صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







اختصار كتاب العبودية

 

أبو زيد

 
المسألة الأول : تعريف العبادة :
    هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
ومن أمثلتها : الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والشكر ونحوها .
    فإن قيل : إذا كان كل ما يحبه الله داخلا في العبادة ، فلماذا عطف عليها غيرها كقوله تعالى : " فاعبده وتوكل عليه"[1] ؟
    قلنا : هذا له نظائر ، فهو كقوله : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى "[2] فإيتاء ذي القربى من العدل والإحسان ، فهو من عطف الخاص على العام .
 
المسألة الثانية : أهميتها ومكانتها :
    تظهر أهمية العبادة وفضلها ومكانتها في أنها الغاية التي خلق الله لها الخلق . قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "[3] ، وبها أُرسل الرسل كما قال تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "[4] ، وبتحقيقها يكمل المخلوق ، وهي الصفة التي وصف الله بها ملائكته وأنبيائه ونعت بها صفوة خلقه ، ووصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله كحال الإسراء . قال تعالى : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " [5] ، وجعل ذلك لازما له حتى الموت ، ولذلك فمن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه فهو أضل الخلق وأجهلهم .
ولو نظرنا لوجدنا أن الدين كله داخل في العبادة كما دل على ذلك حديث جبريل الطويل ، وكذلك فالدين يتضمن الذل والخضوع  إضافة إلى أن العبادة في أصل معناها : الذل ، وعبادة الله تشمل الذل والمحبة غايتهما ، فإن الذل بلا محبة أو المحبة بلا ذل لا تسمى عبادة .
والعبادة أمر اختُص الله به ، فلا يعبد غيره ، فإن جنس المحبة والطاعة الإرضاء والإيتاء لله ورسوله ، أما العبادة وما يناسبها فهي لله وحده .
 
المسألة الثالثة : أقسام العباد :
ولتقسيم العباد طرق كثيرة ، وسيتم تقسيمها باعتبار العبودية :
1- عبد عبودية كونية : وهو مأخوذ من أن العبد مذلل لله خاضع له داخل في تصرفه ، ويدخل في ذلك الأبرار والفجار ، والمؤمنون والكفار ، سواء أقروا بها أو لا .
2- عبد عبودية شرعية : وهو مأخوذ من أن العبد عابد لله طائع له متبع لأوامره ، وهذا هو الفرق بين المؤمنين والكفار .
وقد ضل كثير باعتقاد أن العبادة هي النوع الأول ، وما علموا أن رأس الكفر إبليس كان مقرا بالقسم الأول حيث قال تعالى في قصته عند رفضه السجود لآدم : " رب فأنظرني إلى يوم يبعثون "[6] ، ومع ذلك فلم يدخله ذلك الجنة .
 
المسألة الرابعة : الضلال في مسألة العبودية :
إذا علم ما سبق ، فلنعلم أن للعبد مشيئة خاصة وقدرة يستطيع من خلالها اختيار الخير وعمله وترك الشر والابتعاد عنه ، ويترتب على ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا علم العبد هذا وجب عليه الأمر بالمعروف بفعل الطاعات ، والنهي عن المنكر بترك السيئات ، ثم عليه أن يوالي أولياء الله ، ويعادي أعداء الله .
وفي هذا الباب ضل كثير من الناس ، فسووا بين الحقيقة الكونية والشرعية ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن سووا بين الله وبين الأصنام ، بل آل بهم الأمر إلى أن سووا الله بجميع الموجودات ، وهذا أعظم الكفر والإلجاد ، فقالوا بالحلول والاتحاد حتى جعلوا العبد معبودا والمعبود عبدا ، ولو نظرنا لوجدنا أنه حتى النصارى إنما كفّرهم الله إذ قالوا بالحلول واتحاد الرب بالمسيح خاصة ، فكيف بمن جعل ذلك عاما في كل مخلوق .
أما الناجون – وهم أهل الكتاب والسنة – فيعلمون أن الله أمر بطاعته ، ونهى عن معصيته ، فيستعينون بالله على ذلك ، ولا يتكلون على القدر ، بل يدفعون القدر بالقدر ، فبذلك نجوا وفازوا .
وقد ضلت في ذلك فرقتين : فرقة قالت بأن العبد ليست له مشيئة أبدا ، وإنما هو مجبور على كل شيء ، وفرقة قالت : إن العبد له مشيئة مطلقة ، وما يفعله ليس مقدرا ولم يخلقه الله .
وهذه الأصناف فيها شبه من المشركين فإن المشركين الذين كذبوا الرسول كانوا يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله ، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله ، وهؤلاء مثلهم ؛ لأنهم إما ابتدعوا وإما أن يحتجوا بالقدر ، وإما أن يجمعوا بين الأمرين ، ولم يكتفوا بهذا بل جعلوا ما ابتدعوه من البدع حقيقة قطعية ، وما ورد إليهم من الكتاب والسنة حقائق ظنية ، فنشأ عن هذا جهل وفساد عظيم .
وهذا هو منشأ الضلال ، فإن أصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله ، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله .
ثم إن من هؤلاء فرقة عملوا بالطاعات المشهورة ، وتركوا المحرمات المشهورة ، لكنهم ضلوا بتركهم ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة كالدعاء والتوكل ظانين أن هذه من مقامات العامة دون الخاصة ، وأنهم قد وصلوا إلى مقام يشهدون معه القدر وأنه سيكون لا محالة فلا حاجة إلى ذلك .
وهذا ضلال عظيم فإن الله قدر الأشياء بأسبابها ، فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عباده ، كما قال تعالى عن التوكل : " فاعبده وتوكل عليه "[7] ، فقرن التوكل بالعبادة .
ومنهم أيضا طائفة عملوا بالواجبات دون المستحبات ، فنقصوا بقدر ذلك .
وكل هذه فرق وتوجهات لا ينجو منها العبد إلا بملازمة أمر الله وأمر رسوله في كل وقت ، وهو مع ذلك يتشبث بأصلين : ألا يعبد إلا الله ، وألا يعبده إلا بما شرع .

المسألة الخامسة : التفاضل بالإيمان :
تبين لنا مما سبق أن العباد يتفاضلون في عبوديتهم لله تفاضلا عظيما ، ولنعلم أنهم ينقسمون في تلك العبودية إلى عام وخاص ، ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص .
وهذا يتضح في تعلقات القلب بغير الله من مال وصورة ونحوها ، ومن ذلك : تعلقه بغير الله في طلب حوائجه وقضاء أموره ، وهذا مما يضعف من عبوديته لله تعالى ، فإنه كلما قوي طمع العبد في الله وفضله ورحمته قويت عبوديته له وحريته مما سواه ،كما قيل : ( استغن عمن شئت تكن نظيره ، وأفضل إلى من شئت تكن أميره ، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ) ، ولذلك فكل من علق قلبه بالمخلوقين صار عبدا لهم ، وإن كان في الظاهر أميرا أو رئيسا ، لكنه في الحقيقة مملوكا أسيرا ، بل إن ما هو فيه من الأسر أعظم من أسر البدن ، فإن المأسور بدنه مطمئن وقد يحتال للخلاص ، أما هذا فأنى له الخلاص ؟ إضافة إلى أن عبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها العقاب والثواب لا عبودية البدن وأسره ، فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب .
ومن أعظم أسباب تعلق القلب بغير الله : إعراض القلب عن الله ، فإن القلب إذا ذاق طعم عبودية الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب .

ومتطلبات العبد نوعان :
1- ما يحتاج إليه العبد ، فهذا يطلبه من الله ، ويكون المال عنده فيستعمله وقت حاجته .
2- ما لا يحتاج إليه العبد ، فهذا لا ينبغي أن يعلق قلبه به ، فإذا علق قلبه به صار مستعبدا له ، وربما صار معتمدا على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله .
ولذلك فإن العبد إذا علق قلبه بالله أحب كل ما يحبه الله ووالاه ؛ لأن ذلك من مقتضى المحبة ، ثم كان لازما عليه تنفيذ ما أمره به محبوبه حتى يتحقق كمال المحبة ، ولذلك جعل الله لأهل محبته علامتين : اتباع الرسول ، والجهاد في سبيل الله ، ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب ، فكلما قويت المحبة قويت الإرادة فحصل العمل والتنفيذ ، ولذلك فالمحبون للرئاسة والصور والمال لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا ، ومع ذلك هان عليهم الضرر في سبيل تحقيق مطلوبهم .
ولنعلم أن القلب فقير بالذات إلى الله من جهتين :
من جهة العبادة ، ومن جهة التوكل والاستعانة ، فالعبد مهما حصل له من الملذات لم يطمئن حتى يسكن بعبوديته إلى ربه وخالقه ، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له ، ولذلك فهو يدعو دائما : إياك نعبد وإياك نستعين ، وهو مستسلم لله وحده منقاد له .
ومن فطرة الإنسان أنه يتحرك بالإرادة ، فلا بد له من شيء يحبه ويتوجه إليه ويعبده ، فإذا لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره، ومن عبد غيره كان مشركا ، وإذا أخلص العبادة لله تبرأ وابتعد عن الشرك وسبله ، وحقق العبودية التامة لله ، وهي العبودية التي أسلمت لها جميع الكائنات طوعا أو كرها ، وهي منهاج إبراهيم عليه السلام الذي أمر البشر باتباعه والاقتداء به ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى مراتب المحبة لله وهي الخلة ، وذلك أنه حقق عبودية الله حقاً ، ولكن لنعلم أنه لابد مع المحبة من الخوف والرجاء ، ولذلك قال بعض السلف : ( من عبد الله بالحب فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحد فهو حروري ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد ) .
وليست محبة الله مجرد كلام كما يقوله البعض ، بل قد امتحن الله من ادعى محبته بآية الامتحان ، فقال :" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم "[8] ، فعلّق المحبة بالاتباع ، وقد فهم ذلك أصحاب البي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا أكمل الأمة ، فمن كان بهم أشبه كان في ذلك أكمل .
أما من زعم المحبة وهو واقع في المحرمات ، ومنغمس في البدع المضلات فقد كذّب نفسه ، ودعواه هذه من جنس دعوى اليهود والنصارى حين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، بل ربما أشر .
والله سبحانه يبغض الكافرين ، ويحب من يحبه ، فيحب العبد بقدر محبته له وإن كان جزاؤه لعبده أعظم ، وكلما ازداد العبد طاعة لله ازدادت محبة الله له ، وعلى العكس فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ، وكل محبة ليست لله فهي باطلة ، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها خلا ذكر الله وما والاه [9] .
ولذلك فإن أجمل ما في الدنيا محبة الله ، فإن العبد إذا ذاق محبة الله انجذب إليه ، فأصبح منيبا خاشعا خائفا ، وأعرض عن معاصيه فصُرف عنه السوء والفحشاء ، وهدي طريق الحق والصواب .

المسألة السادسة : في الفرق بين الخالق والمخلوق :
بالغ بعض أهل البدع في موضوع المحبة حتى سووا بين الخالق والمخلوق ، فوقعوا في أبطل الباطل ، وسموا ذلك : (الفناء) ، والفناء ثلاثة أنواع : نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء ، ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين ، ونوع للمنافقين الملحدين .
فأما النوع الأول : فهو الفناء عن إرادة ما سوى الله ، فلا يحب إلا الله ، ولا يعبد إلا إياه ،ولا يتوكل إلا عليه ، وهذا هو الإسلام حقا .
وأما النوع الثاني : فهو الفناء عن شهود السوى ، وذلك يحصل لكثير من السالكين ، فيتعلق بالله حتى لا يخطر بقلوبهم غيره ، فيصبح القلب فارغا من سوى الله ، بل ربما يقوى حتى يضطرب في تمييزه ، وهذا الفناء كله فيه نقص ، فإن أكابر الأولياء كأبي بكر وعمر لم يقعوا في مثل هذا الفناء فضلا عمن فوقهم من الأنبياء ، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة .
وأما النوع الثالث : فهو أن يشهد ألا موجود غير الله ، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق ، وهذا يبرأ منه المشايخ إذا قال أحدهم : ما أرى غير الله ، فهو يقصد ما أرى إلها غير الله ، أما أن يكون يرى بوحدة الوجود فهو اعتقاد فرعون وآله ومن تبعهم من القرامطة والمتصوفة ، وقد نشأ عن أولائك كثير من البدع والمعتقدات الفاسدة كمعتقدهم في تقسيم الخلق إلى عامة وخاصة وخاصة الخاصة ، وأن توحيد العامة : لا إله إلا الله ، وأما الخاصة فأن يقول اللفظ المجرد : الله ، وأما خاصة الخاصة فأن يقول الاسم المضمر : هو  ، وغيرها من البدع مما لم ينزل الله بها من سلطان .

والخلاصة : أن العبد في سيره وعبوديته لله لا يفلح إلا بتحقيق أمرين :
الأول : الإخلاص لله ، وإفراده بالعبادة . 
الثاني : أن تكون العبادة وفق ما شرعه الله سبحانه وتعالى .
فإذا تحقق الأمران فقد استقام العبد على الطريق الصحيح الموصل إلى الجنة والفلاح بإذن الله .
 
---------------------------------
[1] سورة هود . آية : 123 .
[2] سورة النحل . آية : 90 .
[3] سورة الذاريات . آية : 56 .
[4] سورة النحل . آية :36 .
[5] سورة الإسراء . آية : 1 .
[6] سورة الحجر . آية : 36 .
[7] سورة هود . آية : 123 ..
[8] سورة آل عمران. آية : 31 .
[9] وقد صح هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . رواه الترمذي وابن ماجه .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية