صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







نماذج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد   

الشيخ ناصر بن سليمان العمر


 أولاً: أهمية التحدث في الموضوع
 
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[2].
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأخوة الكرام: إن الموضوع الذي سأتحدث فيه موضوع مهم، موضوع من موضوعات الساعة في وقت قل فيه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
أيها الأحبة: لا يزال في بلادنا هذه البلاد الطيبة المباركة، ولا يزال في مجتمعنا الكريم بعض الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ممن نحسبهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولكننا إذا نظرنا إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي وجدنا أن هذا الركن العظيم قد خبا وضعف، إلا في بلاد فيها النذر اليسير، وإنني ألحظ وتلحظون أن هذا الركن العظيم قد بدأ يضعف في مجتمعنا، وبدأ يقل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهذا أمر خطير، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[3].
هذا أمر أصبحنا نرى أن القلة أو أن القليل من القليل -طلبة العلم هم القليل في المجتمع-، والقليل من طلبة العلم من يقوم بهذا الركن العظيم، وإذا تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حل بها الهوان، وحل بها الضعف، وقذفها الله سبحانه وتعالى بالذلة حتى تعود إليه، المعاصي انتشرت، هانحن نرى كثيرا من المعاصي في البيوت، وفي الشوارع، وفي الأسواق، ومهما بذل من الجهود فستصبح قليلة في وجه هذا السيل الجارف من قبل أعداء الله.
كيف وكثير من الدعاة قد فت في عضدهم، وبعضهم قد يصل إلى حد اليأس والعياذ بالله.
لعل في الأمثلة التي سأذكرها بعد قليل إيقاظا للهمم وشدا للعزائم.
لعل في الأمثلة التي سأتناولها على إيجازها واختصارها دفعة قوية وشحنة إيمانية لأولئك المتكاسلين، ولأولئك اليائسين، ولأولئك المتخاذلين.
أيها الأخوة: إن واجب طلاب العلم واجب مهم للغاية، واجبهم القيام بأمر الله وبشرع الله، يقول جل وعلا: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[4] وطالب العلم عليه مسئولية عظيمة (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)[5] ومن المؤسف أننا نرى بعض طلاب العلم فصحاء يتكلمون في مدارسهم كأساتذة، أو في مجالات أعمالهم ولكن العمل قليل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)[6] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
وأذكر إخوتي الكرام وأخص منهم طلاب العلم بقول الرسول  صلى الله عليه وسلم  " لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه "  [7] وإسناده صحيح.
وعن أسامة بن زيد  رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيقال: أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه "  [8] رواه الشيخان.
أيها الأخوة: أذكر طلبة العلم بهذا الحديث، عن أبي هريرة  رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  " من تعلم علما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة "  [9] أولئك الذين تعلموا العلم للشهادات، أولئك الذين تعلموا العلم للوظائف والمناصب، أذكرهم بهذا الحديث الذي تلوته، وأختم هذه الأحاديث بالحديث الذي رواه أنس قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  " مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون "  [10] وفي رواية: " ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به "  وإسناده صحيح.
هذه بعض الآثار في هذا الموضوع الخطير، وخلال الأيام الماضية استمعتم إلى بعض العلماء وطلاب العلم، وحدثوكم عن واجبات طالب العلم، وعن الضوابط الشرعية فيه، والآن أقف مع بعض النماذج، نماذج أيها الأخوة سرج في الظلمات، تعرفون أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يعد اختيارا، ولا سنة، ولا تطوعا، بل أصبح فرضا وواجبا على كل مستطيع يقول المصطفى  صلى الله عليه وسلم  " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه "  [11].
 
ثانياً: نماذج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قصة مروان بن الحكم
 أيها الأخوة: قبل أن أبدأ في حديثي أنبه إلى مسألتين:
المسألة الأولى: إن أكثر النماذج التي سأذكرها تجدون أن هؤلاء العلماء قد وقفوا مع المسئولين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنماذج التي وقف فيها مع العامة قليلة جدا لماذا؟ لأنه إذا صلح العلماء والأمراء صلحت الأمة، وإذا فسد العلماء والأمراء فسدت الأمة والعياذ بالله.
المسألة الثانية: أن العلماء عندما كانوا يدخلون على الخلفاء وعلى الأمراء وعلى المسئولين، ويقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم يراعون في ذلك الضوابط الشرعية للقيام بالمعروف والنهي عن المنكر، هناك ضوابط شرعية لعلكم استمعتم إلى بعض العلماء عندما تحدث فيها، ولا يتسع المقام للحديث في هذا الجانب، ولكن أقول: مراعاة الضوابط الشرعية وألا ندع لعواطفنا أن تسيرنا حيثما شاءت، العاطفة مهمة ولكن يجب أن تحاط هذه العاطفة بعلم من كتاب الله وسنة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يحكم هذه العاطفة ويسيرها.
 
هاتان نقطتان أحببت أن تكونا بين أسماعكم، وأبدأ مع هذه الأمثلة مستعينا بالله جل وعلا.
في الصحيح أن مروان بن الحكم جاء يوما؛ ليخطب أو ليصلي صلاة العيد ولكنه بدل أن يبدأ في صلاة العيد بدأ بالخطبة، فقام رجل وقال: الصلاة قبل الخطبة، ولكن مروان تركه، فقام أبو سعيد الخدري  رضي الله عنه  وجذب مروان وقال له: يا مروان الصلاة قبل الخطبة. فقال له مروان: قد ترك ما هنالك يا أبا سعيد، وأصر مروان وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، قام أبو سعيد وقال للرجل أو قال عن الرجل الذي أنكر على مروان قال كلمة آمل من كل واحد منكم أن يحفظها؛ لأن لها معنى عظيما في مدلولها قال لهذا الرجل الذي أنكر على مروان وهو أمير المدينة: أما هذا فقد قضى ما عليه.
مروان عندما خالف سنة المصطفى  صلى الله عليه وسلم  وبدل أن يبدأ في الصلاة قبل الخطبة بدأ بالخطبة قبل الصلاة، أنكر عليه هذا الرجل الصالح، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه.
السؤال أيها الأخوة:
كل واحد منكم يسأل نفسه: هل كل واحد منا قد قضى ما عليه فيما يرى من منكرات في مجتمعنا وفي أسواقنا؟ هل كل واحد منا قد قام بالواجب الملقى على عاتقه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، أم أنه بدأ يحسب ويضرب أخماسا في أسداس، الوظيفة، والترقية، والنقاط الكثيرة؛ ولذلك يتخاذل عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كم تخرج من كلياتنا من الكليات الشرعية من طلاب العلم؟ يعدون بالآلاف، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على خريجي كلية الشريعة، إنما هو على كل قادر " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده "  [12] لو أن كل واحد منا قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما آلت الأمور إلى ما ترون.
الحال إن لم يتداركنا الله برحمته نخشى أن يعمنا الله بعقاب من عنده، يعم الصالح والطالح، تسأل إحدى أمهات المؤمنين رسول الله  صلى الله عليه وسلم  " أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم إذا كثر فيكم الخبث "  [13] ثم يبعثون على نياتهم كما ورد في حديث آخر، أما هذا فقد قضى ما عليه، راجعوا هذه الكلمة، وكل واحد منكم يطبقها على نفسه، والله جل وعلا هو الذي سيحاسبه يوم القيامة.

  قضية الإمام أحمد بن حنبل
 أما المثال الثاني: فهو مثال لا يخفى عليكم قضية الإمام أحمد بن حنبل عندما وقف أمام فتنة القول بخلق القرآن، يا أحبتي الكرام هذا العالم الجليل الإمام أحمد ألفت فيه الكتب، وذكره التاريخ وكتب سيرته بصفحات بيضاء وقف وقوف الأبطال، ضعف كثير من طلاب العلم عن الوقوف أمام هذه الفتنة التي كادت أن تودي بالأمة، فوقف هذا العالم البطل وقفة شجاعة، الإمام أحمد بن حنبل بفضله، وعلمه، وعزته يجلد أيها الأخوة؟ الإمام أحمد بن حنبل يصلي وهو مكبل بالحديد أيها الأحباب؟ الإمام أحمد بن حنبل يصلي والدماء في ثيابه من أثر الضرب، حتى إنه ما استطاع في بعض الأحيان أن يصلي واقفا وصلى جالسا -رحمه الله-.
الإمام أحمد وقف وقفة شجاعة أمام المأمون، ومن بعد المأمون، أمام حرب الاعتزال، أمام تضليل الأمة في عقيدتها وفي كتاب ربها، وقف هذا العالم البطل وقفة كلها شجاعة وكلها إباء، ويأتيه بعض العلماء يشد من أزره ويؤيده؛ ولذلك ذكر العلماء عن قضية من حدثه ومن وقف معه من الأمة، حتى أنه جاءه بعض طلابه وقالوا له: ألا تتأول يا إمامنا؟ قال: كيف أتأول والناس خلف الباب يكتبون ما أقول؟، وصمد سنوات عدة في السجن، والأغلال، والتعذيب، لم يثنه ذلك عن ذكر الله جل وعلا.
هذه مكانة هذا الإمام؛ ولذلك أصبح الإمام أحمد يقول كما نصحه أحد العلماء يقول الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم له بخير، قال لي ذات يوم وأنا معه خاويين: يا أبا عبد الله، الله، الله إنك لست مثلي أنت رجل يقتدى به، وقد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله، واثبت لأمر الله أو نحو هذا الكلام.
يقول أحمد: فعجبت من تقويته لي وموعظته إياي.
كان في السجن وعندما أراد أن يجلد جاءه رجل قد سجن معه فقال له: يا أحمد -اسمعوا إلى هذه الموعظة من سجين، من مجرم- قال له يا أحمد: إنني رجل أسرق، وكلما أسرق يؤتى بي وأجلد، ومع ذلك أخرج وأسرق مرة أخرى، فلم يؤثر بي الضرب، وأنت تقوم من أجل حماية عقيدتك فإياك إياك أن أكون أنا أشد عزيمة منك، فاصمد للضرب.
يقول الإمام أحمد: فأصبحت لا أبالي بالضرب كلما ضربوني تذكرت هذا اللص الذي نصحني -غفر الله له- وكيف أن الداعية يضعف أمام هذا المجال؟ كيف أن اللص المجرم لا يبالي بالضرب والتعذيب والسجن، والداعية إلى الله من أول وهلة يتراجع عن طريقه وعن سبيله؟.
أقول أيها الأحباب: ضرب الإمام أحمد وأوذي في الله أذى شديدا؛ ولذلك جاء شاعرنا عبد الرحمن العشماوي يصور محنة الإمام أحمد في قصيدة طويلة أنصح الأخوة بالاستماع إليها، أذكر بعضا منها؛ لأهميتها وللمعاني العظيمة التي ستسمعونها فيها، معاني عظيمة في هذه الأبيات التي اخترتها بعد أن ذكر في قصيدته الطويلة محنة الإمام قال في ختامها:

أمثــل أحــمد تدميــه الســياط  *** على مرأى من الناس هذا حادث جلل

الإمام أحمد هل تريدون أن تتصوروا -وقانا الله وإياكم شر ذلك- تصوروا عالما عظيما، وقدوة للناس يؤخذ ويسجن ويضرب.
كم في هذا الأمر من تعد على حقوق الله، ثم على حقوق العلم، وعلى حقوق العلماء:

أمثــل أحــمد تدميــه الســياط  *** على مرأى من الناس هذا حادث جلل
أمثــل أحـمد يلقـى بيـن طـائفـة  *** على بصائرهـا مـن غيهـا ظلـل
قـاضي قضـائك مزهــو بســلطته  *** .......................

(المعتزلي ابن أبي دؤاد)

قـاضي قضـائك مزهو بسلطته  *** لما رآك على الأوباش تتكل

يخاطب المأمون الآن التفت الشاعر إلى المأمون يقول له:

قـاضي قضـائك مزهو بسلطته  *** لما رآك على الأوباش تتكل
غـدا يزين في عـينيك مذهـبه  *** ...........................

( مذهب الاعتزال )

غــدا يــزين فـي عينيـك مذهبـه  *** يـا ليـت شعري أيزكو عندك الخطل
يـا ضيعـة الحـق مـن قوم تسيرهم  *** بطانـة السـوء ما قالت به فـعلوا
إذا ارتمـى حـاكم فـي حضـن رغبته  *** فحكمه فـي عيـون الناس مبتـذل
مــا بــال أمتنـا صـارت معلقـة  *** مـا بيـن ذي ثورة يسـطو وينفعل
وبيــن حـاكم قـوم يسـتدير إلـى  *** أعدائه قابلا فـي الحـكم ما قـبلوا
وصـاحب علــم.....................  *** ....................................

( بدأ يخاطب العلماء ) يخاطبكم أيها الأحبة:

وصــاحب علـم صــار ممســحة  *** للظـالمين فكـم أفتـى وكـم فعلوا
يـا حـائدين عـن الإسـلام أسـكركم  *** لهـو وأعمـاكم عـن ديننا الـزلل
سـلوا رجـال الحــديث المخـلصين  *** ومن تحروا الصدق في كل الذي نقلوا

هذه القصيدة تبين ما على طالب العلم، وما لاقاه الإمام أحمد، أقول: فعليكم بالرجوع إليها، وأيضا أنبه إلى قضية أخرى بالنسبة للإمام أحمد وهو أنه لم يقتصر في دعوته وفي جهاده على الحكام فقط، بل إنه صاحب موقف في كل أمر حل بالأمة حتى ولو كان جزئيا، أهدي هذا الموقف من الإمام أحمد للمجاملين للمداهنين، للذين باسم المصلحة يفعلون ما يحلو لهم ولو خالف الشرع.
دعي الإمام أحمد إلى وليمة فحضر فيها، فلما حضر فيها وجلس قال له أحد الرجال أحد أصحاب الحديث: يا أبا عبد الله هاهنا آنية من فضة - والآنية من فضة لا يجوز أن تستخدم - فالتفت فإذا كرسي فقام فخرج وتبعه من كان في البيت، وأخبر الرجل، فخرج فلحق أبي -هذا يقول عبد الله بن أحمد- وحلف أنه ما علم بذلك ولا أمر به، وجعل يطلب إليه فأبى وجاء عفان فقال له الرجل: يا أبا عثمان اطلب إلى أبي عبد الله يرجع، فكلمه عفان، فأبى أن يرجع، ونزل بالرجل أمر عظيم.
لو أن كل طالب علم دخل إلى بيت من البيوت ووجد المنكر خرج أيبقى في البيوت منكرات؟
لا. لو فعل مثل ما فعل الإمام أحمد عندما رأى الفضة تستخدم خرج هل خرج وحده؟ لا تبعه الناس، وتوسل إليه صاحب البيت فرفض أن يرجع؛ إقرارا للحق -رحمه الله-، وكذلك أيضا فعل مثل هذا الفعل في أكثر من مناسبة؛ ولهذا الموقف سيرة الإمام أحمد تحتاج إلى دراسة أيها الأخوة، وإلى تأمل؛ للشبه الكبير من مواقعها ومواقفها ولحاجتنا إليها.
الإمام مالك أيضا نصح هارون الرشيد، كذلك أبو يوسف كتب كتابا شديدا إلى الرشيد، وقف موقف الأبطال لا يتسع المقام لذكر هذه الرسائل؛ لأنها طويلة ولكن أقول لكم: إن علماء أجلاء وقفوا مع الحكام موقفا شجاعا ولم تأخذهم في الله لومة لائم.

  سلطان العلماء العز بن عبد السلام  
آتي الآن إلى سلطان العلماء العز بن عبد السلام - اسمعوا إلى هذه القصة تبين شجاعة هذا العالم؛ ولذلك سمي بسلطان العلماء - كان لسلطان العلماء موقف عظيم يبدو عليه ملامح الصدق ونور الهدى، طلع الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى السلطان في يوم العيد إلى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة فهنا وجد أن الناس يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فقام العز بن عبد السلام ونهر السلطان نهرا شديدا، وأنكر هذا الفعل من عموم الناس، وقال له: يا سلطان كيف تسمح أن تباع الخمور في البلاد؟ وبدأ يعدد المنكرات، وهذا السلطان من السلاطين الغاشمين الظالمين، وتكلم بقسوة وشدة وتعجب الناس من شجاعته وقالوا: لا بد أن يحل به بلاء، فانتظروا إلى النتيجة، فقال له السلطان في النهاية: يا سيدي -اسمعوا السلطان يقول للعز بن عبد السلام يا سيدي-: هذا أنا ما عملته هذا عمله أبي قبلي، قال له السلطان العز بن عبد السلام -وهو السلطان الحقيقي-: أنت ممن يقول الله فيه: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[14] فقام السلطان وأصدر أمرا في موقعه بإزالة جميع المنكرات التي تحدث عنها العز بن عبد السلام، أمر بإغلاق الحانات، وأمر بعدم الخضوع بين يديه، وأمر بإزالة المنكرات.
يقول الباجي: فسألت الشيخ لما جاء من عند السلطان -وقد شاع الخبر- يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه فتؤذيه.
العز بن عبد السلام يقول: قصدت لما رأيت أن الناس قد عظموه فعظمت نفسه في يوم العيد أن أهينه، يقول له هذا العالم فقلت له يا سيدي: أما خفته؟ قال: والله يا بني استحضرت هيبة الله فصار السلطان أمامي كالقط.
السلطان العز بن عبد السلام لما استحضر عظمة الله جل وعلا أصبح سلطان مصر كالقط أمامه، هذا موقف الشجعان، هذا موقف الرجال، واسمعوا إلى القصة الثانية أيضا للعز بن عبد السلام لما نشب الخلاف بين سلطان الشام الملك الصالح إسماعيل وأخيه سلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب، فاستعان سلطان الشام على أخيه بالنصارى، وتنازل لهم عن صيدا، وسمح لهم أن يدخلوا الشام ويشتروا الأسلحة، ثم وقف في وجهه العز بن عبد السلام، وخطب في ذلك خطبة، وأفتى بحرمة بيع السلاح على النصارى، وأنكر هذا الأمر لما سمح السلطان في الشام للنصارى بالدخول إلى الشام، وبيع الأسلحة إليهم، وقف العز بن عبد السلام وقفة شجاعة، وخطب خطبة قوية مؤثرة، وأفتى بعدم جواز بيع الأسلحة إلى النصارى، انظروا ماذا حدث بعد ذلك، انظروا إلى القصة المعبرة أيها الأخوة.
السلطان يقف أمام سلطان الشام، العز بن عبد السلام يقف أمام سلطان الشام وضد النصارى، فيقوم الخليفة أو الأمير بعزله، ثم وضعه تحت الإقامة الجبرية -هذه الأساليب قديمة أيها الأخوة- قام بعزله عن الخطبة ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ثم أرسل له وسيطا وقال له: سنعيدك إلى جميع مناصبك على أن تعتذر من السلطان، جاءه بعض طلاب العلم أو المحسوبين على طلاب العلم من أعوان السلطان وقالوا: إن السلطان مستعد أن يعيدك إلى جميع مناصبك فقط يريد منك أن تعتذر، وأن تقبل يده لا غير. ماذا قال؟ فقال: والله يا مسكين -يقول لطالب العلم الذي جاءه- والله يا مسكين ما أرضاه يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده، والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده، ثم قال: يا قومي -يقول لهذا العالم ومن معه من طلاب العلم- يا قومي أنتم في واد وأنا في واد، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم، ثم اعتقله السلطان في خيمة بجواره، وفي يوم من الأيام -اعتقله السلطان بجواره حتى لا يأتيه الناس-، وفي يوم من الأيام جاء النصارى لزيارة السلطان الذين أفتى العز بن عبد السلام بعدم جواز بيع السلاح لهم، فقال السلطان في الشام قال للنصارى: أتعلمون من هذا الرجل لما سمعوا قراءته؟ قالوا: لا. قال: هذا العز بن عبد السلام، وقد قام وأفتى بعدم جواز بيع السلاح لكم، وهيج الناس ضدكم فاعتقلته من أجلكم.
فقال له النصارى: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها. الله أكبر ! الله أكبر ! النصارى يقولون يردون على - مع كل أسف - سلطان من سلاطين المسلمين قالوا هذا الذي سمعنا وعرفنا قضيته لو كان قسيسا من قساوستنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته، فأطرق السلطان وأطلق العز بن عبد السلام.
الله أكبر أيها الأخوة يقيض الله سبحانه وتعالى للداعية من ينقذه حتى ولو كان من أعدائه، طلبة العلم يأتون إليه؛ ليخضع وليذل يقولون له: قبل يد السلطان، ولكنه يرد عليهم الرد الحازم الجازم كما تعلمون أما غيرهم فلا، النصارى يقولون هذه المقولة العظيمة.

 
قصة ابن تيمية مع ملك التتار  
أما ابن تيمية أيها الأخوة فله قصص طويلة جدا، مواقف عظيمة ارجعوا إلى من كتب عن شيخ الإسلام مع التتار، مع المغول، مع حكام مصر، مع العامة لعلني أقتصر على قضية واحدة من هذه القضايا أيها الأخوة وهي قصته مع قازان ملك التتار، لما جاء عندما ذهب جيش قازان التتاري من إيران نحو حلب والتقى جيش قازان بجيش الناصر، وبعد معركة عنيفة هزم جيش الناصر وانهزم الجند وأمراؤهم، ونزح أعيان دمشق إلى مصر يتبعون سير الناصر حتى خلت دمشق من حاكم أو أمير، لكن شيخ الإسلام بقي صامدا مع عامة الناس واجتمع مع كبارهم، واتفق معهم على تولي الأمور في الشام، وأن يذهب هو بنفسه على رأس وفد من الشام؛ لمقابلة غازان، فقابله في الجيش فلما قابله اسمعوا ماذا قال شيخ الإسلام.
جيش تتري الآن منتصر على المسلمين، جيش التتار جيش قازان الآن انتصر على المسلمين، ومع ذلك يأتي ابن تيمية ويقف هذا الموقف الشجاع غير هياب ولا أياب، الملك الناصر ينهزم مسافرا إلى مصر؛ هربا من التتار، وابن تيمية يقف هذا الموقف البطولي واستمعوا إليه، ذهب هو وتلاميذه إلى هذا الملك وقال له: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذن ما بلغنا ولماذا غزوت بلادنا؟ فقال له: وأبوك وجدك كانا كافرين وما غزوا بلاد المسلمين. يقول له الإمام ابن تيمية: إنك غزوتنا وأنت تدعي الإسلام وأبوك وجدك كفار، ولم يغزوا بلادنا؛ لأن هناك معاهدة بيننا وبينهم، ثم قال: إن أباك قد عاهد فوفى، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت، وجرت لابن تيمية مع غازان أمور قام بها ابن تيمية كلها، وقال الحق ولم يخش في الله لومة لائم، ثم قام غازان وقرب طعام الغذاء وقال لابن تيمية: تفضل. فقال: لا آكل من طعامكم لماذا؟ لأنه من سبايا المسلمين، وطبختموه بأشجار بلاد المسلمين، فرفض أن يأكل شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم بدأ يتكلم معه كلاما شديدا، بدأ أصحابه يرتجفون منه، ما الذي حدث أيها الأخوة؟ لما تكلم بشدة قال بعض طلابه: والله لقد رفعنا ثيابنا خوفا أن يصيبنا دم شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه لا شك عندنا أنه سيقتل، فما الذي حدث؟
خذله قازان وأمنه وأعطاه أمانا لدمشق وقال له: اذهب على بركة الله ولا تنسنا من صالح دعائك، هذا الملك الظالم يقول لشيخ الإسلام بعد أن وقف معه هذه البطولة: لا تنسنا من صالح دعائك، فمضى، قال تلاميذه أو بعض تلاميذه: لو أننا ذهبنا معه أكيد أن ملك التتار أراد أن يوقعه في الفخ، أراد أن يعتذر له أمام الناس، ولكنه سيفعل به الأفاعيل بعد أن ينطلق، فاعتذروا من شيخ الإسلام ابن تيمية -انظروا القصة- وذهبوا وحدهم، وشيخ الإسلام ذهب مع بعض تلاميذه وحده لماذا ذهب بعض تلاميذه أو بعض الناس -عفوا ليسوا تلاميذه بعض الناس الذين ذهبوا معه- أبوا أن يرجعوا مع شيخ الإسلام إلى دمشق؟ لأنهم قالوا: لا نشك أن ملك التتار سيرسل فرقة تسحق شيخ الإسلام ومن معه؛ لأنه وقف موقفا عظيما، وسبحان الله يذهب شيخ الإسلام إلى دمشق، ويذهب هؤلاء إلى دمشق مع فريق آخر وقبل وصوله إلى دمشق يلحقه رسل السلطان بالهدايا الثمينة جدا؛ ليوزعها على المسلمين، ويأتي القوم الذين ذهبوا وحدهم، وقد اعترضت لهم قافلة من اللصوص وسرقت ثيابهم ودخلوا دمشق وهم عراة. سبحان الله ! !
شيخ الإسلام مع هذا الموقف البطولي ويذهب ويتخلى عنه بعض الناس يدخل ومعه الهدايا يرسلها ملك التتار؛ ليوزعها على المسلمين لا يريدها لنفسه شيخ الإسلام، والذين تركوه اعترضتهم قافلة من اللصوص، وسرقوا حتى ثيابهم عراة دخلوا أيها الإخوة. هذه هي مواقف العلماء، هي هذه مواقف الأبطال، هذه المواقف الشجاعة والقضايا كثيرة، والأمثلة أكثر، والعلماء ليست قضاياهم مع السلاطين فقط، حتى مع عامة المسلمين.

  قصة عبد الله بن المبارك وابن علية
 بعث عبد الله بن المبارك، ومعروف عبد الله بن المبارك بشجاعته يخاطب ابن علية يوبخه غاية التوبيخ، ويعنفه بكلمات قاسية؛ لأن ابن علية ولي صدقات البصرة، وولي بغداد في المظالم في آخر خلافة هارون الرشيد، وهذه الكلمة، أو هذه القصة لها معنى أيها الأخوة، هذه لها معنى أسوقها أقول: إن بعض طلاب العلم قد يضعف ولكنه لا يجد من إخوانه من يناصره ويؤازره، العلماء في السابق كانوا إذا وقع أحد من إخوانهم آزروه ونصحوه وعاتبوه، اسمعوا أرسل عبد الله بن المبارك إلى أخيه هذه القصيدة؛ ليعاتبه فيها عندما ولي الصدقات وهو طالب علم:

يا جاعل العلم له بازيا  ***  تصطـاد أمـوال المساكين

كم من طلبة العلم الآن جعل العلم بازيا يصطاد به الأموال الوظائف والرتب والواسطات وغيرها:

يـا جـاعل العـلـم لـه بـازيا  *** تصـطــاد أمــوال المســاكين
احـتـلت لـلدنيــا ولذاتهــا  *** بحيلـــة تـــذهب بـــالدين
فصـــرت مجنونـــا بـهـا  ***  بعـدمـا كـنـت دواء للمـجـانين
أيـن روايـاتك فـيمـا مـضـى  *** عـن ابـن عـون وابـن سـيرين
ودرســك للعـلــم بآثــاره  *** فــي تـرك أبـواب السـلاطـين
تقــــول أكـــرهت فمـاذا  *** كذا ذل حـمار العـلم فـي الطـين
لـا تبــع الــدين بالـدنيــا  ***  كـمــا يفعـل ضـلال الرهـابين

وجاء الإمام الحسن البصري، ووجد بعض طلاب العلم قد وقفوا عند باب أحد السلاطين فخاطبهم قائلا: ما يجالسكم هاهنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما والله ما مجالستهم مجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم.
هذه الكلمة يقولها الحسن البصري لبعض طلاب العلم عندما رآهم قد وقفوا عند أحد أبواب السلاطين، قد فرطتم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجررتم شعوركم، فضحتم القراء -فضحكم الله-، فضحتم طلاب العلم؛ لوقوفكم عند أبواب السلطان، فضحكم الله لو زهدتم - اسمعوا لهذه الكلمة من الحسن - لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم، أبعد الله من أبعد. هذه قصة عن الإمام الحسن البصري.

  قصة عبد الله بن المبارك
والفضيل بن عياض

 وقضية أخرى أيضا من عبد الله بن المبارك، أهديها لكثير من الذين يتصورون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في الزهادة، والبعد عن الناس، والجلوس في المساجد فقط، اسمعوا ما قاله عبد الله بن المبارك وهو في الجهاد، يقول لأحد العلماء وهو الفضيل بن عياض -على فضله وتقواه- قال له عبد الله بن المبارك:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا  *** ......................................
 
الفضيل كان في الحرم، وعبد الله أين كان؟ كان في الجهاد:

يا عابد الحـرمـين لو أبصـرتنا  *** لعلمـت أنـك بالعـبـادة تلعـب
مـن كان يخـضب خـده بدموعه  *** فنحورنــا بدمائنــا تتخـضب
أو كـان يتعـب خيله فـي باطل  *** فـخيولنـا يـوم الكريهة تتعـب
ريـح العـبـير لكم ونحن عبيرنا  *** رهـج السنابك والغـبار الأطيب
ولقـد أتانـا من مـقال نبـيـنا  *** قـول صحـيح صادق لا يكـذب
لـا يسـتوي غبار خـيل الله في  *** أنـف امـرئ ودخان نار تتلهب
هـذا كتـاب الله ينطـق بـيـننا  *** ليس الشـهيد بميـت لا يكـتب

أيها الأخوة المواقف كما قلت كثيرة جدا.

  قصة ابن أبي الحسن الزاهد
أقف مع موقف آخر لأحد العلماء، وهو لأبي الحسن الزاهد أو ابن أبي الحسن الزاهد: كان الملك ابن طولون ظالم من ظلمة الحكام، وقل أن يأتي إليه إنسان ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر إلا ويقطع رقبته، حتى إنه قتل ثمانية عشر ألف إنسان صبرا، والصبر هو أشد أنواع القتل يجوع حتى يموت، جاءه الإمام ابن أبي الحسن الزاهد وقال له: يا ابن طولون إنك قد ظلمت وفعلت، وفعلت وأنَّبه وتكلم عليه فاشتد ابن طولون وأمر بحبسه، لما حبسه أمر ابن طولون بتجويع أسد ثلاثة أيام، وعندما جوع الأسد اجتمع الناس وفي مقدمتهم ابن طولون ووضع، وجيء بأبي الحسن الزاهد، ووضع أمام الأسد في حلبة.
تصوروا إنسانا ضعيفا أعزل أمام أسد جائع له ثلاثة أيام لم يأكل، فلما رآه الأسد بدأ يزأر ويتقدم ويتأخر، والناس أيديهم على قلوبهم من المعركة غير المتكافئة، وأبو الحسن الزاهد قد أطرق مليا، لا يتحرك منه عضو في جسده كأنه لا يبالي، وبدأ يهدر هذا الأسد والناس بين خائف، ومكبر، ووجل، ووجدوا أن الأسد يتقدم ويتأخر، ثم جاء وطأطأ برأسه على أبي الحسن الزاهد وشمه ثم ذهب، وبدأ يفعل هذا برهة من الزمن، ثم طأطأ رأسه وانصرف في زاوية من المكان، وجلس ولم يمس أبا الحسن الزاهد بسوء، وكبر الناس وتعجبوا فقال أحمد بن طولون: ائتوني به، فجاءوا بالإمام الزاهد -قولا وفعلا- هذه هي الزهادة الحقيقية فسأله وقال: أريد أن أسألك سؤالا بماذا كنت تفكر والأسد يزأر ويصيح ويرفع صوته؟ بماذا كنت تفكر؟ تفكر في أولادك؟ تفكر في رواتبك؟ بماذا كنت تفكر؟ قال: إن الأسد عندما جاء وشمني ومس ثوبي جلست أتأمل هل لعاب الأسد طاهر أو نجس؟ هذه القضية التي تشغله. قال: أما خفت من الأسد؟ قال: أبدا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يكفيني إياه.
 
ثالثاً: مواقف لبعض العلماء المعاصرين
 
هذه هي المواقف الشجاعة، المواقف التي فيها البطولة، وفيها الإيمان، والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا.
الإمام ابن عبد البر، والإمام القرطبي لهما مواقف مشهورة، ولأن الوقت قد ضاق فلا أريد أن أسترسل في هذه القضايا، ولكنني أختم هذه الأمثلة بقضية من أحد العلماء المعاصرين، أو بثلاثة من العلماء المعاصرين، الإمام العالم سليمان ابن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب شارح كتاب التوحيد، ومن يخفى عليه شارح كتاب التوحيد؟ هذا الإمام العالم أيها الأخوة قمة في علمه حتى إنه قال في يوم من الأيام، وقد اشتهر بعلم رجال الحديث: أنا برجال الحديث أعرف مني برجال الدرعية، وكان عالما، هذا العالم كان لا تأخذه في الله لومة لائم أبدا، وينكر المنكرات مهما كان فيمن واجهه، ولما جاء إبراهيم باشا إلى الدرعية، جاء بعض الوشاة ووشوا به إلى إبراهيم فأمر بالإتيان به فجيء به معتقلا، فلما مثل بين يدي إبراهيم باشا -عليه من الله ما يستحق- أمر بإغاظته بعزف المزامير والعود أمامه، فأنكر عليه مع هذا الموقف الرهيب لم يتركه بل أنكر عليه هذا المنكر، فغضب إبراهيم باشا وأمر الرماة بأن يأخذوه إلى المقبرة، وأن يطلقوا عليه النار دفعة واحدة، فأطلق عليه عدد من الرماة النار دفعة واحدة فمزقوا جسده -رحمه الله-.
أتعرفون كم عمر الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عندما قتل؟ هذا العالم الذي ترك لنا المؤلفات العظيمة، هذا العالم الذي يعد من كبار علماء الحديث في عصره، هذا العالم الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر عندما قتل كان عمره ثلاثة وثلاثين سنة فقط.
القصة الأخرى لشيخ من شيوخ الأزهر - عندما كان هناك أزهر- عندما قامت الثورة كما يقولون في مصر عام اثنين وخمسين قام محمد نجيب متغطرسا وقال: سنساوي المرأة بالرجل في جميع الحقوق، وخرجت الصحف من الغد فيها أن الرئيس محمد نجيب ذكر في خطابه أنه سيساوي المرأة بالرجل، كان شيخ الأزهر في ذلك الوقت الخضر حسين -رحمه الله- وهو تونسي، فعندما علم بالخبر اتصل بالرئيس محمد نجيب وقال له: إما أن تكذب الخبر، وإما سأنزل غدا بكفني إلى السوق وأدعو الناس إلى مواجهتك. فجاءه أعضاء مجلس الثورة، جاءوا جميعا إليه في مكتبه، في مشيخة الأزهر وقالوا له: يا شيخنا هذا الأمر صعب ولكننا نقول لك: هذا غير صحيح. قال: لا ينفع هذا الكلام أريد كما أعلنت أمام الملأ أن تكذب أمام الملأ، وإلا سأنزل غدا وأنا ألبس كفني، والله لن أقف حتى أنتصر في هذه المعركة أو تذهب روحي. قال له: يا مولانا أأنت مصر على موقفك؟ قال: نعم، فقام محمد نجيب وأعلن تكذيب الخبر وأنه مزيف، وكذا، وكذا وكيف يجوز لي أن أقول بهذا القول وهو يخالف الكتاب والسنة، وبدأ يتكلم في موقف هذا العالم الجليل -رحمه الله-.
أيها الأخوة: أقول المواقف كثيرة وطويلة وأرى الأسئلة كثيرة.

  موقف الشيخ محمد بن إبراهيم
 أقف الآن أمام بعض المواقف لشيخ من مشايخنا وعلم من أعلامنا، كثير من الناس مع أنه يعتبر من المعاصرين لا يعرفونه حق المعرفة، عالم مجاهد إنه الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-، الشيخ محمد بن إبراهيم أيها الأخوة اقرءوا الفتاوى التي أصدرها واسألوا تلاميذه؛ لتعرفوا المواقف التي وقفها، ومن المؤسف أن كثيرا من طلاب العلم الآن لا يعرفون عن الشيخ ما يجب أن يعرفوه عنه.
أئمة الدعوة لهم مكانة أيها الأخوة، ولهم مواقف بطولية كالشيخ حمد بن عتيق وغيرهم من العلماء الأفذاذ، أقول شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم له مواقف عدة، أذكر لكم بعض المواقف اليسيرة في هذا الجانب.
أيها الأحباب من مواقفه التي عملها أنه حدثت قضية لأحد أفراد الهيئات؛ ولهذا عندما قدم هذا الرجل من الهيئة؛ ليدلي بشهادته طعن أحد الناس في شهادته، أي كأن القاضي قبل في الطعن، فرد عليه الشيخ ردا عنيفا وقال له: إنه لا ينبغي الطعن في رجال الحسبة، رجال الحسبة، رجال الهيئات لا يجوز الطعن فيهم، ولو فتح هذا الباب - يقول الشيخ محمد - ما انغلق أبدا؛ ولذلك قال: إنه إجراء في غير محله، وأيضا حدثت قضية مناوشة بين أحد رجال الهيئات وبين أحد العصاة، اعتدى هذا الرجل على رجل الهيئة، فعندما قدمت إلى المحكمة قام رجل الهيئة وتنازل عن حقه -جزاه الله خيرا-، ولما رفعت القضية للشيخ محمد بن إبراهيم قال: من حق رجل الهيئة أن يتنازل عن حقه، ولكن لا يمكن أن نتنازل عن حق الله، ولا بد أن ينفذ في هذا الذي اعتدى على رجل الهيئة حكم الله جل وعلا حتى ولو تنازل هذا الرجل عن حقه؛ لأن هذا له سمة، سمة المحتسبين.
هذه بعض المواقف، والمواقف كما قلت كثيرة جدا؛ ولهذا أرسلت إليه جامعة الدول العربية رسالة تقول: إن عندنا مؤتمرا من أجل قضية توحيد الأهلة فما هو رأيكم يا فضيلة الشيخ؟ اسمعوا لهذا الموقف، جامعة الدول العربية قسم الشئون الدينية أرسل لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يقولون له: إننا سندرس قضية توحيد الأهلة بين الدول العربية، ما استطاعوا أن يوحدوا بين الدول العربية أيوحدوا في الأهلة؟ ! أتعرفون ماذا قال الشيخ؟ قال: جزاهم الله خيرا جامعة الدول العربية تهتم بهذا الموضوع، هيا نبحث الموضوع، ونعطيهم الرأي لا.
اسمعوا إلى بعض الرسالات التي أرسلها لجامعة الدول العربية، أفيدكم أن هذه المسألة مسألة فرعية، والحق معروف فيها كالشمس، والفصل في ذلك قوله  صلى الله عليه وسلم  " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما "  [15] ثم قال: المهم هو النظر في الأصول العظام التي الإخلال بها هادم للدين من أساسه، وذلك يقول لجامعة الدول العربية لا تهتمي بقضية توحيد الأهلة العربية، اهتمي بقضية الأصول، مسائل توحيد الله تعالى بإثبات ما أثبته لنفسه في كتابه، وأثبته لرسوله  صلى الله عليه وسلم .
لا بد أن تبحثي عن توحيد الحكام؛ لئلا يتحاكم أحد منهم إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحكم إلا بهما، هذا هو مضمون الشهادتين، وبدأ يتكلم على جامعة الدول العربية يقول لها: إن كان لديك اهتمام فاهتمي بحكم الله، اهتمي بأولئك الذين يطبقون شريعة الطاغوت، أولئك الذين أخلوا بعقيدة المسلمين، أما أن تهتمي بقضية توحيد الأهلة، ثم قال: أعيد لكم جميع الأوراق دون النظر فيها، رفض أن ينظر مجرد النظر - رحمه الله - في هذه الأوراق. هذا هو العز، هذه هي القوة، وهذه هي الشجاعة.
أيها الأحباب: الوقت قد ضاق والأذان على وشك، وآخر فتوى من فتاويه أنه اشتكي أحد الذين يبيعون آلات اللهو -يبيع آلات اللهو- فحكم عليه القاضي بماذا؟ بإتلاف آلات اللهو فقط، فأرسل الشيخ محمد يقول: لا. لا يكفي هذا الحكم، بل تتلف آلات اللهو ويجلد تعزيرا؛ لأنه لماذا يبيع آلات اللهو.
أقول: هناك مواقف عدة لهذا العالم العلامة، فأوجه إخوتي الكرام إلى هذه القضية، وأنبه إلى أننا بأمس الحاجة.
 
رابعاً: منهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 
وأختم حديثي بدقائق قبل الأذان بما يلي:
أن الفساد حينما ينتشر في الأمة ويسود بنظامه وقيمه حياة أفرادها ويسري في شرايين الناس سريان السرطان في جسم الإنسان عند ذلك تكون الأمة في أمس الحاجة إلى الإصلاح والتغيير.
إن مهمة الإصلاح التي تحتاج إليها الأمة ليست حالة عارضة تظهر عند الحاجة إليها، بل هي حالة مستمرة تلازم حياة الأمة.
الوظيفة الأساسية لإقامة منهج الله في الأرض وتبليغ شريعته وتغليب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر هي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخضعان لضوابط شرعية مستفادة من كتاب الله وسنة رسوله  صلى الله عليه وسلم . الشريعة الإسلامية هي الأساس.
أيها الأخوة: منهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس هو الوعظ والإرشاد، إنما هو القيام كما قلت بواجب التغيير والإصلاح.
هذا -نظرا لضيق الوقت- أقول أحبتي الكرام: هذا نذر يسير وتركت أمثلة كثيرة، إن علينا واجبا عظيما في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذنا في الله لومة لائم، وأن نتصور هؤلاء الأعلام.
وختاما أقول: هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف العظيمة هم الذين خلدهم التاريخ، وهم المخلدون بإذن الله عند الله جل وعلا، أما الذين داهنوا أما الذين نافقوا، أما الذين سكتوا فحل بهم ما حل بهم والله المستعان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 

--------------------------
[1] - سورة آل عمران آية : 102 .
[2] - سورة الأحزاب آية : 70-71 .
[3] - سورة المائدة آية : 78-79 .
[4] - سورة آل عمران آية : 187 .
[5] - سورة الزمر آية : 9 .
[6] - سورة الصف آية : 2-3 .
[7] - الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2417) والدارمي : المقدمة (537) .
[8] - البخاري : بدء الخلق (3267) ومسلم : الزهد والرقائق (2989) وأحمد (5/205) .
[9] - أبو داود : العلم (3664) وابن ماجه : المقدمة (252) وأحمد (2/338) .
[10] - أحمد (3/120) .
[11] - مسلم : الإيمان (49) والترمذي : الفتن (2172) والنسائي : الإيمان وشرائعه (5008) وأبو داود : الصلاة (1140) والملاحم (4340) وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) .
[12] - مسلم : الإيمان (49) والترمذي : الفتن (2172) والنسائي : الإيمان وشرائعه (5008) وأبو داود : الصلاة (1140) والملاحم (4340) وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) .
[13] - البخاري : أحاديث الأنبياء (3346) ومسلم : الفتن وأشراط الساعة (2880) والترمذي : الفتن (2187) وابن ماجه : الفتن (3953) وأحمد (6/428 ,6/429) .
[14] - سورة الزخرف آية : 23 .
[15] - الترمذي : الصوم (688) والنسائي : الصيام (2124) وأحمد (1/226 ,1/258) والدارمي : الصوم (1683 ,1686) .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سفينة المجتمع
  • مسائل في الحسبة
  • شـبـهـات
  • فتاوى الحسبة
  • مكتبة الحسبة
  • حراس الفضيلة
  • الصفحة الرئيسية