اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/arabic/587.htm?print_it=1

الأمرُ الملكيّ الكريمُ واجتهادُ التفاسير (منعُ القضاةِ من المشاركةِ الإعلاميةِ أنموذجاً )..

بقلم : طالب بن عبد الله آل طالب
قاضي محكمة تثليث سابقا


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


أكتبُ الآنَ لكمْ أيّها الزملاءُ .. وقدْ مرّت عشرةُ أيّامٍ من الضّجيجِ الذي أحدثتْه المقالةُ السابقةُ .. مقالةٌ ما تحدثتْ في غيرِ شأنِ النظامِ .. ولم تشرْ لغيرِ ضرورةِ الحرصِ على استعادةِ هيبةِ المجلسِ الأعلى للقضاءِ ممن حاولَ ولا زالَ يحاولُ سلبَه وتعقيلَه .. ولم تعتب إلا على قسوة الواقع المرير .. وقد اختارَ لها منْ في قلبِه ضغينةٌ أن يفهمَ بعضَ حروفِها على غيرِ مرادِها .. ويصوّرَ الكاتبَ وكأنّه مفتاتٌ على وليّ الأمرِ .. أو رسولٌ لفتنةٍ .. والمرءُ يعلمُ من نفسِه بحمدِ الله ومن مُقامِه في وظيفةِ القضاءِ .. ومن حكايا سنواتٍ درجَ بها على هذه الأرضِ وتنفّسَ هواها .. وعاش سرّاها وضرّاها .. أنّ لهذه البلادِ عندَه مكانَ القلبِ ومكانةَ الروحِ .. و لولاةِ هذه البلادِ المؤمنينَ بالله والمستمسكينَ بشرعه حقّ الطاعةِ والنصحِ والحبّ والدعاء .. يؤمن بها خالصة لوجه الله .. لا يبتغي بها كرسياً دواراً .. ولا يطلبُ مالاً أو عقاراً .. والمواطنُ الفقير ـ سمعتهم يقولون ـ أظهرُ وطنيةً من المواطنِ الوزير ..
ثمّ أنصرفُ منْ هذه المقدّمةِ إلى لقاءٍ إعلاميٍّ مع الوزيرِ المكلفِ برئاسة القضاء .. في ثمانِ صفحاتٍ كاملاتٍ مزيناتٍ بالصورِ .. يتهجّم فيه على القضاةِ ومشاركاتهم الإعلامية .. ويتحدثُ عنهم بقسوةٍ بالغةٍ .. ويهدّدُ بالويلِ والثبورِ .. وهذه بعضُ كلماتِه المنشورة أنقلُها بحروفِها لعيونِكم .. لتقرؤوها وتعجبوا من شدّتها وشحْنائِها .. قال معاليه :
" وأي مشاركة إعلامية بعد هذا اليوم هي بمنزلة تنازل عن الوظيفة القضائية" لاحظوا التعميم : " أي مشاركة "
" لدينا أكثر من ألفي وظيفة قضائية شاغرة وهذا يتيح خيارات عدة خاصة في موضوع القياس والتخلص ممن تعتذره الوظيفة القضائية"
"لن يتنازل المجلس الأعلى للقضاء عن حزمه "
ويجبُ أن تتأكدوا أنّ المرادَ ليس حزمَه تجاهَ تعطيلِ تنفيذِ الأحكامِ أو النيلِ من القضاةِ أو خرقِ استقلالِ القضاءِ .. وإنّما حزمه تجاهَ تغريداتٍ عابراتٍ ضايقتْ معالي الرئيسِ المكلّف .. علماً أنّ هذه الجملةَ تحديداً فيها ما فيها من تعبيرِ المجلسِ عن إرادةٍ له عبرَ الإعلامِ .. كان قدْ مُنعَ منْها يوما ما .. وعُدّت مخالفةً للأوامرِ والتعليمات ..

و قدْ صدرَ أمرٌ ملكيّ بالتأكيدِ على القضاةِ بتجنّبِ المشاركةِ السلبيةِ في وسائلِ الإعلامِ .. وذلك صيانةً للقضاءِ وسُلْطته المستقلّةِ من الاستغلالِ وحمايةً لهمْ من الامتهانِ .. كمَا جاءَ نصّ الأمرِ الملكيّ الكريمِ ..
وانظروا لأدبِ الأمرِ الملكيّ في تجنّبِ لفظةِ المنعِ .. والاكتفاءِ بعبارةِ "التأكيد على القضاة بتجنب" وهو نصحٌ وتوجيهٌ رشيدٌ .. بُني على ما جرتْ عليه عادةُ التخاطبِ بين القضاةِ وولاةِ أمرِهم .. ثمّ جرى تقييدهُ بعدةِ ضَوابط أُجملها في الآتي :
ــ أنْ لا تكونَ مشاركتُهم بصفتِهم القضائية ..
ــ أنْ لا تكونَ في الشأنِ العام ..
ــ أنْ لا تكونَ بصورةٍ سلبية ..
وإذا كانَ معالي وزيرِ العدلِ ورئيسِ المجلسِ "المكلف" لمْ يكتسبْ صفةِ القاضي ليَعُمّه هذا التوجيهُ الكريمُ .. فقدْ أوكلتْ إليهِ مهمةُ إبلاغِ القضاةِ بهذا الشأنِ عبرَ برقيةٍ سريّةٍ .. غيرَ أنّ معاليه أبى إلا أنْ يُعلنَ الأمرَ ويهتكَ السترَ عبرَ حواراتٍ مطولةٍ تُزيّنها صورُه وهو يشيرُ بكلتا يديهِ ويحرّكُهما للأمامِ .. ينالُ فيها ممّا نصّ عليه الأمرُ الملكيّ الكريمُ صراحةً من ضرورةِ صيانةِ القضاءِ من الاستغلالِ وحمايةِ القضاةِ من الامتهانِ ..
وأيّ هتكٍ لصيانةِ القضاءِ أعظم من إعلانِ الأمرِ على رؤوسِ الأشْهادِ وانتهاكِ حرمةِ سريّة البرقيّة الملكيّة .. وهلْ عَدِمًْتَ وسيلةَ الاتصالِ بينك أيّها الوزيرُ الكريمُ وبينَ أصحابِ الفضيلةِ القضاةِ حتّى لا تجدَ خيراً منْ صحيفةٍ سيارةٍ يقرأها كلّ أحدٍ .. لتعلنَ منْ خلالها في خِطابٍ مشحونٍ بالفوقيةٍ ومسكونٍ بالتهديدِ .. أنّك ستحاسبُ من يخالفُ وتقصي من لا يستجيب .. وأيّ امتهانٍ للقضاةِ أشدّ من أن تكرّر في لغةٍ هي إلى الوصايةِ أقرب أنّ عددَ القضاةِ لديكَ وافرٌ .. وأنّك تملكُ القدرةَ لتتخلّى عنْ من لمْ يمتثل .. وتكون بهذا التصرّفِ مفتاتا على حقّ مجلسٍ مجتمعٍ مكونٍ من أحدَ عشرَ عضواً .. جعلَ لهم النظامُ مهمّةَ تقريرِ ذلكَ المصيرِ .. ثمّ تكونُ مفتاتاً على حقّ وليّ الأمرِ نفسِه .. وأنتَ تعلمُ أنّ إعفاءَ القاضي لا يكونُ إلا بأمرٍ ملكيّ كريمٍ .. وقدْ نصّت المادةُ الثانيةُ من نظامِ القضاءِ على أنّ القضاةَ غيرَ قابلينَ للعزلِ إلا في الحالاتِ المبينةِ في النّظامِ .. ثمّ أشارت المادةُ التاسعةُ والستون إلى حالاتٍ محددةٍ منها الموتُ والمرضُ الشديدُ .. وليس َمن ضِمنها المشاركةُ في الإعلامِ .. ثمّ جاءت المادةُ السبعون لتؤكّدَ أنْ ليسَ للمجلسِ الأعلى للقضاءِ إلا اقتراح العزلِ فقط .. والرفعُ بعد ذلك لمقامِ الملكِ الذي يجيزُ ذلك .. أو يرفضُ الاقتراح .. وهو مزيدُ تأكيدِ رعايةٍ لشأنِ حمايةِ استقلالِ القاضي .. أبى معالي الوزير إلا أنْ يُعرضَ عنه تماماً .. ويُهدّدَ بالإقالةِ الفوريةِ .. وهو يعلم أنّ ملفّ استقلالِ قضائِنا في المحافلِ الدوليةِ لا يحتاجُ أبداً لتصريحاتٍ من هذا القبيلِ .. وإذا كانتْ تلكَ هي الوصايةُ المعلنةٌ في الصحفِ .. فكيف ستكونُ تلكَ التي تُمارسُ في الخفاءِ وتؤثّرُ على نزاهةِ الأحكامِ .. هفواتٌ متتابعاتٌ مع أوّلِ حضورٍ لمعاليه في المجلسِ .. مبدؤها طبعُ الاستفرادِ بالرأيِ .. القادمِ من حالِ الوزارةِ ووصفِ الوزيرِ .. وختامُها فهومٌ تسيرُ على منهاجِ تحميلِ النصّ النظاميّ ما لا يحتملُ .. وما بين المبدأ والختامِ أوصافٌ قاسيةٌ من ازدحامِ الأعمالِ الإداريةِ على معاليه بتكليفِه بإدارتيْن مختلفتين .. واهتمامٍ بالغٍ بالإعلامِ .. وحداثةِ تجربةٍ في التعاملِ مع القضاةِ كرئيسٍ مكلّف عليهم .. انتهتْ إلى عزمِه على تشكيلِ لجنةِ صلاحيةٍ فكريةٍ تصرفُ عن القضاءَ منْ لا يتفقُ مع رؤاه الفكريّة .. وهي بابٌ خطيرٌ على حمى استقلالِ القضاءِ وتوقيرِه ..
وإذا لمْ يشارك القضاةُ في خصوصِ الشأنِ القضائيّ فمن الذي يشاركُ .. وإذا كانَ الأمرُ الملكيّ قد نصّ على مفردةِ ( الشأن العام ) فمن الذي صَرفها للشؤونِ القضائيةِ الخاصّةِ .. وهل تريدونَ من التحقيقِ الصحفيّ الذي يبحثُ موضوعَ إجراءاتِ قضايا غسلِ الأموالِ أنْ يسْتكتبَ مديرَ مسْتشفى مثلاً .. أو من القناةِ التي تناقشُ موضوعَ نظرِ قضايا المطلقاتِ في أروقةِ المحاكمِ أن تستضيفَ قانونياً من جمهوريةٍ مجاورةٍ .. كما تفعلُ الوزارةُ في بعضِ ملتقياتِها العدليةِ ومهرجاناتِها الإعلاميةِ ..
إنّ حضورَ القضاةِ الإعلاميّ الهادفَ ضرورةٌ في وقتٍ تقطّعتْ فيه الحبالُ بين القضاةِ والمواطنين .. وصوّرهمْ خيالٌ مدسوسٌ وناقمٌ على أنّهم أجلاف ومتوحشون .. وفيهِ إلى الثّقةِ في المعلوماتِ المقدّمةِ منهم .. واستشعارِ اللحمةِ الوطنيّةِ .. وتدريبِ القضاةِ أنفسِهم على النقاشِ والحوارِ .. واطلاعِهم على واقعِ النّاس ونظرتِهم .. أمورٌ تأخذُ في حُسْنها بأيدي أمور ..
وإذا لم يكنْ خروجُ القضاةِ بصفتِهم القضائيةِ واختارَ القاضي أنْ يكتبَ منثوراً أدبياً أو بحثاً فِقهياً من دونِ ذكرِ وصفهِ القضائيّ فما المانع وما الضير .. ولماذا اختار الأمر الملكيّ مفردةَ ( الصفة القضائية ) المعلنةَ قيداً لذلك .. ثمّ جاءَ منْ يفسّرُ الأمرَ على فهمهِ ليلغيَها .. ويؤكّدَ أنّه سيلاحقُ الخواطرَ أياً كانتْ .. ويحاسبُ على النّوايا والظّنون ..
ثمّ إنّ المادةَ التسعين من نظامِ المرافعاتِ الشرعيةِ قد منعت القاضيَ من نظرِ الدعوى وسماعِها إنْ قامتْ علاقةٌ بينه وبين أحدِ الأطرافِ يُرجّح معها عدمُ استطاعتِه الحكمَ دونَ تحيّز .. أو كانَ قد أفتى أو ترافعَ أو كتبَ فيها .. وهي إشارةٌ إلى أنّ خُلطةَ القاضي بمجتمعِه واردةٌ .. ومن ثمّ فقد قرّر المنظّمُ من أجلِها موادّ التنحّي .. ولو كان الأمرُ كما يرى معالي الوزيرِ .. لمنعَ النظامُ القاضيَ من الخُلطةِ والإعلامِ مطلقاً .. واكتفى بذلك عنْ تقريرِ تنحّيه ..
ولم يزل القضاةُ يفتونَ ويعلّمون الناسَ الخيرَ .. في عمومِ القنواتِ الإعلاميّةِ .. ولم يزلْ لفقهائِهم وباحثِيهم كتاباتٌ مشكورةٌ في مجلّةِ العدلِ والمجلاتِ القضائيةِ والنظاميةِ .. ولهمْ إطلالاتٌ من نور .. وحضورٌ لا يساميه حضور .. يتجاوزُ ما يصمُهم به الناقمُ من مجرّدِ توقيعِ العرائضِ والافتئاتِ على ولاةِ الأمورِ .. أفيكونُ حقاً على هولاءِ كلِّهم أنْ ينتهوا عن مقامِهم في نُصح الناسِ .. ويتوقفوا عن الظهورِ المشرقِ في وسائلِ الإعلامِ .. لسوادِ عيونٍ أعْشتْها فلاشاتُ التصويرِ .. ولم تزلْ تقطّبُ جبينها مع كلّ تغريدةٍ ناقدة .. وكيفَ سيصدرُ عددٌ واحدٌ من مجلةِ العدلِ أو المجلةِ القضَائية مستقبلاً .. بناءً على هذا الفهمِ العابثِ للأمرِ الملكيّ الكريمِ ..
وهل صارَ الإعلامُ مهيناً بهذه الدرجةِ .. ليصرفَ الوزيرُ الراشدُ القضاةَ عنه تماماً .. وكيف سيفسرُ الإعلاميونَ الشرفاءُ هذه الضربةَ الموجِعةَ لهم .. وهم يقرؤون تعميماً يقرّر حفظَ القضاةِ وإجلالَهم عن جميعِ وسائلِ الإعلام .. بحجّة رفعتِهم عن المَهانة .. وكيف يفسّر وزيرُنا الكريمُ ذاتُه خروجَه المتكرّر في الإعلامِ .. وقد كانَ الواجبُ أنْ يقتصرَ في فهمِ المرادِ على نصّ الأمرِ الملكي الكريمِ الذي وجّه بحمايةِ القضاةِ من الامتهانِ الذي يورِثُه الخروجُ السلبيّ في بعضِ المشاركاتِ الإعلاميةِ .. وسكتَ عن برامجَ بالغةِ النفعِ ذائعةِ الصّيتِ .. ما زالتْ للقضاةِ بوسائلِ الإعلامِ المختلفةِ .. وأخشى أن يقومَ قائمٌ بناءً على هذا الفهمِ فيمنعَ إعلانَ خُطبِ أربعةِ قضاةٍ أجلّاء من منبرِ الحرمينِ الشريفين .. ويُعطّل إصدارَ مجلةِ العدل .. ويقضي على مشروعِ مدوّنة الأحكام ..
والمأمولُ من أصحابِ الفضيلةِ القضاة أنْ يتجنّبوا الحضورَ الإعلاميّ المبالغَ فيه .. وليكنْ لهم في من استهلكَه الإعلامُ ومَجّه عظةٌ وعبرة ..

وليمتثلوا للأمرِ الكريمِ بتحقيقِ ثلاثِ الصفاتِ :

ــ أنْ لا يكونَ الكلامُ بالشأنِ العامِ .. وهناكَ منْ سيكفيهم مؤنةُ الحديثِ فيه ..
ــ أنْ لا يكونَ بصفتِهم القضائيةِ حمايةً لهذا الوصفِ من الدخولِ في مناقشاتٍ ومهاتراتٍ يُبتلى القاضي بها رغماً عنه ..
ــ أنْ لا يكونَ بصورةٍ سلبيةٍ .. وهو القيدُ الأهمُّ .. فإنْ تأخّر هذا القيدُ .. فلنْ يضرَّهم ما قالوا ولا ما كتبوا .. ولن يخالفَ ذلك مقصدَ الأمرِ الكريم بحمايةِ القاضي من الامتهانِ .. وعلى منْ يفهمُ من النّظامِ شيئاً غيرَ المكتوبِ أن يشرحَ لنا نحنُ الذين لمْ نفهمْ بعدُ ..
ثمّ جاءَ التأكيدُ في الأمرِ الملكيّ الكريمِ على الوسيلةِ الإعلاميةِ .. ليخرجَ ما عدا ذلكَ منْ إلقاءِ المحاضراتِ والدروسِ في المساجدِ .. وليخرجَ ما يكونُ في نحوِ مواقعِ الوصلِ الاجتماعيّ والإيميلات والمنتدياتِ الخاصّةِ .. إذْ لا يصدقُ عليها وصفُ الوسيلةِ الإعلاميةِ .. ومن ثمّ فإنّ التحريشِ بمتابعةِ التغريداتِ والتهديدَ بملاحقتِها يدلّ على نفسٍ متوجعةٍ منْها أكثرَ ممّا هي جادةٌ في تحقيقِ منْعِها .. ولا يمكن متابعتُها فعلياً مع إمكانِ التخفي فيها .. إلا أنْ تتخلّى وزارةُ العدل عن مهمّتها المفترضةِ في إدارةِ العدالة .. وتتحولَ إلى وزارةِ المخبرين .. وأوّل شخصيةٍ عدليّة أعلنتْ غشيانَ مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ في" الفيس بوك " هي شخصيةُ معالي وزيرِ العدل .. وحَمدتْ لها الصحافةُ حينَها تلك الإيجابيةَ .. واعتبرتْها خطوةً عزيزةً في الشفافيةِ والوضوحِ .. ثمّ شاءَ الله أن يتغيّر الحالُ .. وتصبحَ في عدادِ الجرائم التي تعصفُ بالقاضي وتعرّضه للتحقيق ..

.. ولْيُعلمْ أنّ الدفاعَ عن هذا الأمرِ ليسَ لتعلّق بالإعلامِ وحضورِه .. أو رغبةٍ في غشيانِ دورِه .. والقضاةُ همْ أقلّ فئاتِ المجتمعِ مشاركةً به .. وإنما لردّ كلام للوزيرِ قاسٍ على القضاةِ لا يليق به ولا بهم .. ونبذ الوصاية التي تصادرُ الحرّيةَ باسم النظامِ .. ومنْ ثمّ فإنّ الطرحَ الذي يختزلُ الموضوعَ في قرارِ المنعِ من المشاركاتِ الإعلاميّةِ فقط غيرُ وجيهٍ .. حتى نقرأَ إلى جانبِه اللغةَ الجديدةَ المشحونَة بالتهديدِ ضدّ القضاةِ .. والتفرّدَ في تقريرِ الرأيِ والنفوذِ من قبل رئيس مكلّف وتجاوز إرادةِ أصحابِ الفضيلةِ أعضاءِ المجلسِ في ذلك .. والسعيَ الجادّ في تكميمِ الأفواهِ منْ أجلِ صناعةِ مستقبلٍ قضائيّ لا ندْري عن خيوطِ تفاصيلِه .. وإعلانَ تجاوزِ الأنظمةِ والأوامرِ وتفسيرَها على غيرِ ظاهرِها .. وهي أربعةُ مخاوفٍ محتفّة بقرارِ منعِ المشاركةِ الإعلاميّةِ لا ينبغي أنْ تغفلَ عنْها عينُ المتابِع .. ولا الرقيبِ .. وإذا كان لرئيسِ المجلسِ المكلفِ أنْ يتخذَ رأياً بمفردهِ .. ثم يفسر الأنظمةَ على فهومِه .. ويكمّمَ الأفواهَ التي تنتقده .. ويغلظَ عليهم العبارةَ فاقرأ على إدارتِه السلام ..
ولقدْ كانَ مزعجاً لنا منْ رجلٍ يقفُ على رأسِ القضاءِ ـ ولو كانَ وقوفُه مؤقتاً ـ أن ينالَ من القضاةِ بهذا الشكلِ وعلى سمعِ العالمين .. ويا ليته انتظرَ حتّى يتمّ إعفاءُ أيّ واحدٍ منْ أولائكَ القضاةِ المارقين .. ثم يتحدثُ بعد ذلك أنّنا أعفينا أوعاقبنا ـ وقدْ تركوا السلكَ القضائيّ ـ لا أنْ يهاجمَ قضاةً هو الآن يقرّ أنهمْ على رأسِ العملِ وينظرونَ قضايا المسلمينَ ويصدرونَ الأحكامَ الشرعيّة .. وظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضةً على المرءِ من نيلِ الصّحفِ والمجلاّت ..
وفي كتابِ تصنيفِ الناسِ بين الظنّ واليقينِ لشيخنا وشيخِه بكر بن عبد الله أبو زيد ـ نوّر الله ضريحَه ـ بيتٌ من الشعرِ ما زلتُ أحفظُه يقول :
قدّرْ لرجلك قبل الخطوِ موضَعها فمن علا زلقاً عن غرّةٍ زلجا

وأخيراً :
فهي وقفةُ وفاءٍ لمئات الأحبابِ والزملاء الذين اتصلوا وشكروا ودعوا وثبّتوا .. لهمُ الله ما كان أبردَ وصلَهم على القلبِ .. وأهناه على الروحِ .. وما زالت برقياتُهم المتصلةُ بأولي الأمر .. وتكاتفهم في النكيرِ على من تجاوز .. عملاً جليلاً ومشكوراً .. والعاقبة حميدة للصادقين .. وقضاؤنا بحمد الله بخيرٍ .. وهو فوقَ إرجافِ الظنون .. وتحكيمُ الشريعةِ فيهِ والفخرُ بها مطلبٌ ذائعٌ ومصون .. وما يحدثُ الآن هو مجرّدُ ضوضاء إعلاميةٍ لم نكنْ نعرفُها قبل عشرة أعوامٍ ولا خمسة .. وإنما جدّت في السنواتِ الأخيرةِ .. وصلتْ لنا مع وصولِ الباحثين عن مجدِ أنفسِهم .. واستوطنتْ قلوبَ طالبي الشهرةِ و الثراءِ .. آباء رغالِها من بني جلدتِنا .. يلبسونَ مشالحنا .. ويتكلمونَ بلغتنا القضائية .. يقدّمون رعايةَ مصالحهِم الخاصّةِ على حقّ العدالةِ والقضاء .. وملاحقة تلك الظاهرة لن تكونَ بتكميمِ أفواه القضاة حتى نتفكّر في سبب هذا الضجيج .. ولن يفيدَ طلبُ استقامةِ الظلّ مع اعوجاجِ العود .. والله المسؤول أن يصلح النوايا والأعمال ..
 

لا تقلْ شيئاً ولا تكتبْ ولا --- تستمعْ يا أيّها القاضي الهمامْ
ومن المطلوبِ أن تغمضَ عيناً --- وتعلّ الأنفَ دوماً بالزكامْ
وانتبهْ ثم انتبهْ ثم انتبهْ ... --- أن يراكَ الناسُ في شأنِ العوامْ
نحن لا نبحثُ إلا عنْ مكانٍ --- لك فيه الودّ منا والسلامْ
 أيها السادةُ عندي طلبٌ  ---  خالصُ السرّ شديدُ الالتزامْ
اشتروا لي قفصاً أسكنهُ --- واتركوني من حكايا الاحترام !!!!

 

مقالات الفوائد