صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







المآثرُ الحِسان لخير ملوك الأمة معاوية بن أبي سفيان

موسى الغنامي


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ


الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه ومن والاه ,,,, أما بعد


إن هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوءٍ ؛ ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين .
توقيع / إمام دار الهجرة مالك بن أنس
الصارم المسلول ص 580

تتسارع الأيام , وتتوالى الحوادث , فما نُفيق من صدمةٍ إلا وتتلوها أخرى ! حتى صار أهل السنة كالغنم الشاتية , في وادي سباعٍ ضارية ؛ قلّ دَلِيلُهم , وإن كَثُر المدّعون لذلك , ولم يُسمع لناصحهم , لكثرة المنادين للفتن والمهالك , فلا سيفٌ حاصدٌ تُؤمّن به سُبُل المؤمنين إلى ربهم , ولا إيمانٌ رادعٌ لمن يسوّق الضلالة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم , والله المستعان .

أيها المباركون
نَعَقَ قبل أيامٍ غرابُ بَيْنٍ , نبّاشٍ عن الجيف , قائلا لأصحابه : هلمّوا إلى الطعام المرذول , يا عديمي الدينِ العقول ! فترازحت حوله قطعانٌ أشبه ما تكون في جِرمها إلى البشر عند الناظر من بعيد , فإذا قَرُبَ الناظر خَشِي على نفسه التصديق بقول إمام الملحدين دارون في أصل خلقة الإنسان !

أيها المباركون
إن المدافع عن السنة المطهرة يضيق وقته بأن يُدافع عنها في كل قولٍ شاذٍ وفاذّ , شارد ووارد , لكثرة المتربصين الحاقدين من مثيري الفتن بين الناس , لكن الحمل ثقيل على أهل العلم وطلبته في تبيين الحقائق للناس " مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " , ومن أعظم سُبل الدفاع : الذب عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بل هذا من أوجب الواجبات وأعظم القربات , ولو قسّمنا خطوط الدفاع الأُول في ديننا الإسلامي إلى ثلاثة خطوط والتي يحاول الأعداء بجميع فصائلهم الوصول إليها لهدمها لما بعُد :
أولها : الله عز وجل
وثانيها : رسوله صلى الله عليه وسلم
وثالثها : الصحابة الكرام رضي الله عنهم .


ولو أخذنا بقاعدة الأصوليين في الإلزام المُطّرد , لقلنا بأن المُتنقّص للصحابة يلزمه التنقُّص للنبي صلى الله عليه وسلم ودليله العقلي قول الإمام مالك رحمه الله الذي صدرتُ به المقال , فإذا ساغ لهم تنقُّص الصحابة كان ذلك مدخلا للتنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا وُجِدَ المدخل -عقليا -على النبي صلى الله عليه وسلم لحِقَ الله تبارك وتعالى النقص ! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
فانظر إلى عظيم خطرهم على أديان الناس وعقائدهم !

أيها المباركون
تكلّم الأفاك الأثيم , شيبة المميعين في هذا العصر , أحمد الكبيسي , فقال زورا , وأظهر منكرا , " ومن رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس بعد ذلك حبة خردل من إيمان " , فشبّه هذا المخذول معاويةَ رضي الله عنه بإسماعيل الصفوي !
ونبز المدافعين عن معاوية رضي الله عنه بالناصبة !
وكذب عليه حين قال بأنه أمر بسبّ علي رضي الله عنه على المنبر !

ودلّس وخلط , وأفحش في الغلط ؛ حين قسَّم المحبة والولاء , والجنة والنار للمُتخيّر على عليّ أو معاوية رضي الله عنهما !

وفي دون هذا تُبرى الأقلام , ويُشرع الجهاد بالكلمة نصرة لله ورسوله وصحابة رسوله صلى الله عليه وسلم , فإن لم يُحمل القلم دفاعا عن هؤلاء العُصبة فو الله إن كسره متعيّن , والهرب من ميدان المعركة متقرر ؛ وحينئذ فناء الأمة خيرٌ من بقاءها , وباطن الأرض أستر من ظاهرها , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

أيها المباركون
سأستعرض على عجل بعض مآثر هذا الصحابي الجليل , ليُعرف قدره , وتتبيّن منزلته , فهو السيد ابن السيد , عظيم النسب , رفيع الحسب , أحد دهاة العرب المعدودين , وملوكهم العادلين , رضي الله عنه وعن أبيه , وجمعنا بهم في الجنان مع المصطفى صلى الله عليه وسلم .
معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة القرشي , أول ملوك هذه الأمة , وقد جاء عند الدارمي من حديث أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه " أول دينكم نبوة ورحمة ، ثم ملك ورحمة ، ثم ملك أعفر ، ثم ملك وجبروت يُستحل فيها الخمر والحرير " .
(2/1334) وله شواهد وحديث الباب فيه انقطاع !
وقد جاء عنه رضي الله عنه قوله : " أنا أول الملوك " .
( مصنف ابن أبي شيبة 6/207 )

وقد أسلم رضي الله عنه قبل أبيه وقبل الفتح وقيل في وقت عمرة القضاء (السير 3/120) لذا فهو ليس من الطلقاء ولا من المؤلفة قلوبهم وإن زعم كثيرٌ ذلك , بل أصبح القول لشهرته كالمُسلّمة عند بعضهم !

فقد جاء عنه رضي الله عنه قوله : " أسلمتُ يوم القضيّة وكتمتُ إسلامي خوفا من أبي " أي يوم عمرة القضاء .
(ابن عساكر 5/19) .

وجاء عنه رضي الله عنه قوله : " لما كان عام الحديبية ، وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت ، وكتبوا بينهم القضيّة ، وقع الإسلام في قلبي ، فذكرتُ لأمي ، فقالت : إياك أن تخالف أباك ، فأخفيت إسلامي ، فو الله لقد رحل رسول الله من الحديبية وإني مصدقٌ به ، ودخل مكة عام عمرة القضية وأنا مسلم . وعلم أبو سفيان بإسلامي ، فقال لي يوما : لكن أخوك خيرٌ منك وهو على ديني ، فقلت : لم آل نفسي خيرا ، وأظهرت إسلامي يوم الفتح ، فرحّب بي النبي صلى الله عليه وسلم وكتبت له "
(ابن سعد 7/406) .

قال الذهبي رحمه الله بعد أن ساق هذا الأثر : قال الواقدي : " وشهد معه حنينا , فأعطاه من الغنائم مائة من الإبل ، وأربعين أوقية ."

قلت " أي الذهبي " : الواقدي لا يعي ما يقول ، فإن كان معاوية كما نُقل قديمُ الإسلام ، فلماذا يتألّفه النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ولو كان أعطاه ، لما قال عندما خَطَبَ فاطمة بنت قيس : أما معاوية فصعلوك لا مال له "
(السير 3/122)

وقد ثبَتَ أن معاوية رضي الله عنه كان كاتبا للوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , ففي صحيح مسلم أن أبا سفيان رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال ذكر منها " وأن تجعل معاوية كاتبا بين يديك , قال نعم " (4/1945)
وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنهما " أدع لي معاوية " وكان كاتبه . (5/217)

وأصله في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كنت ألعب مع الصبيان ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب ، قال فجاء فحطأني حطأة ، وقال : «اذهب وادع لي معاوية» قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، قال : ثم قال لي : «اذهب فادع لي معاوية» قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : «لا أشبع الله بطنه». (4/2010)
وقد تمسّك بهذا الحديث بعض المفتونين للقدح في معاوية رضي الله عنه , ولا ممسك لهم في ذلك !

وتخريج هذا الحديث واضح كما بوّب عليه النووي رحمه الله بقوله " باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك , كان زكاة وأجرا ورحمة " !
وقال الذهبي رحمه الله : " أشبه منه _أي الحديث_ قوله عليه السلام اللهم من سببته أو شتمته من الأمة فاجعلها له رحمة "
( السير 3/124)

وقد جاء في فضائله كثير من الأحاديث لكن عامتها ضعيف الإسناد , والثابت قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه : " اللهم أجعله هاديا مهديا وأهد به " كما عند ( الترمذي 5/687 ) , و( أحمد 29/426) وغيرهما من طرق كثيرة يدل مجموعها على ثبوت الخبر .
أما ثناء الصحابة عليه فكثير جدا يحتاج لكراريس وكراريس , منها :

قول عمر رضي الله عنه : " هذا كسرى العرب "
( أسد الغابة 4/145)

وقال علي رضي الله عنه : " لا تكرهوا إمارة معاوية , فو الذي نفسي بيده ما بينكم وبين أن تنظروا إلى جماجم الرجال تندر عن كواهلها كأنها الحنظل إلا أن يفارقكم معاوية " .
( مصنف ابن أبي شيبة 7/548 )

وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان ممن اعتزل الفتنة : " ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب . يعني معاوية " .
( تاريخ الإسلام 2/544)

وقال ابن عمر رضي الله عنهما : " ما رأيت أحدا بعد رسول الله أسود من معاوية» ، قيل : ولا أبو بكر ؟ قال : «ولا أبو بكر ، قد كان أبو بكر خيرا منه ، وكان أسود منه» قيل : ولا عمر ؟ قال : «والله لقد كان عمر خيرا منه ولكنه كان أسود منه» . قيل : ولا عثمان ؟ قال : «والله إن كان عثمان لسيدا ولكنه كان أسود منه "
( الآحاد والمثاني 1/379 )

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " ليس أحدٌ منا أعلم من معاوية "
( مصنف عبد الرزاق 3/20 )

وقال كعب بن مالك رضي الله عنه : " لن يملك أحد هذه الأمة ما ملك معاوية " .
( الطبقات الكبرى 4/111 ) .

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه : " احذروا قرم قريش وابن كريمها من يضحك عند الغضب ، ولا ينام إلا على الرضا ، ويتناول ما فوقه من تحته " .
( العقد الفريد 5/111 )

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه _وكان بينه وبين معاوية شيء_ : " ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا يعني معاوية "
( مسند الشاميين 1/168 )

وقد كان مُحسنا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , وقد سارت بهذا الركبان , وتواتر حتى كاد أن يستقيم بلا برهان ومن ذلك :
قال سعيد بن عبد العزيز : " قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشر ألف دينار " .
( البداية والنهاية 8/136 )

وقال عروة رحمة الله : " بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف فو الله ما أمست حتى فرقتها " .
( سير أعلام النبلاء 3/154 )

وقال قتادة رحمه الله : " قال معاوية لابن عباس رضي الله عنهم : " لا يسوؤك الله ولا يحزنك في الحسن . قال : أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين فلن يسوؤني الله , ولن يحزنني !
قال : فأعطاه ألف ألف من بين عروض وعين , وقال : أقسمه في أهلك
.
( سير أعلام النبلاء 3/156 )

وأصل هذا البحث هو لدفع الشبه المثارة على معاوية رضي الله عنه , وإلا لو كان لتعديد مآثره لضاق بياض الورق بسواده , وسأستعرض بعض ما يذكره المخالفين عن معاوية رضي الله عنه لدفع شبه المدلسين على عوام المسلمين :

الشبهة الأولى : قالوا أنه كان يسبّ النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه وأنه أسلم نفاقا !

وهذه الفرية يدندن حولها الرافضة وبعض المترفضين ممن تلبس لبوس أهل السنة زورا كحسن فرحان المالكي " قيّض الله له يدا من الحق حاصدة " .
والعجيب أن في هذه الفرية الدويّة لا يقدمون لها نقلا ولا عقلا ؛ سوى بعض القصص التي يدور قطب رحاها على وضّاع أو متهم بالكذب ؛ والرد عليها من وجوه :

أولا : كان إسلام معاوية رضي الله عنه في مكة قبل الفتح كما جاء مقررا في أول البحث .
ثانيا : لم يثبت عن معاوية سبٌ لعلي رضي الله عنهما فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم !

ويدل لذلك أنه مات رضي الله عنه وعمره 77 سنة , عام 60 للهجرة , ولو عملنا حسبة يسيرة لقلنا أنه ولد قبل البعثة بثلاث سنين وقد جاء أن أمه هند بنت عتبة رضي الله عنها كانت ترقصه وهو صغير أيام بعثته صلى الله عليه وسلم , فيصبح عمره حين أسلم بعد ذلك قبيل البلوغ أو بعده بيسير على ما تقرر من أن إسلامه كان قبل الفتح , وبهذا انتفت سُبته للنبي صلى الله عليه وسلم لصغر سنّه وعدم ورود الدليل على ذلك .

ثالثا : مسألة نفاقه وهي مسألة تنادي على نفسها وقائلها بالخذلان ومع ذلك وجدت من عديمي العقل والدين من يتشبّث بها وينتصر لها !
ولا يوجد أحد من السلف قال بهذا القول , حتى من أُتهم بالكذب في السيرة والتاريخ كالواقدي والكلبي وغيرهما !

وعليه فحقوق هذا القول موسومة للرافضة والمترفّضين كالسّابق ذكره نسأل الله العافية في الدين والدنيا !
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " ومعاوية وعمرو بن العاص وأمثالهم من المؤمنين ؛ لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق " .
( الفتاوى 3/449)

الشبهة الثانية : قتاله لعلي رضي الله عنه :

وقبل الشروع في جر ذيول هذه المسألة , يجب أن نعرف أن أنداد الهاشميين في الشرف والعز والسؤدد هم بنو أمية , ولذا لما سُئل المنصور العباسي عن أكفائهم من العرب فقال : أكفاؤنا أعداؤنا بنو أمية " .
( الطبري 5/554 )

ولأجل هذا التسابق على الرياسة والعز والشرف بين بني هاشم وبني أمية تكثر الحزازات بين النفوس وهذا أمر طبعي جبلي .
ولعلي أضرب مثالين في هذا الباب يبين بوضوح أثر هذا الأمر على المتنافسين على الزعامة القرشية :

المثال الأول :
فهذا أبو جهل بن هشام الأموي منعه من الدخول في الإسلام منافسته لبني هاشم على السؤدد والشرف , قال المغيرة بن شعبة : إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني كنت أمشي مع أبي جهل بمكة ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا أبا الحكم ، هلم إلى الله وإلى رسوله وإلى كتابه أدعوك إلى الله ، فقال : يا محمد ، ما أنت بمنته عن سب آلهتنا ، هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت ، فنحن نشهد أن قد بلغت ، قال : فانصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علي فقال : والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا : فينا الحجابة ، فقلنا : نعم ، ثم قالوا : فينا القِرى ، فقلنا : نعم ، ثم قالوا : فينا الندوة ، فقلنا : نعم ، ثم قالوا : فينا السقاية ، فقلنا نعم ، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا : منا نبي ! والله لا أفعل .
( مصنف ابن أبي شيبة 7/255 )

المثال الثاني :
وهذا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه دخل في الإسلام حمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم , قال محمد بن كعب القرظي : كان إسلام حمزة بن عبد المطلب رحمه الله حمية، وكان رجلا راميا ، وكان يخرج من الحرم فيصطاد ، فإذا رجع مر بمجلس قريش ، وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة ، فيمر بهم فيقول : رميت كذا ، وصنعت كذا وكذا ، ثم ينطلق إلى منزله ، وأقبل من رميه ذات يوم ، فلقيته امرأة ، فقالت : يا أبا عمارة ، ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل بن هشام ؟ تناوله وفعل به وفعل . فقال : هل رآه أحد؟ قالت : إي والله لقد رآه ناس . فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة ، فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم ، فاتكأ على قوسه ، فقال : رميت كذا وفعلت كذا ، ثم جمع يده بالقوس ، فضرب بها بين أذني أبي جهل ، فدق سيتها ، ثم قال : خذها بالقوس ، وأخرى بالسيف , أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه جاء بالحق من عند الله " .
( المعجم الكبير 3/139 )

وبعد هذين المثالين يُعلم ما كان بين الحيين من المنافسة , وعلي رضي الله عنه من هاشم , ومعاوية رضي الله عنه من أمية كما هو معلوم , فلا يحق لأحد الكلام في هذه المسائل المفصلية إلا بعد أن يعلم واقعهم .

أما مسألة قتال معاوية لعلي رضي الله عنهما , فيُخطئ كثير من المؤرخين بإرجاع سببها إلى الملك والمنازعة عليه , وللأسف تجد كثيرا ممن يُنسب إلى العلم لم يحقق في هذه المسألة ؛ حتى أن الكبيسي لاكها بلسانه كالمقرر لها !

ومعاوية رضي الله عنه لا يقول بأنه أحق بالخلافة من علي رضي الله عنه ؛ بل كان يصرّح بأن عليّا رضي الله عنه أفضل منه , فقد جاء أبو موسى الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له : أنت تنازع عليّاً أم أنت مثله؟ فقال معاوية : لا والله ! إني لأعلم أن علياً أفضل مني ، وإنه لأحق بالأمر مني ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه ؟ وإنما أطلب بدم عثمان ؛ فأتوه فقولوا له ، فليدفع إليّ قتلة عثمان ، وأُسلم له "
( ابن عساكر 4/223 )

فكان مطلب معاوية رضي الله عنه هو القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه وبعدها يُسلّم الأمر لعلي رضي الله عنه !
وقد جاء في مصنف أبن أبي شيبة عن أبي بردة قال : قال معاوية رضي الله عنه : " ما قاتلت عليا إلا في أمر عثمان " . (6/187) .

وهذا حق كفله الشارع له فهو ابن عمه وزعيم قومه من بني أمية , وقد فهم هذا الصحابة رضي الله عنهم فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : "لو أن الناس لم يطلبوا بدم عثمان لرجموا بالحجارة من السماء "
( المعجم الكبير 1/84)

ولذا كان في عسكر معاوية رضي الله عنه كثير من الصحابة يدعون بدعواه في طلب القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه , وكان عامة من حاصر عثمان وقتله قد دخل في معسكر علي رضي الله عنه ؛ قال معاوية رضي الله عنه : " إنه قد شهد معي صفين ثلاث مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ما بقي أحد من جميع من شهدها معي " .
( مسند الشاميين 3/268 )

أيها المباركون
يجهل كثير من الناس ما دار من فتن عظام في تلك الحقبة , ويحسب أن الأمر سهل لدرجة أن بعضهم تبلُغ به السذاجة إلى القول مباشرة بأن معاوية رضي الله عنه ومن معه من الصحابة على خطأ لا لبس فيه ترديدا لما يسمع !

والأمر ليس بهذه السهولة فقد كانت الفتن تموج موجا , فأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قُتل في داره وبين يدي زوجته قتلة بشعة , لو قُتلها أحد من أهل البيت لنسي الرافضة مناحتهم على الحسين رضي الله عنه وتعلّقوا بها لشناعتها !

ثم لجئ القتلة لصفوف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو لا يستطيع القصاص منهم لأنهم أبناء قبائل شرسة بل بعضهم زعماء في أقوامهم , فنسِئ عليٌّ رضوان الله عليه أمرهم حتى يستتب له الحكم , لكن معاوية رضي الله عنه طالب بدم ابن عمّه الذي لم يجف بعد , وفي صف هذا وهذا من يُضرم النار بينهما خصوصا قتلة عثمان خوفا على مصيرهم إذا تم الأمر !
وعلي رضي الله عنه ومن معه يستدلون بحديث " عمّار تقتله الفئة الباغية "
( البخاري 1/97 , ومسلم 4/223 )

ومعاوية رضي الله عنه ومن معه يستدلون بحديث كعب بن مُرّة الذي قاله أمَامَ الجيش حيث قال رضي الله عنه : " لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت , ذكر _ النبي صلى الله عليه وسلم_ الفتن فقرّبها ، فمر رجل مقنع في ثوب فقال : «هذا يومئذ على الهدى» ، فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان قال : فأقبلت عليه بوجهه ، فقلت : هذا؟ قال : «نعم» .
( سنن الترمذي 5/628 ) وقال : هذا حديث حسن صحيح .

وفي زيادة عند ابن أبي شيبة : " هذا وأصحابه يومئذ على الحق " يعني عثمان رضي الله عنه . ( 6/360 ) .

ولما عُرض على معاوية رضي الله عنه حديث " عمار تقتله الفئة الباغية " قال متأولا : " إنما قتله الذين جاءوا به " .
( المسند 11/42 )

وهنا لفتة لطيفة : لو كان معاوية رضي الله عنه خرج بطرا وحبا في الملك لما أتم الله له أمر الخلافة , هذا إذا علمنا أن عليّا رضي الله عنه أفضل وأولى من معاوية ومن أبيه رضوان الله عليهم باتفاق السادة العلماء , ولكن لما كان أمره للقصاص من قتلة ابن عمّه مكّن الله له ؛ قال الله تعالى : " وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا " .

والعجيب أن الكبيسي ومن دار في فلكه يأخذون حديث عمار رضي الله عنه للتشنيع وربما لتكفير من قاتل عليّا رضي الله عنه ! ويتركون الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق " ( 2/745 ) وفي لفظ آخر : " تكون في أمتي فرقتان ، فتخرج من بينهما مارقة ، يلي قتلهم أولاهم بالحق " !

وهذا فيه دليل على أن الطائفتين مُريدتين للحق أو على الأقل قادتهما , ولكن عليّا رضي الله عنه ومن معه أقرب وأولى وأعدل من معاوية رضي الله عنه ومن معه , وأنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " أولى الطائفتين بالحق " , وفي بعض الألفاظ : " أقرب الطائفتين للحق " ! فلم يقل أن الحق معها كله !

ولذا قال بعض سادتنا من العلماء أن الحق كل الحق في هذه المسألة مع من قعد من الصحابة كسعد بن أبي وقاص , وعبد الله بن عمر , ومحمد بن مسلمة , وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم , واستدلوا بحديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ستكون فتنة ، وفرقة ، واختلاف ، فإذا كان ذلك فأتِ بسيفك أحدا ، فاضرب به عرضه ، واكسر نبلك ، واقطع وترك ، واجلس في بيتك "
( المسند 25/413 , وابن أبي شيبة 7/457 ) وسنده ليّن .

وله شاهد من حديث أهبان بن صيفي الغفاري رضي الله عنه عند ( الترمذي 4/490 , وابن ماجه 2/1309 , والمسند 34/270 ) .

فلم يُشر له صلى الله عليه وسلم بأحد الفريقين بل دلّ على اعتزال الفتنة .
قال شيخ الإسلام : " إن أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي " _ أي الاعتزال –( الفتاوى 35/77 ) .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان فيكون بينهما مقتلة عظيمة ، دعواهما واحدة " ( البخاري 4/200 , ومسلم 4/2214 ) .
وصدق بنفسي وأهلي صلى الله عليه وسلم , نعم دعواهما واحدة فعليٌّ يقول : بايع بالخلافة , ومعاوية يقول : لا أبايع حتى تسلم لي قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين , فالدعوى واحدة : الخلافة لعلي وحق ولاية الدم لمعاوية لكن الفتنة إذا أطلت بقرنها حار فيها الناس والله المستعان .

الشبهة الثالثة : سب معاوية لعلي رضي الله عنهما .
ويتمسكون بما أخرجه مسلم في صحيحه أن معاوية قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما : " ما منعك أن تسب أبا التراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم " الحديث (4/1871 ) .
وهو ما تمسّك به الكبيسي وقبله من فُتن بالتنقص من معاوية رضي الله عنه واعتبروه حجة ودليلا على أن معاوية كان يأمر بسب علي رضي الله عنهما !

وفي هذا الحديث كلام لأهل العلم مطوّل سأختصره في ثلاث نقاط :
1-أن معاوية لم يأمر سعدا بسبّ علي رضي الله عنهم بل أستفسره عن ذلك ولم يشنّع عليه عدم سبّه , ولو أراد ذلك لصرّح بأمر سعد بالسبّ فهو أمير المؤمنين ولن يحاسبه أحد إلا الله .
2-أن السبّ وقع من جماعة عند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما في المطالب العالية لابن حجر رحمه الله وسأسوق الأثر ليعلم القادح أن الصحابة رضي الله عنهم يقع منهم ما يقع من عامة الناس لأنهم ليسوا بمعصومين قال خيثمة : كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في نفر، فذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه ، فقال سعد رضي الله عنه : مهلا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا أصبنا ذنبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} وأرجو أن تكون رحمة من الله تعالى سبقت لنا ، فقال بعضهم : إن كان والله يبغضك ويسميك الأخينس ، فضحك سعد رضي الله عنه حتى استعلاه الضحك ، ثم قال : أو ليس الرجل قد يجد على أخيه في الأمر ، يكون بينه وبينه ، ثم لا يبلغ ذلك أمانته ، وذكر كلمة أخرى .
قال ابن حجر : هذا إسناد صحيح ( 17/94 ) .

قال النووي رحمه الله : " قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبّه وإنما سأله عن السبب المانع له من السب كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب فأنت مصيب ومحسن وإن كان غير ذلك فله جواب آخر "
( شرح صحيح مسلم 15/175 )

3-ولو قيل تنزلا أن معاوية سب عليّا رضي الله عنهما فهذه معصية لا تصل لدرجة البراءة منه أو توجب لعنه وتكفيره والحكم بنفاقه ؛ قال شيخ الإسلام : " وحديث عمار تقتله الفئة الباغية " لا يبيح لعن أحد من الصحابة ولا يوجب فسقه " ( الفتاوى 35/79 )
وقد أقتتلوا فيما بينهم ولم يثبت أن أحدا من السلف أتهمه بذلك فتأمل !
وكيف يصحّ عقلا أن يسب معاوية عليّا رضي الله عنه وهو عندما جاءه نعي علي رضي الله عنه بكى واسترجع على ما فيه من ألم الطعنة ؛ فقالت له امرأته تبكي عليه وقد كنت تقاتله ! فقال لها : ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم "
( البداية والنهاية 11/429 )

ولكن أهل الزيغ لا يحبون مثل هذه الآثار التي تأتي على باطلهم فتُدكدكه ! وهذا الأمر قد سُبقوا إليه فقد قيل لمعاوية رضي الله عنه : " أسرع إليك الشيب ؟ قال : كيف لا يسرع إلي الشيب ولا أعدم رجلا من العرب قائما على رأسي يكلمني كلاما يلزمني جوابه ، فإن أنا أصبت لم أُحمد ، وإن أخطأتُ سارت به البُرْد ؟
( المجالسة وجواهر العلم 5/367 )

أيها المباركون
وبعد هذه الجولة في سيرة هذا الرجل العظيم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم نختم بآخر أعماله رضي الله عنه , فعن عطية بن قيس قال : " خطبنا معاوية فقال : " إن في بيت مالكم فضلا عن أعطياتكم ، وأنا قاسم بينكم ذلك ، فإن كان فيه في قابل فضل ، قسمناه بينكم ، وإلا فلا عتيبة علينا فيه ، فإنه ليس بمالنا ، إنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم " .
( الأموال لابن زنجويه 2/565 ) .

ولما جاء المدينة في آخر عهده رضي الله عنه قال : " إني لست بخيركم ، وإن فيكم من هو خير مني : ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو وغيرهما . ولكني عسيت أن أكون أنكأكم في عدوكم ، وأنعمكم لكم ولاية ، وأحسنكم خلقا "
( سير أعلام النبلاء 3/150 )

وخطب في أخريات أيامه رضي الله عنه فقال : " إني من زرع قد استُحصد , وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني , وتمنيتُ فراقكم وتمنيتم فراقي , ولا يأتيكم بعدي خير مني , كما أن من كان قبلي خير مني , وقد قيل من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه , اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي "
( الطبقات الكبرى 4/81 )

ولما أحتضر قال رضي الله عنه : " إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وإني دعوت بمشقص ، فأخذت من شعره ، وهو في موضع كذا وكذا ، فإذا أنا مت ، فخذوا ذلك الشعر ، فاحشوا به فمي ومنخري "
( سير أعلام النبلاء 3/159 )

ولمّا نازعه الموت قيل له رضوان ربي عليه : " ألا توصي ؟ فقال : اللهم أقل العثرة ، واعف عن الزلة ، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجُ غيرك ، فما وراءك مذهب " .
( سير أعلام النبلاء 3/160 )

وبهذا يُعرف كذب الأفاك الأثيم المدعو أحمد الكبيسي عندما زعم أن معاوية قال لابن عمر رضي الله عنهم يا عبد الله هل لي من توبة : فقال هيهات هيهات ! ثم قال معاوية : اللهم إن عبدك هذا يؤيسني من رحمتك فارحمني !
وهذه القصة لا تحتاج لنظرٍ في ثبوتها لمن شم رائحة علم الحديث والأثر !
ومع هذا فقد بحثتُ عن هذه الجائحة العلمية المكذوبة فلم أجد لها سندا لا صحيحا ولا ضعيفا بل ولا مختلق موضوع !

وأظنها من تخريفاته العلمية التي أُصيب بها بأخرة !
أضف لذلك أن معاوية رضي الله عنه مات بالشام وكان ابن عمر رضي الله عنهما في المدينة ؛ حتى إنه رفض بيعة يزيد حتى يبايعه الناس جميعا .
نسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا .
فائدة :
لمعاوية رضي الله عنه مئة وثلاثة وستون حديثا , في الصحيحين منها ثلاثة عشر حديثا .
 

أ

خوكم / موسى الغنامي
.
بريدي الإلكتروني
mgsa2006@hotmail.com
ومؤخرا صفحتي في تويتر
https://twitter.com/#!/mgsa2006
وفي الفيس بوك
http://www.facebook.com/profile.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية