صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وقفات مع قرار " تنظيم عمل الهيئات "

صالح بن ساير المطيري


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ولا عدوان إلا على الظالمين وبعد :
فإن القرار الذي صدر تحت مسمى تنظيم عمل الهيئة هو في حقيقة الأمر تقليص لدورها وتحجيم لعملها وإلغاء لكثير من صلاحياتها و يعتبر أخطر قرار اتخذ ، فهو يمس جهازاً حيوياً يقوم بشعيرة عظيمة ألا وهي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قوام الدين وحفظ المجتمع وصد الشر وأهله وهو سبب خيرية الأمة قال تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى : (( ولا نعلم السر في هذا التقديم، إلا عظم شأن هذا الواجب، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة، ولا سيما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي، وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة. وقد كان المسلمون في عهده وعهد أصحابه وفي عهد السلف الصالح يعظمون هذا الواجب، ويقومون به خير قيام، فالضرورة إليه بعد ذلك أشد وأعظم، لكثرة الجهل وقلة العلم وغفلة الكثير من الناس عن هذا الواجب العظيم. وفي عصرنا هذا صار الأمر أشد، والخطر أعظم، لانتشار الشرور والفساد، وكثرة دعاة الباطل، وقلة دعاة الخير في غالب البلاد كما تقدم((. أـ هـ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الدين وفي تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير، واختفاء الفضائل، وظهور الرذائل. وهو دعامة عظمى لبقاء المجتمع وتماسكه .
ولقد توافرت النصوص على وجوبه وتعظيم أمره قال تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } وقال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } . و ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإهماله سبب في سخط الله وعقوبته واللعن والطرد عن رحمة الله قال تعالى : { : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } وقال تعالى { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون } . وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم "رواه الترمذي وقال حديث حسن .
وهذا الجهاز الحيوي القائم بهذا الأمر مفخرة هذه البلاد وهو الأساس الذي تميزت به هذه الدولة عن غيرها من الدول ، وحصل لها بسببه الأمن والأمان ووحدة الصف واتحاد الكلمة ، ـ وشهد له أهل الإنصاف حتى من غير المسلمين ـ
يقول الشيخ عبد الرحمن القشيري : ( في عام 1426 وأثناء دورية الهيئة في شارع حراء استوقفتنا امرأة بريطانية وعرفت بنفسها وجنسيتها وقالت أنا سعيدة عندما أشاهد الشرطة الدينية فقلنا لها لماذا؟ فأجابت لأنه لا أحد يستطيع أن يؤذيني وأنا أسير في الشارع الذي تتواجدون فيه ) والقرار بصورته المعلنة ـ التي نأمل من ولاة الأمر وفقهم الله لكل خير إعادة النظر فيه وتصحيحه ـ هو تحجيم لدور هذا الجهاز ـ وإن سمي تنظيما ـ وهو قرار مؤذن بخطر عظيم إن استمر العمل به وبما أنه حدث له آثاره على المجتمع والبلد بشكل عام وعلى الدعاة والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بشكل خاص كانت هذه الوقفات لعلها تذكر غافلاّ وتنبه ساهياً وتعلم جاهلاً :

الأولى :
لا يشك مسلم أن هذا الأمر بقضاء الله وقدره لحكمة أرادها الله تعالى ، وليبتلي الله به المؤمنين وليعلم الصادقين من الكاذبين ، ولتتميز الصفوف ، وتقع الممانعة المجتمعية لتحقيق سنة المدافعة

الثانية :
إن الصراع بين الحق والباطل سنة لا يمكن أن تتبدل أو تتغير ويتحقق عن طريقها حِكَم عظيمة، من أهمها: التمييز والتمحيص، والابتلاء والاختبار ، وحصول محبوب الله من عبودية الصبر وتحمُّل الأذى. ثمَّ تحقيق النصر بعد ذلك ، ولكن مما يجب أن يستقر في الأذهان أنه لا يمكن أن يديل الله الباطل على الحق بشكل دائم وإنما هناك صولات وجولات بين الحق والباطل يحصل بعدها التمكين لأهل الحق عند ما يحققون أمر الله .

الثالثة :
يجب علينا بذل جميع الطرق المناسبة في إنكار هذا الأمر ومخاطبة المسؤولين والعلماء والمؤثرين والاستمرار في ذلك دون ملل وبذل شتى وسائل النصح عملاً بحديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الدين النصيحة ثلاثا قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم.
وألا تكون مواقفنا ردود أفعال فقط وتطفئة حرائق تشب هنا وهناك ، وعلينا أن نُعمِل سنة المدافعة في إقرار الحق وإبطال الباطل قدر الطاقة والجهد قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . والسنن الإلهية لا تحابي أحداً ولا تستجيب للأماني، ولا تعترف بالدعاوى الفارغة ولا بالادعاءات دون سند أو دليل؛ قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}، فكما عملت السنن في الأمم السابقة؛ فإنها عملت وما زالت تعمل في الأمة الإسلامية؛ وإن عقوبة الأمة إذا تركت دينها وتخلت عن شريعة ربها ومدافعة أعدائها؛ هي أن يلبسهم الله شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}. وإذا تركت الأمة سنة المدافعة تبدّدت طاقاتها في صراعات داخلية، وسلط الله عليها الذل والضعف والانكسار، وساد الشرك وعمّ الفساد في البلاد، وعلا أهل العناد وتسلطوا على العباد؛ قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} .
وعلى الدعاة إلى الله الاهتمام بتطوير أنفسهم وتثقيفها بالقراءة النافعة والدورات التدريبية والمهارية المناسبة ليواكبوا الزمن وسرعة التغير والتطور وليعيشوا المرحلة التي هم فيها بوسائلها المتعددة .

الرابعة :
أن ندرك أن ما أصابنا بسبب ذنوبنا وتقصيرنا وتكاسلنا قال تعالى للصحب الكرام في مخالفة واحدة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير } . فكيف بنا نحن المذنبين المقصرين ؟! ، فعلينا أن نراجع أنفسنا ونحدث توبة صادقة فما وقع بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة .

الخامسة :
يجب ألا يتطرق إلينا اليأس والقنوط فيُوجِد الإحباط القاتل الذي إذا أصاب الإنسان أنهاه ، ومن ثم التسليم للباطل وعدم مدافعته ، وهذا أعظم نجاح يحققه أهل الباطل . وعلينا أن نراجع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنستلهم منها الدروس والعبر في كيفية إدارة الأزمات ورفع المعنويات . وعلى رجال الحسبة العاملين في جهاز الهيئات تجاوز مرحلة الصدمة باستغلال ما في النظام من صلاحيات والنزول للميدان وتحريك الشرط بالبلاغات والمطالبات وبذل ما في الجهد والطاقة وهنا يعذر الإنسان إذا استوفى طاقته وجهده { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } . وعليهم ترتيب أوراقهم وتنسيق جهودهم والتعاون بينهم وبين جهات الاختصاص فربما جعل الله في ذلك خيراً كثيرا ، ولنحذر من التلاوم والبكاء على الماضي والنياحة على ذلك فلا يغلق باب إلا ويفتح الله أبواباً كثيرة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (( وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام ، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأن العاقبة للتقوى وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر إن وعد الله حق وليستغفر لذنبه وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار )) الفتاوى 18/ 295

السادسة :
التوكل على الله حق توكله عقيدة راسخة لدى أهل الإيمان . وهو مقامٌ جليلُ القدر عظيم الأثر، فريضةٌ من ربّ العالمين، به رضا الرحمن, وفيه منَعَة مِن الشّيطان، منزلتُه أوسع المنازلِ وأجمعُها، أقوى السّبل عند الله وأحبُّها، أمر الله به رسولَه عليه الصلاة والسلام في قولِه: وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً . والرّسُل عليهم الصلاة والسلام هم أئمّة المتوكّلين وقدوتُهم، قال تعالى عن نوحٍ عليه السلام أنّه قال لقومه: إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ ، وقال الخليل عليه السّلام: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ، وقال هودٌ عليه السّلام: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، وقال يعقوب عليه السّلام: إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكّلُونَ ، وقال شعيبٌ عليه السّلام: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، وقال مؤمنُ آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ . وجعل الله التوكل صفةً لأهل الإيمان يتميّزون به عمّن سواهم إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰنًا وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ .
فالتوكل على الله وحسن الظن به وصدق اللجوء إليه باب عظيم من أبواب الثبات على الحق والنصر على الأعداء وهو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين }. والمتوكلون على الله حق توكله هم الذين يُعْمِلون الأسباب الشرعية معتمدين على ربهم .

السابعة :
الثقة بالله وحسن الظن به عقيدة مستقرة لدى أهل الإيمان وهي ثمرة لحسن التوكل عليه . فلنمتثل ذلك واقعاً عمليا مسترشدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ( في غزوة أحد والأحزاب وحنين وغيرها . فيها ملامح عظيمة ودروس نحتاج أن نستخرجها لنسير على ضوئها .قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن الوهاب رحمه الله ( وحسن الظن بالله تعالى يُبنى على العلم برحمة الله وعزته، وإحسانه وقدرته، وعلمه وحسن اختياره، وقوة المتوكل عليه، فإذا تم العلم بذلك أثمر للعبد حسن الظن بالله تعالى ) "تيسير العزيز الحميد" (685). وجزاء الظن من الله تعالى للعبد على حسبه، إن ظن ظنًّا حسنًا مع الإيمان والعمل كان الجزاء حسنًا، وإن ظن بربه سوءًا كان جزاؤه سوءًا، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله))؛ أخرجه الشيخان وابن حبان واللفظ له . وفي حديث قدسي آخر قال تعالى: ((أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء))؛ أخرجه أحمد بسند صحيح. كم نحتاج إلى أن نعيش هذه الثقة في واقع حياتنا ولا سيما عند الأزمات فتملأ جوانبنا باليقين وتضفي علينا فيضاً من الطمأنينة والسكينة . هذه الثقة التي كانت لدى أم إسماعيل عندما تركها الخليل عليه السلام في مكة في واد لا زرع فيه ولا ماء ولا أنيس استجابة لأمر الله فقالت آالله أمرك بهذا ؟ قال نعم ، قالت إذا لا يضيعنا كما في صحيح البخاري . وتلك الثقة التي كانت متمثلة في موقف شيخ الإسلام في معركة شقحب عندما يقول والله إنا لمنصورون فيقال له قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقاً . ذكر ذلك ابن القيم في مدارج السالكين . فلنكن على ثقة بنصر الله لدينه وعباده الصالحين .ثقة لا تزلزلها الأحداث مهما عظمت

الثامنة :
الواجب علينا أن نتعامل مع الحدث وفق السنن الربانية باذلين ما نستطيع ومستغلين الفرص السانحة وما نملكه من إمكانات وأن نستغرق الجهد في ذلك وأن نسعى في بناء أنفسنا وإصلاحها وتزكيتها من خلال جملة من الأمور :
•• التوبة الصادقة فما وقع بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة ، فعلينا أن نراجع أحوالنا في الحياة ومدى امتثالنا لأوامر الله ورسوله ، وأن نراجع مسيرتنا في الدعوة إلى الله ومدى الإخلاص والإتباع لدينا , لنستكشف مواطن الخلل والتقصير فنسعى للتصحيح توبة لله تعالى . وأن نبث ذلك في المجتمع من حولنا .
•• الإقبال على العبادة ، فالعبادة أيام الفتن والأزمات لها شأن عظيم ومكانة سامقة في التثبيت فقد روى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال :" العبادة في الهرج – أي في الفتنة – كهجرة إليّ " . يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله معلقاً على هذا الحديث : ( وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ،متبعاً لأوامره مجتنباً لنواهيه "أ.هـ. ، وأعظم العبادات ما أوجبه الله ثم الإكثار من النوافل بعد ذلك من قراءة لكتاب الله وصيام التطوع وقيام الليل والإحسان إلى الناس عامة والضعفاء خاصة وأن يحرص الإنسان على أن يكون له خبيئة من عمل صالح .
•• الاعتصام بالله والالتجاء إليه ووحدة الصف وتوحيد الكلمة والبعد عن الخلاف والشقاق وتناسي الخلافات الشخصية بين الدعاة إلى الله والعاملين في ميدان الدعوة والتسامح مع إخواننا المسلمين مما يحقق جواً من التعاون على البر والتقوى ويوجد بيئة صالحة للعمل المخلص الدؤوب { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } . وعلينا البعد عن أسباب الخلاف والنزاع ، والسعي الجاد لما يحقق الوحدة والإتلاف والبعد عن أسباب التنازع والاختلاف ففي الاجتماع على الحق قوة ومنعة تحقق النصر بإذن الله وفي الاختلاف والتفرق والتنازع ذهاب الريح والقوة { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } وعند الخلاف يجب الرد فيه إلى الله ورسوله لا إلى الأهواء والرغبات وحظوظ النفس فالله سبحانه وتعالى يقول : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } . وأن نستعيذ بالله من الفتنة في الدين ، ونحذر من ذلك أشد الحذر وعلينا أن نلتجيء إلى الله طالبين منه الثبات على الأمر فقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( بادورا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا )) . ما أعظم هذا الحديث وما أضعفنا ـ نحن البشر ـ فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .
•• بذل الأسباب الممكنة لخلاص الأمة ورفعتها .. بالعمل الصالح والإيجابية البناءة والمبادرات النافعة بدلاً من الاشتغال بفضول الكلام وتداول الأراجيف ومتابعة الإشاعات وبثها هنا وهناك .
•• كثرة الاستغفار وإشغال اللسان به . وهو طلب المغفرة التي هي وقاية شر الذنوب مع سترها. وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في مواطن كثيرة قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } والرسول صلى الله عليه وسلم كانت حياته جهاداً متواصلاً ودعوة وابتلاءً وعملاً دؤوباً في وجوه الخير ومع ذلك قال له ربه : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وقال له: { وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } فاستجاب عليه الصلاة والسلام لتوجيه ربه وعاش الاستغفار واقعاً عملياً في حياته ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم " . فحري بنا نحن ـ المسلمين ـ أن نقتدي بهذا النبي في كثرة استغفاره وعبادته , ولا سيما ونحن نقصر في الليل والنهار ونجترح السيئات ، ونقع في المحرمات والمخالفات الكثيرة . ولذلك قال بعض السلف : “فمن أهمّتهُ ذنوبُه أكثر لها من الاستغفار“. فالاستغفار سبب عظيم في حصول كثير من المصالح ودفع كثير من المضار . وهو عبادة عظيمة لها مكانتها في دين الله وأثرها العظيم على المسلم في دينه ودنياه . وإن من يلهج لسانه بالاستغفار يُحصِّل خيراً كثيرا في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} والاستغفار مصدر للقوة ، قال الله عن هود عليه السلام { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين } وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
•• الإلحاح على الله في الدعاء فالدعاء سلاح عظيم وهو سبب في التثبيت وتحقيق النصر، فمن أبرز مظاهر التوحيد وسلامة المعتقد أن يلجأ المؤمن لربه في كل أموره ويعلق قلبه به وخاصَّة أوقات الفتن والأزمات فلا منجي ولا هادي ولا عاصم إلا الله . ولا يحق للعبد أن يغفل عن هذا الباب من أبواب العصمة والنجاة من الفتن حيث لا يملك التثبيت إلا الله عز وجل ولا يعصم من شرور الفتن إلا هو . فالإيمان الصادق والتوحيد الخالص وصدق التوجه لله وإخلاص الدعاء له وتفويض الأمور إليه يثمر للعبد طمأنينة وحياة طيبة سليمة من الفتن وشرورها وسليمة من الحيرة والاضطراب . فمن أراد لنفسه النجاة والفكاك فعليه أن يلجأ إلى ربه عز وجل وأن يكثر من التضرع والدعاء متلمساً أوقات الإجابة سائلاً ربه الوقاية من الفتن طالباً الثبات على الحق .
وقد نجى الله تعالى أقواماً بسبب دعائهم قال الله تعالى :{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } أي لولا دعاؤكم إياه والله تعالى يبتلي عباده حتى يرجعوا إليه ويدعوه سبحانه { وما أرسلنا من قبلك في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون }ويقول الله تعالى :{ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ورسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر قام ليلته تلك رافعاً يديه .. يدعو ربه ويناجيه .. ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض .. اللهم أنجز لي ما وعدتني .. حتى سقط رداؤه من على كتفيه .. فأخذه أبو بكر الصديق .. وقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي .. كفاك مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك .. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في وقت الكرب بهذا الدعاء :" لا إله إلا الله الحليم العظيم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم " رواه البيهقي ..فالواجب علينا الإلحاح على الله بالدعاء .
ودعاء الله معلم واضح في منهج الأنبياء . ولقد كان السلف يدركون أثر الدعاء .. فلما صافَّ قتيبة بن مسلم الترك ، وهاله أمرهم .. سأل عن محمد بن واسع فقيل : هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه ..يشير بأصبعه نحو السماء يدعو ..فقال : تلك الأصبع أحب إليّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير
..وصدق القائل : سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد انقضاء
فهل استفدنا من هذا السلاح العظيم ؟! وهل رفعنا أكف الضراعة في هدأة الليل البهيم نناجي الله نسأله الثبات والنصر على الأعداء ؟ فكم نحن بحاجة إلى طلب الثبات على الحق ونور البصيرة وحسن العمل وإصابة الهدف ورد الباطل ، والأمة لا يمكن أن تعدم من لو أقسم على الله لأبره .
•• التفاؤل البناء المثمر منهج المؤمن الصادق مهما ادلهمت الكروب وتكاثرت الخطوب أسوتنا في ذلك حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ، هاهو يقول لصاحبه في الغار { لا تحزن إن الله معنا } " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما " وهاهو فار بدينه مطارد مشرد فيعد سراقة بلبس سواري كسرى ، وهاهو في الأحزاب يرفع معنويات أصحابه فيعدهم بفتح مدائن كسرى وروما وأسوار اليمن .
•• الحكمة والبصيرة والتعقل والنظر للأمور ومآلاتها أمر في غاية الأهمية ، فلا يستجرنا الخصم المتربص إلى مواقف وصدامات ، ومواجهات غير محسوبة العواقب فالعدو يحرص على ذلك كثيرا فالحكمة والعقل والسياسة الشرعية تقتضي تفويت الفرصة على المتربصين .

الوقفة التاسعة :
سنسمع الكثير والكثير من الأمور المؤلمة والأطروحات الخبيثة من المنافقين المندسين في الصف ، وهذا أمر طبعي وهو الدور البارز في حياة المنافقين لاستغلال الأزمات في التخريب وتشتيت الجهود فالواجب أن يكون الدعاة والمخلصون على قدر من التحدي والتخطيط والترتيب والعمل البناء وألا ينشغلوا ببنيات الطريق مما يثيره المتربصون سعياً منهم في تشتيت الجهود وإشغال أهل الحق بأمور جانبية عن الهدف الأساس والقضية الكبرى . وهذا الأمر يتحتم على الدعاة والمصلحين إدراكه والتعامل معه بشكل جاد لا يفرق الصف ولا يلهي عن الهدف الأساس في القضية . وللأسف أن الخصم المتربص كثيراً ما يسلك هذا المسلك في إشغال الصالحين بأمور جانبية تشغلهم عن قضيتهم وهدفهم الأساس فينجح في ذلك ويحقق شيئاً من مراده عندما يستجيب له بعض الدعاة والمصلحين فتضيع الجهود وتتفرق .

العاشرة : المجتمع في غالبه يعطي الثقة للأخيار فعلينا أن نستغل هذه الثقة في قيادة المجتمع ببرامج بناءة وعمل منظم ترتب فيه الجهود وتستغل فيه الطاقات وتصرف فيه الأوقات على قدر الإمكانات ، وعلى أهل الخير والصلاح البحث عن الأساليب الممكنة في قيادة المجتمع وإقامة المناشط والبرامج التي تخدمه وتربيه على الخير والصلاح وتنمي فيه بذور الخيرية والإصلاح فهو مجتمع متدين. التدين ظاهر فيه ولله الحمد .

وأخيرا
ً أيها الفضلاء من قال هلك الناس فهو أهلكهم كما جاء في الصحيح : قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم ) روي أهلكهم على وجهين مشهورين رفع الكاف وفتحها
قال النووي رحمه الله ( بالرفع معناه أشدهم هلاكاً وأما رواية الفتح فمعناها هو جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا في الحقيقة واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر الله في خلقه, قالوا فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه وقال الخطابي معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويئهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه و رؤيته أنه خير منهم والله اعلم ) شرح النووي على صحيح مسلم ج: 16 ص: 175 بتصرف بسيط
وهذا منهج بعض الناس وديدنهم لا هم له ولا عمل إلا الحكم على فساد الناس وهلاكهم وأنه لا سبيل إلى إصلاحهم ، وهذا القائل هو صاحب نظرة سوداوية قاتمة يائسة لا يسعى للإصلاح ، وهمه الكلام فقط .

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يستعملنا في طاعته وأن يجعلنا من جنده الذين يجاهدون فيه حق جهاده ، وأن يحقق النصر والتمكين لهذه الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه . أقول هذا الكلام فما كان فيه من حق وصواب فهو من الله وما كان من خطأ وتقصير فهو من نفسي استغفر الله منه وأتوب إليه
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا


بقلم : صالح بن ساير المطيري
مساء الثلاثاء 18 / 7 / 1437


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سفينة المجتمع
  • مسائل في الحسبة
  • شـبـهـات
  • فتاوى الحسبة
  • مكتبة الحسبة
  • حراس الفضيلة
  • الصفحة الرئيسية