صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







قراءة في كتاب ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) للعلامة محمود شكري الألوسي – رحمه الله –

أعدَّها : ماجد بن محمد بن عبدالله العسكر


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فهذه قراءة في كتاب ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) للعلامة محمود شكري الألوسي [1] .
وهي قراءة موجَزة مشفوعة ببعض الشواهد [2] لهذا الكتاب الموسوعة [3] .

مقدمة الكتاب

 بَيَّن المصنف في مقدمته ما كان للعرب [4] مِن تميز على غيرهم مِن الناس ، وأن الله – تعالى – قد شرَّفهم برسوله – صلى الله عليه وسلم – ، وفضَّلهم بتنزيله ، وخصهم بالخِطاب المعجِز ، واللفظ البليغ الموجِز ، وحباهم مِن الفضائل والمآثر ما فاقوا به سائر الأجناس .
وقد كان المصنِّف متشوِّقاً للوقوف على آثارهم ، والاطلاع على شريف أخبارهم ، ويتمنى لو ظفر بكتابٍ يشتمل على أخبارهم قبل الإسلام ، ويحتوي على ما كانوا عليه من العوائد والأحكام ، لكنه لم يظفر بكتابٍ يجمع ذلك .
وقد أدى به ذلك إلى التفكير بجمع كتاب يحقق ما كان يتمناه .
ثم إنه شرع في ذلك بعد تردد [5] ، فأودع في كتابه ما جَلَبَ له ثناءَ العربي والعجمي . [6]
وإليك – أخي القاريء –  قراءةً موجَزةً لهذا الكتاب .

تعريف العرب وبيان أنواعهم وأقسامهم

سُمِّي العرب بهذا الاسم لأنه مُشتَّقٌ مِن الإبانة ، لقولهم : أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه .
وقد حصر ابن خلدون أجيال العرب مِن مبدأ الخليقة إلى عهده في أربع طبقات متعاقبة : العرب العاربة (وتُسمى البائدة لأنه لم يبق منهم أحد ) وهم الراسخون في العروبية ، والعرب المستعربة الذين انتقلت إليهم السمات والشعائر العربية ، والعرب التابعة لعربٍ مِن قضاعة وقحطان وعدنان ، والعرب المستعجمة الذين استعجمت لغتهم اللسان المضري ومَن له مُلك بدوي بالمغرب والمشرق .

مَن يُطلَق عليه لفظ العرب

لفظ " العرب " اسم لقوم جمعوا عدة أوصاف : أنَّ لسانهم اللغة العربية ، وأنهم مِن أولاد العرب ، وأن مساكنهم هي جزيرة العرب التي هي مِن بحر القلزم [7] إلى بحر البصرة ومِن أقصى حِجر باليمن إلى أوائل الشام بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام .
وأنسابهم ثلاثة أقسام : قوم مِن نسل العرب وهم باقون على العربية لساناً وداراً أو أحدهما ، وقومٌ مِن نسل بني هاشم ثم صارت العربية لسانهم ودارهم أو أحدهما ، وقومٌ مجهولو الأصل لا يُدرى أمِن نسل العرب هم أم مِن نسل العجم وهم أكثر الناس اليوم سواء كانوا عرب الدار واللسان أو في أحدهما .
وكذلك انقسموا في اللسان إلى ثلاثة أقسام : قومٌ يتكلمون بالعربية لفظاً ونغمة ، وقومٌ يتكلمون لفظاً لا نغمة وهم الذين لم يتعلموا اللغة ابتداء مِن العرب وإنما اعتادوا غيرها ثم تعلموها ، وقومٌ لا يتكلمون بها إلا قليلاً .

الفرق بين العرب والأعراب في المعنى
ذهب بعض أهل اللغة إلى ترادف اللفظين وأنهما بمعنى واحد .
وقيل : العرب هم أهل الأمصار ، والأعراب سكان البادية ، وفي العرف يُطلَق لفظ العرب على الجميع .
والمؤرخون على القول بأن الأعراب قسم مِن العرب .

معنى الجاهلية وما تُطلَق عليه

الجاهلية : الزمان الذي كثر فيه الجهال . وهي ما قبل الإسلام .
وقيل : هي أيام الفترة . وهي ما بين الرسولين .
وقد تُطلَق على زمن الكفر مطلَقاً . وعلى ما قبل الفتح . وعلى ما كان بين مولد النبي والمبعث .
وتفصيل الكلام أن هذا اللفظ قد يكون اسماً للحال – وهو الغالب في الكتاب والسنة – وقد يكون اسماً لذي الحال .
فأما مَن لَم يعلم الحق فهو جاهلٌ جهلاً بسيطاً ، فإن اعتقد خلافه فهو جاهلٌ جهلاً مركباً ، فإن قال خلاف الحق عالماً بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضاً .
وقد كان الناس قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – في حال جاهلية عامة .
وأما بعد مبعثه فالجاهلية قد تكون في مِصرٍ دون مِصر وربما كان المِصر مِصر مسلمين ، وشخصٍ دون شخص وربما كان الشخص مسلماً .
وأما في زمانٍ مطلَقاً فلا جاهلية بعد بعث محمد – صلى الله عليه وسلم – ؛ فإنه لا تزال مِن أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة  .
والغالب أن هذا اللفظ لا يُقال غالباً إلا على حال العرب قبل الإسلام ؛ لما كانوا عليه من مزيد الجهل .

فضل جنس العرب وما امتازوا به

** أما كمالهم في الفهم فإنهم كانوا لا يبارَون قوة ولا ذكاء وإصابة حَدس وحدة ألمعية وصدق فراسة .
ومما يدل على غزارة فهم العرب ودقيق نظرهم ما اختصوا به مِن قرع العصا وهو أشد أنواع الرموز استخراجاً وأصعبها استنباطاً ؛ لخلوه مِن النطق وللاقتصار فيه على مجرد الفعل . [8]
ولما كان العرب في قوة الفهم إلى غاية الغايات كان معجزهم القرآن الذي يُدركونه بالفطنة دون البديهة ، وبالروية دون البادرة .
** وأما كمالهم في الحفظ فلأن الغالب منهم أمِّيُّون ، بل إن جميع عرب البوادي كانوا كذلك ، وحفظهم لأنسابهم وأشعارهم وأيامهم ما لا يستريب فيه أحد .
وقد كان الأصمعي – وهو مِن متأخريهم – يقول : ما بلغت الحُلُم حتى رويت اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب .
** وأما كون العرب أقدر على البيان مِن غيرهم فلأن لسانهم كان أتم الألسنة بياناً وتمييزاً للمعاني جمعاً وفرقاً .
وقد كان مِن شأنهم أن المعنى إذا كان مفرداً أفردوا لفظه ، وإن كان مركباً ركبوا اللفظ ، وإن كان طويلاً طولوه كالعَنَطنَط والعَشَنّق للطويل ، وإن كان قصيراً قصروه كالبُحتُر وهو القصير المجتمع الخَلق ، وإذا كان ممتلئ المعنى صاغوه على نحو غضبان وظمآن وحيران . وكذلك بقيتها مما لا يتسع المقام لبسطه لأنه ينشأ مِن جوهر الحرف ومِن صفته ومِن اقترانه بما يناسبه ومِن تكرره ومِن حركته وسكونه ومِن تقديمه وتأخيره ومِن إثباته وحذفه ومِن قلبه وإعلاله .
وقد سأل أبو إسحاق الكندي أبا العباس المبرّد ، فقال : إني أجد في كلام العرب حشواً ؛ يقولون : " عبدالله قائم " ، ثم يقولون : " إن عبدالله قائم "، ثم يقولون : " إن عبدالله لقائم "، والمعنى واحد !
فأجابه أبو العباس : قولهم : " عبدالله قائم " خبرٌ عن قيامه ، وقولهم : " إن عبدالله قائم " جوابٌ عن سؤال سائل ، وقولهم : " إن عبدالله لقائم " جوابٌ عن إنكار منكرٍ قيامَه .
فانظر إلى تفاوت هذه المعاني مع تغيير يسيرٍ في اللفظ !
** وأما ما فصح مِن لغاتهم ، وما ملح مِن بلاغتهم ، فذاك الذي تنفد عند ذكره المحابر ، ولا تستوعب محاسنه صحائف الدفاتر ، وهم الأحرياء بذلك ، والأحقاء بما هنالك ، أليس قِرى الأضياف سجيتهم ، ونحر العِشار دَأبهم ؟! ، أفتراهم يُحسِنون قِرى الأشباح فيخالفون فيه بين لونٍ ولونٍ وطعمٍ وطعمٍ ولا يُحسنون قِرى الأرواح فلا يخالفون فيه بين أسلوبٍ وأسلوبٍ وإيرادٍ وإيراد ؟!
** وأما كونهم أقرب للسخاء مِن غيرهم فذلك ما شهد به الأوداء والبعداء ، والأقربون والبعداء ، إذا ألَّمَ بهم ضيف حَكَّموه على أنفسهم ، واستهانوا له ما وجدوه مِن نفيسهم ، وهذا شِعرهم ينطق بذلك ويُعرِب عنه .
ومما يدل على مزيد سخائهم أنه كانت لهم نار تسمى ( نار القِرى ) توقَد لاستدلال الأضياف بها على المنزل . وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة لتكون أشهَر . وربما أوقدوها بالمندلي الرطب [9] . وهذه النار هي أجَلُّ نيرانهم . [10]
** وأما كونهم أقرب للحِلم مِن غيرهم فمما يدل عليه أنهم كانوا يحرمون الظلم ويتحالفون على الكف عنه كما في حِلف الفضول وغيره ، ويتناهون عن الفحشاء والمنكر ، وقد كانت لغتهم تكني عن كل ما يُستقبَح التصريح به . وما زالوا يتمدحون بالحِلم في شِعرهم . وكانت عندهم كلمة تُقال في مواطن الغضب والتشاجر فإذا سمعها أحدهم كَفَّ عما كان بصدده مِن التشفي وأخذ الانتقام ، وهي : " إذا مَلَكتَ فأسجِح " .
وأخبار حُلَماء العرب مروية في كتب التاريخ والأدب .
** وأما كونهم أشجع مِن غيرهم فمما يدل عليه أن رماحهم لَم تزل متشابكة ، وأعمارهم في الحروب متهالكة . قد رغبوا عن الحياة وطيب اللذات . وكانوا يتمادحون بالموت ، ويتهاجون بالموت على الفراش ، وكان قائلهم يقول : إنا والله لا نموت حَتفاً ولكن قطعاً بأطراف الرماح ، وموتاً تحت ظلال السيوف !
ومَن راجَع الكتب المؤلفة في أيامهم تبيَّن لديه أنهم لَم يشهدوا حرباً في فزاع ، إلا صابروا حتى انجلت عن ظفَرٍ أو دفاع .
** وأما كونهم أوفَى مِن غيرهم فلأنهم لَم ينقضوا لمحافظٍ عهداً ، ولا أخلفوا لمراقبٍ عهداً . وكانوا يرون الغدر مِن كبائر الذنوب ، والإخلاف مِن مساوئ الشيَم وأقبح العيوب .
ولقد عرفت ذلك عنهم العَجَم . وفي قصة حاجب بن زرارة إذ رَهَن قوسه عند كسرى خير شاهدٍ على ذلك .
بل إن بعض اليهود لما جاور العرب تأثر بوفائهم وتخلَّق به . وشاهد ذلك قصة السموءل بن حبان بن عادياء اليهودي الغساني .
** وأما كونهم أغْيَر مِن غيرهم فلأنهم كانوا أشد الناس حاجة إلى حفظ الأنساب ، وقد وصلت العرب في الغيرة إلى أن جاوزوا الحد فوأدوا البنات مخافة لحوق العار بهم !
وقد تستعمَل الغيرة في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته في سياسته نفسَه وأهلَه وأرضَه . وشاهد ذلك قصة المثل المشهور " أحمى مِن مُجير الجراد " .
**** وقد حاول الشعوبيون [11] تشويه ما امتاز به العرب بِشُبَهٍ ليس لها قيمة عند التحقيق .

مساكن العرب في الجاهلية
مساكن العرب التي درجوا منها إلى سائر الأقطار كانت بجزيرة العرب .
وحدود جزيرة العرب مِن أطراف برية الشام مِن البلقاء إلى أيلة ثم يسير السائر على شاطيء بحر القلزم جنوباً والبحر على يمينه إلى أطراف اليمن ، ثم يعطف مشرقاً ويسير على ساحل اليمن وبحر الهند [12] على يمينه إلى أن يصل إلى سواحل ظفار إلى سواحل مهرة ، ثم يعطف شمالاً وبحر فارس [13] على يمينه إلى أن يصل إلى الكوفة ، ثم يعطف إلى الغرب والفرات على يمينه إلى سلمية إلى البلقاء حيث بدأ .
والمدة التي يستغرقها المشي على حدود جزيرة العرب – على ما ذَكَره السلطان عماد الدين صاحب حماة في " تقويم البلدان " –  سبعة أشهر وأحد عشر يوماً تقريباُ بسير الأثقال .

أسواق العرب في الجاهلية
كان للعرب أسواق يقيمونها شهورَ السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ، ويحضرها العرب بما عندهم من المآثر والمفاخر . منها سوق ( دومة الجندل ) وسوق ( عمان ) وسوق ( المشقَّر ) وسوق ( صحار ) وسوق ( عدَن أبْيَن ) وسوق ( حُباشة ) وسوق ( عكاظ ) وغيرها .
وكان كل شريف إنما يحضر سوق بلده إلا سوق ( عكاظ ) فإنهم يتوافون بها مِن كل جهة .

مجتمعات العرب في الجاهلية
مِن مجتمعاتهم ما كان لِمحض الأُنس ، وتنشيط الأنفس ، وذِكر ما سلَف لهم مِن الحروب والوقائع ، وتناشد الشعر والقريض ونحو ذلك مما تبتهج له الطبائع . وهذا لا يكون غالباً إلا في الليالي ؛ لأن النهار ولا سيما أوله وقتٌ للسعي وطلب المعاش لا للهو والبطالة والقيل والقال .
ومِن مجتمعاتهم ما كان للمشاورة في تدارك حرب أو إغارة على قوم آخرين .
ومِنها ما كان لأجل الحكم وفصل الدعاوى والمنازعات كما كان يقع في دار الندوة .
ومنها ما كان لطلب مثوبة واتعاظ بوعظ كما كانت قريش تجتمع في الجاهلية إلى كعب بن لؤي في كل جمعة .
ومنها ما كان لِحِلف وعقد معاهدة كما اجتمعت قريش فعقدت حِلفاً لرد المظالم .

مفاخرات العرب ومنافراتهم في الجاهلية

كان بعض العرب يتفاخر على بعض ، وكان غالب مفاخراتهم بالشجاعة والكرم والوفاء ونحو ذلك . وكانوا ربما تفاخروا بالأموات !
وقد أبطل الإسلام المفاخرة ونهى عنها بالكلية ؛ فإن أعراض الدنيا عاريَّة مستردَّة ، والمباهي بها مباهٍ بغير ثراه ، ومتبجِّحٌ بما في نظر سواه !
قال الله تعالى في شأن الفَخور بقوله : ( والله لا يحب كل مختال فخور ) .

حكام العرب في الجاهلية

حكام العرب هم علماؤهم الذين يحكمون بينهم إذا تشاجروا في الفضل والمجد وعلو الحسب والنسب وغير ذلك .
وكان لكل قبيلة مِن قبائلهم حَكَمٌ يتحاكمون إليه .
وهم كثيرون ، منهم : أكثم بن صيفي ، وحاجب بن زرارة ، والأقرع بن حابس ، وعامر بن الظرب ، وغيلان بن سلمة وغيرهم .
وكان مِن نسائهم ذوات كمال ، ووفور معرفة ، ومزيد فطانة وذكاء ، حتى دُوِّنَت كتبٌ ودواوين في ذكر مآثرهن .
ومنهن : هند بنت الخس ، وخصيلة بنت عامر ، وحذام بنت الريان ، وصحر بنت لقمان وغيرهن .

أعياد العرب في الجاهلية

الأعياد مِن الديانات ، وقد كان لِعُبَّاد الأصنام مِن العرب أعياد كثيرة منها مكاني ومنها زماني .
فأما المكانية فهي مواضع أصنامهم ، وكانت الطواغيت الكبار التي تُشد إليها الرحال وتُتَّخذ عيداً ثلاثة : اللات والعزى ومناة . وكانوا يُهدون إليها كما يُهدون للكعبة ، ويطوفون ، وينحرون مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها .
وأما الزمانية فهي أيام مسراتهم وذلك إنما يكون بحسب قومٍ دون قوم ولقبيلة دون أخرى ، فيتفق في يوم هو عيدٌ لقوم وهو لآخرين يوم حزن .
وكان للنصارى مِن العرب أعيادهم ، ولليهود أعيادهم ، وللمجوس أعيادهم وهي كثيرة جداً .
وقد جاء الإسلام فشرع للمسلمين عيدين : عيد الفطر وعيد الأضحى .
** وكانوا يتزينون في أعيادهم بأحسن الثياب . وكان الفرسان منهم يتسابقون على الخيل . وكان ذوو المال يلعبون بالميسر . وكان الصبيان يلعبون أنواعاً مِن الملاعب . وكانوا يزمرون بالدفوف والمزاهر ونحوها مع التغني بأراجيز وأبيات مِن الشعر أنشدوها في أيامهم .

عادات عرب الجاهلية في المأكل والمشرَب

لم يكن العرب يتكلفون في مطاعمهم ومشاربهم تكلُّفَ العجم .
وكانت لهم عوائد مستحسنة في هذا الباب . فمن ذلك أنهم كانوا يبكرون في الغداء ويرون أنه أقرب إلى راحة البدن وصحته . وكانوا يؤخرون العشاء رغبة في ورود الأضياف بعد انقضاء حاجاتهم وعودِهم مِن مسارحهم وغزوهم ، ولأن بلادهم حارة الهواء فكلما ذهبت منه شدة ببرد الليل كان الطعام أمرى ، والشاهية في الأكل أدعى . والأصل الأصيل في ذلك مراعاة الضيوف .
ومِن عاداتهم أنهم كان إذا نزل بأحدهم ضيف أظهر البشاشة على وجهه وتلقاه بالترحيب والتكريم ، وأدى له آداب الضيافة كلها . وقد تلقوا ذلك مِن أبيهم إبراهيم – عليه السلام – .
ومِن عاداتهم الإقلال مِن الأكل ، وكانوا يقولون : البطنة تُذهب الفطنة .
وكان مأكولهم في غالب الأزمان لحوم الصيد والسويق والألبان ، وربما أكلوا من نبات الصحراء ودوابها .
وكانت للعرب ولائم شهيرة يتخذ كلٌ منها لمناسبة معينة ، ومنها : ( الخُرْس ) وهي ما يُصنع للنفساء ، و ( العقيقة ) وهي ما يُصنع للطفل في اليوم السابع من ولادته ، و ( الملاك ) وهي ما يُصنع للخطبة ، و ( الوضيمة ) وهي ما يُصنع لأهل المصيبة وغيرها .
ومما أُحدِث في الإسلام ( ذو الحذاق ) وهي ما يُصنع لحافظ القرآن .
وكانت لأواني الأكل عندهم أسماء ، فكانوا يسمون ما يُشبِع الرجل ( الصحفة ) ، وما يُشبِع الرجلين والثلاثة ( المكتلة ) ، وما يُشبِع الأربعة والخمسة ( القصعة ) ... إلخ .
وكانت لأواني الشرب عندهم أسماء ، فكانوا يسمون ما يُروي الرجل ( القعب ) ، وما يُروي الرجلين ( القدح ) ، ويسمون القدح العظيم ( العس ) .

عادات العرب في النكاح أيام الجاهلية

كان نكاح العرب في الجاهلية على أنحاء : منها ما هو كنكاح الناس اليوم ، وكانت قريش وكثير مِن قبائل العرب على هذا المذهب في النكاح ، فإنَّ الله اختص رسولَه مِن أطيب المناكح ، وحماه مِن دَنَس الفواحش ، ونَقَلَه مِن أصلابٍ طاهرة ، إلى أرحامٍ ظاهرة ؛ حِفظاً لِنسبه مِن قدح ، ولِمكانته مِن جرح ، فيكون الناس إلى إجابته أسرع ، ولأوامره أطوع .
ومنها : نكاح الاستبضاع حيث يرسِل الرجل امرأته بعد طُهرها إلى رجل لتستبضع مِنه ، ثم يعتزلها ولا يمسها حتى يتبين حملها !
ومنها : نكاح الخِدن وهو الزنا خفية !
ومنها : نكاحٌ يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة فيصيبون امرأة ، فإذا حملت أرسلت إليهم ، فإذا جاؤوا إليها نسَبَت إلى أيٍّ منهم ولدها فلم يمتنع !
إلى غيرها مِن ضروب النكاح .
** وكان مِن مقاصد العرب مِن الزواج أنها تجتذب به البعداء ، وتتألف الأعداء ، فضلاً عن طلَب الولد وقيام النساء بتدبير المنازل .

ما يُستَحسَن مِن المرأة والرجل لدى العرب خَلْقاً وخُلُقاً
العرب وإن كانت تطلب الشابة حَسِنة الخَلْق جميلةَ الوجه إلا أنها كانت تكره الجمال البارع لما قد يُحدِث مِن شدة الإدلال أو محنة الرغبة .
وكانت تطلب في المرأة أن تكون لطيفة البطن والكشحين والخصر ، ممتدة القامة ، ممتلئة الذراعين ، رقيقة الجلد ، طيبة الفم والأنف ، تامة الشعر ، ليس لمرفقها حجم .
وأما أخلاقها فأن تكون حيية ، منخفضة الصوت ، محبة لزوجها ، متحببة إليه ، نَفوراً مِن الريبة ، متجنبة للأقذار ، عاملة اليدين خفيفتهما ، وأن تكون وَلوداً .
** وكانت تكره في أخلاق المرأة ما يكون مآله إلى بُعد الخير عنها ، وقلة الرشد فيها .
وفي خِلقتها أن تكون ضخمة البطن ، قصيرة ، دميمة ، دقيقة الساقين والذراعين ، منتنة الريح ، أو أن تكون قليلة اللحم ، أو أن تكون حديدة اللسان ، جريئة قليلة الحياء ، بذيئة فاحشة وقِحة .
** وكانت النساء ترجو في الرجال أوصافاً ، يجمعها أن يكون جامعاً للخصال المحمودة خَلقاً وخُلُقاً عند ذوي العقول السليمة . وفي حديث أم زرع الطويل ذِكرٌ للكثير منها [14] .

طلاق العرب في الجاهلية وعِدَّة نسائهم
كان العرب في الجاهلية يُطَلِّقون ثلاثاً على التفرقة ، وأول مَن سَنَّ لهم ذلك إسماعيل - عليه السلام - .
وكانوا يخلعون نساءهم أيضاً .
وقال الشافعي : كان أهل الجاهلية يطلقون بثلاث ( الظهار ) و ( الإيلاء ) و ( الطلاق ) فأقرَّ الله تعالى الطلاق طلاقاً وحَكَم في الإيلاء والظهار بما بيَّن في القرآن . انتهى .

** ومِما له علاقة بهذا الباب :
-          أنَّ العرب كانت تُحرِّم أشياء نزل القرآن بتحريمها . كانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات ولا الخالات ولا العمات [15] .
-           وكان أقبح ما يصنع بعضهم أن يجمع بين الأختين .
-          ومِن قبيح ما كانوا يفعلون أن يخلف الرجل على امرأة أبيه فينكحها . كان الرجل إذا مات عن المرأة أو طلقها قام أكبر بنيه فإن كان له حاجة فيها طَرَح ثوبه عليها ، وإن لم يكن له حاجة فيها تزوجها بعض إخوته بمهر جديد .
-          وكانوا إذا طلقوا نساءهم فَقَرُبَ انقضاء عدتهن ربما راجعوهن لا عَنْ حاجة ولا لمحبة ، ولكن لِقصد تطويل العدة وتوسيع مدة الانتظار إضراراً !
-          وكانوا يمنعون النساء أن يتزوجن مَن أردن بعد انقضاء عدتهن ؛ حمية جاهلية !

حروب العرب في الجاهلية

كان الدافع لهذه الحروب هو الانتقام ، وسببه في الأكثر إما الغيرة والمنافسة ، وإما العدوان ، وإما الغضب للملك والسعي في تمهيده . ولما جاء الإسلام صار مِن ضمن الأسباب : الغضب لله ولدينه ، وهو المسمى في الشريعة بالجهاد .
وكان أهل الكَر والفَر مِن العرب يضربون المصاف مِن الإبل والظهر الذي يحمل ظعائنهم وراء عسكرهم ؛ ليكون أوثق في الجولة ، وآمن من الغرة والهزيمة .
** وكانوا يستعملون في حروبهم السيوف ، وكان مِن أحسنها عندهم : المشرفية ، والسُريجية .
ومِن آلاتهم : الرماح ، ومِن أجودها عندهم : الآزنية ، والخطية ، والردينية .
ومنها : الدرع ، ومنها : الحُطَمية ، والسَلوقية .
ومنها : البيضة [16] .
ومنها : المِجَن [17] .
ومنها : المنجنيق [18] .
وكانوا يتخذون اللواء علامة لمحل الأمير .
** وكان للعرب في حروبهم أيام مشهودة استقصاها أبو الفرج الأصبهاني فكانت ألفاً وسبعمائة !

 الخيل عند العرب

كان للعرب مزيد اعتناء بالخيل جاهلية وإسلاماً . وكان الرجل منهم يبيت طاوياً ويُشبِع فرسَه ويؤثره على نفسه وأهله وولده .
وقد روى أبو بكر بن دريد حديث جوارٍ اجتمعن فنَعَتْنَ خيل آبائهن . وكان نَعتُهُنَّ عجيباً ! [19]
** ومِن خيل العرب المشهورة : أعوج الأكبر ، والأغر ، والأشقر ، والأحزم وغيرها .
** وكان لفرسان العرب أخبارٌ تفاخر بها أقوامهم . ومِن أشهر الفرسان : ربيعة بن مكدم ، وعنترة العبسي ، وعامر بن مالك ( ملاعب الأسنة ) ، وزيد الخيل ، وعامر بن الطفيل ، وعمرو بن معديكرب وغيرهم .

نِيران العرب في الجاهلية

أُولِع العرب بإيقاد النِيران ؛ لينبهوا بها على عوارض حدثت ، وحوادث عَرَضت ، وهي كثيرة .
منها : نار القِرى ، وهي لاستدلال الأضياف بها على المنزل .
ونار السلامة ، وهي التي توقَد للقادم من سفره سالماً .
ونار الأُهبَة ، وهي للاستعداد للقتال .
ونار الأسَد ، وهي نار يوقدونها إذا خافوه .
ونار الطرد ، وهي نار يوقدونها خلف مَن يمضي ولا يشتهون رجوعه !
وغيرها كثير .

شروط السؤدد عند العرب

كانت العرب تُسَوِّدُ على أشياء ، أمَّا مُضَر فتُسَوِّدُ ذا الرأي ، وكانت ربيعة تُسَوِّدُ مَن أطعم الطعام ، وكانت اليمن تُسَوِّدُ ذا النَسَب .
وقيل لقيس بن عاصم : بِمَ سُدتَ قومِك ؟ قال : ببذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى وتعجيل القِرى .
وقال بعضهم : السؤدد اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة .

تحية ملوك العرب

كانوا يقولون في تحيتهم " أنعِموا صباحاً " .
وكانوا يخصون ملوكهم عند التحية بقولهم " أبيتَ اللعن " أي : أبيتَ أن تأتي مِن الأخلاق المذمومة ما تُلعَن عليه .
وكانت تحية غسان " يا خير غسان " . وتحية بعض القبائل " اسلم كثيراً " .
وقد شَرَعَ الملك القدوس السلامُ – تبارك وتعالى – لأهل الإسلام " سلامٌ عليكم " تحيةً بينَهم .

أديان العرب قبل الإسلام

كان العرب قبل ظهور عمرو بن لحي الخزاعي على بصيرة مِن أمرهم يَتعبدون بشريعة إبراهيم – عليه السلام – ، وقد تلقوها مِن ولده نبي الله إسماعيل – عليه السلام – ، وهي الحنيفية التي جاء بها محمد – صلى الله عليه وسلم –  . فلما طال الأمد وبعدوا عن زمن النبوة كثر فيهم الجهل وقَلَّت معرفتهم بما جاءت به شريعتهم من الهدى والدين المبين ، وجرَوا على شهوات أنفسهم ، واتبعوا كل ناعق ، حتى افترقت كلمتهم كل الافتراق سيما بعد أن ظهر فيهم الخزاعي وجَلَبَ لهم الأصنام ، وشَرَعَ لهم مِن الدين ما لَم يأذن به الله .
** كان مِن العرب عَبَدَةُ الأصنام الذين أَقَرُّوا بالخالق وابتداء الخلق ونوعٍ مِن الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام .
وكانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه .
وكان غالب ما يدفعهم لعبادة الأصنام ما كانوا يعتقدونه مِن تعظيمٍ للموتى .
وربما كان ما يدفعهم لذلك صنيع الشياطين حيث كانت تدخل في أصنامهم وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات فيظنون أن الأصنام هي التي تخاطبهم .
** وصنفٌ مِن العرب دهريون يقولون : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يُهلكنا إلا الدهر .
** وصِنفٌ منهم يصبو إلى الصابئة ، وهم فِرَقٌ شتى ، مِنهم مَن يعتقد في النجوم اعتقاد المنَجِّمِين في الكواكب .
** وصِنفٌ منهم زنادقة يقولون بالنور والظُلمة .
** وصِنفٌ عبدوا الملائكة .
** وصِنفٌ عبدوا الجن .
** وصِنفٌ عبدوا النار . والشمس .
** وكان فيهم موحِّدُون بقوا على مِلَّة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – .
** ومنهم مَن اتبع مَن بقيَت شريعته ولَم تُنسَخ مِلَّتُه كعيسى – عليه السلام – . وهم نَزرٌ يسير .

أعمال العرب وعاداتهم في الجاهلية

كانوا مداومين على طهارات الفِطرة ، يغتسلون مِن الجنابة ، ويغسلون موتاهم ، ويكفنونهم ، ويصلون عليهم ، وكانت صلاتهم إذا مات الرجل وحُمِل على سريره يقوم وليه فيذكر محاسنه ويثني عليه ثم يدفنه ثم يقول : عليك رحمة الله .
ومِن أعمالهم : أنهم كانوا يصومون عاشوراء ، ويحجون البيت ويعتمرون ، ولا يُغيْرون في الأشهر الحُرُم .
وكانوا يقطعون يد السارق ، وكانت ملوك اليمن والحيرة يصلبون قاطع الطريق ، ويأخذون في دية النفس مائة من الإبل .
وكانوا يتواصون بدفع الظلم ، والوفاء ، وإكرام الجار والضيف .
وكان منهم مَن يُحَرِّم الخمر والقمار والزنى على نفسه .
** ومِن أعمالهم وعاداتهم التي أبطلها الإسلام أنهم كانوا إذا أجدبوا عَمَدوا إلى السلع والعشر فحزموهما وعقدوهما في أذناب البقر وأضرموا فيها النيران وأصعدوها في جبل وعر واتبعوها يدعون الله ويستسقونه . وإنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلاً للبرق بالنار !
ومنها : تعليقهم الحلي والجلاجل على اللديغ ؛ ليفيق !
ومنها : أنهم كانوا إذا أصاب العُرُّ إبلَهم كووا الصحيح ليبرأ السقيم !
ومنها : عَقر الإبل على القبور ؛ مكافأة للميت على ما كان يعقره مِن الإبل – كما يعتقد بعضهم – ، أو تعظيماً لهم – كما يعتقد آخرون – ، أو لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم فيها – كما يعتقد أقوام – ، أو لأن الإبل أنفس أموالهم فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليهم لِعِظَم المصيبة !
ومنها : اعتقادهم أن كل ميت أو قتيل تخرج مِن رأسه هامة فإن لم يؤخذ بثأره نادت على قبره : اسقوني فإني صدية !
ومنها : الاستعاذة بالجن .
ومنها : اعتقادهم أن لكل شاعر شيطاناً !
إلى غيرها مِن الاعتقادات . [20]

الشهور العربية

الشهور العربية قسمان : قسم غير مستعمَل وهو الذي وضعته العرب العاربة ، وهي : مؤتمر وناجِر وحوّان وصوان ورُبّى وأيِّدة والأصم وعادل وناطل وواغل ووَرنة وبُرَك .
وحُكي فيها خلاف .
وأما المستعمَل فالمحرم وصفر وربيعان وجماديان ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة .

ما كان للعرب في الجاهلية مِن العلوم والمعارف
كانت قحطان ( وهم عرب اليمن ) على أحسن ما يكون من التمدن . والغالب منهم سكن البلاد المعمورة ، وبنوا القصور المشهورة ، وشيدوا الحصون المذكورة . وكانت لهم مدن عظيمة . وكانت لهم ملوك استولوا على كثير مِن البلاد ، وذلك دالٌّ على كمال وقوفهم على العلوم التي لابد منها في حفظ النظام وعليها مدار المعاش وسياسة المدن . وكانت لهم اليد الطولى في كثير مِن الصناعات .
وأما بنو عدنان ومَن جاورهم مِن عرب اليمن الذين فَرَّقتهم حادثة سيل العرِم فكانوا على شريعة موروثة عن إبراهيم وابنه – عليهما السلام – إلى أن اختل أمرهم بمرور العصور ، فأهملوا ما كانوا عليه من الدين ، ودانوا بما وَضَع لهم الخزاعي وابتدعَه مِن الأحكام الباطلة ، فمِن ذلك اليوم فشا الجهل بينهم ، وأضاعوا صنائعهم ، ووقع التنازع بين قبائلهم ، فلَم يبق عندهم عِلم مُنَزَّل ، ولا هم مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة ، إنما علمهم ما سَمَحت به قرائحهم مِن الشعر والخطب أو ما حفظوه مِن الأنساب والأيام أو ما احتاجوا إليه في دنياهم مِن علم النجوم أو مِن الحروب ونحو ذلك .

عناية العرب بِعلم الأنساب

كان للعرب في الجاهلية مزيد اعتناء بضبط الأنساب ومعرفتها ؛ فإنه أحد أسباب الأُلفة والتناصر .
وجملة الأنساب أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قسمٌ والِدون ، وقسمٌ مولودون ، وقسمٌ مناسِبون .
فأما الوالِدون فهم الآباء والأمهات والأجداد والجدات .
وأما المولودون فهم الأولاد ، وأولادهم . والعرب تسمي ولد الولد ( الصفوة ) .
وأما المناسِبون فهم مَن عدا الآباء والأبناء ممن يرجع بتعصيبٍ أو رَحِم .
والعرب – حسب ما رتبهم الماوردي في " الأحكام السلطانية " – على طبقات ست : شَعب ، ثم قبيلة ، ثم عمارة ، ثم بطن ، ثم فخذ ، ثم فصيلة . وإذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوباً ، والعمائر قبائل .

مذهب العرب في أسماء القبائل
أسماء القبائل في اصطلاح العرب على خمسة أوجه :
الأول : أن يُطلق على القبيلة لفظ الأب : كعادٍ وثمود .
وأكثر ما يكون في الشعوب والقبائل العظام لا سيما في الأزمان المتقدمة .
الثاني : أن يُطلق على القبيلة لفظ البُنُوَّة فيقال بنو فلان .
وأكثر ما يكون في البطون والأفخاذ والقبائل الصغار .
الثالث : أن تَرِد القبيلة بلفظ الجمع مع الألف واللام كالطالبيين والجعافرة .
وأكثر ما يكون ذلك في المتأخرين .
الرابع : أن يُعَبَّر عنها بآل فلان : كآل ربيعة وآل علي .
وأكثر ما يكون هذا في الأزمنة المتأخرة .
الخامس : أن يُعبَّر عنها بأولاد فلان .
ولا يوجَد ذلك إلا في المتأخرين مِن الأفخاذ .

مذهب العرب في التسمية والكنى
الغالب على العرب تسمية أبنائهم بمكروه الأسماء ككلب وضرار وما أشبه ذلك ، وتسمية عبيدهم بمحبوب الأسماء كفلاح ونجاح ونحوهما .
وقد سُئل عن ذلك أبو الدقيش الكلابي فقال : إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدَنا لأنفسِنا .
وغالب أسماء العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه .
** وأما الكنى فقد كانت العرب تقصد بها التعظيم ؛ فإن بعض النفوس تأنَف أن تخاطَب باسمها .
وقد اتسع الأمر فصاروا يكنون مَن لم يكن له ابن ولا بنت .
وجَرَوا في كنى النساء بالأمهات هذا المجرى .
ثم لما شارك الناسَ في الولادة باقي الحيوانات كنوا ما كنوا منها بالآباء والأمهات كأبي معاوية لابن آوى ، وأم عامر للضبع .
وكذلك فعلوا في إضافة الأبناء والبنات إلى آبائهم مع ترك أسمائهم إكراماً لهم فقالوا : ابن عباس ، وابن عمر .
وأجروا غير الأناسي مجراها في ذلك فقالوا : ابن قترة للحية ، وبنت حذف لنوع مِن الغنم في الحجاز .
بل توسعوا في ذلك حتى أجروها على الجمادات فقالوا : أبو جابر للخبز ، وأم قار للداهية ، وابن ذكاء للصبح ، وبنت الأرض للحصاة .
** وقد جروا في الأسماء والكنى على قسمين : مُعتاد ، ونادر .
فمِن المعتاد الكنية بالأولاد ، والنادر كأبي تراب لعلي – رضي الله عنه – .
واستعملوهما في ذي وذات .
وقد اتسعوا في الأم أكثر من اتساعهم في الأب ، واتسعوا في الابن والبنت أكثر مِن اتساعهم في الأم ، حتى قالوا للقصيدة مِن الشعر : هي ابنة ليلها .
ومِن الأشخاص مَن له اسمٌ ولا كنية له وهو الأكثر ، ومَن له اسمٌ وكنية وهو دون الأول في الكثرة ، ومَن يكون له عَلَمٌ وكنية واسم جِنس كأسامة وأبي الحرث والأسد ، ومَن له كنية وليس له اسمٌ غيرها : كأبي براقش لحيوان معروف [21] ، ومَن له كنيتان في حالين : كعامر بن الطفيل كان يكنى في السلم بأبي علي وفي الحرب بأبي عقيل ، ومَن يكون له كنيتان أو أكثر في حالة واحدة وهو كثير .

عِلم العرب بالأخبار
مَن تتبع شِعر العرب واستقرأه تبين له ما كان للعرب مِن اليد الطولى في معرفة أخبار الأمم الماضين .
وقد دَوَّنَ الناس أيامهم وحروبهم مِن شِعرهِم .

التاريخ عند العرب في الجاهلية

كان العرب يؤرخون بالنجوم قديماً ، ومِنه صار الكُتَّاب يقولون : نَجَمتُ على فلانٍ كذا حتى يؤديه في نجوم .
وكانت العرب تؤرخ بكل عام يكون فيه أمرٌ مشهورٌ متعارَف .
وغَلَّبَت العرب الليالي على الأيام في التاريخ لأن ليلة الشهر سبقت يومَه ولَم يلدها وولدته ، ولأن الأهِلة لليالي دون الأيام ، وفيها دخول الشهر .
والعرب تستعمل الليل في الأشياء التي يشاركه فيها النهار دون النهار لاستثقالهم الليل ، فيقولون : أدركني الليل بموضع كذا ؛ لِهيبته .

عِلم العرب بالسماء
كان للعرب عِلمٌ بالأجرام العلوية ، واشتغال بالرصد ، ومعرفةٌ بحركات الكواكب .
وكانوا يقسمون الأنواء وأيامها . وكان لهم أقوالٌ مأثورة عند طلوع كل نوء ، ومِن ذلك قولهم : إذا طَلَع العقرب جَمَس المذنب ، وقرب الأشيب ، ومات الجِندب ، ولَم يصِرَّ الأخطب .
وكانوا يقسمون السنة إلى أجزاء ، ولهم فيها تسميات مختلفة .

ومِن علومهم : عِلم القيافة

 وهو على قسمين : قيافة الأثر : وهو عِلمٌ باحثٌ عن تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر .
وقيافة بَشَر : وهو الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصَين على المشارَكة والاتحاد بينهما في النسب والولادة في سائر أحوالهما وأخلاقهما .
وأشهر مَن عُرِف به : بنو مُدلِج ، وبنو لِهب .
والقيافة موجودة في بعض قبائل عرب نجد ، ويقال إنهم بنو مُرَّة .

ومِن علومهم : عِلم الفِراسة

وهو الاستدلال بهيئة الإنسان وأقواله على أخلاقه .
وهو على ضَربين : ضَربٌ يحصل للإنسان عن خاطرٍ لا يعرف سببه ، وضَربٌ يكون بصناعة متعلَّمَة .
وقد ازدادت في العرب الفراسة بعد أن أشرقت أنوار الإسلام على قلوبهم .

ومما هو عندهم مِن العلوم : عِلم الطب
وكانوا ما يعلمونه منه مبنياً في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص ، متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه . وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي .
وكان لهم علم تام في معالجة الدواب .
ومِن مشاهير أطباء العرب : الحارث بن كلدة ، وابن حذيم .

ومِن علومهم : عِلم الريافة

وهو : معرفة استنباط الماء مِن الأرض بواسطة بعض الأَمارات الدالة علة وجوده ، فيُعرَف بُعده وقُربه بِشَم التراب ، أو برائحة بعض النباتات فيه ، أو بحركة حيوان مخصوص . وهو مِن فروع الفراسة .

ومِن علومهم : عِلم الاهتداء في البراري

وهو : علم يُتعرف به أحوال الأمكنة مِن غير دلالة عليه بالأمارات المحسوسة دلالة ظاهرة أو خفية بقوة الشامة فقط لا يعرفها إلا مَن تدرب فيها كالاستدلال برائحة التراب ، ومسامتة الكواكب الثابتة ، ومنازل القمر .

ومِن علومهم : العِلم بخَلق الإنسان

فمَن نظر في كتب العرب أدرك عظيم إلمامهم ومعرفتهم بكيفية تركيب أجزاء البدن وترتيبها .
ومِن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب ( خَلق الإنسان ) للخطيب الإسكافي ، فإن كتابه جَمَع فأوعى حيث اشتمل على ترتيب سِن الإنسان مِن حين ولادته إلى آخر عمره ، وعلى أسماء أعضاء الإنسان مِن رأسه إلى أخمص قدميه !

ومِن علومهم : عِلم الملاحة

وأهل المعرفة به مِن العرب مَن سكن سواحل بحر القلزم وبحر الهند وبحر فارس .
وقد كانت للعرب متاجر في الهند والحبشة والروم ، فكانوا ممن تمس حوائجهم إلى ركوب البحر ، ومعاناة سيره ، والقيام بما يعين على ذلك وهو عِلم الملاحة .
** وكانت للعرب علوم باطلة كعلم العرافة ، والكهانة ، والعيافة ، والزجر ، والطرق بالحصى وغيرها .

كتابة العرب في الجاهلية

أول مِن كتبنا بخطنا هذا ( وهو الجزم ) نَفَرٌ مِن طَي وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة ، تعلموه مِن كاتب الوحي لنبي الله هود – عليه السلام – ، ثم عَلَّموه أهلَ الأنبار ، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها ، فتعلمها بِشر بن عبدالملك أخو أكيدر صاحب دومة الجندل وكان له صحبة بِحرب بن أمية لتجارته عندهم في العراق فتعلم حربٌ منه الكتابة ، ثم سافر بِشر معه إلى مكة ، فتزوج الصهباء بنت حرب ( أخت أبي سفيان ) فتعلَّم منه جماعة مِن أهل مكة ، فلهذا كَثُر الكتاب في قريش وامتَنَّ الكندي على قريش بذلك .
وسُمي خط العرب بخط الجزم لأن الخط الكوفي كان أولاً يُسمى به قبل وجود الكوفة لأنه جُزِم أي اقتُطِع مِن المسند الحِميَري . ومرامر هو الذي اقتطعه .

مكاتبات العرب

خير الكلام لدى العرب ما أدى المقصود بكماله بلفظ وجيز . وحيث إن الكتابة لَم تكن في جميع العرب قَلَّ التراسل فيما بينهم ، وكانوا يستغنون عن ذلك بإرسال الرسل يُبَلغون عنهم مقاصدهم ، وربما ألغَزوا عنها إخفاء لها إذا كانت مما يجب إخفاؤه .
وربما كتبوا أبياتاً مِن الشِعر تؤدي مقاصدهم .
ثم تغيرت عوائدهم فكانوا يُصَدِّرون كتبَهم بأسماء معبوداتهم ، ثم يذكرون مقاصدهم .
وكانت قريش تكتب " باسمك اللهم " .
ومِنهم مَن كان يكتب بعد البسملة : مِن فلان إلى فلان ، ثم التحية ، ثم يأتي بـ ( أما بعد ) ، ثم يذكر مقصده بأوجز عبارة .
وكان مِن عوائدهم في نثرهم ألا يلتزموا السجع إلا ما كان مِن شأن الكهان ، وذلك لميل العرب إلى السَهل مِن كل شيء .
ثم تغير الحال بما هو مذكور في كتب الإنشاء مِن الألفاظ المتكلفة ، والأساليب التي ينفر عنها الطبع .

ما كان يكتب فيه العرب

لَم يكن للعرب قبل الإسلام القرطاس المعهود اليوم ، وإنما ظهر هذا عندهم سنة العشرين بعد المائة مِن الهجرة . وقد قيل إنهم هم مَن اخترع القرطاس . وقيل : القرطاس عندهم كل ما يمكن أن يُكتب عليه كالرَّق والعسب والجريد وما شاكل ذلك .

حساب العرب في الجاهلية

كان الحساب المعهود عندهم حساب عقود الأصابع ، وقد وضعوا كلاً منها بإزاء عدد مخصوص ، ثم رتبوا لأوضاع الأصابع آحاداً وعشراتٍ ومئاتٍ وألوفاً ، ووضعوا قواعد يتعرّف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة .
ولشمس الدين محمد بن أحمد الموصلي الحنبلي منظومة موجَزة في بيان قواعد هذا الحساب مشتملة على لُبِّ لُبابِه .
ومِن العرب مَن كان يحسب بالحصى ويضبط عدده به . وقد دَلَّ على ذلك شِعرُهم .

معايش العرب وأسبابها في الجاهلية

أشهر تلك الأسباب : التجارة .
ومما كان مشهوراً عند أهل الحضر منهم : الفلاحة وصناعة البناء والنجارة والحدادة .

تفضيل العرب سكنى البوادي
كانت العرب تفضل سكنى البوادي ، ومن أسباب ذلك : أن جولان الأرض وتَخَيُّرَ بقاعِها على الأيام أشبه بالعِز ، وأليق بِي الأنَفَة . ومنها : أن الأرضين تمرض كما تمرض الأجسام ، وتلحقها الآفات ، والواجب تَخَيُّر المواضع بحسب أحوالها مِن الصلاح . ومنها : أن الأبنية تحصر عن التصرف في الأرض ، وتقطع عن الجولان . ومنها : أن الأبنية تُقَيِّد الهِمم ، وتحبس ما في الغرائز مِن المسابقة إلى الشَرَف . ومنها : أنهم يملكون الأرض ولا تملكهم . ومنها : أن أهل البادية أقدر على التغلب ممن سواهم .
 
 
 والله تعالى أعلم .
  

------------------------
[1] توفي عام : 1342 هـ . والمؤلف هو حفيد المفسر المشهور أبي الثناء محمود شهاب الدين الألوسي صاحب تفسير ( روح المعاني ) المتوفى عام : 1270 هـ .
[2] كل عنوان مِن عناوين الكتاب مليء بالشواهد التي قد تتجاوز العشرات – أحياناً – ، وإيرادها هنا يعني إيراد الكتاب بأكمله ؛ إذ الكتاب قائمٌ على الشواهد .
[3] يقع الكتاب في ( 3 ) أجزاء ويبلغ عدد صفحاته ( 1237 ) صفحة .
[4] نَصَّ المؤلف على أن الكتاب يتحدث عن العرب غير البائدة . 3 / 77
[5] مما زاد الداعي لتأليف هذا الكتاب الرغبة في المشاركة في مسابقة أُقيمَت في ستوكهولم ( عاصمة السويد ) .
[6] نال المؤلف بكتابه هذا جائزة مضمار لجنة اللغات الشرقية .
وحين أُرسِلت له الجائزة كان فيها نيشان ذهب مُعَلَّمٌ بالصليب فأهمله ولم يحتفظ به . وحين سأله تلامذته عنه قال : إنه نجس به صليب . انظر : كتاب ( رد السيد الألوسي على حصون العاملي الرافضي ) بتحقيق إياد القيسي .
[7] هو البحر الأحمر .
[8] انظر حديث المصنف عن " القرع بالعصا " في 1 / 31 – 35 .
[9] وهو عِطر يُنسَب لبلدة في الهند مما يتبخَّر به . كان العرب يجعلونه في نارِهم ليهتدي إليها العميان .
[10] سيأتي الحديث مفصلاً عن نيران العرب بإذن الله .
[11] الشعوبيون هم : من يحتقر أمر العرب ، وينكر فضلهم . سُمُّوا شعوبية لأنهم ينتصرون للشعوب الأخرى غير العرب .
[12] المعروف الآن بـ ( بحر العرب ) .
[13] الخليج العربي .
[14] حديث أم زرع رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
[15] إلا ما حُكي عن حاجب بن زرارة أنه نكح ابنته .
[16] وهي : ما يُلبَس في الرأس .
[17] وهي : ما يُعمَل مِن الجلود ليُتقى به وقع السيوف .
[18] وهي : آلة لرمي الحجارة .
[19] انظره في الكتاب 2 / 81 .
[20] أورد المؤلف ما يزيد على ( 80 ) عادة واعتقاداً مِن اعتقاداتهم الباطلة .
[21] طائر صغير لونه بين السواد والبياض . إذا هُيِّج انتفش وتغير لونه ألواناً شتى .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية