صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







تعارُض المصلحة والمفسدة في الباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

سلمان بن فهد العودة

 
وهذا الموضوع في غاية الأهمية، والقصور في فقهه يترتَّب عليه أخطاء في الفعل والكف كثيرة.
وذلك أن كثيرًا من الناس يملكون تمييز المصلحة الصريحة التي لا تكاد تشوبها مفسدة، ولا يخالطها ضرر، ويملكون تمييز المفسدة المحضة الصريحة التي لا تكاد تشوبها مصلحة، ولا يكاد يختلط بها شيء من النفع، أما حين تتداخل المصالح والمفاسد وتختلط؛ فإن أكثر الناس يتعسَّر أو يتعذَّر عليهم تمييز الراجح منها، وفعل ما يقتضيه الشرع، وكلما ازداد اختلاطهما، وتقارب مقدارهما؛ ازدادت صعوبة التمييز بينهما وفعل الأرجح منهما.
وإذا كان من الظاهر أنه كلما بَعُد عهد الناس بالرسالة؛ ازدادت غربة الشرائع، وازدادت المفاسد ظهورًا، وازداد تشابك المصلحة بالمفسدة، وصعوبة تحصيلها؛ إلا بتحمُّل قدر من الضرر؛ فإن هذا يؤكد أهمية فقه هذه المسألة لمن يتصدَّى للدعوة والاحتساب بالأمر والنهي في هذا العصر.
والقاعدة العامَّة في هذا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم المأمورات التي تعبَّدَنا الله بفعلها، والواجبات المستحبَّات لابد أن تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها، إذ بهذا بُعِث الرسل، وأُنْزِلت الكتب، وكل ما أمر الله به؛ فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والصالحين والمصلحين في غير موضع، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع.
فحيث كانت مفسدة الأمر أو النهي أعظم من مصلحته؛ لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد تضمَّن تركَ واجب أو فعلَ محرَّم، إذ المؤمن عليه أن يتَّقي الله في عباده، وليس عليه هداهم.
وحيث كانت مصلحة الأمر والنهي أعظم من مفسدته؛ فهو مما أمر الله به ورسوله، إذ الشرع جاء بجلب المصالح وتحصيلها، ودفع المفاسد وتقليلها .
فإذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها؛ فإن الأمر والنهي، وإن كان متضمِّنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة؛ فينظر في المعارِض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأمورًا به؛ بل يكون محرَّمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتِّباع النصوص؛ لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تُعوِزَ النصوصُ مَن يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا؛ إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرِّقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعًا، أو يتركوهما جميعًا؛ فإنه ينظر، فإن كان المعروف أكثر؛ أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن هذا المنكر المستلزم تفويت ما هو أعظم منه من الطاعة.
وإن كان المنكَر أعظم؛ نهى عنه، وإن استلزم فَوات ما هو دونه من الطاعة، ولم يأمُرْ بفعل هذه الطاعة المسلتزمة لما هو أعظم منها من المنكر.
وإذا اشتبه الأمر؛ استبان المؤمن حتى يتبيَّن له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية.
فالتعارض إذًا؛ إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فنقدم أحسنهما بتفويت الأخرى، وإما بين سيئتين لا يمكن دفعهما معًا، فتدفع أسوأهما باحتمال الأخرى، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، وترك إحداهما مستلزم لترك الأخرى، فينظر في الأرجح من مصلحة الحسنة أو مفسدة السيئة.
وباب التعارض واسع جدًّا، ولا سيَّما في هذه الأزمنة التي نقصت فيها آثار الوحي، وعظمت آثار الغربة، وذهبت خلافة النبوَّة.

وهذا التعارض والاختلاط بين الحسنات والسيئات من أسباب الاختلاف العريض بين المسلمين:
فقوم ينظرون إلى الحسنات، فيرجِّحون تحصيلها، وإن تضمَّنت سيئات عظيمة.
وقوم ينظرون إلى السيئات، فيرجِّحون تركها، وإن تضمَّن ترك حسنات عظيمة.
والمتوسطون مَن يقارنون بين مقدار المصلحة ومقدار المفسدة، فينفذون ما غلب خيره -وإن تضمَّن شرًّا- ويَدَعون ما غلب شرُّه - وإن تضمَّن تفويت خير قليل -، وإذا التبس الأمر عليهم؛ وقفوا حتى يستبين؛ دون أن يلوموا غيرهم في هذه المواطن الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار النظَّار.

من الأخطاء الشائعة اليوم في موضوع المصلحة والمفسدة:
وهذه القاعدة في موضوع تعارض المصالح والمفاسد يجهلها كثير من الناس، فيقعون في أخطاء كبيرة، وربما لاموا غيرهم على فعل الأحسن والأكمل، وحمدوه على فعل الأقل؛ لضعف نظرهم، أو لإيثارهم ما يظنونه السلامة والورع؛ لضعف فقههم، وإلا؛ فالورع ليس في ترك المشتبه بالمحرم أو بالمكروه فحسب؛ بل من الورع فعل المشتبه بالمستحب أو بالواجب أيضًا.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المتديِّنة والمتفقِّهة في زماننا ما يلي:
- أولاً: أن يدْعوهم إيثارُ السلامة في أنفسهم والخوف من الفتنة إلى اعتزال مواطن المنكرات والبعد عنها، مع قدرتهم على غشيانها والإِنكار على أصحابها والتغيير إما باليد وإما باللسان، وذلك خوفًا على أنفسهم من هذه المنكرات أن يصل إليهم شيء من رذاذها وغبارها، أو يصل إلى قلوبهم شيء من ظلمتها وسوادها.
والواقع أن أقوى الناس يقينًا، وأمتنهم دينًا، وأوسعهم علمًا، وأشدَّهم ثباتًا؛ إذا اشتغل بالدعوة إلى الله في أوساط المشركين وأهل الكتاب أو الفساق وأهل البدعة أو نحوهم؛ قد لا يشعر بالرَّوح والسعادة القلبية ولذاذة الإيمان التي يشعر بها غيره من المقيمين بين ظهراني أهل الخير والفقه والعبادة، ومع ذلك؛ فقد يكون ما يقوم به من العمل والدعوة أفضل بمراحل مما يقومون هم به، وقد يكون له من الفضل والخير ما ليس لهؤلاء.
وتحمُّل الضرر اليسير من أجل تحصيل مصلحة أعظم أمر مطلوب شرعًا وعقلاً، وما يفقده المرء المشتغل بالنهي عن المنكر من راحة القلب وانبساطه لكثرة رؤيته للمنكرات وضيقه وتبرُّمه بها، ثم تأثر القلب بذلك، وضعف إشراقه؛ يعدُّ أمرًا يسيرًا بالقياس إلى ما يقابله من المصلحة العظيمة التي هي: هداية الناس، وإقامة الحجة عليهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتحمل فروض الكفاية عن الغير، بل قد تكون هذه الأمور من فروض الأعيان عليه حسب التفصيل السابق.
وكذلك ما يخافه على نفسه من منازعتها له إلى المنكرات، ودعوته إليها، مع ما يقابل ذلك من الإيمان والخوف من الله.
أما مَن يرى في نفسه ميلاً صريحًا إلى هذه المنكَرات -وخاصة المنكرات المتعلِّقة بالشهوات؛ كالسفور، والتبرُّج، والاختلاط... ونحوها -، ويجد من نفسه الهمَّ القويَّ بذلك؛ فهذا حريٌّ به البعد عنها طلبًا لنجاة نفسه منها.
وهذا الباب يتفاوت فيه الناس تفاوتًا كبيرًا، وكثير ممَّن يغْلِب عليهم الصلاح والورع؛ يؤثرون سلامة أنفسهم، وينسون أن السلامة تكون أيضًا بالقيام على أهل المنكرات ومضايقتهم وردعهم.
فالواجب على طلبة العلم والدُّعاة والمتفقِّهين القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل صعيد، والإنكار على أصحاب الانحرافات الخلقية وأصحاب الانحرافات الفكريَّة؛ بحيث يؤدِّي كل امرئ ما يقدر عليه، ويناسب حاله وحال من ينكر عليه.
فلابد من إقامة الحجة على هؤلاء وأولئك، وعلى غيرهم من أهل المنكرات مِن العِلْية أو من غيرهم؛ دفعًا للغربة عن الشريعة التي جاءت بإقامة المعروف والأمر به، ورد المنكر والنهي عنه.
ولا يمكن التباعد المطلق عن المنحرفين من حملة الأفكار الإلحادية والعلمانية، ومن أصحاب البدع والانحرافات العقدية، ومن أصحاب المفاسد الخلقية؛ بحجة الخوف من التأثُّر بهم؛ بل على مَن يجد في نفسه شيئًا من الكفاءة العلمية والشخصيَّة في ذلك: أن يقوم بواجب الأمر والنهي والبلاغ وإقامة الحجة.

- ثانيًا: ومن الأخطاء أيضًا ما يوجد في جماهير طلاب العلم والدعاة في هذا العصر من: العزوف عن تولِّي الأعمال التي فيها مصلحة عامَّة، والعزوف عن التصدُّر للتدريس أو التوجيه أو القيادة؛ زهدًا في السمعة والجاه، وكراهية للشهرة، وإيثارًا للخمول والاستخفاء والبعد عن الأضواء.
وربما تعلَّق بعضهم بما يُؤثَر عن بعض السلف من عبارات في هذا المعنى، تدلُّ على كـراهيتهم للتصدُّر، وتبرُّمهـم من تعظيم الناس لهم، ومقتهم لأنفسهم، وربما احتجَّ بقول أيوب السختياني: "ذُكِرْتُ وما أحب أن أُذْكَر" ، وقول الثوري: "وإذا رأيت الرجل قد ذُكِر في بلدة بالقراءة والنسك، وعلا فيها بالاسم، واضطرب به الصوت، فلم يخرج منها؛ فلا تَرْجُ خيره"، وبقول بعضهم: "لست أهلاً لهذا، هذا يقوم به غيري ممَّن آتاهم الله القدرة، ومن الظلم للناس أن أقوم بهذا الأمر"… إلى غير ذلك من التعليلات العليلة والأعذار التي لو حاسب المتذرِّع بها نفسه حسابًا حقيقيًّا صريحًا صادقًا؛ لأدركَ أنها لا تستقيم ولا تصح، ولكان هو أول الناقدين لها.
والواقع أن أكثر الناس زهدًا في هذه الأمور هم أكثر الناس كفاءة وصلاحية لها في الجملة، على ما فيهم من نقص وقصور.
وإن تخلِّي المخلصين الزاهدين في الشهرة والجاه عن هذه الميادين جعلها مرتعًا خصبًا لكل من لا يصلح لها: من حملة المذاهب الأرضية، ومن المتظاهرين بالخير وهم على نقيضه، ومن شيوخ البدع والتصوُّف، ومن طلاب الشهرة الحريصين على كسب احترام الناس ومديحهم وثنائهم.
ومن نتائج هذا أن يصبح الذين يمثِّلون الدين في المجتمعات الإسلامية من هذه النوعيات المنحرفة، وأن يصبح أهل العلم والسنة والصلاح؛ بعيدين عن هذه الميادين؛ منـزوين في دورهم ومجالسهم؛ لا يكاد يسمع بهم أحد.
وقد يروق لهم هذا الحال، ويتعلَّلون بأنهم في غربة، وأن هذه ضريبة الغربة! وكونهم في غربة أمر واقع، ولكن ما هكذا شأن الغرباء، ولا هذه صفاتهم.
فالغريب الموفَّق الحريص على الانضواء تحت لواء الطائفة المنصورة القائمة بأمر الله شأنه: الجهاد في كل الميادين، والصدع بالحق، والعمل على دفع هذه الغربة عن الدين وشرائعه وأهله المتمسكين به، وليس شأنه أن يؤثر السلامة فيشارك في إحكام طوق الغربة حول نفسه، وإن لم يشعر، وله قدوة بالغرباء الأولين، الذين بدأ الدين على أيديهم، حيث لم يزدهم الشعور بالغربة؛ إلا ثباتًا على الحق، وتحمُّسًا له، وصبرًا عليه، وجهادًا فيه، حتى حقَّق الله على أيديهم نصر هذا الدين أتم نصر وأكمله، ودفع الله بهم عنه الغربة، ولم يمنعهم حبُّهم للخمول، وكراهيتهم للشهرة، من القيام بالدعوة والجهاد والتوجيه، ولو ترتَّب على ذلك أن يشتـهروا ويعرفوا - على كُرْهٍ منهم -، وعلى هذا يُحمل كلام السلف.
أما أن نقعد وننكَفَّ عن مواطن: البيان والبلاغ، والأمر والنهي، والتوجيه والدعوة، ثم نزعم أن هذه هي الغربة؛ فهذا من سوء الرأي وضعف التدبير.
إن التعلُّل بالعجز والضعف وقصور الآلة وقلة الكفاءة ليست مسوِّغات حقيقية لترك ميدان الدعوة والتوجيه واعتزاله؛ لأن من هؤلاء المعتزلين المعتذرين بالضعف والقصور مَن ينتقدون كثيرًا من القائمين على هذه المجالات، ويُزْرون بهم، وينتقصونهم، وهذا دليل على أنهم لم يتركوا الميدان لمَن هو أكفأ منهم، وأقدر، وأعلم، وأنزه قصدًا، وأقوم مسلكًا؛ بل لمن هو أقل، وأضعف، وأجهل؛ باعترافهم هم.
وكثيرًا ما تلتبس المثبطات الشيطانية المغرية بالراحة والقعود بالرغبة في معالجة الأعمال المريحة الهادئة؛ كالقراءة، والبحث، والعبادة... ونحوها، وتلتبس هذه وتلك باحتقار النفس وهضمها وازدرائها، حتى لتبدو هذه الأمور لصاحبها نوعًا من الزهد السلفي الصحيح، وما هي منه في شيء.
بل المتَّبِع الحريص على خير نفسه وخير المسلمين، الحريص على دفع الغربة عن نفسه وعنهم، هو من يبذل ما عنده من العلم والفهم والفقه -ولو قلَّ- دون أن يدَّعي ما ليس له، وهو مَن يزاحم أهل الضلالة والبدعة في قيادة المجتمعات الإِسلامية وتوجيهها، ويستفيد من الفرص المواتية في ذلك، مع حرصه الشديد على سلامة نفسه من التعلُّق بالدُنيا والجاه والمكانة عند الناس وجهاده لها في ذلك.
لكن؛ لو وجد أن نفسه لا تطاوعه إلى فعل هذا الخير المتعدي النافع للناس كافة من العلم والتعليم والقيادة والتوجيه والتصدُّر؛ إلا بشيء من الأغراض الدنيوية؛ من تحصيل مال، أو رغبة في جاه، أو منـزلة… أو نحو ذلك، وكان ضرر هذه الأشياء أقل من المصلحة المترتِّبة على هذه الأعمال، مع استعداده لترك هذه الأعمال الخيريَّة كراهية لما لابسها، مما يدلُّ على إخلاصه وحسن مقصده ورغبته في استقلال النية في العمل استقلالاً تامًّا خالصًا من كل شائبة؛ فإن مباشرته لهذه الأعمال الصالحة النافعة ومعاناته لها مع مجاهدة نفسه على تمام الإِخلاص لئلا تستقرَّ بها الرغبة في الأغراض العاجلة خير من اعتزاله وتركه الميدان لغير أحد؛ إلا للمفسدين والمنحرفين والمرائين؛ خاصة حين لا يوجد من يقوم بهذه الفروض، ولا من يتصدَّى لها بما يكفي لتوجيه عموم الناس، ودعوتهم، وتعليمهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر.
وقيام أهل العلم والصلاح بواجب الدعوة والبلاغ والإِنكار، مع ما يستلزمه ذلك من التصدر والبروز والظهور، يفيد في إنكار المنكَرات الكبيرة التي تحتاج في إنكارها إلى عصبيَّة تحيط بالمنكِر، تكسبه القوة والثقل، وتحميه من أن يصل إليه أذى أهل المنكَر.
وذلك مثل المنكَرات الشائعة الشهيرة المستقرَّة التي اعتادها الناس وألفوها حتى صارت جزءًا من حياتهم، والمنكَرات التي يقف خلفها المنافقون المستترون، سواء كانوا أهل سلطة ونفوذ وتمكين، أو كانوا ممَّن يحيطون بأهل السلطة والنفوذ والتمكين، والمنكَرات التي يقف خلفها بعض المحسوبين على الدين أو العلم أو الشرع، وهم في الحقيقة من أهل الزندقة والجهل والهوى.
وإنَّ مما ينبغي أن يُلاحظ: أنَّ الله تعالى أثنى على المؤمنين بدعائهم وقولهم: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزْواجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
فطلب الإِمامة في الدين مما يُمْدَح به ويُثنى عليه، وليس فيه مذمَّة بحالٍ من الأحوال.
وكذلك لما جاء عثمان بن أبي العاص، فقال: يا رسول الله! اجْعَلْني إمام قومي. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ‌أنتَ إمامهم، واقتَد بأضعفِهم، واتَّخذ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا".
فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على طلب الإمامة، ولم يعتب عليه في ذلك؛ بل قال له: "أنت إمامهم"، ثم أوصاه ببعض الوصايا المتعلِّقة بالإمامة، ووجوب الرفق فيها بالرعية، وتَوْلِية الأكْفاء المخلصين الذين لا يريدون الأجر إلا من الله.
فهذا فيما يتعلَّق بالإمامة الدينيَّة.
أما ما يتعلَّق بالإمامة الدنيويَّة؛ كمن يكون قصده الإِمارة مثلاً أو الوظيفة؛ فهذا يُقال في حقِّه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: "يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعْطيتَها عن غير مسألة؛ أُعِنْتَ عليها، وإن أُعْطيتَها عن مسألةٍ؛ وُكِلْتَ إليها..." الحديث.
فجديرٌ بالداعي وطالب العلم أن يعرف الدَّوافع والموانع وحقيقتها... وهل هي دوافع أو موانع صالحة شرعية؟! أم أنها من إلقاءات الشيطان التي تتزيَّى في النفس بزِيِّ الخير، وهي بضد ذلك؟!
وكثيرًا ما تتحالف هذه القوى الخفيَّة الشريرة؛ لإحكام أحابيل الغربة، وإشاعة الفتنة، وتتوحَّد ضد السنة وأهلها، وكثيرًا ما يجد الولاة والحكام المنحرفون عن الشريعة الحائدون عن منهج النبوة في مألوفات الناس وعوائدهم حجة لترك المنكرات؛ بل ونشرها وإشاعتها، وإهمال الأمر بالمعروف وإخماله، والتضييق على أهله، وتعميق اغترابهم، ويجدون من المنتسبين إلى الدين من المتصوفة والمرتزقة المتمصلحة وأضرابهم مَن يتمسَّحون به في إظهار حدبهم على الدين، وحرصهم عليه، مقابل التمكين لهم في نشر طرائقهم الضالَّة بين المسلمين، والترويج لها؛ مصداقًا لقوله تعالى: (وَكَذَلَكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .

- ثالثًا: ومن الأخطاء الواقعة اليوم بسبب اختلال ميزان المصالح والمفاسد عند كثير من القائمين بالأمر والنهي بين المسلمين: تعجُّلُ بعضهم في استعمال القوة، وشهر السلاح ضد المفسدين، مما يترتَّب عليه من الفتن والمفاسد أحيانًا أضعاف المنكر الأصلي الذي قاموا لتغييره.
واستعمال القوة لتغيير المنكر وارد في أصل المسألة، إذ هو داخل ضمن مفهوم التغيير باليد لمن استطاع، ولكن يجب وضعه في موضعه، واستعماله في وقته المناسب، وضبطه بالضوابط الشرعية التي تحفظه من أن يكون ألعوبة في أيدي المتهوِّرين والمتعجِّلين.
ومن الضوابط الأساسية له ما يلي:
1- أن يكون استعماله عند فقدان السلطة القائمة بالأمر والنهي، أو في الأطراف والنواحي البعيدة التي يضعف فيها سلطان الدول غالبًا، فأما مع وجود الدولة الشرعية القويَّة الآمرة الناهية؛ فإن شهر السلاح دون إذنها هو نوع من الفوضى التي يجب حسمها والقضاء عليه.

2- أن تكون المصلحة في ذلك ظاهرة، بحيث لا يترتَّب عليه من المفاسد الآنيَّة والمستقبلة أكثر من المصلحة.
وهذا باب خطر جدًّا؛ فإن كثيرًا من المتسرعين - وخاصة الشباب- تفور دماؤهم في عروقهم؛ إذا رأوا المنكرات ظاهرة لا تغيَّر، فيفكرون بتغييرها بالقوة -إن استطاعوا-؛ دون أن يحسبوا حسابًا لما سيترتَّب على صنيعهم من الآثار القريبة والبعيدة، الضارَّة بهم وبغيرهم؛ بل وبالدعوة الإِسلامية ذاتها.
وربَّما أفلحوا في تغيير منكر صغير، ولكنهم تسبَّبوا في ضياع أنواع من المعروف كثيرة، وفي وجود أنواع من المنكر أعظم بكثير مما أزالوا، فيكون كمَن يبني قصرًا ويهدم مصرًا؛كما يُقال.

فلا يقوم بالتغيير بالقوة؛ إلا من حقَّق الضوابط السابقة، ووثق من نفسه وقدرته على التغيير، وعرف ضعف مقابله، وعدم إمكانه دفعه، أو الانتقام منه، أو إنزال الضَّرر به بوجه من الوجوه، بحيث تطغى مفسدة الأثر على مصلحة زوال المنكر.
أما أن تكون المسألة مجرَّد انفعالات وقتية تجرُّ إلى فتن عظيمة ومشاكل جسيمة على الدعوة وأهلها؛ فهذا عمل محرَّم؛ بالنظر إلى الآثار الضارَّة التي يحدثها، وصاحبه آثم، ولا يغنيه أن كان دافعه الغيرة على الحرمات، وتعظيم الشعائر، ومقت المنكرات؛ فإن ما يجرُّه من هتك الحرمات، وتكثير المنكرات، والتسبُّب في إهانة أهل الخير، والتضييق على المعروف، وغربة أهله، وما قد يترتَّب على فعله؛من سفك الدماء، وهتك الأعراض، وغير ذلك... كل ذلك باء بإثمه المتسبب الأول.
وبعضهم يقول: أنا لا يهمُّني... منكر لابد أن أزيله مهما كانت النتائج... ولا أدري بأي عقليَّة يفكر هؤلاء... فأي دين أو عقل يجيز لك أن تحرق مكانًا للفساد أو تحاول إحراقه، وهو مدعوم بقوَّة الحكم والسلطان والقانون، الذي يعوِّض الخسارة بأضعافها، ويفتح بدل المحل عشرة، وربَّما ذهب ضحيَّة هذا العمل عدد من أرواح الشباب الأبرياء المخلصين؟! فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.

3- أن يكون مضبوطًا بالآداب والتوجيهات العامة في الأمر والنهي؛ فلا يجوز اللجوء إليه إلا مع تعذُّر التغيير بالوسائل الأخرى، فإن أمكن زوال المنكر بالمخاطبة أو المكاتبة أو النهي أو التشهير أو التهديد؛ فهذا هو الأصل؛ بل ومراعاة الرفق واللين والحلم والعدل في ذلك واجبة .

4- أن يكون المرجع في ذلك إلى علماء السنة العاملين؛ بحيث يتولَّون نقض هذا الأمر أو إبرامه، ويُصْدَر عن رأيهم في ذلك.
فإن كان في الزمان عالم من أهل السنة، مشهور بالعدالة والثقة؛ تعيَّن الرجوع إليه؛ كما يوجد في زماننا هذا من العلماء المهتدين الذين أطبقت شهرتهم الآفاق.
وإن لم يوجد علماء بهذه المثابة؛ فالأمور موكولة إلى علماء السنة في البلد ذاته، وحقٌّ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع القضايا عن رأيهم.
وربط هذا الأمر الخطير بالعلماء العاملين المستقيمين على الجادَّة فيه ضمانة عمليَّة قويَّة له، وحفظٌ عن أن يخرج الحال إلى الفوضى والاضطراب، إذ قد يُخيل للمتعجِّل: أن المصلحة في استعمال القوَّة في هذا الموضع، وأن الرفق واللين -مع هؤلاء المجاهرين المعاندين- لا يسوغ، فيُقْدِم عليه؛ بلا تبصُّر صحيح، ولا نظر واع.
فإذا رُبِط الأمر بعلماء السنة؛ صار إليهم تقدير المصلحة على وَفق نصوص الشرع، ومعرفة الأسلوب الأمثل في الإِنكار والتغيير.
وفي هذا فائدة أخرى كبيرة، وهي دعم مكانة العلماء، وتوطيد منـزلتهم عند الناس؛ بحيث يصبح لهم نفوذ حقيقي؛ يُخشى جانبه ويُهاب، ويَحْسِب له أصحاب القوَّة والنفوذ ألف حساب.
فإن العالم إذا كان غيورًا قائمًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنفسه وبأعوانه؛ صار له القدر العظيم عند العامة والخاصة.
ولقد كان محمد بن المنكدر وأصحاب له يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ونالهم في ذلك الأذى من السلطان.
وكان شيخ الإِسلام ابن تيمية يخرج بتلاميذه، فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويدورون على الخمارات والحانات، فيكسرون أواني الخمور، ويشقِّقون الظروف، ويعزِّرون أهل الفواحش.
وقد قاموا بتأديب أهل الجبل المعروفين بالنُّصيرية، والانتصار عليهم، وإلزامهم بأحكام الإِسلام الظاهرة.
كما كان له رحمه الله ولأتباعه دور عظيم في دفع التتر عن الشام، وهزيمتهم في وقعة (شقحب) وغيره.
ولذلك وقف رحمه الله موقفه العظيم حين قال للسلطان وقد تأخر عن المجيء إلى دمشق؛ مع اقتراب التتر منها، وشدة الخوف والإِرجاف، فخرج في شيخ الإِسلام ابن تيمية إلى مصر، وحث الناس على الخروج لقتالهم، وقال للسلطان: "إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته؛ أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن"، وتلا قوله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، وقوله: (إِلاَّ تَنْفِروا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَليمًا ويَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا) .
وقال: "لو قُدِّر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله؛ وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم، وأنتم مسؤولون عنهم؟!".
فلابد إذًا من مراعاة هذه الضوابط؛ ليكون التغيير بالقوة دائرًا في فلك المصلحة والحكمة، وليكون باذل نفسه فيه محمودًا مأجورًا.
وقد ذكر الإِمام أحمد رجلاً صُلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فترحَّم عليه، وقال: "قد قضى ما عليه"، وقال: "قد هانت عليه نفسه"!
فواردٌ جدًّا أن يؤذى المنكِرون ويحبَسون ويضرَبون... بل ويُقتلون فيمضون شهداء في سبيل الله إن شاء الله؛ متى كان عملهم عملاً شرعيًّا، منبثقًا من رعاية المصالح ودفع المفاسد، مبنيًّا على الحكمة والعلم والبصيرة، بعيدًا عن الهَوَج والاندفاع والطيش والتعجُّل.
أما أن يتحوَّل التغيير بالقوة إلى اندفاعات عاطفيَّة غير مدروسة وحماسات وقتيَّة غير مستبصرة؛ فليس هذا من المصلحة في شيء، بل مفسدته راجحة ظاهرة، وضرره بيِّن.
وليست العبرة بالمقاصد والنيَّات فحسب، فكم من مريد للخير لم يبلغه!!
وسبق في أول هذا المبحث أن الأمر والنهي عبادة من العبادات، يشترط فيها ما يشترط في غيرها من الإخلاص والمتابعة، ومن المتابعة فعل ما مصلحته خالصة أو راجحة وترك ما فسدته خالصة أو راجحة، إذ بهذا جاءت الشرائع.


المصدر : كتاب وسائل دفع الغربة …. تأليف: سلمان بن فهد العودة
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سفينة المجتمع
  • مسائل في الحسبة
  • شـبـهـات
  • فتاوى الحسبة
  • مكتبة الحسبة
  • حراس الفضيلة
  • الصفحة الرئيسية