل في العمل بما فيه، ويتكلف ويشدد على نفسه.
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزبون القرآن فيقرؤونه في كل أسبوع مرة، وكانوا يستحبون أن يُقرأ القرآن من أسبوع إلى شهر، أي لا يستعجل في قراءته فيقرأه في أقل من أسبوع، ولا يهمل فيتركه أكثر من شهر(20).
ولهذا لما ذكر الذهبي في السير أن أبا بكر بن عياش قد مكث نحوًا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، قال: وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وقال: ((لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث))(21).
وهكذا ما يروى عن عثمان بن عفان أن قرأ القرآن في ركعة؛ وكذا عدد من التابعين كانوا يختمون في كل يوم، وبعضهم ربما ختم أكثر من مرة، فهؤلاء لهم أحوال خاصة بهم، ثم إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من سنة غيره، ولا يجوز أن نعارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة غيره من الناس.
والمقصود من الاقتصاد في القراءة ليحصل للقارئ تدبر وتفكر فيما يقرأ.
 
من هم أهل القرآن؟
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ((هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ))(22).
فهل أهل القرآن هم من يحفظه فقط، أو من تعلمه وعمل به، ولو لم يحفظه؟
يقول ابن القيم: "أهل القرآن هم العالمون به، العاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله، وإن أقام حروفه إقامة السهم"(23).
ويدل على ذلك حديث أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ أَوْ خَبِيثٌ وَرِيحُهَا مُرٌّ))(24).
لكن اصطلح المتأخرون على تسمية الحفاظ بأهل القرآن، أما من فهمه ولم يحفظه فلا يسمونه من أهل القرآن، ولهذا لو وقف شخص وقفًا على أهل القرآن، قالوا: لا يدخل فيه إلا الحافظ(25).
لكن الصواب هو أن أهل القرآن هم العالمون به، القارئون له، العاملون بأحكامه، ولو لم يكونوا من حفاظه، كما كان الصحابة يُسمون الفقهاء بالقراء.
ولهذا كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) يدخل فيه تعلم ألفاظه ومعانيه، وتعليم ذلك، بل المعنى هو المقصود الأول، وإنما نتعلم حروفه وألفاظه لكي نفهم معانيه، ونقيم حدوده وأحكامه.
 
بأي شيء نبدأ؟
هل يبدأ المسلم بتعلم العلم، أو يبدأ بقراءة القرآن وحفظه؟
سأل رجلٌ عبد الله بن المبارك، فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يومي؟ في تعلم القرآن، أو في تعلم العلم؟ فقال: هل تحسن من القرآن ما تقومُ بهِ صلاتُك؟ قال: نعم، قال: عليك بالعلم.
وقال الميموني: سألت أبا عبد الله أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا بالقرآن، قلت: أعلمه كلَّه، قال: إلا أن يعسُر، فتعلِّمُه منه. ثم قال لي: إذا قرأ أولًا تعود القراءة، ثم لزمها.
ولا تعارض بين هذين الجوابين؛ فإننا نفرق بين الكبير والصغير؛ فالصغير يقدم حفظ القرآن له، لما ذكره أحمد من العلة، وأما الكبير؛ فإنه يتعلم ما يصحح به صلاته؛ لأنه هو الواجب، ثم ينتقل إلى تعلم العلم المفترض عليه، وهو أحكام الصلاة وما يتعلق بها، والصوم، والزكاة، والحج(26).
وقال الإمام أحمد: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لا بد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل من تعلم القرآن فاتحة الكتاب وسورتان.
وقال ابن حزم في الإجماع: اتفقوا أن حفظ شيء من القرآن واجب، ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه، إلا أنهم اتفقوا على أنه من حفِظَ أمَّ القرآنِ ببسم الله الرحمن الرحيم وسورة أخرى معها فقد أدى فرض الحفظ, وأنه لا يلزمه أكثر من ذلك، واتفقوا على استحباب حفظ جميعه، وأن ضبط جميعه واجب على الكفاية لا متعين(27).
وقال أحمد أيضًا: يجب على المسلم أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ولا يفرط في ذلك، فقيل له: فكل العلم يقوم به دينه؟! قال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه. قيل: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله صلاته وصيامه(28).
وسئل ابن تيمية أيما طلب القرآن أو العلم أفضل؟
فأجاب(29): "أما العلم الذي يجب على الإنسان عينًا كعلم ما أمر الله به وما نهى الله عنه فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن؛ فإن طلب العلم الأول واجب وطلب الثاني مستحب والواجب مقدم على المستحب، وأما طلب حفظ القرآن؛ فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا، وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضًا مقدَّمٌ في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع؛ فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن؛ فإنه أصل علوم الدين بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم من الكلام أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يحتاج إليه أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلا بد في مثل هذه المسألة من التفصيل، والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين والله سبحانه أعلم".
وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يتعلم من القرآن ما يقيم به صلاته، ويتعلم من العلم ما يجب عليه، ثم بعد ذلك ينظر في نفسه وقدراته، ويستشير من يثق برأيه؛ هل ينصرف إلى العلم فيتعلم قراءة القرآن، ويضبط تلاوته، ويحرص على حفظه إن تيسر له ذلك، ويتعلم التفسير والحديث والفقه، أو أنه يشتغل بالحفظ وإقامة الحروف، ومعرفة أحكام التجويد، مع معرفة معانيه في الجملة.
وقدرات الناس ومواهبهم في ذلك مختلفة.
وإذا أردتم مثالاً على الفرق بين العالم، وبين حافظ القرآن فقط؛ فانظروا إلى أثر كل منهما فيمن حوله، ستجدون أن أثر العالم أعظم من أثر الحافظ فقط، ولهذا ظهر علم مالك وأبي حنيفة، والشافعي وأحمد وصاروا أئمة أعظم من ظهور أصحاب القراءات؛ كعاصم، وخلف بن هشام، وورش وقالون، والكسائي وغيرهم.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

وكتبه: عبد السلام بن إبراهيم الحصين.

---------------------------------------------
(1) مقدمة رشيد رضا لإعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي (19).
(2) في الأصل صرامها.
(3) أي شدة الحرارة فيها.
(4) إعجاز القرآن للرافعي (30).
(5) انظر: سير أعلام النبلاء (3/174- 175 في ترجمته رضى الله عنه)
(6) روى القصة مسلم في صحيحه كتاب صلا المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.
(7) النبأ العظيم لدراز (43- 44).
(8) سير أعلام النبلاء (4/66).
(9) سير أعلام النبلاء (17/482).
(10) سير أعلام النبلاء (8/179).
(11) سير أعلام النبلاء (4/286).
(12) السير.
(13) مجموع الفتاوى (16/50).
(14) الآداب الشرعية (2/294).
(15) الدقل هو التمر اليابس، ومعناه: أن تقرأونه بسرعة كما تناثر الرطب الرديء اليابس من العذق إذا هُز.
(16) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن، وحسنه، وذكر ابن القيم في الزاد أن الترمذي صححه، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(17) انظر: زاد المعاد (1/328).
(18) انظر: زاد المعاد (1/328).
(19) رواه أبو داود، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: بإسناد جيد.
(20) انظر: مجموع الفتاوى (13/405- 407).
(21) سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي بكر بن عياش.
(22) رواه ابن ماجه، وأحمد والدارمي، قال في الزوائد: إسناده صحيح.
(23) زاد المعاد (1/327). وانظر: كلام أهل العلم على هذا الحديث، وعلى قوله صلى الله عليه وسلم ((أوتروا يا أهل القرآن)).
(24) رواه البخاري ومسلم.
(25) انظر: الموسوعة الفقهية (17/324).
(26) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (2/33).
(27) الآداب الشرعية (2/34).
(28) الآداب الشرعية (2/35).
(29) مجموع الفتاوى (23/55).
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية