صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







تركي الحمد
من خلال كتابه الثقافة العربية في عصر العولمة
وكتبه الفكرية الفلسفية الأخرى ككتابه الثقافة العربية أمام تحديات التغيير، وكتابه دراسات أيديولوجية في الحالة العربية، وكتابه السياسة بين الحلال والحرام

أعده: أبو عبدالله العليان


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه الكرام الأبرار الأطهار.

عن عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالله بن عمر، عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عمرة، عن النبي r قال: ((أقيلوا ذوي الهيئة عثراتهم))، قال ابن القيم: "والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد فإن الله تعالى خصهم بنوع التكريم وتفضيل على بني جنسهم فمن كان منهم مستورا مشهورا بالخير حتى كبا به جواده ونبا عصب صبره وأديل عليه شيطانه فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته بل تقال عثرته ما لم يكن حدا من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع"([1]).

وهذا هو المنهج الشرعي في رفع المؤاخذة بالخطأ والذنب الذي ليس فيه حد إذا صدرت الزلة عمن لم يكن من عادته ذلك، إلا أن يترتب على ترك تعزيره مفسدة .

وأما من كانت سيرته قائمة على مخالفة الشريعة، والطعن في حملتها، والتشويه لتاريخ الأمة، والاعتزاز بالفلسفات الضالة، والفخر بالانتماء للكفر وأهله، فهو قد اختار لنفسه طريقًا مظلمًا، فلا يُلام من ظن به ما هو أهله، فكيف إذا أبان عن نفسه وانحرافه بعباراته الصريحة، أو حتى بالعبارات المجملة، التي يقول عنها ابن القيم: "فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولاسيما إذا صادفت أذهانا مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب"([2])، وقد انتشرت في التغريدات والمواقع الحاسوبية بعض المصطلحات والعبارات الفلسفية التي تحتمل حقًا وباطلاً، وهي للباطل أقرب وبين أهل الكفر والإلحاد قد شاعت، وربنا في محكم التنزيل نهى خير القرون عن قول عبارة استخدمها اليهود للطعن في الرسول الكريم r: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا﴾، قال السعدي: "كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول r عند تعلمهم أمر الدين "راعنا"؛ أي: راع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا، فانتهزوا الفرصة، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز، إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب، واستعمال الألفاظ، التي لا تحتمل إلا الحسن، وعدم الفحش، وترك الألفاظ القبيحة، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن"([3]).

فكيف يكون حال المخالفين للأنبياء والرسل الكرام -عليهم أفضل الصلاة والسلام-، الذين كان ديدنهم استعمال العبارات الموحشة، والمصطلحات المجملة، ويستقونها من الملاحدة والفلاسفة، وربما عبروا عن تلك المعاني الباطلة بعبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وعلمائها وعبادها؛ لخداع عوام المسلمين([4])، ومن خالف مذهبهم شنعوا عليه بأبشع الأوصاف، وهذا مسلك من سبقهم من أهل الضلال والانحراف، يقول ابن القيم -وكأنه يتحدث عن حال هؤلاء المنحرفين-: "إن هؤلاء في معارضتهم للوحي سلكوا طريقا سحروا بها عقول ضعفاء الناس وبصائرهم فشبهت عليهم وخيل إليهم أنها حق فأصابهم في ذلك مثل ما أصاب السحرة حين عارضوا عصا موسى بما خيل إلى أبصار الناظرين أنه حق، فإن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة تحتها معاني مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وأدخلوا فيها من المعاني غير المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض ففكروا فيه وقدروا وأطالوا التفكير والتقدير، ثم عظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه، ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، فإذا دخل معهم الطالب وسمع منهم ما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض عليهم قالوا له أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك، وهذا أمر قد صقلته الأذهان على تطاول الأزمان وتلقته العقول بالقبول والتسليم وفزعت إليه عند التخاصم والتحاكم، فيبقى ما في النفوس من الحمية والإلفة يحملها على تسليم تلك الأمور قبل تحقيقها، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل"([5]).

وبعد:

فقد تناولت مركز مسبار في وريقات سابقة والذي يشرف عليه الأستاذ تركي الدخيل -وفقه الله وهداه-، وأما هذه الوريقات فهي عن د.تركي الحمد -هداه الله-، وفرقٌ بين التركيين، وأتناول هنا باختصار بعض طوام د.الحمد، وسبق أن كتب عنه عدد من الباحثين الغيورين -وفقهم الله-، ولكني سأتناوله ليس من تغريداته بل من خلال كتابه الثقافة العربية في عصر العولمة، بطبعته الأولى -دار الساقي -بيروت 1999م، كمصدر أساس، وكتبه الفكرية الفلسفية الأخرى كمصدر فرعي، وهي كتابه الثقافة العربية أمام تحديات التغيير، وكتابه دراسات أيديولوجية في الحالة العربية، وكتابه السياسة بين الحلال والحرام؛ حيث أقارنها بمضمون كتابه الثقافة العربية في عصر العولمة -بمشيئة الله-، وأشير في الحاشية إلى مواطن الفكرة الفلسفية في كتبه التي أنقل منها.

أما الروايات فقد استثنيتها هنا، التي قد يُقال إنها رواية لا تعبر عن فكر؟!

وتركي هو ابن حمد بن تركي الحمد العقيلي([6])، المولود في 10 مارس1952 في الأردن لأسرة سعودية من جماعة العقيلات، هو كاتب وروائي وأستاذ أكاديمي سابقا، وأحد رموز التيار الليبرالي في المملكة العربية السعودية.

حاصل على الماجستير من جامعة كلورادو عام 1979م، وعلى درجة الدكتوراه في النظرية السياسية من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1985م.

عمل أستاذا للعلوم السياسية في كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود بين عامي 1985 – 1995م، ثم تقاعد، وقد عاش تركي الحمد مرحلة شبابه ومراهقته في الستينات والسبعينات الميلادية بالدمام، وهي المرحلة التي عاش فيها العالم العربي تحولات فكرية وسياسية متضاربة، وأحزاب قومية متناقضة من القومية والناصرية والبعثية إلى الاشتراكية والشيوعية وغيرها من الأحزاب، وقد كان للحمد اهتمامات وقراءات في هذه الأفكار أدت به في النهاية إلى الانضمام لحزب البعث العربي الاشتراكي وهو في الثانوية العامة، ثم ألقي القبض عليه وهو في السنة الأولى الجامعية في جامعة الملك سعود -الرياض سابقاً- وذلك بعد كشف التنظيم، وبقي في السجن ما يقرب من سنتين وبعد الإفراج عنه سافر إلى أمريكا للدراسة.

مؤلفاته: في العام 1986م صدر للكاتب كتاب الحركات الثورية المقارنة، تلا ذلك كتاب دراسات أيديولوجية في الحالة العربية 1992م، وكتاب الثقافة العربية أمام تحديات التغيير 1993م، ثم كتاب عن الإنسان أتحدث 1995م، وتعتبر ثلاثية تركي الحمد الموسومة أطياف الأزقة المهجورة، والتي تتكون من ثلاث روايات، صدرت أولها عام 1995م، أشهر ما كتبه الحمد، وقد أثارت هذه الثلاثية كثيرا من الجدل، نتيجة لتعرضها الدين والجنس والسياسة، وبعد الثلاثية، أصدر الكاتب كتاب الثقافة العربية في عصر العولمة، ثم عاد إلى الكتابة الروائية، مصدرا روايتين هما شرق الوادي ثم جروح الذاكرة.

بعد ذلك، أصدر الكاتب عملين غير روائيين، هما على التوالي: ويبقى التاريخ مفتوحا 2002م، وكتاب من هنا يبدأ التغيير، أما آخر أعمال الكاتب فهو رواية ريح الجنة الصادرة عام 2004م.

وكتابه محل البحث -وهو الثقافة العربية في عصر العولمة- يقع في 218 صفحة، بدأ فيه بمقدمة تعريفية حول العولمة كمفهوم وتصور، وجاءت عناوين المقالات الفكرية داخل كتابه على النحو التالي: حول العولمة والثقافة الذاتية، هل من جديد في الفكر السياسي؟ حوار الثقافات، هوية بلا هوية، نحو إطار معرفي جديد للثقافة العربية، فكر الوصاية ووصاية الفكر، المثقف العربي أزمته ومواقفه من القضايا الكبرى، المعضلة العالمية، تأملات في مسألة الهوية.

ويضم كتابه هذا عدداً من المحاضرات والأوراق المقدمة لندوات ومؤتمرات، أو مقالات منشورة في الصحف والمجلات، وذلك في الفترة مابين عامي 1992 - 1999م؛ ولهذا يكرر الكاتب أفكاره في أكثر من مقالة، وأحياناً بذات النصوص الطويلة، وفي كل موضع كأنه يقرر ذلك الأمر وتلك الفكرة لأول مرة، مثل مقولة لأحد المفكرين "أعتقد أنه أيمرسون" -وفي مرة يقول: "المثل الأمريكي"- أن تأكل بقرة لا يعني أن تتحول إلى بقرة (ص/70، 95، 98)، مما يوحي بأنه كتبه في فترات متباعدة، أو عدم الدقة، أو ربما يكون استعان بأكثر من شخص ليكتب له، أو لغير ذلك.

كما أني رأيت التكرار في مضمون الفكرة بين عدد من مباحث كتبه الثقافية والفلسفية المختلفة، بل وفي بعض الأحيان بذات نصه وكلامه وأمثلته؛ ولكثرة التكرار في مقالاته، إنْ في الهدف المعرفي للفكرة، وإنْ في ذات العبارة، وإنْ في ضرب الأمثلة والبراهين، وحرصًا على الفائدة واستثمارًا لوقت القارئ، اجتهدت على أن أجمع المتشابه من كلامه وأفكاره، وأن أعرض أصوله وفكره ومنهجه ورؤيته من خلال كتابه -موضع البحث- وإن تباينت الصفحات، بل ومن خلال بقية كتبه التي أدخلتها ضمن هذا البحث وهي:

1- كتابه الثقافة العربية أمام تحديات التغيير.
2- كتابه السياسة بين الحلال والحرام.
3- كتابه دراسات أيديولوجية في الحالة العربية.

وجعلت ذلك في عدة نقاط مرقمة من (1-23) فيها خلاصة الكتاب من حيث فكر الكاتب ومنهجه وأصوله، فقد جعلت أولها عن معتقده ومنطلقاته وركائزه، التي إذا علمناها أمكننا أن نتوصل إلى الفروع التي يبنيها على تلك الأصول إن في العولمة أو الليبرالية أو العلمنة أو غيرها، إن كان هو صاحب مبدأ وثوابت ومنطلقات! ثم عقبتها بالنتائج التي نتج عنها ذلك الفكر، ويلاحظ أن ذلك مقصور على هذا الكتب الأربع، وإلا لو استعرضت بقية كتبه فضلا عن كتاباته الأخرى وتغريداته لاجتمع له من الشر ما تضيق به النفوس المؤمنة.

وأما بالنسبة للعزو فقد أشرت إلى أرقام الصفحات في صدر البحث لما يخص كتاب الثقافة العربية في عصر العولمة، ثم قارنت كلامه وأفكاره في ثلاثة من كتبه الأخرى -التي بين يدي-، وضممت المتشابه من نصه أو مضمون أفكاره، ولكني أشير إلى أرقام الصفحات في الحاشية كيما لا يختلط بالكتاب الذي جعلته أصلاً.

وجعلت هذه الدراسة -للأسباب الآنف ذكرها- على النقاط التالية:


1- منطلقه:
ينطلق د. تركي الحمد من العقل المعيشي البحت؛ ولذا يرى أن الغاية من الخلق هو عمارة الأرض (الفانية؟!) فيقول: "حدد الله غاية خلق الإنسان على هذه الأرض، ألا وهي الخلافة، والتي تعني ضمن ما تعني النيابة عن المبدع الأصيل في الخلق والإبداع، وهذا هو جوهر الحضارة"(ص/62، 90)، ويؤكد ذلك في موضع آخر من كتبه وهو السياسة بين الحلال والحرام فيقول عن نصوص الشرع الحكيم من قرآن وسنة -كما يقول-: "تكون موجهة إلى الغاية أو المقاصد التي أرادها صاحب النصوص، ألا وهي بشكل عام خلافة الإنسان لربه على هذه الأرض"([7]).

وجهل أن الغاية من خلق الخلق وإرسال الرسل وإنزال الكتب هي عبادة الله وحده بإجماع المسلمين، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات، وقال سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل: ٣٦، وقد توعد ربنا من أشغلته الدنيا عن الآخرة في سورة التكاثر، بل وصف من هذا حاله بالجهل الحقيقي ولو كان عنده من علم الدنيا ما عنده فقال تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) الروم.

2- عدم عنايته بالأدلة الشرعية:
فاستدلاله بالنصوص الشرعية أقل من القليل كقوله تعالى (علم آدم....)، وقوله: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا....) مرتين، وقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة) (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)، والأدلة الواردة (ص/113-114)، وقوله سبحانه: (حرمت عليكم الميتة..)، وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم)، وقوله: (وتأكلون التراث أكلا لما)، وحديث: ((البيعان بالخيار))، وحديث: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم))، وحديث: ((خير الناس قرني...))، وهو بطبيعة الحال يستدل بما يوافق رأيه وهواه، بل ربما لوى أعناق الأدلة، كقوله بأن الغاية من الخلق هي عمارة الأرض، ومن كان هذا حاله فكيف يعتمد على كلامه ويرجع إليه، فالعصمة للكتاب والسنة، الوحي المطهر من كل نقص، الذي فيه الشفاء والنور والهدى والبيان والفرقان.

3- إعجابه الشديد بالمفكرين والفلاسفة الغربيين:
فكثيرًا ما يستشهد بهم وينقل أقوالهم، وعددهم بالعشرات، وأما تكرارهم فهو بقرابة عدد صفحاته، أما الصحابة y وعلماء الإسلام فبالكاد يذكرون، كعمر بن الخطاب  رضي الله عنه 4 مرات، وعلي  رضي الله عنه، وابن مسعود رضي الله عنه، وعمر بن عبدالعزيز، والشافعي 6 مرات، وأبو حنيفة 3 مرات، ومالك مرتين، والإمام أحمد ضمن ذكره للأئمة الأربعة، وشبيب بن شيبة، وواصل بن عطاء، وابن خلدون 3 مرات، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رشد، وبعضًا من الفلاسفة المنتسبين للإسلام، وإذا أخضعنا ذلك لمبدأ النسبية فهي نسبة لا تذكر في مقابل الفلاسفة الغربيين، أو الفلاسفة المنتسبين للإسلام من الحلولية والاتحادية، هذا فضلاً عن سبب إيراد أسماء أولئك الأعلام، وهذا يُبين حال أهل الأهواء، والمرء على دين خليله.

4- لمزه المتكرر لمبادئ الشرع (الثقافة الدينية) في جميع فصول كتابه
، صراحة أحيانًا ناسبًا تلك الثقافة إلى أنها نصوص تراثية منتقاة من قبل الفقهاء (ص/96)، وتلميحًا أحيانًا أخرى كقوله -ناقلاً في الثنايا عبارة ماكس فيبر-: "المشكلة أن الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه"، "شبكة من المعاني والرموز والإشارات التي نسجها الإنسان بنفسه؛ لإعطاء الغاية والمعنى لنفسه وجماعته والعالم والكون من حولهه"، ويقول: "تشبث الإنسان بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه يدفعه إلى منحها صفة السمو والقدسية في كثير من الأحيان، ناسيًا جيناتها الأولى"(ص/17)، "فتمنحها بالتالي نوعًا من القداسة والفردية والعلوية"([8])، ثم يتحدث عن الصدام بين الثقافات، ويقول بأنها "ليست متصادمة بطبيعتها، ولكن التشبث المطلق بها وبرموزها، وما يحمله ذلك من إضفاء السمو والقدسية عليها، هو الذي يدفعها إلى التصادم" (ص/17)، ويُنظر (ص/65، 70، 95)، ويقرر ذلك في كتابه السياسة بأن كثيرًا مما يقدسه الناس هو عادات وليس من الدين في شيء، ويقول: "والنظرة التقديسية للعادات والتقاليد تقف حاجزًا أمام الذهن وقدراته على التعامل مع متغيرات العالم من حوله"، ثم يعيد ويكرر في منح العادات القدسية([9]) ويحذر من "تقديس ما ليس مقدسًا أصلاً بدعاوى أيدلوجية متهافتة"([10])، فهو يرى أن كثيرًا من الأحكام التي يقدسها أهل السنة والسلفيون بالذات، وخصوصًا في باب التشريع والتحكيم والمعاملات هو من تقديس ما ليس مقدسًا، ونسي أو تناسى بسبب المفهوم العلماني والخلفية الليبرالية عنده أن الحكم والأمر لله قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون) يوسف.

5- ينقل مؤيدًا ومعقبًا عن أدونيس بتعريف الثابت والمتغير أو المتحول بأنها كلها تنهض على النص
، ويزيد المتحول بأنه فكر لا يرى في النص أيّة مرجعية، بل يعتمد على العقل لا النقل (ص/97)، وينتقد عزل النفس بالتشبث بمبادئ وقيم ونصوص تمنحها صفات الثبات والديمومة والنقاء، أو كون تلك النصوص هي المعيار (ص/99، 101)، فهو لا يرى قداسة لأي معتقد وقيم حتى ولو كان عمدتها النص الشرعي المقدس والمنزه عن كل عيب ونقص، وخصوصًا إذا كان في باب المعاملات؛ لأنه يخالف مبدأه العلماني والليبرالي.

6- يقف موقفًا سلبيًا من تحكيم الشرع الآلهي سواء كان محرفًا أم حقًا،
فيقول: "فالحق الإلهي في الحكم مثلا، كان هو النمط السائد في الغرب قديما، والصلة المباشرة بالآلهة كان هو النمط السائد في الشرق أساسا للشرعية السياسية، ومع الحداثة الأوروبية، وانتشارها عالميا، بدأت مفاهيم جديدة تدخل في تحديد شرعية السلطة، لعل أهمها مفهوم العقد الاجتماعي، الذي جعل من الترتيبات السياسية والاجتماعية مسألة بشرية بحتة، بعدما كانت أمورًا إلهية أو شبه ذلك، وانبثق عن هذا المفهوم مفاهيم أخرى في طبيعة السلطة مثل سيادة الشعب والأمة والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات والسلطة المقيدة، ونحو ذلك من مفاهيم كانت هي الأسس النظرية للديمقراطية المعاصرة"(ص/52)، فـ"السياسة في الإسلام هي من أمور الدنيا التي يجتهد فيها صاحب الأمر"([11]).

وليستمع ولنستمع إلى ما يقوله ابن تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد r فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب"([12])، ويقول ابن كثير: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر"([13]).

ويقول الشنقيطي: "الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله r، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم"([14])، وإن كان هذا لا يستلزم تكفير الأعيان إلا بعد إقامة الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع.

ود.الحمد لا يرضَ بحكم الشرع مرجعًا في أمور الحياة كلها، وهذا يوافق أصوله ومنطلقاته، فلا عجب، ولكن العجب ممن يدعو إلى الأخذ بكلامه، وينافح عنه، بل ويتبنى ذلك منهجًا له، فبغضه لموقف أو مواقف من المنتسبين لأهل السنة وللمنهج السلفي جعله يبغض منهج السلف ذاته ويعاديه، وهذا من التعدي، وهو باب الضلال والخذلان، هدانا الله إلى الطريق المستقيم.

7- يرفض القول بأنه لا اجتهاد مع النص في باب المعاملات،
وأن ذلك يدخل في الغلو في تديين الدنيا، ويرى أن النصوص الدينية المتعلقة بشؤون الدنيا قليلة وعامة ومفتوحة التأويل والتفسير بحسب مقتضيات القضية زمانًا ومكانًا، (ص/124) ، مُعرضًا عن ذكر السنة وموقفها مع القرآن إما مؤكدة أو مفسرة أو مقيدة أو مخصصة أو آتية بحكم زائد؛ بل يقف لقطعية دلالة النصوص بالمرصاد، ويجعل النصوص تُفسر بحسب مقتضيات العصر، ويقرر في كتابه السياسة "أن الدنيا (المعاملات) متروكة لأهلها حيث إنهم أعلم بأمور دنياهم"([15])، وهو يعمم ذلك في جميع مجالات الحياة، وهذا تقرير لمبدأ العلمانية في فصل الدين عن الحياة، التي وإن كان لها أثر إيجابي في مجابهة الكنيسة المحرفة، إلا أن تعميمها لتشمل دين الله المطهر يعد من الجناية التي لا تقبل، وهذا كمن يغرس شجرة فتجني له شيئا من الثمار في كندا فيسعى لغرسها في القطب الشمال ليجني نفس الثمار بغض النظر عن الظروف المحيطة بها.

8- ما أكثر المخالفات العقدية عند د.الحمد
، ومن ذلك لمزه بادعاء الحق المطلق في معتقد المسلمين، فيقول: "جُبل الإنسان عامة على الاعتقاد بأن ما يؤمن به هو كل الحق وما عداه باطل" (ص/66).

وهذا الاعتقاد عند المسلمين -الذي لم يرتضِه- هو مأخوذ من شرع ربهم، يقول تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) الحجرات، فمن شك في هذا الدين فليس من المؤمنين، ولذا كان اليقين من شروط الإيمان.

9- ينفي د.الحمد وجود معيار حقيقي واضح ومتفق عليه
لما هو أصيل ودخيل (ص/100)؛ بل للمسلمين معيار حقيقي هو الكتاب والسنة فهم يزنون بالأصول الثلاثة -الكتاب والسنة والإجماع- "جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين"([16]).

10- كذلك عن مسألة نهاية الدنيا وعلامات الساعة
وبعثت أنا والساعة كهاتين نجد د.الحمد يلمز في ذلك بأن الشعوب والفلسفات الدينية تميل إلى الاعتقاد بفكرة نهاية التاريخ (ص/77).

11- تمجيده للثقافة والحضارة الغربية،
وأنه علينا أن نسير بركبها لأنها قادمة شئنا أم أبينا في جميع فصول كتابه، وهذه خلاصة يستخلصها من قرأ جميع كتبه الأربع، فهو يعظم تلك الحضارة أيما تعظيم ويراها المنتهى، بل يرى في كتابه الثقافة العربية في عصر العولمة أنه لا مجال للنقاش في القول بأن الحضارة الغربية المعاصرة هي أرقى ما توصل إليه الإنسان في تاريخه، سواء تحدثنا عن المنجزات المادية البحتة، أو تلك المتعلقة بالنظم والمذاهب السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية(ص/80)، وهذه من طوامه العُظمى، فأين شرع الله وكماله في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟! وأين عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين؟!

12- يستعمل أفكار مؤلفين غربيين للحديث عن "الاتجاهات الإسلاموية"
(ص/41، 93), وهذا يدل على أن د.تركي في حقيقته هو ناقل عن غيره، ومترجم لما كتبوه من أفكار، فهو مرآة تعكس ثقافة غربية.

13- يطالب بعقلنة العقل العربي قبل تشريع الشافعي له
(ص/123، 130)، دون أن يبين المطلوب بالضبط، فهل عقلنـته على نموذج صدر الإسلام أم نموذج ما قبل الإسلام أم نموذج عصري ترتضيه العولمة الثقافية.

وقصد الحمد بتشريع الشافعي للعقل العربي هو ما وضعه هذا الإمام في الرسالة في علم أصول الفقه، وهو بذلك -فيما يظهر- تابع للجابري، الذي يرى بأن مكانة علم أصول الفقه من الفقه بمكانة المنطق من الفلسفة، ولذا فأن مهمة الفقه كما يرى الجابري هي التشريع للمجتمع ومهمة أصول الفقه هي التشريع للعقل العربي، حيث إن طريقة العقل العربي واحدة سواء في النحو أو الفقه أو الكلام، فالشافعي وضع قواعد لتكوين العقل العربي، وشبّه الجابري رسالة الإمام الشافعي بالنسبة للعلوم البيانية بقواعد المنهج الديكارتي([17])0

14- يدعو إلى الدخول في العولمة وهذا شأنه،
ولكن الإشكال الأكبر هو لمزه بقوله: "على تلك الثقافات القديمة إما أن تطور نفسها وتدخل ميدان المنافسة، وبالتالي تشارك في صنع الثقافة الجديدة، أو تنعزل وتحاول الدفاع عن نفسها وعن وجودها، وهي طريقة غير مجدية في ظل جميع أسلحة العولمة، ويكون الاندثار هو المآل"، ويسميها حينًا آخر بالثقافات التقليدية العريقة (ص/21، 103، 118)، وبطبيعة الحال يستخدم التصريح أحيانًا والتلميح أحيانًا أُخرى، فإن سألنا عن مراده بالثقافات التقليدية العريقة والثقافات القديمة؛ فهي تلك الثقافات المبنية على نصوص الكتاب والسنة، فهو لا يريدها أن تقف أمام تلك الحضارة الغربية التي أبهرته وأبهرت المنهزمين أمثاله.

15- يدعو في كتابه إلى ممارسة الحضارة التقنية المعاصرة ثم نقدها،
فيقول: "قد يكون بالإمكان نقد الحضارة التقنية المعاصرة فلسفياً وقيمياً، ولكن نقد الشيء لا يكون قبل ممارسته، فتيارات ما بعد الحداثة الأوروبية جاءت بعد ممارسة الحداثة، ولذلك لا يستقيم بالنسبة لنا أن ننتقد ما لم نمارس، وأن نشجب ما لم نجرب" (ص/102)، فهو يدعو إلى أن نجرب القيم والفلسفات الغربيـة -بما فيها من خلل فكري وعقدي واجتماعي- قبـل أن نمارس النقد، وليست التجربة عندنا بأقوى من نصوص الشرع، فما حكم الشرع ببطلانه في أمور حياتنا وتحريمه فهو كذلك، ولا نجرب المبادئ والقيم المحرمة في شرعنا لننتظر تلك النتائج، فالحياة مزرعة الآخرة، وربنا يسر لنا في شرعنا أمور الدين والدنيا معا، ولن نجرب اللحم المسموم لنرى هل هو مميت أم لا؟! فديننا أغلى وأعز علينا من أن يكون محلاً لعبث العابثين.

16- اتهامه الفكر العربي والإسلامي خصوصاً بأنه مؤدلج،
وبالتالي فهو لا يصلح أن يكون عالمياً (ص/181)، فـ"مشكلتنا في الوطن العربي هي مشكلة أيدلوجية بشكل خاص، وكل إشكالاتنا إنما تتفرع من هذه المشكلة في المقام الأول"، "إن جميع المشكلات التي يثيرها المجتمع أو يفرزها إنما تصل إلى الذهن أو الوعي عن طريق وسيط معين، هذا الوسيط هو الأيدلوجيا"، ثم يسترسل في تقرير ذلك([18])، وما الذي جعل فكر المسلمين مؤدلجًا إلا نصوص الوحي، فالأيدلوجيا([19]) للمسلمين تكون بمعنى الأصول الإسلامية([20])، فهو يريد المسلمين بلا أفكار ولا معتقدات سابقة لأمور الحياة، بل أمور الحياة تترك للعقول القاصرة والأهواء الفاتنة لتتصرف فيها كيفما شاءت، وهذا كما تكرر مصبوغ بالصبغة العلمانية.

17- يحذر من الخوف الهوسي من العولمة،
ويرى د.الحمد أن "الخوف الهوسي من نتائج العولمة قضية مبالغة فيها" (ص/22)، بل يشجع على الاندماج في العولمة فيقول: "فالعولمة ليست شرًا كلها، بل ليست شرًا على الإطلاق، حين يُعرف كيف التعامل معها"، ويرى أن العولمة لن تكون ملومة إذا لم تسارع المجتمعات للمشاركة والمنافسة في أخذ إيجابيات هذه التحولات المتسارعة "والقضاء على هذا الخوف الهوسي من ضياع الهوية والثقافة الذاتية" (المقدمة ص/13، 87، 178، 195، 209، 210)، ويؤكد في كتابه السياسة على أن "الهوية والثقافة الذاتية" "أمور هلامية" "ليست شيئا ثابتًا"([21])، وهو بذلك يعمم على القيم التي جاء بها الشارع الحكيم، وهي التي يتشبث بها المسلم، وهي عقائد قيم واضحة وضوح الشمس راسخة رسوخ الجبال لأنها من الله الحكيم العليم، (ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا) النساء: ٨٢، وخوف المؤمن على سلامة معتقده أمر مشروع؛ فنبينا r كان يخاف على دينه، يروي عبدالله بن عمرو بن العاص  رضي الله عنه أنه سمع رسول الله r يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء))، ثم قال رسول الله r: ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك))([22])، وهذا إبراهيم الخليل r يتوقَ الشرك ويخافه على بنيه أيضًا فيقول (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) إبراهيم: ٣٥، فليتهم يعقلون أن هذا ليس خوفًا هوسيًا، بل خوف إيماني لمن أدرك الحقيقة وآمن بالله ربًا وخالقًا وإلهًا معبودًا.

18- يرسخ د.الحمد قضية العولمة بأنها حتمية؛
فهي "عملية تاريخية جارية، أي أنها حتم معاش، وبالتالي فالقضية ليست اختيار أيدلوجي أو سياسي في أن نقبلها أو لا نقبلها"(ص/22) فالتغيير "قادم قادم بهذا الشكل أو ذاك"([23])؛ بل يستحيل خيار العزلة باسم الهوية والثقافة الذاتية في نظره (ص/100)، وهنا ليس لنا إلا فتح النوافذ للشمس أو الهواء، وإلا فالانقراض (ص/105)، ويصل د.الحمد إلى الانهزامية وضياع الهوية بقوله: "لن تستطيع الثقافات التقليدية العريقة أن تفعل شيئاً أمام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وإمكانيات قادرة على اختراق الغرف المغلقة" (ص/118)، فهو يرى أنها سنة ماضية، وبطبيعة الحال هو يرضخ للضغط العالمي وللمنحنى الليبرالي، وحتمية الواقع هي بمنظوره الدنيوي القاصر الذي يتقلب مع الغالب حيث كان وكيفما كان، وأما سنن الله الكونية فلا تكون بحسب أهوائهم (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فه عن ذكرهم معرضون) المؤمنون: 71، بل إن سنة الله الكونية هي انتصار الحق ولو كان أهله قلة، (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون) التوبة:48 (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) الإسراء: 81 ، فالحق لا يضره كثرة المنتسبين للباطل.

19- يحارب الرافضين للعولمة والثقافة الغربية رفضًا مطلقًا باسم حماية الخصوصية الثقافية والهوية،
ويؤكد أن "مصيرهم الاندثار"، ولكنه يستدرك بأن من ترك نفسه للموجة فنفس المصير، مع تناقضه هنا حيث يرى أنها ليست بشر مطلقًا، وقد وعد الله المؤمنين الصادقين المتمسكين بتلك الأصول العقدية التي يقدح فيها د.تركي وعدهم سبحانه بالتمكين وليس الاندثار، والحق ما قاله الحق سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا) النور ٥٥.

20- يدعو د.الحمد إلى بناء الثقافة العالمية والإنسانية المشتركة بغض النظر عن أصل ومنشأ هذه الثقافة،
ومهما كانت المشاركة ضئيلة فذلك خير من الاندثار(ص/23، 178) وأن "تبقى الذات حبيسة الذات"([24]) ويتناسى أن الغالب والقوي يفرض ثقافته، ويدعو -في كلام طويل له وضرب أمثلة- إلى أن تكون ثقافتنا مثل بقية الثقافات في قابليتها في الاندماج "في ثقافة العصر"([25])، باختصار هو يحارب كل ثقافة تخالف قيم الحضارة الغربية -في شتى ميادينها- أيًا كان مصدرها، أما إن لم تخالفها وانصهرت فيها فلا إشكال عنده فيها، كما يكرر مرارًا قصة أكل البقرة دون أن يصبح الآكل بقرة، وكما يكرر تكرارًا مملاً نموذج اليابانيين، فهو منهزم بل منبطح لتلك الثقافات تفعل وتحكم ما تشاء.

21- يحارب العودة إلى التراث ورفض المتغيرات المخالفة لذلك التراث،
ويرى "أن مثل هذا الرفض لن يؤدي إلى نتيجة إيجابية"، وكأنه يشير إلى الجهاد بالعنف وأنه لا يكون نتيجة لحلم الماضي الجميل، ويعبر عن ذلك بعنوانه "النستولوجيا([26]) والعنف"(ص/40)، "نحن أمة تنتمي إلى الماضي ذهنيًا وتعيش في الحاضر ماديًا وتريد السيطرة على المستقبل أملاً وحلمًا، دون أن تمتلك مفاتيح هذا المستقبل كيف يكون ذلك"([27])، ويرى د.الحمد أن مثل هذا الفهم للثقافة "الماضوي في بنيته، والنستولوجي في شكله، والمؤسطر للتاريخ، لا يمكن أن يتعايش مع ثقافة مستقبلية في بنيتها مثل ثقافة العصر الذي نعيشه"(ص/127)، ويقرر ذلك في كتابه الثقافة العربية أمام تحديات التغيير فيعقد مبحثًا عن الخصائص العامة للثقافة العربية ويجعل أول خاصية من خصائصها أنها "ماضوية في مقابل المستقبلية" ويؤكد "أن المستقبل في حالة الثقافة العربية وآلية إدراكها يقع هناك في الماضي وليس هناك في المستقبل التاريخي المحسوم والمحكوم بآليات الواقع وديناميكية التحول والتغيير"([28])، ويذكر أن الثقافة العربية "تحاول التمسك بأصالتها التي هي في حقيقة الأمر تلك النزعة الماضوية (النكوصية) المتحدث عنها سابقًا"([29])، وهي ما يعبر عنها بـ"سلطة الماضي على الحاضر" ويحذر من ذلك أشد التحذير([30])، فهو لا يريد تلك النصوص الشرعية والآثار السلفية؛ لأنها تتدخل في سياسة الناس وأمور دنياهم، وهذا يخالف أصلاً من أصوله كما تقدم وهو الفصل بين الدين والدنيا، ويرى أننا إذا رجعنا إلى تلك الأصول فلا يمكننا الحياة في مثل هذا العصر؛ فتركي الحمد يعيش بل يرتمي في الأحضان الغربية، ويجفو بل يحذر من أن يكون الشرع له سلطة على الحاضر؛ لأن ذلك لا يتواكب والحضارة الغربية العلمانية.

22- يدعو د.الحمد إلى انقلاب معرفي مع تراثنا كما فعل الغرب في نهضته،
وكأنه يُشير إلى أنه لا نهوض لنا إلا إذا عملنا مثل ما عمل الأوربيون في نهضتهم، فالنهضة الأوربية قامت عندما أحدثت القطيعة المعرفية أولا والاجتماعية ثانيًا مع التراث، ويقول: "إننا بحاجة إلى العودة، طالما أننا نحب مفاهيم العودة والرجوع إلى الوضع الثقافي والمعرفي الذي كان سائداً قبل تشريع الشافعي للعقل العربي الإسلامي أو عقلنة العقل العربي الإسلامي، وفق المفهوم العربي للعقل" (ص 130)، ويستهزئ بكوننا خير أمة أخرجت للناس (ص/128-129)، بل أكد ذلك بقوله:" فلسنا أفضل الأمم بل نحن أمة من أمم"(ص/130)، ونسي أو تناسى قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الكافرون) آل عمران: 110 ، كما يتناسى أن تراث الأوربيين يختلف تمامًا عن شرع الله المطهر من كل نقص، الذي يشجع على العلم والتقدم والأخذ بأسباب القوة، بخلاف ما كانت عليه الكنيسة من محاربة العلم والتطور، فربنا بين لنا أن كل ما في الأرض مسخر لنا، والأصل فيه الإباحة، فلا تناقض بين الشرع والحضارة والتطور، بل الشرع مشجع لذلك لأنه من عمارة الأرض (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) البقرة:٢٩.

23- يقدح في السلفية الثابتة على مبادئها،
والتي تسير مع النص الشرعي حيث سار، فيعتقد أن علّة العقل العربي تكمن في سلفيته غير القابلة للتغيير، فمثقف اليوم ليس إلا امتداداً لنخبة الأمس الفكرية في تعاملها مع المجتمع وقضاياه، فهو لا يتغير مع المتغيرات ولا يحاول فهم معناها الحقيقي (ص/138)، بل ويجعل في كتابه السياسة مبحثًا خاصًا يدعو فيه إلى أن"نسيان الماضي طريق المستقبل" ويؤكد على أن "محاولة إحياء الماضي ونفخ الروح فيه غير مجدية"([31]) ويرى أن "كلمات مثل البرجوازية والبروليتاريا والليبرالية والسلف الصالح ...لا تعني شيئًا لجمهرة الناس" "والمحصلة النهائية ضياع صورة الواقع التاريخي والمعاش وقطع قنوات الاتصال وبالتالي التخبط الحضاري الذي نعيشه"([32])، فهو يرى أن العلة في المحن والمصائب هي تلكم السلفية المتمسكة بمبادئها المرتبطة بتاريخها "الماضوي" التي تحاول نفخ الروح فيه، ولا حضارة ولا تقدم إلا بنسيان ذلك الماضي، وإذا ضممنا كلامه بعضه إلى بعض من مصادره المختلفة رأينا أن هدفه الذي يعنيه ويصبو إليه هو العلمانية أو اللادينية التي تفصل الدين عن الحياة، تلك الشجرة الخبيثة التي ربما أنبتت في تلك البيئة المنحرفة المحرفة لدين ربها، فأراد هؤلاء محاولة زرع تلك الشجرة في بيئة لا تناسبها البتة، وهاهم العلمانيون تصدروا وحكموا في كثير من البلاد الإسلامية فما هي ثمارهم ونتائجهم إلا ضياع الهوية والتخلف الحضاري، والأمر بيد الله يحكم ما يشاء ويقضي ما يريد (لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) الرعد: 41، وأما السلف الصالح فقد سطروا أروع الحضارات في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وبين الرعية أنفسهم، وفي التعامل مع المخالفين من أهل الكتاب وغيرهم، وكيف كان تقدمهم في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن تلك الأرواح الطاهرة المؤمنة السعيدة بإيمانها المشتاقة إلى لقاء ربها.

هذا ما تسنى لي جمعه عن تركي الحمد في كتبه الأربعة السابقة، وختاما أقول: ثبتنا الله على دينه، وأحسن نيتنا وخاتمتنا، وجمعنا بنبيه محمد r والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة الأبرار الأطهار y وبسلفنا الصالح ووالدينا وأزواجنا وأهلينا ومشايخنا وأصحابنا وأحبابنا في مستقر رحمته ودار كرامته إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد،،،

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا،،،،،،

-----------------------------------------------
[1] - بدائع الفوائد (3/661).
[2] - الصواعق المرسلة (3 / 927).
[3] - تفسير السعدي (ص/61).
[4] - يُنظر الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص/488).
[5] - الصواعق المرسلة (3 / 995).
[6] - يُنظر موقع ويكيبديا، ومواقع صحفية كالرياض وغيرها التي عرفت بالكاتب د. تركي الحمد.
[7] - يُنظر كتابه: السياسة بين الحلال والحرام، الطبعة الثانية -2001م، الناشر: دار الساقي -بيروت (ص/78).
[8] - كتابه: الثقافة العربية أمام تحديات التغيير، الطبعة الأولى -1993م، الناشر: دار الساقي -بيروت (ص/36).
[9] - كتابه: السياسة بين الحلال والحرام (ص/43-44).
[10] - يُنظر كتابه: الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (ص/20-21).
[11] - يُنظر كتابه: السياسة بين الحلال والحرام (ص/70).
[12] - مجموع الفتاوى (28 / 524)، لابن تيمية، الناشر : دار الوفاء، الطبعة : الثالثة، 1426 هـ.
[13] - البداية والنهاية (13 / 139) لابن كثير، الناشر : دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1408 هـ.
[14] - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3 / 259) الشنقيطي، الناشر : دار الفكر - لبنان، 1415 هـ.
[15] - يُنظر كتابه: السياسة بين الحلال والحرام (ص/134)، ويُنظر (ص/61-62).
[16] - مجموع الفتاوى -الواسطية- (3/157).
[17] - يُنظر تكوين العقل العربي للجابري (ص/100-104)0
[18] - كتابه: دراسات أيديولوجية في الحالة العربية، ، الطبعة الأولى -1992م، الناشر: دار الطليعة -بيروت (ص/81-83).
[19] - مصطلح لا تيني بمعنى "علم الأفكار"، وتشير الكلمة إلى مجموعة متماسكة من الأفكار والمبادئ التي تقدم لنا دليلاً للعمل وفق هذه الأفكار التي يعتنقها مجموعة من الأفراد.
[ يُنظر: موسوعة السياسة، د.عبدالوهاب الكيالي وماجد نعمة ود.محمد عمارة، وآخرون، الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة : الثانية، 1985م، (1/421-422)، والموسوعة الميسرة للمصطلحات السياسية، إسماعيل عبدالفتاح عبدالكافي، الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر -بيروت، الطبعة : الثانية، 1985م، (ص/36-37)].
[20] - معجم المناهي اللفظية، ويليه فوائد في الألفاظ، للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد، الناشر: دار العاصمة -الرياض، الطبعة: الثالثة، 1417ه‍، (ص/372).
[21] - كتابه: السياسة بين الحلال والحرام (ص/49-51).
[22] - أخرجه مسلم في صحيحه برقم (6921).
[23] - كتابه: السياسة بين الحلال والحرام (ص/313)، ويُنظر: العرب والعولمة (ص/134-135).
[24] - كتابه: السياسة بين الحلال والحرام (ص/304).
[25] - يُنظر كتابه: الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (ص/48-53).
[26] - النستولوجيا هي عبارة عن توق غير سويّ للماضي، أو إلى استعادة وضع يتعذر استرداده، وهو وضع ناتج إلى حد كبير عن عدم قدرة الذات على التكييف مع المستجدات والمتغيرات خاصة إذا كانت متسارعة وعظيمة الأثر، وعدم القدرة على الاندماج والاجتماع بالتالي، ومن ثم خيبة الأمل من تحقق التوقعات، إنها نوع من أنواع اغتراب الذات إلى حدّ كبير.
ويُنظر كتابه: الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (ص/75).
[27] - كتابه: الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (ص/75).
[28] - ويُنظر كتابه: الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (ص/29-34).
[29] - كتابه: الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (ص/38).
[30] - يُنظر كتابه: دراسات أيديولوجية في الحالة العربية (ص/92) و(ص/95).
[31] - يُنظر كتابه: السياسة بين الحلال والحرام (ص/298-303).
[32] - يُنظر كتابه: دراسات أيديولوجية في الحالة العربية (ص/106).
 


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية