اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/alsafinh/h30.htm?print_it=1

رجال الحسبة وإرجاف المرتابين

عبدالله بن محمد البصري


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَإِنها وَصِيَّتُهُ ـ تَعَالى ـ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ " وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِن تَكفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَوَى الإمَامُ مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " بَدَأَ الإِسلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبى لِلغُرَبَاءِ " وَكَمَا أَخبرَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَقَد بَدَأَ الإِسلامُ في مَكَّةَ غَرِيبًا ، وَاستقبَلَتهُ قُرَيشٌ بِالاستِغرَابِ وَالاستِنكَارِ ، وَاتَّهَمُوا صَاحِبَ الرِّسَالَةِ وَسَخِرُوا مِنهُ وَتَهَكَّمُوا بِهِ " وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنُونٌ " " وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ " " بَل قَالُوا أَضغَاثُ أَحلاَمٍ بَلِ افتَرَاهُ بَل هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرسِلَ الأَوَّلُونَ " " وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُم عَمَّا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُكُم وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفكٌ مُفتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلحَقِّ لَمَّا جَاءَهُم إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحرٌ مُبِينٌ " " ثُمَّ تَوَلَّوا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ " وَهَكَذَا ظَلَّ أُولَئِكَ القَومُ يَستَهزِئُونَ ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَى المُسلِمِينَ وَيُشَدِّدُونَ ، حتى قَيَّضَ اللهُ لِلدِّينِ مَن آزَرَهُ وَنَشَرَهُ ، وَبَعَثَ لِنَبِيِّهِ مَن آوَاهُ وَنَصَرَهُ " إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانيَ اثنَينِ إِذْ هُمَا في الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " وَظَلَّ الإِسلامُ بَعدَ ذَلِكَ قُرُونًا وَهُوَ شَامِخٌ مَنصُورٌ ، وَتَوَالَت دُوَلُهُ عَزِيزَةً دَولَةً بَعدَ أُخرَى ، وَتَتَابَعَ رِجَالُهُ وَنَاصِرُوهُ وَالمُجَاهِدُونَ دُونَهُ ، حتى قَامَتِ الدَّولَةُ السُّعُودِيَّةُ مُنذُ قِيَامِهَا وَالدِّينُ دُستُورُهَا ، فَعَمِلَ مُلُوكُهَا وَعُلَمَاؤُهَا عَلَى مُنَاصَرَةِ الدِّينِ ، وَأَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَشرَهُ وَالذَّبَّ عَنهُ وَالدَّعوَةَ إِلى سَبِيلِهِ ، وَأَلزَمُوا النَّاسَ بِهِ وَعَامَلُوهُم بِأَحكَامِهِ ، حتى صَارَ قَدرُهُ في القُلُوبِ عَالِيًا ، وَشَأنُهُ في الصُّدُورِ قَوِيًّا ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَسِيرُونَ عَلَى ذَلِكَ عن رِضًا وَيَقِينٍ ، مُسلِمِينَ مُستَسلِمِينَ ، مُؤمِنِينَ بِأَنْ لا أَحسَنَ مِنَ اللهِ حُكمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ ، لا يُمَارُونَ في حُسنِ الشَّرِيعَةِ وَلا يُجَادِلُونَ في كَمَالِهَا ، حتى ظَهَرَت عَلَى السَّاحَةِ شَرَاذِمُ مِنَ الضَّالِّينَ الجَهَلَةِ وَالمُنَافِقِينَ الخَوَنَةِ ، وَلا سِيَّمَا ممَّن تَوَلَّوا زِمَامَ الصَّحَافَةِ وَتَسَلَّمُوا أَقلامَ الكِتَابَةِ ، فَجَعَلُوا يَستَنكِرُونَ عَلَى المُسلِمِينَ أُمُورًا عَلِمُوهَا مِن دِينِهِم بِالضَّرُورَةِ ، وَأَخَذُوا يَعِيبُونَ عَلَيهِم تَمَسُّكَهُم بِسُنَنٍ مَشهُورَةٍ ، وَشَرَعُوا يُسَفِّهُونَ أَحلامَ القَابِضِينَ عَلَى دِينِهِم وَيسخَرُونَ مِنهُم ، وَتَوَسَّعُوا في نَقدِ الثَّابِتِينَ عَلَى قِيَمِهِم بِلا وَازِعٍ مِن دِينٍ وَلا رَادِعٍ مِن حَيَاءٍ ، حتى عَادَ الإِسلامُ غَرِيبًا عِندَ بَعضِ النَّاسِ كَمَا بَدَأَ ، وَصَارَ بَعضُهُم يَنظُرُ إِلى مَن يَتَمَسَّكُ بِهِ نَظرَةً خَائِنَةً ، أَو يَضَعُ حَولَهُ عَلامَاتِ الاستِفهَامِ وَيَتَّهِمُهُ ، أَو يَصِمُهُ بِالإِرهَابِ وَيَستَنكِرُ مِنهُ مَا يَفعَلُهُ ، مِن غَيرِ نَظَرٍ إِلى مَدَى شَرعِيَّةِ مَا يَفعَلُهُ ، أَو تَأَكُّدٍ مِن كَونِهِ ممَّا جَاءَ في الشَّرعِ أَو لا ... وَإِنَّ ممَّا كَثُرَ الخَوضُ فِيهِ مِن مُرتَزِقَةِ الصَّحَافَةِ في الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ وَشَرَّقُوا فِيهِ وَغَرَّبُوا ، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ عَن غَيرِ عِلمٍ وَتَعَرَّضُوا لَهُ بِلا بَصِيرَةٍ ، فَرِيضَةَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وِالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، تِلكَ الشَّعِيرَةُ العَظِيمَةُ وَالسُّنَّةُ الكَرِيمَةُ ، التي جَاءَ في كِتَابِ اللهِ مَدحُ الأُمَّةِ بها ، وَوَصفُهَا بِالخَيرِيَّةِ بِقِيَامِهَا بها ، وَرُتِّبَ عَلَى قِيَامِهَا بها نَجَاحُهَا وَفَلاحُهَا ، وَوُعِدَت إِذَا هِيَ قَامَت بها بِالرَّحمَةِ وَالنَّصرِ وَالتَّمكِينِ ، وَبُشِّرَ القَائِمُونَ بها بِالجَنَّةِ ، بَل جَاءَ الأَمرُ بها صَرِيحًا مُحكَمًا ، قال ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلْتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ " وقال ـ جل وعلا ـ : " كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم مِنهُمُ المُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ " وقال ـ تعالى ـ : " وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " وقال ـ جل وعلا ـ في وَصفِ المُؤمِنِينَ وَقَد بَشَّرَهُم بِالجَنَّةِ : " التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ " وقال ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " وَمَعَ ذَلِكَ فإِنَّ ممَّا زَادَ هَذِهِ الشَّعِيرَةَ عُلُوًّا وَشَرَفًا ، وَرَفَعَهَا مَكَانَةً وَقَدرًا ، أَنَّ اللهَ ـ جل وعلا ـ وَصَفَ بها أَشرَفَ خَلقِهِ وَأَكرَمَ رُسُلِهِ ، وَجَعَلَهَا مِن كَبِيرِ وَظَائِفِهِ وَجَلِيلِ أَعمَالِهِ ، قال ـ سُبحَانَهُ ـ : " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ "

أَيَّهُا المُسلِمُونَ ، إِنَّ شَعِيرَةً كَهَذِهِ الشَّعِيرَةِ العَظِيمَةِ ، التي نَزَلَ وُجُوبُهَا في القُرآنِ صَرِيحًا ، وَوُفِّيَ أَهلُهَا مِن رَبِّهِم ثَنَاءً وَمَدِيحًا ، وَوُصِفَ بها محمدُ بنُ عَبدِاللهِ ، إِنها لَجَدِيرَةٌ بِأَن يُفتَخَرَ بها ويُتَشَرَّفَ ، وَأَن يَرفَعَ أَهلُ هَذِهِ البِلادِ رُؤُوسَهُم بِوُجُودِ جِهَازٍ مُستَقِلٍّ يَقُومُ بها ، لا أَن يَفتَحَ النَّاعِقُونَ أَفوَاهَهُم في التَّقلِيلِ مِنهَا أَوِ التَّشكِيكِ في أَهمِيَّتِهَا ، أَو يَجعَلُوا مَا يَقَعُ مِنَ القَائِمِينَ عَلَيهَا مِن أَخطَاءٍ بَشَرِيَّةٍ مَادَّةً لِتَهَكُّمِهِم وَتَنَدُّرِهِم ، أَو مُنطَلَقًا لِشَنِّ حَربٍ كَلامِيَّةٍ عَقِيمَةٍ وَمُجَادَلاتٍ لِسَانِيَّةٍ سَلِيطَةٍ ، تُلقَى فِيهَا التُّهَمُ عَلَى رِجَالِ الحِسبَةِ جُزَافًا ، وَتُكَالُ لهم الشَّتَائِمُ اعتِبَاطًا ، وَيُرَكُّبُ عَلَيهِم مَا فَعَلُوهُ وَمَا لم يَفعَلُوهُ ، ثم يُنَادَى بِحَلِّ هَذَا الجِهَازِ أَو إِلغَائِهِ أَو تَحجِيمِ عَمَلِهِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم نَقرَأُ في الصُّحُفِ وَنُطَالِعُ في وَسَائِلِ الإِعلامِ ، مِن وَكرِ دَعَارَةٍ حَطَّمَتهُ الهَيئَةُ ، أَو إِركَابٍ غَيرِ مَشرُوعٍ كَشَفَتهُ الهَيئَةُ ، أَو عَمَلِيَّةِ اختِطَافٍ أَحبَطَتهَا الهَيئَةُ ! كَم مِن مَصنَعِ خُمُورٍ أُبطِلَ ! وَكَم مِن شَرِيطِ فَسَادٍ صُودِرَ ! كَم يَأمُرُ رِجَالُ الحِسبَةِ بِالصَّلاةِ ، وَكَم يُرَاقِبُونَ الأَسوَاقَ عَنِ الفََسَادِ ! وَوَاللهِ لَو أُنصِفُوا وَأُعطُوا مِن حَقِّهِم جُزءًا ، لَحُمِلُوا فَوقَ الرُّؤُوسِ تَبجِيلاً وَتَقدِيرًا ، وَلَتَوَالَت عَلَيهِم شَهَادَاتُ الشُّكرِ دَعمًا وَتَشجِيعًا ، لَكِنَّهُم لَمَّا حَالُوا بَينَ أَهلِ الشَّهَوَاتِ وَشَهَوَاتِهِم ، وَمَنَعُوا مُرَوِّجِي الفَسَادِ مِن إِفسَادِهِم ، وَوَقَفُوا في وُجُوهِ العُصَاةِ وَالمُنَافِقِينَ ، حُورِبُوا مِن أَجلِ ذَلِكَ وَعُودُوا ، وَكُرِهُوا بِسَبَبِهِ وَأُبغِضُوا ، وَصَدَقَ اللهُ ـ تعالى ـ "وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا " وَاللهِ مَا يُرِيدُ أَصحَابُ الشَّهَوَاتِ إِلاَّ أَن يُفتَحَ لهم البَابُ عَلَى مِصرَاعَيهِ ، وَيُترَكَ لهم الشَّأنُ لِيَعِيثُوا في البِلادِ فَسَادًا ، وَإِلاَّ لَو كَانُوا صَادِقِينَ وَلأُمَّتِهِم نَاصِحِينَ ، لَبَذَلُوا النَّصِيحَةَ لِلقَائِمِينَ على جِهَازِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ سِرًّا ، وَلَكَاتَبُوهُم وَخَاطَبُوهُم بِمَا يَرونَهُ ، أَمَّا أَن يُعَمِّمُوا وَقَائِعَ عَينٍ وَأَخطَاءً يَسِيرَةً ، وَيَنفُخُوا فِيهَا وَيُكَبِّرُوهَا وَيُسَلِّطُوا الضَّوءَ عَلَيهَا ، ثم يُطَالِبُوا بِسَبَبِهَا بِحَلِّ جِهَازِ الهَيئَةِ وَإِلغَائِهِ ، فَتِلكَ خَدِيعَةٌ مَا بَعدَهَا خَدِيعَةٌ ، بَل هِيَ حَربٌ مُعلَنَةٌ وَمَكرٌ ظَاهِرٌ ، وَإِلاَّ فَمَتى كَانَ خَطَأُ طَبِيبٍ دَاعِيًا لإِلغَاءِ وِزَارَةِ الصِّحَّةِ مَثَلاً ؟ وَهَل سَمِعنَا بِمَن يِدعُو لإِلغَاءِ وِزَارَةِ التَّعلِيمِ لأَنَّ مُعَلِّمًا أَخطَأَ ؟ وَمَن الذِي يَجرُؤُ عَلَى المُطَالَبَةِ بِحَلِّ إِدَارَةِ الأَمنِ لِخَطَأِ جُندِيٍّ أَو تَجَاوُزِ ضَابِطٍ أَو إِخلالِ أَيِّ فَردٍ بِعَمَلِهِ ؟ لَكِنَّهَا انتِقَائِيَّةٌ بَغِيضَةٌ مَقِيتَةٌ ، لَكِنَّهُ اتِّبَاعُ الهَوَى لِتَحقِيقِ الشَّهَوَاتِ ، لَكِنَّهَا الحَربُ عَلَى الخَيرِ وَأَهلِهِ ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِن دُنيًا مُؤْثَرَةٍ وَهَوًى مُتَّبَعٍ ، وَمِن إِعجَابِ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُم وَاللهُ يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ . إِنَّ اللهَ يَعلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "

الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تعالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاحذَرُوا أَسبَابَ سَخَطِ رَبِّكُم ـ جَلَّ وعلا ـ فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ عَدَمَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَالرِّضَا بِالمُنكَرَاتِ وَالسَّمَاحَ لها بِالانتِشَارِ ، وَغَضَّ النَّظَرِ عَنهَا وَطَأطَأَةَ الرُّؤُوسِ لها ، مَا هُوَ إِلاَّ سُمٌّ تُمَاتُ بِهِ القُلُوبُ المُؤمِنَةُ الحَيَّةُ ، حتى تَحُلَّ مَكَانَهَا في الصُّدُورِ قُلُوبٌ مُنَافِقَةٌ مَيِّتَةٌ ، تَتَّبِعُ أَهوَاءَها بِغَيرِ عِلمٍ ، وَتَبحَثُ عَن شَهَوَاتِهَا دُونَ عَقلٍ ، وَتَستَمِيتُ في حَربِ مَن حَالَ بَينَهَا وَبَينَ شَهَواتِهَا دُونَ تَفكِيرٍ ، شَاهِدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسلِمٌ عَن حُذَيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه ـ قال : سَمعِتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يَقُولُ : " تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ ، حتى تَصِيرَ عَلَى قَلبَينِ : عَلَى أَبيَضَ مِثلِ الصَّفَا ، فَلا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَالآخَرُ أَسوَدُ مُربَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا ، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ " إِنَّنَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ يَجِبُ أَلاَّ نُضِيفَ إِلى تَقصِيرِنَا في وَاجِبِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ مُنكَرًا آخَرَ بِمُحَارَبَةِ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ أَو بُغضِهِم ، أَو تَصدِيقِ مَا يُلَفَّقُ ضِدَّ رِجَالِ الحِسبَةِ ، أَو تَعمِيمِ مَا يَقَعُ فِيهِ بَعضُهُم مِن أَخطَاءٍ أَو تَجَاوُزَاتٍ ، أَو حُبٍّ لانتِشَارِ المُنكَرِ وَفَرَحٍ بِغِيَابِ المُعرُوفِ ، وَإِنَّنَا إِنْ فَعَلنَا ذَلِكَ فَقَد شَارَكنَا أَهلَ المُنكَرَاتِ في مُنكَرَاتِهِم وَإِنْ لم نَحضُرْهَا بِأَبدَانِنَا ، قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : " إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ في الأَرضِ كَانَ مَن شَهِدَهَا وَكَرِهَهَا كَمَن غَابَ عَنهَا ، وَمَن غَابَ عَنهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَن شَهِدَهَا " وقال ـ عليه السَّلامُ ـ : " المَرءُ مَعَ مَن أَحَبَّ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ قَضِيَّةَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ لَيسَت قَضِيَّةً سَهلَة ، إِنها تَعني نجَاةَ الأُمَّةِ أَو هَلاكَهَا ، إِنَّ القِيَامَ بِالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ مُؤَشِّرٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ وَعُلُوِّ قَدرِ الدِّينِ في القُلُوبِ ، وَإِنَّ تَركَهُ لَدَلِيلٌ عَلَى ضَعفِ الإِيمَانِ وَرِقَّةِ الدِّينِ في النُّفُوسِ ، قال ـ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ " وقال ـ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَصَارَ بَعضُهُم أَعلاهَا وَبَعضُهُم أَسفَلَهَا ، فَكَانَ الذين في أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَن فَوقَهُم ، فَقَالُوا : لَو أَنَّا خَرَقنَا في نَصِيبِنَا خَرقًا وَلم نُؤذِ مَن فَوقَنَا . فَإِنْ تَرَكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِن أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا " وقال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : " وَالذي نَفسِي بِيَدِهِ ، لَتَأمُرُنَّ بِالمَعرُوفِ وَلَتَنهَوُنَّ عَنِ المُنكَرِ أَو لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِنهُ ، ثم تَدعُونَهُ فَلا يَستَجِيبُ لَكُم " وقال ـ عليه السَّلامُ ـ : " مَا مِن رَجُلٍ يَكُونُ في قَومٍ يُعمَلُ فِيهِم بِالمَعَاصِي يَقدِرُونَ عَلَى أَن يُغَيِّرُوا عَلَيهِ وَلا يُغَيِّرُونَ ، إِلاَّ أَصابَهُمُ اللهُ مِنهُ بِعِقَابٍ قَبلَ أَن يَمُوتُوا " وَأَخِيرًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّهُ وَإِن كانَ رِجَالُ الحِسبَةِ بَشَرًا يُصِيبُونَ وَيُخطِئُونَ ، وَيَقَعُونُ فِيمَا يَقَعُونَ فِيهِ وَيَتَجَاوَزُونَ ، فَإِنَّ الجَرَائِدَ وَالصُّحُفَ لَيسَت هِيَ المَكَانَ المُنَاسِبَ لِتَصحِيحِ أَخطَائِهِم ، لا وَاللهِ وَكَلاَّ ، فَمَرَاكِزُهُم مَعرُوفَةٌ ، وَأَبوَابُ مَسؤُولِيهِم مَفتُوحَةٌ ، وَالنَّصِيحَةُ لهم وَاجِبَةٌ ، قال ـ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " فَرَحِمَ اللهُ امرَأً أَعَانَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ، أَو سَكَتَ عَنهُم وَتَرَكَهُم في شَأنِهِم ، قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : " وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَسْكُتْ " وقال أَحَدُ السَّلَفِ : لِيَكُنْ حَظُّ المُؤمِنِ مِنكَ ثَلاثًا : إِنْ لم تَنفَعْهُ فَلا تَضُرَّهُ ، وَإِنْ لم تُفرِحْهُ فَلا تَغُمَّهُ ، وَإِنْ لم تَمدَحْهُ فَلا تَذُمَّهُ .

 

سفينة المجتمع
  • مسائل في الحسبة
  • شـبـهـات
  • فتاوى الحسبة
  • مكتبة الحسبة
  • حراس الفضيلة
  • الصفحة الرئيسية