بسم الله الرحمن الرحيم

تبقى الكتابة هماً ورسالة


قال لي صاحبي، إن بعضا مما تكتب لا يعكس طبيعتك الهادئة، ثم إنك ربطت نفسك بالحديث عن المناسبات الحزينة، حتى صرت كأنك والحزن صنوان. ويكرس هذه (الصورة النمطية) عنك، نبرة صوتك الهادئة الحزينة، حتى إنني ما حدثتك يوما على الهاتف، إلا خلت، أنك الساعة خارج من مأتم.

يا عزيزي.. يضيف صاحبي، أنت لابد أن تكسر هذه (الصورة الحادة) عنك، دع عنك الجراحات والبكائيات، و(الوقوف على الأطلال)، ورسم المواقف الحدية. اعكس فيما تكتب طبيعتك كما أنت أنك رجل حوار، لديك متسع للرأي الآخر.. أبرز الجانب الإنساني فيك، الذي يكاد يتوارى أمام صرامة الموقف وحدته. يا عزيزي.. إن المشاعر الإنسانية باب آخر لم تطرقه. كم من إنسان سيفتح لك قبله، لو خاطبت فيه مشاعر الحب، وأحاسيس الإنسان. الكون ليس مأتما نقف في وسطه، ننوح نوح الثكالى، نشق جيبا، ونلطم خدا. هناك من يريد أن تحدثه حديثا خاصا، بعيدا عن ضجيج (المآتم). خذه في زاوية منعزلة، ضوءها خافت، وافتح له قلبك.. وقل له إني أحبك.. ثم حدثه حديثا خاصا. أنا أجزم أنه سيستمع إليك، وسيبكي بين يديك. وقد يغفو على كتفك. فقط.. دعه يسمع النبرة الهادئة، التي لا يعرفها في كثير مما تكتب.. أو ما يقال عنك.

يؤخذ علي في كثير مما أكتب، ولقد تعرضت كلماتي كثيرا للمساءلة، والمصادرة. ولقد صرت أشك في نفسي: هل ما أكتب (غامض) إلى هذا الحد و(خطير) إلى هذه الدرجة؟ وطفقت أعرض ما أكتب على بعض الأصدقاء، وعلى بعض القريبات، لعلي أجد فرقا بين آراء الرجال وآراء النساء. في كل مرة أعرض ما أكتب، يحدق بي، أو تحدق بي، وابتسامة تملأ وجه من أعرض عليه ما كتبت، فيقول لي، أو تقول لي: جميل... لكنك تقصد شيئا. أقصد شيئا.. أتساءل، ما هو؟ ثم أردد في نفسي: أنا أكتب كلاما عربيا فصيحا، فلابد أني أقصد شيئا. من يقبل أن يقرأ، أو أن ينشر.. كلاما غير مفيد؟

صرت أتعب - بكل ما تعنيه الكلمة - حينما أكتب شيئا، وكل ما رأيت قلما قد كتب كلاما مفيدا، أبتهج به وأحزن. أبتهج أن كلماته، أو كلماتها، قد رأت النور وصافح ضياؤها أكثر من عين. وأحزن لأني أتعسر ولادة الفكرة والكلمة، التي أحسها صادقة، وحينما تولد، أتعامل معها كما تعاملت أم موسى مع فلذة كبدها. أضعها في (تابوت)، ولا أستطيع أن أدعيها، فيصبح فؤادي، كما فؤاد أم موسى، فارغا.

يقولون لي، أنت توظف اللغة والنص، بطريقة تحتمل التأويل.. ويقولون جرب أن تكتب في مواضيع (أخرى)، أو ربما اسمك هو المشكلة. جرب أن تكتب باسم مستعار أو لماذا لا تجرب أن تكتب باسم فتاة. إن المرأة مهما قست تظل مقبولة.. لأنها (تبطش) بدون مخالب، اسم مستعار..؟ لو أني كنت أحمل هما غير الإسلام. لقد وصلت إلى حل. سأكتب. لكني سأقرأه على من أحب. لا يهمني أن ينشر الآن، ما دمت سأقرأه على عيون تلتمع، لكل حرف ينبض بين السطور. تلتمع، ولا تتساءل عن ماذا أقصد، لأنها تحس بنبضي، قبل نبض الحرف الذي تخطه يميني. عيون لا تصفني بالتطرف، أو التشدد، أو عدم (الحكمة)، أو عدم تقدير الظروف.

ستظل الكتابة هما يؤرق كل أصحاب الرسالات... وسيبقى الحرف وستبقى الكلمة. وسيفنى الجميع، وكل من عليها . فما أروع أن تخلق فكرة... أن تحمل هما وما أجمل أن تنشر تلك الفكرة، لكن الأجمل، أن تجد من تقتسم معه ذلك الهم. سيظل الحرف، وستظل الكلمة، اسمى شيء، لكن، أسمى ذلك الأسمى. أن تحتضن تلك الكلمة - دون تردد - عين تشاركك نفس الهم.

سكت صاحبي وقد طفرت دمعة من عينه. أشحت بوجهي بعيدا أتأمل الشمس التي توشك أن تغيب، ثم قلت: لا تبتئس ستشرق غدا، ثم التفت إليه، قلت:

هل تفهم شيئا في التأويل..؟ ماذا تقصد؟ سألني. أجبت: في مسألة الظاهر والباطن، هل تعني مذهب الإمام ابن حزم، في الأخذ بظاهر النص، أو ما تقول به فرق الباطنيين، وغلاة الصوفية، من أن النصوص لها معنى ظاهر، وآخر باطن.

لا.. لا.. ليس هذا ما عنيت، دعني أشرح لك.

حينما تقول لزوجتك أنك كنت مدعوا عند (فلان)، وأن الأكل كان لذيذا.. وأن ترتيب المائدة كان آية في الذوق والنظام. هل يعني هذا أنك (تنتقد) طبخها، وطريقتها في ترتيب المائدة؟ وهل يمكن أن تواجهك زوجتك فتقول: أنت (تتآمر) عليّ. أنت تحب امرأة أخرى..؟ لقد سمعت أنك تفكر في الزواج من ثانية. هل كلامك عن طبخ زوجة صديقك، أو ثنائك على بيته المرتب، يعني أنك لا تحب زوجتك، وتكره بيتك، وطريقة ترتيبه..؟ هل تريد مني إجابة؟ انتظر دعني أعطيك مثالا آخر..

موظف في إحدى (الشركات)، يرى ممارسات خاطئة، ويعلم عن تجاوزات. يحس أنه جزء من هذه (الشركة)، وأن مثل هذه التجاوزات، ستؤدي في النهاية إلى انهيار الشركة، تحدث مع أكثر من شخص، عن خطورة هذه التصرفات على مستقبل الشركة، وحاول بأكثر من طريقة أن يسمع صوته، ورأيه لكبار المسؤولين في الشركة، عن خطورة هذه الممارسات. ثم لفت نظره، بعدم الحديث عن هذا الموضوع، فامتثل للأمر. لكن المسالة لم تقف عند هذا الحد. أصبح كل ما يقوله (يفسر) بأنه يقصد به الشركة، وأنه (يتآمر) على بقائها، من خلال تحريض الموظفين. مرة قال: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فاتهم بأنه (يقصد) أن يقول للموظفين، إن تغيير واقع الشركة، لن يتم إلا إذا قاموا، هم بأنفسهم، بتصحيح أوضاعها ومحاسبة المقصرين. ومرة كان يتحدث مع أحد زملائه عن قضية اجتماعية، فقال: "لا يستقيم الظل والعود أعوج"، فقالوا إنه يقصد إدارة الشركة.

هذا كثير جدا... كان الله في عونه، هل انتهيت؟ لا.. دعني أسوق لك قصة أخيرة، كاتب في إحدى دول العالم الثالث، كتب مرة، فاستشهد ببيت من الشعر، للشاعر الكبير محمد إقبال، يقول فيه:

قيثارتي ملئت بأنات الجوى... لابد للمكبوت من فيضان

لقد تم استدعاؤه، ووجهت إليه تهمة التحريض، والدعوة للتمرد، وتهديد الأمن والاستقرار. كما تم تفتيش بيته تفتيشا دقيقا، للبحث عن قيثارته، وتفريغها من كل (أنات الجوى)، وصدر أمر بتحطيمها، إذا اقتضت (المصلحة العامة). إضافة إلى ذلك، تم تحويله إلى (محقق) مختص، لمعرفة مستوى، ونوعية الكبت الذي لديه، وقياس الدرجة التي وصل إليها الكبت عنده، ومدى الخطورة التي يشكلها على النظام الاجتماعي، والمؤسسات المدنية. أيضا، وبسبب أن داء (الأصولية والتطرف) قد استشرى، وصار يهدد (المجتمع المدني) والمؤسسات الثقافية، والسياحة، والفلكلور، فقد كان هناك تأكيد شديد. لمعرفة ما إذا كان لهذا الكبت، أي طبيعة دينية.

يا الله.. وصل الأمر إلى هذا الحد... إلى محاكمة النوايا، لماذا لا تكتب عن هذه القضية. إنها جديرة بالمناقشة؟

- (.....)

حاول يا أخي... لا تيئس.

- (قيثارتي ملئت بأنات الجوى...) ماذا تقصد؟

- كنت قد سألتك في البداية هل تفهم شيئا في التأويل، وقلت لي: هذا كثير.. يجب أن لا يصل الأمر إلى محاكمة النوايا.

أنا لا أقصد شيئا. فطبخ زوجة صاحبي لذيذ، وكذلك طبخ زوجتي، وأؤمن أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما أن قيثارتي ملأى بأنات الجوى وليس من حق أحد أن يطالبني، أن أحدد له نوع أنات الجوى التي تمتلئ بها (قيثارتي)

* البوح الأخير
* تبقى الكتابة هما شائكا... إذا كنت مهموما... ماذا تكتب؟ وإذا كنت محزونا... ماذا تكتب؟ لن تكتب إذا كنت مسرورا... لأنك ببساطة، لن تكون.

كيف نبث أوجاعنا... ولمن نبثها..؟ للأعمدة التي تظل طول الليل منتصبة، تحدق في الظلمة، بأنوارها الخابية..!

لمن نبثها.. إذا لم يكن هناك أحد يسمعنا، فضلا عن أن ينظر إلينا..!

للفراغ الذي يتوسع على حساب همومنا الممتدة بلا نهاية..؟

للقلق الذي يتضخم في أنفسنا، التي تبحث في سراديب الأسئلة؟

لمن يجب أن نصغي.. للقلب أم للعقل..؟ ما الفرق بينهما..؟

من الذي سيقودنا للسكينة والطمأنينة منهما..؟

إذا كان القلب موجوعا، كيف يهتدي العقل..؟ إذا كان العقل مشتتا. كيف يرتاح القلب؟
مأساتنا أننا نعيش المثالي بكل (طوباويته)...

وفي المساء حينما يغفو كل شيء، بما في ذلك حلمنا المثالي، يبقى سيئ واحد فقط..، مستيقظا..

واقعنا الموحش..

هل ترين التناقض..؟ الذي نريده أن يغفو هو الذي يبقى مستيقظا..

والذي نريد أن نعيشه يبقى حلما..

د. محمد الحضيف