صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الديمقراطية : تأملات وطموحات
مفيدة محمد إبراهيم

إعداد وانتقاء سليمان الخراشي

 
( أنا لا أريد أن أنفرد في مناقشة هذا الكلام في الديمقراطية وإنما سأشرك القارئ الكريم ليناقشه من خلال تفكيره في عدد من التساؤلات منها:
1- كيف يوفق دعاة الديمقراطية الأوروبية بين حرية الفكر وحرية تشكيل الأحزاب الأوروبية الفكر من جهة ، وجمع كلمة الأمة التي يؤكد عليها الجميع من جهة أخرى؟ كيف تجتمع كلمة الأمة على قرار، أي قرار، من خلال الأحزاب المتضادة الانتماءات المتعارضة الفلسفات؟ كيف تتفق كلمة الماركسي الشيوعي الذي يعتمد فلسفة مادية ملحدة مع كلمة الليبرالي العلماني المادي الفلسفة ، والذي يتجه بعقله وقلبه إلى غرب أوروبا وأمريكا يستلهم منها الفكر والهداية، مع كلمة المؤمن بفلسفة إلاهية ، والذي يتجه بعقله وقلبه إلى أعلى، إلى الله يستلهم منه العون والهداية؟
قد يقول قائل : بالموضوعية! وبالديمقراطية وبحرية الفكر!!!
مما يستدعي التساؤل: أهي ذات الموضوعية وذات الفكر المتحرر الذي يتعامل بهما المهيمنون على هذه الأحزاب ، ليس فقط مع غيرهم من الأحزاب الأخرى وإنما أيضاً مع بعضهم البعض داخل الحزب الواحد؟ ينشقون ليكونوا أحزاباً منفصلة، حتى صار لكل حزب عدد من الأحزاب المنشقة عنه؟ وهو مرض أصاب معظم الأحزاب التغريبية من أول ما انشق الأفغاني عن الحزب الماسوني المرتبط بالمحفل البريطاني وكون حزباً ماسونياً مرتبطاً بالمحفل الفرنسي، وحتى يومنا هذا، مما جعل وصفي التل  يقول لمن كان يدعو للسماح بحرية تشكيل الأحزاب: "سيكون في هذه الساحة أكثر من حزب بعث عربي اشتراكي لتمثل الفئات البعثية المختلفة والمتنافسة.
وسيكون في هذه الساحة أكثر من حزب إسلامي ، لتمثل التيارات الإسلامية المختلفة والمتنافسة .
وسيكون في هذه الساحة أحزاب تمثل توجهات إقليمية أردنية وأحزاب تمثل توجهات إقليمية فلسطينية.
وسيكون في هذه الساحة أحزاب تمثل الشلل السياسية الملتفة حول بعض الشخصيات السياسية البارزة.
وسيكون في هذه الساحة أحزاب تحركها وقد تمولها بعض الدول العربية أو بعض الدول الأجنبية..."  .
أهي ذات الديمقراطية والنور الفكري الذي جعل كل منشق يتهم قيادة الحزب الأم بالدكتاتورية والتعنت ؟! فعلى سبيل المثال:
كيف تتفق حرية التفكير وحرية تشكيل الأحزاب ، وتنحية الأحزاب القائمة بالقوة؟ أليس لهذه الأحزاب أتباع لهم حرية فكر وحرية تشكيل أحزاب؟ أم الحرية هذه تمنح للبعض وتمنع عن البعض الآخر؟ وإن كان الأمر كذلك فما هو المعيار لهذا المنح والمنع؟ خاصة وأن الأحزاب هذه في الغالب ذات فلسفة مادية وفكر تغريبي مستورد، ومن له الحق في هذا المنح والمنع ما دام الكل في الاستيراد والتبعية سواء؟
إن كان على أساس مصلحة الشعب مقابل العمل المخرب؛ فهذه كلمات لها مفاهيم تختلف باختلاف عقائد الأحزاب المختلفة وبرامجها وأهدافها وانتماءاتها الخ.. فالمتغربون مثلاً يرون مصلحة الأمة في الانفتاح التام على الغرب وغيره تخريب، والشيوعيون يرون مصلحة الأمة في الانفتاح على روسيا ودول الكتلة الشرقية والانغلاق على الغرب ويرون غير ذلك تخريباً يجب مقاومته! وأصحاب التراث يرون الانغلاق على ذات الأمة وتراثها وبناء نفسها بنفسها هو ما يحقق مصلحة الأمة وغير ذلك كله باطل وتخريب . فكيف إذا تكون الحرية لمن يعمل لمصلحة الأمة وليس للمخرب؟!! ومن هو المخرب؟
وهل صحيح أننا أخذنا من الديمقراطية الغربية قشورها وتركنا لبها ؛ لأن الذين تزعموا طيلة نصف قرن وحتى الخمسينات وحدوث الثورات رجال لهم مصالح وعصبيات؟ أم أن الديمقراطية الغربية هي التي أخذها هؤلاء بقشرها ولبها، إن كانت تحتوي على لب أصلاً .
وهل أقام الديمقراطيات في أوروبا إلا المصالح وأصحاب المصالح الذين لا يزالون يديرونها ويوجهونها لما يحقق هذه المصالح؟ حتى إن أديب إسحق المعجب بالديمقراطية الغربية ذكر هذا الأمر فقال: "... محافل الشورى والندوات، مجالس نواب يتصرفون في أمور الأمة نقضاً وإبراماً، فيضعون مع وكلاء الدولة ما شاؤوه من القوانين ويعدلون منها ما يريدون، بل ربما قضوا على موكليهم بحرب تنحى على أموالهم بالنهاب وأرواحهم بالذهاب، أو انقادوا لأصحاب القوة الإجرائية ودانوا لهم مستعبدين الأمة معهم، كما جرى خلال المسألة الشرقية في كثير من الممالك الشورية"  وذكر حكومة الشورى في الدول الأوروبية فقال: " إن هذه لا تلبث أن تنقلب شر منقلب كما جرى لحكومة لويس السادس عشر، وشارل العاشر، ونابليون الثالث في فرنسا ؛ فإن حكومات هؤلاء الملوك وإن وسمت بالشورية ظاهراً، فقد كانت استبدادية باطن ...
وقد شهد شاهد من أهلها! وهو ونستون تشرشل، إذ قال في بيان عام 1932، منتقداً النظام الديمقراطي: " إن الانتخابات حتى في أكثر الديمقراطيات ثقافة تعتبر بلية ومعرقلة للتقدم الاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي، وحتى خطراً على السلم العالمي، ثم تساءل : لماذا ينبغي علينا في هذه المرحلة أن نفرض على شعوب الهند الجهلة ذلك النظام الذي تشعر بمزعجاته اليوم حتى أكثر الأمم تقدماً، الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإنكلترا نفسها؟   وقال في مكان آخر عن إنكلترا: تبين جميع التجارب أنه عندما منح حق الانتخابات للجميع، وتحقق ما يسمى بالديمقراطية الكاملة، تحطم النظام السياسي برمته بصورة سريعة .
وتشرشل نفسه كزعيم لنظام ديمقراطي كان لا يقيم وزناً للحزب أو يرى حاجة لاستشارة مؤيديه. وكان يعتبر الحزب وسيلة تمكنه من القفز إلى السلطة وليس كجمعية ينبغي عليه أن يخدمها . وكان يعتبر الأحزاب ضرورية مثل ضرورة الحصان للفارس، وقد ذكر البعض أن الحزب لروح تشرشل المتغطرسة هو مجرد أداة، ولذلك تخلى عن حزب المحافظين لينضم إلى الأحرار، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى صفوف المحافظين... بحسب ما يحقق مصالحه ويضمن له موقعاً في السلطة، وقد كان مستبداً برأيه لا يسمح لرأي أحد حتى إن بيفر بروك قال: " عندما يكون تشرشل على رأس التيار فإنه يحمل معه صفاة الطغاة ". وقد عاش تشرشل من أجل الأزمات وأفاد منها وعندما لا يكون ثمة أزمة كان يعمل على افتعالها ليفيد منها ويحقق طموحاته في المال والشهرة من خلالها ، وقد كان ضعيفاً أمام إغراء المنافع الذاتية ، وكانت خدمته للشعب البريطاني محدودة، وقد استخدم الكلمات كما لو أنها أسلحة فعالة، وكان كذلك عبداً لهذه الكلمات... ولطالما ضحى بأناس في سبيل العبارات الرنانة، وتحقيق طموحاته التي من أجلها كان وهو بعيد عن مواقع السلطة يوجه الانتقادات العنيفة إلى الوزراء في العلن، ويبدي عروضاً للتعاون في السر...   حتى اعتبره البعض عقاب الشعب الإنكليزي !!

ومرة أخرى : هل صحيح أننا أخذنا من الديمقراطية الغربية قشورها وتركنا لبها؟ فأي لب مما ذكره أعلاه لم نأخذه ؟
وحرية التفكير نفسها أين حدودها؟ فالتبشير بمبدأ سياسي يتبناه حزب معين ومهاجمة ما عداه أو التقليل من شأن سواه ألا يعني هدراً لحرية التفكير عند الآخرين أو على الأقل تدخلاً فيه؟ وإن لم يكن كذلك فلماذا إذاً تعتبر الدعوة إلى التمسك بالدين وبالتراث ومهاجمة الأفكار التي تهدم الإيمان به والعمل بدستوره حجراً على حرية التفكير عند الآخرين وعبودية لابد من التحرر منها؟.
يقول الأستاذ الرزاز: " إن الحزب آلة لتثقيف الشعب ووسيلة لتوجيهه وحصر آرائه" فهذا الحصر والتوجيه ألا يهدر حرية التفكير عنده؟ فمرة أخرى، أين حدود الحرية الفكرية عندهم؟ ثم ماذا يحدث عندما يكون هناك عشرة أحزاب -ولا نقول عشرين- فيكون للشعب عشرة آلات للتثقيف والتوجيه بثقافات وتوجيهات مختلفة؟ ولكل منها شعاراته!!!
ويرى الرزاز أن الأحزاب هي مدارس لأفراد الشعب... يكسبون منها أكثر مما يكسب الحزب نفسه . فهل للحزب في نظره كيان ومكاسب تختلف عن تلك التي للشعب بجميع تشكيلاته؟ وما هي المكاسب التي يحصل عليها الفرد من الحزب بعيداً عن مكاسب الحزب نفسه؟ وإن كان للأفراد مكاسب يحققها هذا الحزب أو ذاك من الأحزاب الجديدة التي يدعو إلى تشكيلها الرزاز، فما الفرق إذاً بينها وبين الأحزاب التي يريد تنحيتها بحجة أنها تتجه إلى تحقيق مصالح أعضائها وأنصارها الشخصية؟ وماذا عن عامة الناس من غير المنتسبين للأحزاب؟ من يحقق مصالحهم؟!
ويرى أن الأساس في الديمقراطية أن يكون الفرد قادراً على تعيين اتجاهه بالنسبة للقوانين ، وأن التعليم وتحرره السياسي والاقتصادي يساعده ويسهل عليه ممارسة الديمقراطية، فكيف يتم تحرره السياسي وهو مرتبط بهذا أو ذاك من الأحزاب وملتزم بمبادئها وبرامجها ؟ خاصة إن كانت هذه الأحزاب من التي تعتبر الرجوع عنها مسألة تستحق الاضطهاد على الأقل إن لم يكن التصفية النهائية؟ وكيف يوفق هو وغيره من الدعاة بين مسألة التحرر الاقتصادي وذلك النوع من الاشتراكية الذي يدعون له ، والذي يجعل كل وسائل الإنتاج والخدمات بيد الدولة ويجعل الفرد عبداً لأهوائها؟ وأهواء الحزب الحاكم الذي يخدم مصالح أعضائه من دون غيرهم كما أكد الرزاز نفسه في قوله إن الفرد يستفيد من الحزب أكثر من الحزب؟!!
ويرى أن وجود الأحزاب الديمقراطية الشعبية ذات البرامج الموضوعة والمنشورة يساعد الفرد أيضاً على ممارسة الديمقراطية . فهل يا ترى أن هذه البرامج المنشورة هي برامج حقيقية أم هي مجرد تضليل؟ وكم من الأحزاب تمسك بهذه البرامج وعمل بموجبها؟ سواء أكان خارج السلطة أو ممسكاً بزمامها!!
فعندما كان يتحدث خالد بكداش عن الحرية والديمقراطية كان يتحدث كما يقول مجيد خدوري بأسلوب يغري كثيرين من الشباب بالانضمام إلى الحزب سعياً وراء هذين المبدأين ، ولشد ما تكون دهشتهم حين يكتشفون أن ليس للحرية ولا للديمقراطية وجود تحت قيادة بكداش. وذلك لأنه كان فضاً مستبداً مما حمل كثيرين على ترك الحزب...، وكان الحزب الوطني الديمقراطي في العراق يتمسك في برنامجه المنشور بالديمقراطية وحرية الفكر وإفساح المجال للتبشير بمختلف المبادئ والمذاهب السياسية ، ولكن أحد أعضائه المتمسكين بالبرنامج طلب إخراج كل من يبشر بالمذهب الماركسي من الحزب .
والأمثلة كثيرة على تضليل البرامج الحزبية المنشورة للناس وبعدها عن الواقع والتطبيق، ولو أن أقل القليل مما وعدت به برامج الأحزاب قد حققته هذه الأحزاب وهي في مواقع السلطة لما احتاج الدعاة اليوم للمطالبة بأي إصلاح للأحوال!! ألم تصل الكثير من الأحزاب الديمقراطية الشعبية الخ... هذه التي دعا إلى تكوينها الرزاز وغيره إلى سدة الحكم؟ ألم يشغل مفكرو هذه الأحزاب ومنذ تلامذة الأفغاني أمثال عبده وقاسم أمين ولطفي السيد وسعد زغلول وبعدهم طه حسين وكثير غيرهم حتى يومنا هذا مناصب فكرية وسياسية واقتصادية وتربوية الخ... وسيطروا على ساحة الفكر والسياسة معاً؟ فهل حققوا برامجهم وشعاراتهم ووضعوها موضع التنفيذ؟ ألم يهدر هؤلاء الدعاة الحرية قبل غيرهم؟ ألم يطأوا بأقدامهم الثقيلة على صدور أفراد هذه الأمة –المبتلاة بهم- حتى لا يتنفسوا إلا بمقدار ما يسمحوا لهم به؟ مما جعل الأستاذ فتحي رضوان –رحمه الله- يصيح بعدد من المفكرين المتباكين على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد العربية، الذين اجتمعوا في ليماسول في قبرص ليتدارسوا ما آلت إليه أحوال الأمة، وبعد أن ذكرهم بملاحم التضحية والفداء التي سيطرتها أجيال سابقة من أبناء الأمة : اتهمهم بقتل الحريات وانتهاك حقوق الإنسان لأنهم عندما كانوا في مقاعد السلطة نسوا وتناسوا حقوق الإنسان لمعارضيهم وشاركوا في انتهاكه .
والآن وبعد أكثر من مائة عام على بداية الدعوة للديمقراطية وحرية الفكر على الطريقة الأوروبية وبعد أكثر من أربعين عاماً على دعوة الرزاز أعلاه، سيطر خلالها الدعاة أنفسهم على الساحة بكل ما فيها، فكرياً وسياسياً، ماذا تحقق للمواطن العربي من الديمقراطية والحرية؟ ماذا حصل من حقوق؟ ألم تهدر حقوقه بأكثر مما كان يحدث قبل الدعوات؟
الآن وبعد أكثر من مائة عام على دعوة الديمقراطية والحرية وفي عام 1989 يشهد مجلس الشعب المصري صداماً عنيفاً بين نواب الأغلبية والمعارضة تحول إلى اشتباك بالأيدي ، وفيه حاول وزير الداخلية ضرب النائب!!! من كثرة الديمقراطية والحرية الفكرية! والثقافة الحوارية !! ) .

وهم لانبهارهم لم يروا ما رآه محمد مزالي مثلاً من حقيقة الديمقراطية الأوروبية إذ قال: " في الظاهر تتمتع أمريكا والبلاد الأوربية بحريات وتعدد أحزاب وانتخابات وجرائد متصارعة مما يبدو وكأن الأمر على أحسن ما يرام ولكن إن تعمقنا بكل ذلك، حينئذ فقد ندرك أن سلطان الأغنياء ورؤوس الأموال لا يزال قوياً ومؤثراً في مجريات الأمور " ويضرب مثلاً فرنسا –الجمهورية الرابعة- حيث كل كتلة كانت تؤثر على الحكومة وتسير الانتخابات والنواب بحسب مصالحها فيتفوق المزارعون تارة والتجار طوراً والشغالون أخرى... والصحافة التي يقال عنها حرة تخضع في الغالب لمراكز قوة رأسمالية جشعة ، أو مذهبية متعصبة ، ومن المعروف أنها تمول بالإشهار الذي كثيراً ما يزدري بالأخلاق والتربية ولا يقيم وزناً للمصلحة العليا أو تعيش بالمنح الخفية " ويتساءل فيقول: " فهل أنا حر حقيقة في اختياراتي وفي مواقفي، وأنا ومنذ صغر سني ومنذ عهد الدراسة أتأثر من حيث لا أشعر بنظريات وشعارات ومعلقات وأفلام وجرائد لا تخدم دائماً مصلحة العامة ولا تقر حساباً للأخلاق ؟!
أما عن الانتخابات فهو يرى أن إعطاء كل فرد صوتاً في الانتخابات شيء جميل نظرياً ولكنه في الواقع يؤدي إلى سيطرة عديمي الكفاءة ؛ فالتصويت يستوي فيه الجاهل والمثقف الواعي .والسياسيون المتزعمون قيادة الأمة يُقدمون على كل شيء ويعدون بكل شيء يجلب أصوات ما دامت المسألة أصوات وأغلبية .ويستشهد بقول مونتسكيو : إن الديمقراطية لا تنجح إلا إذا اقترنت بالفضيلة ؛ أي أن السياسة تقتضي الأخلاق ، ولكنه يرى أن شرط اقترانها بالأخلاق والفضيلة يسقط أهميتها ، ويساويها بالحكم الفردي ؛ لأنه " مع وجود الأخلاق سيكون أي حكم سيكون جميلاً، ديمقراطياً أو غير ديمقراطياً. وتبقى للحكم الفردي في هذه الحالة الأفضلية لأنه لإصلاح الحكم الفردي، يتطلب الأمر إصلاح أخلاق فرد أما الحكم الجماعي فيتطلب الأمر إصلاح مجموعة كبيرة " .
فالديمقراطية كما يراها البعض لها أنياب ومخالب وأنها أشرس من الدكتاتورية، وقد شكا الكثير من الغربيين من زيف الديمقراطية التي توجهها قوى ظاهرة وخفية لمصالح فئات معينة ، ولكن النهضويون عنها غافلون!!
وهم لانبهارهم أيضاً لم يتتبعوا نشأة هذه الحضارة وديمقراطيتها التي بدأت بالقتل وإبادة الالآف من البشر . فهناك أبحاث تقدر الضحايا من الأفارقة خلال الثلاث مائة عام الممتدة من 1600 إلى 1900 بأكثر من مائة مليون مستعبد بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى ، وقتيل في المعارك ومن سياط التعذيب والاختناق في أقبية السفن التي تمخر عباب المحيط الأطلسي، هذا غير استعباد أو إبادة ملايين بل عشرات الملايين من الهنود الحمر في الأمريكيتين ، وتقدر الإحصاءات أن عدد الهنود الحمر الذين أبيدوا في عصر النهضة الأوروبية هذه يفوق مائة مليون إنسان، هذا بالإضافة إلى مئات الألوف وربما ملايين الضحايا التي تكبدتها بلدان آسيا المختلفة بعد أن انطلق الوحش  الأوروبي ليحرر العالم!! مضافاً إلى كل ذلك إبادة سكان أستراليا والكثير من جزر المحيط الهندي. كل هؤلاء قتلوا أو استعبدوا باسم نشر الحرية والديمقراطية وإخراجهم من الهمجية!!
فهل أخذ النهضويون الذين أرادوا لنهضة الأمة العربية أن تكون مثل نهضة أوروبا وأن تكون ديمقراطيتها مثل ديمقراطية أوروبا كل هذا بنظر الاعتبار على أنه جزء من هذه الحضارة وقيمتها وأهدافها وتوجهاتها؟ وهؤلاء الذين يرون عصر النهضة الأوروبية هو العصر الذي انتقل فيه الأوروبي من العبودية إلى المواطنية! كيف نظروا إلى عبودية هذه الملايين وخاصة منها عبودية أمتهم العربية واستعمارها؟!! وكيف برروها ؟
إنهم لانبهارهم لم يروا من الديمقراطية الأوروبية إلا ما أراد لهم الأوروبيون رؤيته. فهم رأوا من الثورة الفرنسية –مثلاً- شعاراتها فقط : الحرية والإخاء والمساواة، ولكنهم لم يروا ما كانت تخفي هذه الشعارات وراءها من وحشية وسفك للدماء جعل الفرنسيين أنفسهم وبعد مائتي عام يشعرون بالخجل مما حدث فيها من مآس وسفك لدماء الأبرياء، فقد حرر الثوار سبعة مساجين من الباستيل بكل تلك الضجة التي أثاروها حوله ولكنهم قتلوا (25) خمسة وعشرين ألفاً من عامة الناس، لا يزيد عدد النبلاء ورجال الكنيسة منهم عن (10%) عشرة في المئة !! وسحق الثوار الأحرار، مؤسسو الحرية والديمقراطية! المعارضة للثورة بعد ذلك وفي كل مكان من فرنسا بوحشية لا يمكن وصفها، يدل عليها ما كتبه أحد ضباط الجيش الجمهوري عام 1793 إلى رؤسائه يشرح لهم كيف عامل الثوار المعارضين في فائدتين فقال: إنه سحق الأطفال تحت حوافر جواده وقتل النسوة حتى لا ينجبن مزيداً من المنشقين المعارضين ، وإنه لم يأخذ سجناء، بل محا كل شيء، وقد قُتل من رجال الكنيسة في تلك الحوادث وفي تلك المنطقة بالذات مالا يقل عن ألفي رجل ، وقتل قبلها في باريس وحدها 191 رجل في سجن كارمي عام 1792 .
ومما ينسب إلى نابليون قوله "إن أي رجل يفكر هو عدوي" .
إنهم لانبهارهم لم يروا اللأخلاقية التي هي جزء من الديمقراطية الأوروبية التي تعتمد مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) فتستخدم الأحزاب كل الوسائل من أجل إيصال أفرادها إلى السلطة للقفز عليها، بغض النظر عن شرعية هذه الوسائل أو انسجامها مع المفهوم العام السائد للأخلاق حتى في مجتمعاتهم، فالنفاق وتزوير المشاعر وكيل الوعود –بالأطنان- لهذا ، وكيل الاتهامات والشتائم –وبالأطنان أيضاً- لذاك ؛ هي من مستلزمات الحملات الانتخابية، والتي تسيّر الأحزاب فيها أفرادها - من أجل تحقيق الانتصارات على الحزب الخصم-كالأغنام، بغض النظر عن آرائهم ومشاعرهم ، فكل عضو يستفيد عليه أن يفيد الحزب ، فايزنهاور مثلاً الذي أوصله الحزب بقدرة قادر إلى رئاسة الجمهورية وقبلها إلى رئاسة جامعة كولمبيا، وهو الجنرال العسكري!! عليه أن يدفع الثمن بمساعدة أعضاء آخرين للوصول إلى مواقع السلطة مستغلاً مركزه كرئيس دولة، من أجل استمرار حزبه في الحكم!! فهو كان يقوم بمهام منصبه مكرهاً كما يقول سالزبرجر الذي كان يرافقه أحياناً ، وكان يلعن اليوم الذي سيسافر فيه... لتزكية أعضاء حزبه في انتخابات الكونجرس، وعدما حضر لتسلم جائزة فورستال هتف بسالزبرجر قائلاً بحنق :والآن ما هي هذه الجائزة ؟بحق الجحيم إنهم لم يبلغوني بها ولا أعرف عنها شيئاً... 
وتصارع الأحزاب –والأفراد- على السلطة أبعد ما يكون عن كونه تصارعاً شريفاً ؛ حيث يسرف أحدهما في اتهام الآخر بشتى التهم ولا يهم إن كانت بالحق أو بالباطل ما دام ذلك يمكن أن يقرب أحدهما خطوة نحو الفوز في الانتخابات!! فالجمهوريون في فرنسا خلال القرن الماضي كانوا يتهمون الملكيين فيما يتهمونهم بالاعتداء على حريات الشعوب الأخرى،مما جعل العرب يستبشرون ويتوقعون الخير منهم ، ولكن ما إن تسلطوا على الحكم في فرنسا حتى ازدادوا خنقاً لحريات هذه الشعوب وصاروا يتفاخرون بكونهم استطاعوا أن يخضعوا لحكم فرنسا من الشعوب الأخرى ما لم يستطع الملكيون مجاراتهم فيه !! ولذلك أظهر الطهطاوي وغيره خيبة الأمل فيهم وإن كانوا لم يغيروا موقفهم المؤيد لهؤلاء الأحرار وحماة الحرية!! وما حدث للطهطاوي في فرنسا حدث للأفغاني مع الحزب الحر في الحكومة البريطانية، إذ نادى الأفغاني مع المنادين بالإشادة بهذا الحزب –حزب الأحرار- الذي كان يدّعي أن كل الحروب الاستعمارية والتعديات على حقوق الإنسان كأفراد وكشعوب هو من أعمال المحافظين ، ولكن ما إن وصلوا إلى السلطة حتى أكدوا كل ما فعله المحافظون من انتهاكات للحريات في الهند وإيرلنده وغيرها ! وزادوا على ذلك مستمرين في ذات السياسة الاستعمارية ، وشنوا حربهم على مصر واحتلوها، وكأن معارضتهم كما قال الأفغاني للحكومة السابقة " والمحاماة عن الحق آلة للوصول إلى باطلهم، أو عموا عن معرفته بعدما استقروا على منصة الحكم واستبدوا بالأمر " .
فنجد المرشح على هذا الحزب يكيل الاتهامات للمرشح عن ذاك الحزب الآخر المنافس والتي أقلها الاتهام بالكذب والخداع والنفاق وقلة الخبرة وقلة المعرفة الخ... والتي أي منها عند ذوي النظر لا تسقط هذا المرشح وتجعله غير مؤهل لتولي مسؤولية الأمة ، وإنما تسقط الاثنين معاً، أحدهما لقلة الكفاءة والآخر للاستهتار والسفاهة بالتشهير بالآخرين لتحقيق مكاسب خاصة!!
ولكن في انتخابات الحضارة الغربية فإن من يعلو صوته بالشتيمة والاتهام أكثر من الآخر يكون احتمال فوزه أكبر ! كما حدث في مناظرة بين الرئيس الأمريكي فورد والرئيس كارتر التي نقلها التلفزيون آنذاك ، والتي فيها علا صوت كارتر بالاستهزاء وتعمد الإهانة لا لشيء في الغالب إلا لإثارة البهجة بين المستمعين وكسب أصواتهم!! وهذا مثل من أمثال كثيرة لا يمكن حصرها ولا تخلو منها مناظرات المرشحين، حتى إن هرزبرك رئيس دولة المحتل الإسرائيلي أذاع بياناً أذاعة راديو العدو في 13/10/1988 شجب فيه ما حدث خلال الانتخابات آنذاك من أعمال العنف الجسدية والكلامية ورجا أن تقتصر الحملة الانتخابية على الحوار من غير الشتم والتشهير.
وقد كان ديغول لا يهمه كيف يصل إلى الحكم، المهم أن يصل لينقذ فرنسا كما يقول! إذ يذكر سيروس سالزبرجر في كتابه (آخر العمالقة) أن ديغول عبر له عام 1956 عن يأسه من إصلاح النظام والدستور في فرنسا وأنه ذكر له أن المرء يحتاج إلى دراما أولاً ... ليس حرباً بالضرورة ، فقد يكون الجواب في ثورة أو نوع من الشغب والإضراب، ولما سأله سالزبرجر إن كان يعتقد أن من الضروري حدوث فترة من الفوضى في فرنسا وقد تكون مصحوبة بسفك دماء قبل أن يتمكن من العودة ؟ أجاب ديغول: "نعم لابد أن يحدث بعض الفوضى أولاً... وإن كان هناك قليل من الدماء وإن كان هذا أمر مؤسف ولكن ما العمل!   وأكد سالزبرجر أن ديغول عمل بكل جهده على تحطيم الجمهورية الرابعة وفرض شخصيته... ولوى عنان فرنسا طبقاً لإرادة لا تقهر، وإن كان شغوفاً بفرنسا، إلا أنه كان يزدري الفرنسيين ويكره دساتيرهم وأحزابهم السياسية والتدخل المتكرر لجيشهم في السياسة ، وقد كان متآمراً موهوباً مستعداً لتولي السلطة بوسائل غير مشروعة، وكان يزدري الديمقراطية الفرنسية وأحزابها وقد قال: "إن في فرنسا خمسة أحزاب، الشيوعين والاشتراكيين والراديكاليين والمعتدلين والجمهوريين الشعبيين، أما الشيوعيون فقال إنهم ليسوا حزباً فرنسياً ومن المستحيل تصور إمكان اتخاذ سياسة فرنسية بالاعتماد على الحزب الشيوعي .وأما سائر الجماعات الحزبية الأربع فهي تحارب بعضها وليس من بينها من يحظى بتأييد قطاع هام من الشعب ولا يمكن الاعتماد على هذه الأحزاب لأنه ليس في وسعها الاتفاق على سياسة واحدة..." وقال أيضاً: "إنه لا توجد حكومة في فرنسا وإنما فقط أناس يسكنون قصور الحكومة" ويرى أن المشكلة الكبيرة بالنسبة لفرنسا في أنها خلال 150 عاماً كان لها 13 دستوراً وتعرضت للاحتلال ست مرات، ولم يستطع ديغول العمل إلا بعد أن ضرب اليسار باليمين ليستعيد السلطة ثم ضرب اليمين باليسار ليبقى فيها  .
ولم تقتصر الوسائل غير الديمقراطية أو غير المشروعة في الوصول للسلطة على الديمقراطيات الأوربية ذات الأحزاب المتعددة ، وإنما تستخدم هذه الوسائل أيضاً في الحكومات ذات الحزب الواحد ، فالصراعات على السلطة في هذه الأنظمة غالباً ما تتخذ سبلاً أكثر عنفاً ، وليس صراع ستالين مع تستروتسكي ببعيد عن الأذهان ، وبعد موت ستالين كان الصراع بين مولوتوف وخروشوف على الحكم، إذا أيد ثلثا أعضاء اللجنة المركزية موتولوف وبناءً عليه أعد مولوتوف نفسه لسكرتارية الحزب ورياسة الوزراء، وأعد قائمة بالوزراء ولكن خروشوف بالتعاون مع زوكوف، وزير الدفاع الذي وضع طائرة تحت تصرف خروشوف ليتمكن من نقل أنصاره من أجهزة الريف إلى مقر الاجتماع... غير الموقف لصالحه ، مما قلب الحال!
وقد انتقل هذا المفهوم للديمقراطية بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة عبر المفكرين إلى الأحزاب في البلاد العربية، فلا يهم الحزب من أجل جمع المؤيدين حوله والوصول إلى السلطة ما يشيع عن المنافسين له من الإشاعات الباطلة ولا ما يكيل من الوعود بالجنة الموعودة، إن هو وصل إلى الحكم! ليصل بعد ذلك بالانتخابات أو بالثورة وتتبخر الوعود ولا يبقى غير الحقد على المنافسين وملاحقتهم وتصفيتهم، وحتى هذه الملاحقة والتصفيات ليست إبداعاً خاصاً بهذه الأحزاب كما قد يعتقد البعض ، فهي إن لم تكن تقليداً لحال الدول الأوروبية المتعددة الأحزاب والتي يخف التنافس فيها حال فوز أحد الأحزاب ويبدأ التهيؤ للحملة التالية إلا أنها تقليد لحال الدول الأوروبية ذات الحزب الواحد، فكل يوم تظهر الصحف الروسية -مثلاً- فضائح جديدة للتصفيات التي قام بها ستالين لخصومه ولتصفيات من جاء بعده من الحكام لخصومهم! هذا غير ما فعله تيتو وشاوسيسكو وغيرهم.
إن أكثر مفكري النهضة لم يروا الديمقراطية الأوروبية على حقيقتها ولا كما هي في الواقع وإنما دعوا إليها كما توهموها، فنشروا على الناس أوهامهم هذه عنها، فتوهموا أنها تأتي بأكفأ من في المجتمع وأحسن رجاله، مهملين القوى الخفية التي تحرك الانتخابات لإيصال رجالها بغض النظر عن كفاءتهم . والقارئ لسير معظم من أوصلتهم الانتخابات للحكم في أوروبا وأمريكا، ليعجب كيف وصل هؤلاء وبلادهم فيها الكثير ممن هم أكثر كفاءة، فكيف وصل ونستون تشرشل إلى حكم بلاده وهو الطالب الفاشل الذي لم يستطع أن ينهي أية مدرسة أو يحصل على أية شهادة أو حتى يدخل الكلية العسكرية إلا بواسطة والدته التي كانت على علاقة بأكبر المسؤولين في الدولة من جهة ! وبكون أسرته تتوارث لقب لورد من جهة أخرى! والذي قضى خدمته في الجيش في الخطوط الخلفية للمعارك، يكتب للصحف مقالات عنها مقابل أجور محددة لكل مقالة! مخالفاً بذلك شروط وظيفته التي تمنع ذلك.
وبقدرة قادر تولى قيادة بريطانيا وهي في عز مجدها ولم يتركها إلا وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة !
وتوهموا أن الديمقراطية الأوروبية تمنع استبداد الحكام لأنها لا تسمح للوصل إلى السلطة إلا من تشرب السلوك الديمقراطي، بينما يؤكد سالزبرجر على أن ديغول كان يحكم بأسلوب أوتوقراطي إلا أنه مستبد عادل وأنه لا يؤمن بالديمقراطية ويرى أن نظام الحزبين على النمط البريطاني أو الأمريكي متعذر إقامته في فرنسا ، وهو مقتنع بحاجة فرنسا إلى حكم قوي لأن صغار الرجال في نظره لا يستطيعون معالجة عظائم الأحداث، ولذلك كان معجباً بستالين ويقول إنه كان علماً ضخماً، قيصراً حقيقياً، كان يسيطر على كل شيء بنفسه... إنه كان رجلاً عظيم ، ويؤكد البعض أن أديناور رئيس دولة ألمانيا الغربية مثل ديجول لا يسمح لأحد باتخاذ قرارات سياسية أساسية غيره –لا البرلمان ولا الوزارة- وهو مثل ديجول يستخدم أساليب تصفية ولم يقتصر تسلط أديناور على فترة حكمه بل هو بعد خروجه من السلطة قال لمن سأله كيف سيقضي فترة تقاعده: "إنه يريد أن يستخدم سلطانه لضمان بقاء السياسة التي يرغب فيها " وذلك بوصفه من شيوخ السياسة وأئمته .
ولم يكن هو وحده الذي فرض سلطته على الحكم حتى بعد تقاعده ، وإنما ونستون تشرشل عمل ذات الشيء إذ عينت له الخارجية البريطانية شاباً اسمه أنطوني براون يعرض عليه البرقيات ويشرح له المواقف بصفة عامة حتى يستطيع أن يفهم الأسباب التي تتذرع بها الحكومة في قراراتها حتى لا يعترض تشرشل على سياسة لا يفهمها فيلقي في ذلك خطاباً فتسقط الوزارة ، وتشرشل معروف في هذا ؛ ومن يقرأ سيرته يرى أنه دائماً يحصل على ما يريد من مجلس العموم من خلال خطبة شديدة اللهجة يلقيها فيه تؤدي إلى تراجع بعض المعارضين مما يسمح بتمرير ما يريد .ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في المسألة الفلسطينية، ففي الذكرى الرابعة لوعد بلفور حدثت مشاكل في فلسطين ناقشها البرلمان البريطاني عارض مجلس اللوردات تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين، ورغم رجاء بلفور نفسه ، إلا أنهم صوتوا ضد وعد بلفور 160 إلى 29 صوت، وعارض مجلس النواب ذلك أيضاً وطالب بإجراء انتخابات تحسم الأمر، إلا أن تشرشل –الصهيوني بحسب ما ذكر كاتب سيرته وليام مانجستر - ألقى خطاباً في البرلمان وقال فيه إن العرب حاربوا مع الحلفاء مقابل وعد بأن يخلصوهم من الحكم العثماني ، وفي ذات الوقت أعطي وعد مهم جداً لليهود بأن تعمل بريطانيا كل جهدها من أجل تأسيس دولة يهودية لهم في فلسطين، والآن بريطانيا تمتلك هذه البلاد وقد أوفت بوعدها للعرب بتأسيس دولتين : العراق والأردن مما حقق الطموحات الوطنية العربية ، والآن إن أجريت انتخابات في فلسطين فإن الأكثرية العربية سترفض السماح بالهجرة اليهودية إلى البلاد وهذا سيمنع بريطانيا من تحقيق وعدها لليهود وهذا سيضر بسمعة بريطانيا في الشرق الأوسط كله!! وطلب ترك الأمر للخبراء يحلون المشكلة من غير ديمقراطية وانتخابات !! وصفق له البرلمان الذي غيّر موقفه !! إذ قال أوستن شامبرلن –ابن شامبرلن الأب- إن تشرشل غيّر الجو في البرلمان تماماً بكلامه ، ورغم أن مجلس اللوردات رفض الاقتراح إلا أن تشرشل بدأ يضع دستوراً لفلسطين يمنع الأكثرية العربية من عرقلة الاستثمار والتمليك لليهود ، وتشرشل كما يبدو لقارئ سيرته رغم فشله في كل ما أنيط به من مناصب ومسؤوليات فهو طاغية مستبد وهو في السلطة ، وعبد ضعيف يتذلل لهذا أو ذاك ويتوسل ويوسط والدته أو زوجته! هذا غير أصدقائه ومعارفه من أجل الحصول على منصب، أي منصب في الدولة ، ولكنه يعود وبقدرة قوة لا يعرف كنهها إلى سلطة أكبر ويصور فشله السابق وكأنه نجاح يحقق لصاحبه البطولة!!!
وقد توهم المفكرون أيضاً أن الديمقراطية هذه توفر الاستقرار وتمنع التغييرات العنيفة ؛ كالثورات ، وتجعل الحكام يعيشون آمنين مطمئنين لأنهم جاءوا إلى السلطة باختيار الشعب لهم . وهو وهم تبدده الاغتيالات المتكررة لرؤساء الجمهوريات ؛ وخاصة في أمريكا معقل الديمقراطية.وتبدده إجراءات الأمن المشددة التي تحيط بالرؤساء ؛ حتى أن آيزنهاور كان يشكو من أن من المتعذر عليه أن يحيا حياة عادية في ظل البوليس السري المخصص لحمايته وحماية أسرته وأن البوليس السري يكاد يعزله عزلاً في أي مكان يذهب إليه، وإن أخشى ما يخشاه البوليس اختطاف أحفاده ، وشكت زوجته أيضاً من متابعة البوليس السري لكل تحركاته ، والكل يذكر ما حدث في فرنسا عام 1968 من اضطرابات انتهت بإنهاء حكم ديغول الذي كان يريد دراما وثورة أو اضطرابات تأتي به إلى الحكم! فأنهت حكمه الاضطرابات والفوضى.
هذا غير الأحزاب والجمعيات المتطرفة التي تنشر الصحف بين حين وآخر أخبار اغتيالاتها للمسؤولين وتفجيراتها خاصة في إيطاليا وألمانيا وصقلية الخ... ومع ذلك فمما لا ينكر أن هذه البلاد تتمتع بكثير من الاستقرار، ولكن لا علاقة للديمقراطية بهذا الاستقرار .. فعدم حدوث الثورات والاضطرابات في الدول المتقدمة الديمقراطية سببه: أن الثورات أدت دورها في أوائل عصر النهضة الصناعية في القضاء على الإقطاع الذي كان يحتكر السلطة من جهة والأيدي العاملة التي تتطلبها الصناعة من جهة أخرى، وانتهت مهمتها حالما سيطرت عليه واحتكرت السلطة والأيدي العاملة لنفسها ، فلم يعد هناك حاجة إليها ، بل العكس، قد أصبحت الثورات والاضطرابات بعد نمو وتطور الرأسمالية الصناعية خطراً يهدد استقرار رأس المال ويعطل الصناعات، فأبطلوها –الثورة- وشغلوا الأمة بالحاجة ، وربطوا الإنسان بعجلة الصناعة تستبعده وتقوده أنى شاءت، فوقت الإنسان وجهده ومردودها –الأجر- في قبضتها ،لم تدع له الفرصة للبطر والخوض فيما لا يعود عليه بالفائدة، وبالضمان الاجتماعي جعلت جوعه لا يشتد إلى الدرجة التي تدفعه إلى الثورة والانغماس بالسياسة ، وبذلك صارت لعبة السياسة باسم الديمقراطية تمثيلية تقوم بإخراجها مراكز القوى الرأسمالية –التي هي نفسها كانت تخرج الثورات- ويمثل الأدوار فيها مجموعة من الساسة الذين يتم اختيارهم بعناية لهذه الأدوار، واقتصر دور الجمهور على المشاهدة والمشاركة إن رغب بالتصفيق فقط لهذا أو ذاك من الممثلين .
وما يحدث في اليابان ما هو إلا مثل من الأمثلة على كون الديمقراطية لعبة تلعبها مراكز القوى لا غير، فقد ذكرت الإيكونومست أن حزب الأحرار الديمقراطي الحاكم في اليابان أنفق بليون ونصف البليون دولار أمريكي (210 بليون ين) في الحملة الانتخابية ليبقى في الحكم في الانتخابات التي جرت في 18 شباط عام 1990 (مقابل 400 مليون دولار!! أنفقها جميع المرشحون في أمريكا لانتخابات الرئاسة لعام 1988 إذ احتاج كل مرشح من اليابان وهم 323 مرشح إلى أربعة ملايين ونصف المليون دولار أمريكي (650 مليون ين) أما المرشحون الشباب الجدد فيحتاج كل مرشح ضعف هذا المبلغ ، ولذلك كانت أكثر المقاعد وراثية يرثها الأبناء والأحفاد، ولا تصرف هذه المبالغ على النشرات والدعاية التلفزيونية وغيرها لأن هذا محذور، ولكنها تنفق على تأجير القاعات للاجتماعات وعلى الطعام وعلى استخدام مختصين للمساعدة على جلب الأصوات وعلى إعطاء الناخبين هدايا مختلفة تتراوح من مبالغ صغيرة لأجل المناسبات الرسمية إلى جميع نفقات الدراسة في المدارس الخاصة الخ، حتى قيل إن كل صوت في الانتخابات عام 1980 كلف ثلاجة، ولابد أنه كلف أكثر في انتخابات 1990، أما جمع هذه المبالغ فله أيضاً طرق مختلفة منها، وعود الحزب للشركات الكبيرة بخفض الضرائب على الكماليات أو بإعفائها من بعض الضرائب أو بابتزازها بالاختيار بين دفع مبالغ كبيرة للحزب والإفادة من سياسته في السوق الحرة أو المجازفة بوصول حكم اشتراكي يضر بمصالحها، ومع ذلك فإن الحسابات الرسمية للحزب لا تستطيع أن تقدم وثائق رسمية بمصدر كل هذه الأموال ولا بأوجه إنفاقها، بينما الأموال المتوفرة للحزب المعارض لا تتعدى واحداً بالمئة مما ينفقه حزب الأحرار الديمقراطي الحاكم، ولهذا كثيراً ما دفع حزب الأحرار الحاكم من ماله الخاص للمعارضة ليبقي على المنافسة وليحافظ على الشكل الديمقراطي في البلاد  !!، ولذلك قال رسل : إن من مزايا الديمقراطية: أنها تسهل مهمة خداع المواطنين العاديين ؛ لأن هؤلاء يعتبرون الحكومة القائمة حكومتهم .
فالديمقراطية الأوربية لم تمنع كما توهم مفكرو النهضة الاستغلال والفساد بأشكاله المختلفة وعلى رأسها الرشاوي التي تطلع الصحف علينا بأخبارها كل يوم في كل مكان من الدول الصناعية المتقدمة والديمقراطية! لتلوث أكبر الرؤوس فيها، ولم تمنع إهدار الحريات إن كانت تهدد المصالح الحقيقية لمراكز القوى الرأسمالية ، حتى إن الدول العربية التي تتهم بهدر حقوق الإنسان وكرامته متهمة باستيراد هذه التقنيات من الدول الأوروبية وخاصة دول الكتلة الشرقية (سابقاً) وذات الحزب الواحد التي طورت فنون وأدوات تعذيب الناس أكثر مما طورت وسائل عيشهم وراحتهم !
وأمر ديمقراطية وحرية هذه الدول الأوروبية يمكن معرفته من خلال ما تنشره صحفها عن الحكام السابقين فيها، ولم تنج الدول الديمقراطية العريقة مثل أمريكا وسويسرا وفرنسا وألمانيا من نقد منظمة العفو الدولية لها لما يهدر من حقوق الإنسان في ربوعها حيث يجري التدخل في سلك القضاء وتتغيب المرافعات الحرة بسبب الرشاوي، ويجري التجسس على المواطنين وتساء معاملة السجناء الخ ، إن أهم ما غفل عنه مفكرو النهضة الأوائل منهم والأواخر أو تغافلوا عنه، هو كيف دخلت هذه البدعة الأوروبية التي اسمها الديمقراطية إلى المجتمعات العربية؟ وماذا كان ولا يزال الهدف منها ؟.

( خلاصة القول : إن الدول الأوروبية استهدفت من إدخال مفهوم الديمقراطية الأوربية بما فيها من تأليف الأحزاب ووضع دساتير للبلاد على النسق الأوروبي كأحد مستلزمات هذه الديمقراطية، إلى المجتمعات العربية عدة أمور ؛ منها:
1- إحداث فجوة بين الحاكم والمحكوم ، وإشاعة جو من عدم الثقة بينهما ؛ وذلك من خلال استعداء الشعب على الحاكم باعتباره مستبداً يهدر حقوقهم وحرياتهم، فإن استجاب وسمح بالأحزاب والانتخابات، فإنهم يحولون المجلس النيابي إلى منبر للتهجم على الحكومة بالحق وبالباطل، وأيضاً يتهمون هذه الانتخابات بالتزييف والتحريف ، فيحل الحاكم المجلس! ، فتبدأ من جديد المطالبة بالمجالس والانتخابات ..وهكذا، فيحس الحاكم أنه هو المقصود بكل هذه المعارضة ، وأن الدستور والمجالس ما هي إلا حجة لإضعاف مركزه أو إسقاطه ؛ فتنطلق فيه غريزة الدفاع عن النفس، وهي غريزة طبيعية في البشر، والحاكم بشر وليس من الملائكة! فيبدأ باضطهاد المناوئين هؤلاء ..وهكذا حتى يتم إسقاطه. وهذا ما حدث للسلطان عبدالحميد وللخديوي إسماعيل، وللكثيرين غيرهما من الحكام حتى يومنا هذا. وما حدث لشاه إيران محمد رضا بهلوي ورئيس الفلبين ماركوس إلا مثلين قريبين على استخدام هذا السلاح في وجه من يخرج عن طاعة السادة أصحاب الحضارة والمعاصرة!! فقد حكم الشاه أربعين عاماً كانت الديمقراطية فيها بألف خير وحقوق الإنسان على أفضل ما يكون!! ولكنه ما أن انتهى دوره لسبب أو لآخر حتى شُهر في وجهه سلاح الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فسقط! وكذلك ماركوس، حكم عشرين عاماً كان خلالها حاكماً ديمقراطياً وتحررياً جداً ويستحق الدعم والمساندة!!! – حسب زعمهم - وفجأة أصبح عدو الديمقراطية مزوراً للانتخابات !!وضع بطائرة أجنبية بالحيلة وجيء بالبديل الديمقراطي المهيأ بالدولة الأجنبية ذاتها وبطائرة أجنبية أخرى!!
وهكذا استخدمت، ولا تزال تستخدم، الحرية والديمقراطية لإحداث الفجوة بين الحاكم والمحكوم، هذه الفجوة التي تجعل الاثنين فريسة سهلة للاستعمار يقضي منها مآربه كيفما يشاء،ولن يستطيع أي منهما اتخاذ موقف صلب إزاءه .
وما قصة عرابي وثورته إلا مثل واضح على ذلك، فقد هيأ لها فكرياً الأفغاني ومن ورائه الماسونية، وما أن غادر الأفغاني حتى تسلمها بلنت رجل المخابرات البريطانية، الذي حرض عليها وشجع عرابي على تأليف الحزب الوطني الذي كتب هو وعبده برنامجه وأخذ موافقة الخارجية البريطانية عليه ونشره في الجرائد البريطانية قبل نشره في مصر!! وعندما قامت الثورة ووجد توفيق نفسه في موقف حرج وذلك لأن عرابي وصحبه ما كانوا يخفون رغبتهم بجعل النظام جمهورياً، فقد كتب عرابي إلى بلنت يقول له : إن خلع إسماعيل أزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن قد فعلنا ذلك بأنفسنا لكنا تخلصنا من أسرة محمد علي بأجمعها، وكنا عندئذ أعلنا الجمهورية .
وكان البارودي، أحد قادة الثورة يقول: كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا ، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة، لأنهم متأخرين عن زمنهم ( ! ) ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت  .
فماذا يفعل توفيق لإنقاذ نفسه وهو يرى عرابي وصحبه يسيطرون على الموقف؟ لجأ إلى الأسطول الإنكليزي وتشبث باليد الإنكليزية الممدودة إليه مدعية إنقاذه من الغرق في الطوفان الذي أعدته وشاركت في إحداثه!! وهكذا كانت الديمقراطية الأوروبية تحقق أهدافها !
وما حدث للسلطان عبدالحميد لا يختلف كثيراً عن هذا. إذ تحالفت مجموعة حزب الاتحاد والترقي –الذي هو أساساً نبتة أوروبية نبتت في فرنسا وبريطانيا- مع كل أعداء الدولة العثمانية في الداخل والخارج وعلى رأسها الماسونية والصهيونية، وأسقطوا السلطان عبدالحميد مستخدمين ذات السلاح الزائف البريق ( الديمقراطية )، التي يفتقر إليها حكم عبدالحميد ويتصفون هم بها! وحريتهم وديمقراطيتهم هذه كانت وراء كل الاستبداد الذي لاقته الأمة العربية من الدولة العثمانية ، وكانت الوباء الذي قضى على الدولة العثمانية نفسها، فهذه المجموعة هي التي أدخلت للدولة العثمانية : الملكية الكبيرة، أو شبه الإقطاعية- وهي التي أسهمت في تدمير الاقتصاد المستقل، وفتحت الأبواب للتغلغل الغربي اقتصادياً وثقافياً وسياسي . وهي التي سنت القوانين والأنظمة التي تكرس العنصرية وتعمل على سيادة العنصر التركي في الإمبراطورية ؛ مما أثار حفيظة بقية القوميات فيها وأدى بالتالي إلى القضاء على الدولة العثمانية.

2- تفريق كلمة الأمة وتشتيت شملها من خلال الأحزاب المختلفة بشكل يسهل لها (أي الدول الأوروبية) أمر الهيمنة على الساحة السياسية في البلاد ، سواء قبل الاحتلال للتمهيد له أو أثناء الاحتلال أو بعد الجلاء عن البلاد، ولذلك شجعت تأليف الأحزاب، فالماسونية الأوروبية كانت وراء تأليف الأفغاني لحزبه الحر ولحزب مصر الفتاة، كما كان بلنت وحزبه الحر! وراء تشكيل حزب عرابي الوطني! كما كانت بريطانيا وفرنسا وراء تشكيل عدد من الأحزاب القومية والوطنية هنا وهناك في البلاد العثمانية وعلى رأسهم حزب الاتحاد والترقي، وانتشرت حمى تشكيل الأحزاب بعد ذلك بأسماء مختلفة في مصر أولاً ؛ فهذا الحزب الوطني الحر وهذا الحزب الوطني –من غير حر !- وهذا حزب الأمة وذاك حزب الأحرار أو حزب الدستوريين الخ... وكل حزب انشق إلى فروع وكل فرع انشق إلى فروع الفروع وهكذا، وانتقلت عدوى تشكيل الأحزاب من مصر إلى بقية البلاد العربية وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، فالعراق لم يعرف الحياة الحزبية العلنية إلا منذ عهد الانتداب 1921-1932 حيث تألفت عشرة أحزاب !!! ومعظم مؤسسي هذه الأحزاب وأعضائها كانوا ممن لهم ارتباطات بالدول الأوروبية من خلال مدارسهم المنتشرة في البلاد العربية ، أو من خلال جمعياتهم السرية كالماسونية والفابية والكاربوناري الخ ، فأعضاء الحزب الوطني الحر وتلامذة كل من الأفغاني وعبده هم الذين سيطروا على الحياة الحزبية بعد ذلك في مصر إذ كونوا أولاً حزب الأمة –الذي يسميه كرومر حزب الإمام- ومنه تفرعت الأحزاب الأخرى ، فلم يكن حزب الوفد كما يؤكد محمد محمد حسين إلا امتداد له  واستمر الحال إلى يومنا هذا حيث خلفت تلك الأحزاب الأولى أبناء وأحفاد!
وعندما قامت الثورات في الخمسينات من هذا القرن ألغت الأحزاب لمعرفتها بها وبانتماءاتها وبعجزها عن تحقيق شيء للأمة ، قد ذكر على لسان جمال عبد الناصر أنه قال: "لو سمحنا بحرية الأحزاب السياسية اليوم، لقام عندنا 3 أحزاب: أحدهما موال للكتلة الغربية والآخر للكتلة الشرقية والثالث مستقل، إن مجادلاتهم يمكن أن تدمر الوحدة وتنقل إلينا الحرب الباردة" . ولكن حتى عندما كونت الثورات هذه حزباً جديداً واحداً أو أبقت على حزب واحد هو حزبها انتقل فكر وممارسات تلك الأحزاب الأولى إلى هذه الجديدة عبر الأعضاء الذين انتقلوا من تلك إلى هذه ، أو من خلال تلامذتهم ومريديهم مع زيادة التطرف في العلمانية والتغريب وابتعاد أكثر عن القيم والتقاليد الدينية والاجتماعية للمجتمعات العربية، هذا غير ما أضافه هذا الدم الجديد إلى هذه الأحزاب ، مما زاد الطين بلة كما يقول المثل الشعبي. ولذلك لم تنقطع تبعية هذه الأحزاب الجديدة للدول الأوروبية، ولم تكن الصدفة وحدها هي التي جعلت أكثر مؤسسي الأحزاب من خريجي هذه الجامعة أو تلك من الجامعات الأجنبية العريقة في المنطقة العربية.
وقد نجحت خطط الدول الأوروبية في دفع الحزبية وتشكيل الأحزاب باسم الديمقراطية سواء السرية منها أم العلنية، وحققت أهدافها بشكل مدهش، فقد احتل الإنكليز مصر بأقل ما يمكن من الخسائر ، وذلك لأن الأحزاب آنفة الذكر كانت قد مهدت للاحتلال بما أوجدته من فوضى فكرية شوشت فيها المفاهيم وشتت الانتماءات وفرقت كلمة الأمة وأسدلت ستاراً من الغموض على الأهداف الوطنية فحجبتها عن أبناء الأمة ، مما أضعف مقاومة الأمة للغزو الأجنبي .
أما بعد ذلك فلم تقتصر مساهمة الأحزاب والجمعيات التي أنشأتها الدول الأوروبية ودعمتها على هذا الدور في التمهيد لاحتلال البلاد العربية الأخرى، وإنما تعدت هذا وصارت إلى مساعدة عسكرية فعلية، فبالإضافة لكون الإنكليز حاربوا الدولة العثمانية بجنود مصريين والفرنسيين بجنود تونسيين أو جزائريين فقد ساهمت الأحزاب والجمعيات هذه من خلال الحركات العربية في دحر الدولة العثمانية والقضاء عليها وتسليم البلاد العربية للإنكليز والفرنسيين ليتصرفوا بها تصرف المالكين فيقسمونها كما يشاؤون ويضعون على رأسها من يشاؤون من الحكام والملوك ويهدون منها لمن يشاؤون!! ولذلك قال لورنس في كتابه أعمدة الحكمة السبعة: "كم أنا فخور بالمعارك الثلاثين التي خضتها والتي لم ترق فيه نقطة دم لإنكليزي" . وفي تبرير دوره في غش العرب بوعود كاذبة لا تتحقق قال: "إنه كان متأكداً بأن مساعدة العرب كانت ضرورية لإحراز الإنكليز النصر في الشرق رخيصاً وسريعاً" . وبالتالي فإن انتصارهم –الإنكليز- ونقض عهودهم أفضل من اندحارهم!
أما بعد الاحتلال فقد انشغلت الأحزاب بالتنافس والتناحر فيما بينها، تاركين الاستعمار يتحكم في البلاد على هواه! هذا غير أن أكثرهم كان يحاول تقديم الخدمات للاستعمار ليكسب من دعمه! فعبده مثلاً كان يتبرع بتقديم الخدمات لكرومر ؛ مثل تقديم لائحة إصلاح التعليم له التي فيها يدل عبده الإنكليز على كيفية السيطرة على المصريين المسلمين من خلال الدين! ولائحة تنظيم إدارة البلاد التي يقترح فيها منح الإنكليز سلطات أوسع وتجريد الخديوي من أية سلطة مهما كانت، وعلى مثل ذلك جرى حزبه ومن جاء بعدهم .
ومن تبعية هذه الأحزاب للدول الأوروبية أنها أصبحت أدوات تستخدمها هذه الدول في مناهضتها لبعضها البعض، تماماً كما فعل الأفغاني وعبده من خلال العروة الوثقى إذ هاجما إنكلترا بدعم من فرنسا متغاضين عن استبداد فرنسا في البلاد العربية، وانقطع صوتهم الهادر ضد الإنكليز حال اصطلاح الطرفين، فرنسا وإنكلترا، بتوقيع معاهدة بينهما اتفقا فيها على تقسيم مناطق النفوذ بينهما!!
وكذلك حدث بعد ذلك واستمر حتى يومنا هذا، فعندما ضرب الفرنسيون عام 1925 دمشق بالمدافع فتركوا شوارعها وقصورها خراباً وأعملوا في ثوارها تقتيلاً حتى بلغ عدد القتلى من السوريين نحوًا من عشرة آلاف شهيد ، لم تثر هذه النكبة في نفوس مدعي القومية والوطنية من السوريين المتواجدين في مصر من مشاعر الغضب ما يجعلهم يهاجمون فرنسا أو يلومونها ، فهؤلاء -كما يقول محمد محمد حسين- وأمثالهم في مصر لا يتحدثون –إن تحدثوا- إلا عن ضحايا الاستعمار الإنجليزي، أما ضحايا الاستعمار الفرنسي فهم يغمضون أعينهم عنه ،فإن اضطرتهم الظروف للكلام استعانوا بكل ما رزقوا من لباقة ولم يفصحو . وحتى عندما تقوم بعض الأحزاب الأخرى بحل ما عقده الأول، كما حدث مع الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل مع عبده وحزبه، حزب الأمة، من بعده ومع الوفد وسعد زغلول وغيرهم بعد ذلك، حتى هذا الحزب المعارض نفسه لا يستطيع العمل مقابل هذه الأحزاب الموالية للمحتل والمدعومة من قبله إلا إن وجد له من يدعمه من الخارج، ولهذا نجد أن مصطفى كامل وحزبه مثلاً حاولوا دائماً الاتكال على دعم فرنسا لهم ، خاصة بعد تولي الاتحاد والترقي الأمر في الدولة العثمانية .
وهكذا استطاع المحتل بواسطة الأحزاب –الديمقراطية !- أن يكرس احتلاله ويجعله أسهل وأرخص ، كما كان احتلاله بفضل الأحزاب كذلك . وبدلاً من أن تجتمع كلمة الأمة ضد المحتل تفرقت بين الأحزاب المتنافسة التي اشتدت مع الأيام منافستها حتى صارت بعد عام 1923 في مصر مثلاً إلى حد لم يعد فيه هم الأحزاب وهدفهم بلوغ السلطة في البرلمان، بل التنديد بخصومها وإسقاطهم عبر الغوغائية بالتحريض حتى لو كانت النتائج تناقض المصلحة العامة، وكثيراً ما انهمك الزعماء السياسيون في تبادل الشتائم والسباب والمهاترات متهمين بعضهم البعض بالخيانة والنفاق مما أدى إلى زعزعة ثقة الناس بجميع الزعماء إلى حد كبير ، ولم تحل سنة 1952 حتى كانت المهاترات وفوضى الخلافات الحزبية قد بلغت قمتها، وزاد الأمر سوءاً أن الشعب نفسه قد تقسمته أهواء الأحزاب التي يزعم كل منها أنه ينطق باسمه، وهي جميعاً أحزاب مصطنعة لا مبرر لوجودها ، فكلها قد وجدت لأسباب شخصية، ولا فرق بين برامجها، لأنها جميعاً متولدة عن حزب الأمة، وقد بدأت جميعاً مستندة إلى العصبيات وإلى أصحاب المصالح من كبار الملاك .
ولم يقتصر دور الأحزاب على تسهيل الاحتلال وتكريسه ، وإنما استمر دورها في خدمة مصالح الاستعمار بعد الجلاء والاستقلال ، وذلك إذ صارت تعمل على إدامة التبعية بكل أشكالها للاستعمار ، ولم يأت عملها هذا بالصدفة!! وإنما جاء نتيجة تخطيط مسبق من قبل المحتل الذي أجرى خلال احتلاله عملية مسح للأفكار والنـزعات والآمال والأهداف السائدة في الوطن، ولما أدخله من أفكار وقيم ونزعات، ولما كان سائداً في العالم من نزعات عالمية كالاشتراكية والشيوعية والفابية الخ.. التي كان من المتوقع لها أن تسود، ثم قام بصهر كل ذلك وصبه في القوالب التي يريد، فشجع تأليف الأحزاب المختلفة الأسماء والاتجاهات، منها ما هو قومي ومنها ما هو اشتراكي ومنها ما هو ديمقراطي ومنها ما هو شيوعي الخ.. ولكن الحزب القومي هذا يدعو إلى ذلك المفهوم من القومية الذي يريده الاستعمار والبعيد كل البعد عن كل مقومات الأمة وكل ما يشكل شخصيتها.
وكذلك هو حال الأحزاب الاشتراكية ، فهي رغم كونها فكرة عالمية فهي الأخرى مرتبطة بهذا أو ذاك من الأحزاب الاشتراكية في هذه أو تلك من الدول المستعمرة، تستمد منها الوحي والدعم معاً، وحتى الأحزاب الشيوعية وبالرغم من وجود النظام الماركسي الروسي الذي ترتبط به الشيوعية العالمية والأحزاب الشيوعية في العالم والذي يعتبر الأب الروحي لها، إلا أن ارتباط الأحزاب الشيوعية في الدول العربية بروسيا يمر خلال الأحزاب الشيوعية في دول الاستعمار هذه ، التي أنشأتها ودعمتها منذ البداية ، إذ يذكر مجيد خدوري في كتابة"الاتجاهات السياسية في العالم العربي " مثلاً أن الحزب الشيوعي اللبناني كان يتلقى دعمه من الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان مقتصراً على الجالية اليهودية ومقاطع من قبل العرب ولكن بعد تأسيس الحزب الشيوعي السوري في أوائل الثلاثينات اتجه الحزبان السوري واللبناني إلى الحزب الشيوعي الفرنسي طلباً للمساعدة والتوجيه .
وكل هذا تخطيط من أجل ما بعد الجلاء، فأي حزب يسيطر على الساحة السياسية في البلاد بعد الجلاء، لا يعدم الاستعمار من أن يجد من بين صفوفه من يواليه ويحقق مصالحه ويضمن استمرار تبعية البلاد له .
وليس هذا فقط ،وإنما عمل الاستعمار أيضاً وخاصة الإنكليزي على بناء زعامات وطنية يقوم بتربيتها وإبرازها وإشهارها كشخصية عبقرية فذة مؤكداً على وطنيتها من خلال ما يرتبه لها من موقف وطنية مناهضة للاستعمار فيلتف حولها الوطنيون، وتنال دعماً شعبياً كبيراً فتصبح هذه الزعامة بفضل هذه المواقف التمثيلية المرتبة، والحزب الملتف حولها هي القوة الغالبة. وبهذا يهيئها لتسلم دفة الحكم عندما تزف ساعة الرحيل بعد أن ينتهي دور الاحتلال بتحقيق أهدافه، فالاستعمار لا يمكن كما يقول مالك بن نبي: "أن يلغي من حسابه مبدئياً احتمال الاستقلال... إن الاستعمار لواثق اتجاه هذا الاحتمال، ولمواجهته في الوقت اللازم" ، ولذلك يهيئ لمن يُسلم البلاد، ويقول عن حال الجزائر: "إن الصراع لم يكن صراع أفكار، وإنما صراع مصالح تشرف عليها السلطات العليا، متظاهرة بمقاومته أحياناً، عندما تعلن غضبها على هذا –العدو لفرنسا- أو ذاك حتى يرى الشعب المغرور في تلك العداوات بطولات توجب عليه السمع والطاعة لأصحابها..." ، وليس أدل على ذلك من الكيفية التي ظهر فيها سعد زغلول وأصبح أكبر زعيم وطني في مصر، وهو الذي استوزر لأول مرة وهو شاب صغير بترشيح من بلنت وكرومر وأصبح وزيراً مزمنا في الوزارات المختلفة والمتعاقبة في الدولة ينتقل من وزارة إلى أخرى منفذاً للإنكليز كل استبدادهم ومكرساً احتلالهم لمصر !! فمن المعروف أن الوزير آنذاك هو المنفذ لسياسة الإنجليز وقد اعترف بذلك اللورد ويفل Wavel الذي قال عن كيفية الحكم في مصر: "إن الإنجليز ليس لديهم سلطات تنفيذية بأنفسهم ولكنهم يباشرون التنفيذ عن طريق الوزراء المصريين..."   ولما أنشأ كتشنر عام 1913 الجمعية التشريعية استقال سعد وانتخب رئيساً لها، وتحول إلى معارض للإنكليز بقدرة قادر!! وتطرف سعد بعد ذلك لينافس الحزب الوطني المتطرف ضد الإنكليز إلا أنه احتوى هو وجماعته من أعضاء حزب الأمة هذا التطرف ضد الإنكليز ووجهوه ضد الخديوي وإن عارضوا الإنكليز كما يقول محمد محمد حسين: "فهم لا يعارضونهم إلا في تسامحهم مع الخديوي"  .
وبدأ بعد ذلك سلسلة من الخلافات والمهاترات التي يفتعلها مع هذا وذاك من أعضاء الحكومة ومن أعضاء الجمعية التشريعية مما عرقل نشاطها، حتى الوفد الذي ذهب للمفاوضات مع الإنكليز والذي كان هو أحد أعضائه لم يسلم من هذه الخلافات ، إذا افتعل سعد زغلول خلافاً مع أعضاء الوفد ونازع عدلي باشا رئيس الحكومة على رئاسة الوفد مما أضعف موقف المفاوضين! ولما اشتدت هذه الخلافات التي صارت إلى مهاترات سخيفة يمكن أن تضر به! نفي ولمدة شهر واحد في مارس 1919 فقط ليعود بعدها بطلاً مقداماً وشخصية جماهيرية فذة تنـزهه الجماهير وتبرر له كل أفعاله. فأصبح يحرك الجماهير كيفما يشاء، وطغى بشخصيته هذه على كل معارضيه، وأصبح الزعيم الذي جعل مصر رهن إشارته.
فماذا حقق ؟!
أضعف موقف الحكومة والمفاوضين في مفاوضاتهم مع المحتلين، شغل الأمة، حكومة وشعباً بخلافات جانبية تافهة لا طائل ورائها، وامتص النقمة والثورة على الإنكليز وحماسة الشباب بخطبه الحماسية ، وحولها كما يقول محمد محمد حسين: "إلى الاشتغال بالتوافه وبما لا طائل تحته، فبعثر هذه الطاقة الضخمة وبددها، وفوت على الأمة أن تستفيد بها حين كان يمكن الانتفاع بها فيما يجدي وينفع"  وبعد أن أدى دوره هذا عاد إلى الواقعية وموالاة الإنكليز مرة أخرى كما كان من قبل ! فلم يكد يصل اللورد لويد عام 1925 إلى مصر حتى سارع سعد إلى زيارته ، ولم تلبث الصحف الوفدية أن مالت إلى مهادنة الإنكليز والدعوة إلى مسالمتهم والانتفاع بمزايا وجودهم والانشغال بالأمور الاقتصادية والزراعية وتأجيل مسألة الجهاد السياسي إلى إشعار آخر حتى تحين الفرص  !!

وبدأ سعد يدافع عن الامتيازات الأجنبية ويشيد بالأعمال الجليلة التي تقوم بها الحكومة الإنكليزية، ولكنه مات ولم يمهله الأجل ليحقق ما كان الإنكليز قد عقدوا عليه من آمال، وفوت موته على الإنكليز فرصة كبيرة في الاستفادة من استثمارهم فيه، ولذلك قال نيومان متأسفاً على موته: "كان من الممكن أن يكون سعد زغلول عاملاً قوياً في هذه الفترة من العلاقات المصرية الإنجليزية " ، وقد كان هناك أدلة لا تحتمل إلا قليلاً من الشك على ما ذهب إليه اللورد لويد والحكومة الإنجليزية من انتظار معونته وعطفه، وقد كان عطف زغلول على وجهة النظر الإنجليزية يعني عطف المصريين جميع  ) .

( وكون الديمقراطية والحزبية نبتة أجنبية لا يحتاج منا إلى دليل فهي لم تدخل كفكرة وكممارسة إلا مع أوائل الغزو الأوروبي الذي تمثل أول الأمر بالمدارس الأجنبية والإرساليات التبشيرية ومن ثم الماسونية وما نسخ عنها من الأحزاب، فالعراق مثلاً لم يعرف الحياة الحزبية العلنية إلا في عهد الانتداب الإنكليزي عام 1921-1932 وتألفت عشرة أحزاب  لم تدم طويلا حتى أن مواد القانون الأساسي الذي نص على أن السيادة للأمة ووضع مواد لحماية حقوق الشعب الأساسية كانت مترجمة عن الإنكليزية وأن القانون وضع نتيجة معاهدة فرضتها بريطانيا على العراق ، ولم يدخل الإنكليز الديمقراطية إلى البلاد حرصاً على مصالح الأمة وحكمها لنفسها! كما قد يعتقد البعض ، بل العكس ؛حتى يحكموا سيطرتهم عليها ويسيروها باسم الديمقراطية كيفما شاءوا. أدخلوها لأنها مهزلة ليس إلا، وقد وصفها السر ارنولدويلسن، نائب الحاكم المدني في العراق 1918-1920 كذلك ؛ إذ كتب مقالة عام 1936 إثر انقلاب بكر صدقي في العراق قال فيها: "حررناهم من حكم الأتراك الخفيف الوطء والكسول حينما احتللنا العراق بقصد منع الألمان من الوصول إلى الخليج، ولقد حملناهم على تبني نظام برلماني، بمجلسين أعلى وأدنى، وانتخابات دورية، في وقت كان الأتراك والإيرانيون قد ألغوا فيه برلماناتهم باعتبارها سبب دمارهم، لقد أخذنا العراق من الأتراك الذين لهم تقاليد الحكم وخبرته، وأودعناهم أناساً ليس لهم حظ من أيهما" وبعد أن يلوم بريطانيا يقول عن الانقلاب: "...وهذا الانقلاب يعني نهاية مهزلة الحكومة البرلمانية في العراق" ، ومهزلة الديمقراطية التي أرسى دعائمها الاستعمار الإنكليزي تظهر في الاستفتاءات التي أجراها في أول أمر الاحتلال ليعطي الشرعية لأعماله. فقد أجري استفتاء شعبي! شبه رسمي في العراق، وكان هناك مرشحان لحكم العراق، وكانت إنكلترا قد وعدت أن تجري انتخابات عامة حرة في البلاد لاختيار مجلس نيابي يناط به تقرير دستور للبلاد واختيار رئيس الدولة المقبلة، وكانت الحكومة الإنكليزية تعلم أنه سوف لن يختار هذا المجلس مرشحها فقررت فرضه على البلاد، فقامت قوة باختطاف المرشح الآخر، بناء على أوامر كوكس بينما كان ينـزل ضيفاً عليه في منـزله، وحمل إلى عربة مدرعة توجهت به إلى زورق نقله إلى البصرة ومنها إلى السجن في سيلان، ونظم بيرس كوكس هذا استفتاء شعبياً! يقوم على سؤال وحيد يجعل البديل هو استمرار الحكم الأجنبي مما اضطر المستفتون إلى قول "نعم" !! فبريطانيا لم تحكم البلاد العربية التي احتلتها بشكل مباشر بل من خلال ما توجده من تنظيمات ومنها الأحزاب والمجالس النيابية، وقد ذكر خدوري ما يؤكد هذا الأمر إذ قال: "أصرت فرنسا بصفتها السلطة المنتدبة على ضرورة تضمين دستور كل من سوريا ولبنان مواد تشترط موافقتها -فرنسا- المسبقة على كل إجراء رسمي، أما بريطانيا، فقد آثرت إخضاع الشكل للمضمون، فلم تشترط مثل هذه السلطات بل فضلت الاعتماد على نفوذ غير مباشر عوضاً عن النفوذ المباشر..."  .
أما بعد الحرب العالمية الثانية، (وبعد أن انتصرت الديمقراطية الأوروبية متمثلة بالحلفاء على جبهة المحور أو عزت الأولى إلى الأنظمة السائرة في ركابها بالسماح لشعوبها بممارسة الديمقراطية كأسلوب لإيقاف الاتجاهات التبشيرية الشيوعية)   والتي كان نشاطها قد تزايد بفضل دعم الحلفاء لها خلال السنوات الأخيرة من الحرب من أجل الاستفادة من تنظيماتها في الدعاية للحرب الاستعمارية هذه، وجعلها حرب تحرير وديمقراطية!!، ولكن بعد أن حطت الحرب أوزارها، وتقاسم الحلفاء من جديد مناطق النفوذ ظهر التخوف من انتشار الشيوعية من جديد، إذ قال تشرشل مثلاً: "لقد خيم ظل على المناطق التي أضاءتها انتصارات الحلفاء مؤخراً ولا يدري إنسان ماذا تنوي روسيا السوفيتية ومنظماتها الشيوعية الدولية أن تفعلا في المستقبل القريب أو ما هي الحدود، إن وجدت ؛ لاتجاهاتها الواسعة التبشيرية" . فبدأوا في بعث الحياة الحزبية هنا وهناك ودعموا نشاطاتها بغير حدود من أجل القيام بواجباتها في توجيه الأمم ونشر مفاهيم الحرية والديمقراطية والاشتراكية أيضاً ليفرغوا الدعوة الشيوعية من محتواها ويعملوا على صدها.
أما السبب التنظيمي الذي يجعل الديمقراطية أداة هدم فيتمثل في غياب القيادة لعملية الديمقراطية متمثلة بأحزاب وانتخابات، ففي أوروبا كان الإقطاع في أول الأمر هو مركز القوة في الدولة والذي يسير كل شيء فيها وعلى رأس ذلك نظام الحكم أياً كان، فالنبلاء الإقطاعيون ورجال الدين كانوا هم الطبقة الحاكمة في البلاد. ولما بدأ العمل في فكرة الانتخابات وتمثيل الأمة آنذاك كان الإقطاع والكنيسة هما اللذان يقودانها ويسيرانها بحسب ما تقتضي مصالحهما . فمنذ عام 1483، في فرنسا على سبيل المثال، وحتى قيام الثورة الفرنسية لم يكن كما يقول ثومبسن: "قوانين مكتوبة وواضحة للانتخابات، ولم يكن هناك برلمان في باريس أو فرساي، ولا يستطيع أحد أن يعرف كيف ينتخب النواب أو ما هي واجباتهم وكان النواب يخضعون لسيطرة النبلاء ورجال الدين وهذا ما لم يعد يناسب الطبقة المتوسطة الناشئة" وحتى البرلمان الذي اجتمع يوم 5 مارس 1789 قبيل الثورة بقرار من لويس السادس عشر كان يعطي الكثير من الامتيازات للنبلاء ورجال الدين ولا يخدم العامة إلا قليل  وبدأت هذه الطبقة المتوسطة الناشئة ذات التوجهات العلمية والصناعية تعمل عملها في المجتمع الأوروبي من أجل تغييره فقضت على الإقطاع وعلى نظام الحكم الخاضع له وأخذت منه زمام الأمور وقيادة المجتمع، فأوجدت نظام الحكم كما هو عليه اليوم، وحلت الرأسمالية الصناعية -أو لنقل الإقطاع الصناعي إن جاز التعبير- محل الإقطاع القديم في قيادة الديمقراطية وجعلتها بالشكل الذي هي عليه الآن في أوروبا تأتمر بأمرها وتتحرك بإرادتها.
فمن يقود الديمقراطية في البلاد العربية إن وجدت؟
ليس في البلاد حتى قبل الأنظمة السائدة إقطاع ذو نفوذ طاغ كما كان الحال في أوروبا وذلك ؛ لأنه في أوروبا سبق الإقطاع الدولة في الوجود وهو الذي أوجد الدولة لخدمة مصالحه فهو الذي كان يسيطر عليها. أما في البلاد العربية والعالم الإسلامي ككل فإن الإقطاع وجد بعد وجود الدولة بزمن طويل، إذ هو ظهر كأحد المقتبسات الأوروبية من أجل التقدم والمدنية! وبالتالي فقد كان نظاماً مشوهاً لمثيله الأوروبي ويستمد قوته من الدولة أو من الدول الأجنبية الداعمة له، ولذلك لم يستطع حتى حين وجوده من قيادة الديمقراطية وتوجيهها حتى وإن كان لمصلحته. وفي ذات الوقت ليس هناك احتكارات صناعية رأسمالية كبيرة، تمثل مركز قوة، لها من النفوذ ما يؤلها لأن تقود مسيرة الديمقراطية، كما هو الحال في أوروبا وأمريكا اليوم . وما يوجد في البلاد العربية من هذه القوة الرأسمالية النامية في الوقت الحاضر، هو نتف صناعية مرتبطة بالرأسمالية الصناعية الأجنبية.
ولا كياناً مستقلاً لها ولا يمكن أن يكون لها ذلك في يوم من الأيام، وذلك لأنها كلها لا تعدوا أن تكون فروعاً أو امتيازاتاً لشركات واحتكارات عالمية أجنبية، ولذلك فإن أي تدخل منها سيكون في حقيقته تدخلاً أجنبياً مرفوضاً من جهة، ومن جهة أخرى لن يكون للصالح العام بل لتحقيق مصالحها الآنية ومصالح الاحتكارات الأجنبية المرتبطة بها على المدى القريب والبعيد ، حتى وإن كانت على حساب المصالح العامة، فليس في البلاد العربية مركز قوة لها وزنها سوى الحكومة، أو لنقل الحاكم، والحاكم أو الحكومة ككل لا يمكنها قيادة الديمقراطية لأنها طرف في العملية التي تستهدف محاسبتها ومراقبتها !! وبالتالي فمن الطبيعي أن تستخدم نفوذها لجعل هذا التنظيم أو السلطة التي هي المجلس النيابي في صفها ويرى رؤيتها، مما يجعل الأمر تمثيلية لا معنى لها!
وفيما عدا الحكومة فليس هناك في البلاد العربية غير مراكز قوى صغيرة مبعثرة تتمثل بالعشائرية والطائفية والحزبية والفئوية الخ... وهذه كلها ذات أثر محدود إذ يبرز من كل منها فرد –أو أفراد- يستطيع أن يستغل إمكانات مجموعته بشتى الطرق! ليصل من خلالها إلى رحاب المجلس المنتخب ،الذي تصل إليه هذه الأشتات المتنافرة والمتناحرة فتنقل إليه تناحرها، والشواهد على ذلك كثيرة.
فقد انحل أكثر من مجلس في دول الخليج لأن أعضاءه ذوي الانتماءات المتنافسة لم يقتصروا في حل خلافاتهم على الشتائم والاشتباك بالأيدي وإنما استخدموا مقاعد المجلس!! أيضاً. ومسألة حل المحامين المصريين خلافاتهم بإطلاق الرصاص على بعضهم ليست بعيدة عن الأذهان!
هذا بالإضافة إلى أن من ضمن مفاهيم الديمقراطية كما نشرها الأوائل أمثال الأفغاني وعبده والكواكبي وغيرهم واقتبسها عنهم المعاصرون هي: أن أفضل الخلق وأعظم الوطنية هو أن تعارض الحكام ولا تقرب مجلسهم!! مما جعل النواب يفهمون أن مهمتهم إن كانوا وطنيين شرفاء أن يتناحروا مع أعضاء الحكومة، أو أن أفضل طريق لعرض وطنيتهم وتحقيق الشهرة لأنفسهم هي المعارضة لكل ما تفعله الحكومة بالحق أو بالباطل !! ولذلك لم تقتصر مسألة الشتم والضرب على بعضهم البعض ، وإنما صار بينهم وبين الوزراء أيضاً، كما حدث في مجلس النواب المصري مؤخراً ومر ذكره .
وهذا يجعل القول إن الديمقراطية الغربية إن طبقت في البلاد الأخرى، وخاصة البلاد النامية تصبح أداة هدم هو الحقيقة.
ثم إن الديمقراطية ليست هدفاً كما تصورها الدعاة وتبنوها وصوروها للناس، وكما دعاهم إليها الأوربيون قبل ذلك، حتى صار كل حزب يزين بها اسمه أو برنامجه على اعتبار أنه سيحقق الديمقراطية، وكل حكومة تدعى في برنامجها ذلك وكل دولة تجعله شعاراً له وتلحقه باسمها ! إن الديمقراطية الأوروبية هي حل لمشكلات سياسية واجتماعية عانت منها مجتمعات أوروبا وتطلبتها الظروف السائدة فيه والخاصة بها ، التي لا تنطبق على كل المجتمعات الأخرى –كما أن الدواء لا يصلح لكل المرضى- وعلى رأس ذلك ظهور الرأسمالية الصناعية، التي تطلب نشوؤها وازدهارها المرور بثلاث مراحل:
1- الثورات الداخلية للقضاء على مراكز القوى التي كانت سائدة في البلاد والتي تقف في طريق سيطرتها، وهما الإقطاع والكنيسة المحرفة ، الذين كانوا بالإضافة إلى كونهم إقطاعيين نافس البعض منهم الملوك والأباطرة على امتلاك الاقتطاعات الواسعة، يسيطرون على أمور الحياة ويقفون في سبيل التقدم العلمي والصناعي اللذين تحتاجهما الثورة الصناعية.
2- النظام الديمقراطي في الحكم ليوفر لهم الاستقرار بعد تلك الثورات التي بعد أن قضت على الأنظمة القديمة لم تعد تخدم مصالحهم وخاصة في القرن الثامن عشر إذ يقول ثومبسون في كتابه الثورة الفرنسية: إنه كان "عالم اتفق فيه المتنظرون مع السياسيين الواقعيين، على أنه لا يمكن أن يتحقق شيء بعنف الثورة، لا يمكن تحقيقه بالإصلاح القانوني، وأنه كان عالم فيه فجوة عميقة بين طبقة وأخرى، إلا أنه لم يكن هناك حرب طبقات... الكل يرغب بحرية أكبر ويدين بالولاء لملكية محدودة الصلاحية تسمح بالمشاركة في حكم البلاد" .
3- الحروب الاستعمارية وغزو البلاد الأخرى واحتلالها لتوفير المواد الأولية اللازمة لصناعاتهم ولتأمين الأسواق الدائمة لهذه الصناعات، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فالحروب كانت تهدف أيضاً إشغال أبناء الأمة عما كانت تعاني مجتمعاتهم من فجوة طبقية شديدة ومن فقر واستغلال بشع لهذا الفقر، تبدو آثاره في حياة الطبقة العاملة في المصانع والمدن الصناعية الكبيرة التي كانت تستدعي الثورة عليها.
وهكذا تولت مراكز القوى الرأسمالية قيادة البلاد الأوروبية ونظام الحكم الديمقراطي فيها توجهه كما تشاء لخدمة مصالحها وتنظم نشاطات الناخبين والمنتخبين بوسائلها المختلفة لتحقق الفوز لمن تريد والفشل لمن لا تريد! وهذا هو ذات ما تسعى لتحقيقه في البلاد الأخرى لتتحقق لها تبعيتها بشكل نهائي وإلى الأبد ، ولا يعود هناك حاجة للثورات!! ).
( إن إلحاح الدول الأوربية على الديمقراطية وتحريض الشعوب على المطالبة بها كحقوق إنسانية قبل الاحتلال وهدرها بعده كما حدث في مصر وغيرها من البلاد المحتلة، واستخدامها وسيلة لإسقاط الحكام المعارضين ولإضعاف الدولة العثمانية وإسقاطها، جعل الزعماء العرب الأوائل والأواخر، يفهمونها كذلك وسيلة للمعارضة وهدم الأنظمة القائمة لا غير ، تنتهي مهمتها عندما تحقق أغراضها هذه وليس حلاً لأزمة الحكم، خاصة وأنه لم يكن هناك قبل الاحتلال وقبل التدخل الأوروبي أزمة حكم، ولهذا جعلوا أشخاصهم وأحزابهم فوق هذه الديمقراطية التي يدعون لها مع الداعين، وقد أكد الأفغاني هذا الاتجاه عند الزعماء والأحزاب عندما قال: تتخيل الأمة من وراء وعود الحزب سعادة ورفاه وحرية واستقلال ومساواة... فيؤازرون الحزب بكل معاني الطاعة والانقياد والنصرة والتضحية و... الخ فإذا ما تم للحزب ما طلبه من الأمة واستحكم له الأمر، ظهرت هنالك في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية...الخ.   .
ولذلك نجد مثلاً أن الملك فيصل الذي قاد الثورة العربية باسم الحرية والديمقراطية والذي استفاد مما أحدثته الدعوات هذه من فجوة بين الحكام العثمانيين والرعية رفض إعطاء المجلس حق طرح الثقة بالحكومة فقال في المؤتمر السوري الوطني الذي كان مجتمعاً لوضع دستور لسوريا: "إنني أنا الذي أوجدته فلا أعطيه هذا الحق الذي يعرقل عمل الحكومة" !! مما جعل رشيد رضا يقول له: "نعم إن لك فضلاً بالسماح بجمعه إذ كنت تحكم هذه البلاد... أما وقد اجتمع - المؤتمر- باسم الأمة وهي صاحبة السلطان الأعلى بمقتضى الشرع الإسلامي وبمقتضى أصول القوانين العصرية... أن تكون الحكومة مسؤولة تجاهه" . ويذكر مجيد خدوري أن الملك فيصل تابع، حتى بعد أن أصبح ملكاً على العراق (1921-1932) سيطرته على الحكومة، ولم يلتفت إلى الدستور في العراق أكثر مما فعل في سوري .
وكان سعد زغلول لدكتاتوريته وغروره يعتبر نفسه الأمة كلها إذ قال في رده على خصومه: "إن من يتحداه يتحدى المصلحة المصرية القومية"  وقال: "إن إحراجي هو إحراج الأمة" ، وعمل دائماً على شل حركة مجلس النواب بما يفتعله من خلافات مع الأعضاء، وهكذا كانت سيرة معظم الحكام والدعاة في تعاملهم مع الديمقراطية مما سبب عجزها وفشلها. فالزعماء العرب كما يرى مجيد خدوري كانوا غير مستعدين ذهنياً لمثل هذا النوع من التجديد  الذي فرض عليهم من الدول الأوروبية التي أوجدتهم ودعمتهم حتى كانت قراراتهم بهذا الصدد تعتمد على توجيهات الدول الأوروبية التي بسطت سيطرتها على البلاد العربية... 
إن الديمقراطية دخلت البلاد العربية مشوهة وكوسيلة لتكريس الاستعمار لا غير. لقد فرضت الدول الأوروبية على الدول العربية نظامها الديمقراطي، ولم تدع للعرب حرية اختيار نظامهم السياسي الذي ينسجم مع ظروفهم الخاصة بهم، وجعلت الزعماء المحليين الذين وضعتهم على رأس السلطة يتبنون مؤسساتها هذه:
المؤسسات الفرنسية في الدول الخاضعة لفرنسا والمؤسسات البريطانية في الدول الخاضعة للنفوذ البريطاني، بغض النظر عن ملاءمة هذه المؤسسات لحال الدول العربية وأوضاعها المحلية. وفوق كل ذلك لم تسمح للمؤسسات التي أوجدتها هذه أن تعمل بحرية بحيث تتمكن من تكييف نفسها للأوضاع القائمة في البلاد ؛ بل كثيراً ما كانت تفرض القيود عليها كلما لاح من هذه المؤسسات ما يناقض مصالحها، فنجد بريطانيا مثلاً في الوقت الذي تؤيد فيه سيطرة البرلمان على الحكومة ضد رغبة الملك كان قناصلتها في العراق وغيره يفضلون تعزيز سلطة الحكام وإعطاءهم حق النقض لقرارات البرلمان ، هذا غير أن النماذج التي طبقتها الدول الأوروبية من مفاهيم الديمقراطية في البلاد العربية كان مهلهلا، إذ هي فرضت على هذه البلاد ما شاءت من أنظمة ودساتير، وحتى عندما كانت تجري استفتاء على أمر ما، كانت تدبره بشكل يجعل نتيجته توافق ما كانت قد قررته مسبقاً ويحقق مصالحها، وكانت تعامل الحكام بصلف وتفرض عليهم إرادتها، ففي العراق مثلاً كان تعامل بريطانيا مع الملك –وورثته ونظام الحكم ككل- ومنذ أول إنشاء الدولة خرقاً للديمقراطية ؛ فبعد مرور 28 يوماً على تنصيب فيصل ملكاً على العراق قدم بيرس كوكس، المندوب البريطاني مسودة معاهدة مع بريطانيا تتضمن أسس الانتداب ومطالبه وأغراضه ، والتي كانت كلها لصالح بريطانيا ؛ مما جعل الحركة الوطنية - الأحزاب التي أجيزت بعد ذلك- تعارضها وتطالب من التعديلات فيها ما لا يتفق ومطامع بريطانيا، فعمد كوكس منتهزاً مرض الملك فيصل إلى اعتقال زعماء الحركة والأحزاب هذه ونفيهم إلى جزيرة هنجام، على مضيق هرمز، وعزل بعض المسؤولين في الألوية وأرسل الطائرات لتقصف العشائر المؤيدة للحركة الوطنية !!
وبعد شفاء الملك من مرضه زاره كوكس وهنأه قائلا له: "إن الحكومة البريطانية سوف لا تتحمل بعد الآن اتصاله بأية حركة وطنية ولا تتساهل في أي تأخير قد يحدث في شأن تصديق المعاهدة " وطلب منه أن يكون ملكاً دستورياً ويترك التدخل غير الضروري في شؤون الإدارة والموظفين" . وذكر فيليب أيرلند أن الملك فيصل اعتذر عن أعماله السابقة بأنه إنما قام بها لعدم وجود الدستور ولأن الوزارة كانت غير متجانسة وأنه حالما يحصل على الدستور والمعاهدة سوف يقوم بتنفيذ ما يطلب منه بطيبة خاطر ، وقدم كوكس إلى الملك مسودة كتاب يصادق فيه على الإجراءات القمعية التي قام بها كوكس من نفي وسجن وقصف للقرى والمدن ويشكره عليه ،وقد فعل الملك ما أراد كوكس !! وهذا نص الكتاب: "عزيزي السيد بيرس، الآن وقد تم شفائي بحمد الله تعالى، وسمح لي أطبائي أن أستأنف أشغالي في الدولة، أرى من واجبي قبل أن أتولى هذه التبعة أن أقدم إلى فخامتكم تشكراتي القلبية، وأن أعبر عن إعجابي الشديد للسياسة الحازمة والتدابير الضرورية التي اتخذها فخامتكم بصفتكم ممثلاً لحكومة صاحب الجلالة لصيانة المصالح العامة والمحافظة على النظام والأمن أثناء مرضي المفاجئ الذي صدف وقوعه بغتة في المدة التي تنقضي عادة بين استقالة الوزارة وتأليف وزارة غيرها، وختاماً أكرر تشكراتي الخالصة لفخامتكم على مساعدتكم الثمينة ( !! )
بغداد 11 أيلول 1922 صديقكم المخلص فيصل
وبعد هذا صارت العلاقة بين الملك وكوكس علاقة ودية وعمل الملك بحسب اقتراحاته بالنسبة لتشكيل الوزارة ووافق على جميع ما طلب كوكس منه!!!
وموقف آخر يدل على تشوه الديمقراطية في بلادنا ذكره سلامة موسى في كتاب الثورات إذ قال: "كان الإنجليز في حاجة إلى تأييد الشعب لنظام الحكم لأن هدير الحرب الكبرى الثانية التي بدأت في 1939م كانت له ذبذبة تحس وإن لم تسمع في 1934م ، واحتاج الإنجليز إلى أن يربطونا بمعاهدة تكفل لهم الأمان والمعونة إذا وقعت الحرب. ولم يكن من المعقول أن يوقع المعاهدة هذه –إسماعيل صدقي وفؤاد- التركيان أو الشركسيان دون نواب الشعب! وجيء بالوفد للحكم ووقعت معاهدة 1936 ونال مصطفى النحاس رئيس الوزراء لقب سير من الإنجليز مكافأة له على هذه المعاهدة"  !!
وهذا قليل من كثير من المواقف التي تدل على ديمقراطية أصحاب الديمقراطية وعلى الشكل الديمقراطي الذي غرسوا نبته في بلادنا! هذا غير تعطيل الصحف والمجالس وفضها والتدخل في انتخاباتها بشكل مباشر وغير مباشر. مما جعل الديمقراطية شكلاً من غير مضمون إن وجدت ومتى وجدت.
لعب التشتت الفكري دوراً كبيراً في عجز الديمقراطية في البلاد العربية، ففي أوروبا هناك حزبان -في الغالب مثلماً هو الحال في أمريكا وإنكلترا- يتنافسان على السلطة، ينطلقان من عقيدة واحدة في الأساس ولذلك لا تختلف سياسة أحدهما عن الآخر في حقيقة أمرها، وكل خلافاتهما لا يكون إلا ظاهرياً وبحسب ما تتطلبه لعبة الكراسي التي يلعبونها باسم الديمقراطية! فكل من هو خارج الحكم يعارض من فيه بالحق وبالباطل ، وما أن يصل هو نفسه إلى الحكم حتى يؤيد كل ما قام به سابقه ويزيد عنه في ذات الاتجاه، مما جعل الأفغاني مثلاً يهاجم حزب الأحرار الذي كان يعارض المحافظين ويدعوهم إلى تحرير البلاد المستعمرة إذ قال: "صاروا على الأمم أشد من الحزب المحافظ، وزادوا في التحريج والتضييق وأحكموا خلق العبودية وشددوا ربط الرقبة وضيقوا المجال على النفوس التي تهوى الحرية وتميل إليها... بعد أن نادوا بأعلى صوتهم بفك رقاب الأمم من العبودية وكأنهم عن انعزالهم ما كانوا يحامون عن حرية الأمم، إلا لأن يأخذوا زمام الحكومة بأيديهم فجعلوا المحاماة عن الحق آلة للوصول إلى باطلهم" . وحتى في حالة وجود أحزاب أخرى فهي صغيرة وأضعف من أن تكون مؤثرة بجانب هذين الحزبين ؛ مما يجعلها تأتلف مع أحدهما أو تتلاشى من نفسها من غير أن تمثل لهما منافسة لها خطرها عليهما أو على دولهما الصناعية الكبيرة ، التي كل ما عداها أصغر وأضعف من أن يستطيع التأثير في أحزابها وديمقراطيتها!
بينما في بلادنا العربية فالأحزاب ذات الانتماءات المختلفة لا حصر لها وكل منها يريد التسلط في الحكم وأصغر وأضعف حزب يمكن أن يصبح الأقوى والأكثر تأثيراً في وقت الحاجة بما يتلقاه من دعم أصحاب المصالح من الأجانب، فإن كانت الديمقراطية في الدول التي ابتدعتها لعبة يلعبها أبناء الأمة فيما بين بعضهم البعض أو تمثيلية المخرجين والممثلين فيها من أبناء البلاد ؛ فإنها في البلاد الأخرى وخاصة في الدول النامية تصبح لعبة يلعبها الأجانب ، ودور أبناء الأمة فيها لا يتعدى دور حجر الشطرنج، أو تمثيلية يخرجها الأجانب بممثلين من أبناء الأمة. وقد حاولت الدول الأوروبية في أول الأمر حصر أمر الديمقراطية في البلاد التابعة لها، بحزبين أو أكثر لهما ذات العقيدة العلمانية المستوردة منها ويعملان بتوجيهاتها ليتناوبا الأدوار كما هو حال الديمقراطية في موطنها ، ولكن لم يكن ذلك ممكنا لعدة أسباب منها ما يلي: -
‌أ- أن العقيدة الإسلامية السائدة في البلاد والمعارضة للعلمانية ظلت حية ولم تستطع الضربات التي وجهوها إليها أن تنال من حيويتها بما يكفي للقضاء عليها، بل ظلت تشكل اتجاها مخالفاً تماماً للاتجاه العلماني التابع لهم.
‌ب- إن التنافس الشديد بين الدول الأوروبية وخاصة بين فرنسا وبريطانيا على السيطرة على البلاد العربية وإخضاعها لتبعيتها جعلت هذه الأحزاب العلمانية ذات العقيدة الواحدة والتي تنطلق من فلسفة واحدة تنقسم بحسب انتماءاتها لهذه أو تلك من الدول المتنافسة ؛كما حدث في حالة الأفغاني وخروجه من المحفل الماسوني البريطاني وانضمامه إلى المحفل الفرنسي، مع أن الماسونية كعقيدة هي ذاتها! مما زاد من تشتت الأحزاب.
‌ج- عندما ظهر الفكر الاشتراكي والشيوعي أرادت الدول الأوروبية احتواءه فدعمته وأنشأت له الأحزاب في البلاد العربية ودعمتها ليكون جزءا من الاتجاه العلماني التابع لها، ولكن ظهور روسيا ثم الصين كدولتين كبيرتين تدعمان الشيوعية، أفشل خططها بعض الشيء، في احتواء الحركة هذه وجعلها تحت سيطرتها وحدها، وبانقسام هذه الأحزاب العلمانية الليبرالية والشيوعية والاشتراكية إلى فروع وفروع الفروع وتعدد انتماءاتها جعل مسألة الأحزاب أكبر من أن يحصرها ذلك الاتجاه الواحد الذي أرادت الدولة الأوروبية حصر الديمقراطية في إطاره ؛ مما أفشل مشروع الديمقراطية في البلاد العربية وجعلها إن وجدت، مجرد سوق يتزايد فيه المرشحون على الشعارات وبيع الكلام، وقد ذكر مالك بن نبي مثلاً على ذلك ما صار إليه حال الجزائر في فترة الثلاثينات إذ قال: "إن الوضع تهيأ آنذاك لـ "السوق الانتخابية التي ستفتح أبوابها على مصراعيه... عندما تدق ساعة المزايدة في القيم الأخلاقية والاجتماعية التي اكتسبها الوطن خلال الثلاثينات والتي ستباع فعلاً بالمزايدة الديماغوجية التي أعلنتها اتحادية المرشحين..."   ويقول عن ضرر طغيان الحزبيات وشعاراتها: "لا يستطيع أحد تقييم ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، كانت قبل ذلك الأفكار نقية صافية، والنوايا خالصة، صادقة ، والقلوب رحيمة خيرة... فاستحال كل ذلك إلى الخلط، والخبط ،والتباغض والانتهازية والثرثرة ، وأصبح كل فرد مهتماً بـ (نوتته) الشخصية في العزف العام، ويسعى لمصلحته الخاصة، باسم الصلاح وباسم الوطنية..."
وريبة الأمة العربية في الديمقراطية وسوء الظن بها زاد عجزها عجزاً، فهي قد دخلت مع الاستعمار، الذي أدخلها ولم يستخدمها إلا لإذلال الأمة وفرض إرادته عليها، فقد قسم أراضيها وشتت شملها باسم الديمقراطية واستفتاءاتها، وفرض عليها من الحكام والملوك من يشاء غصباً عنها وباسمها، أخرجها من دينها وتقاليدها ونظمها التي تفهمها وارتضتها لنفسها وفرض عليها عقائده العلمانية ونظمه وباسمها! ومنح أجزاء عزيزة عليها من أراضيها إلى الآخرين، وباسمها، وارتكب ويرتكب حتى اليوم كل الجرائم بحق الأمة وباسمها!! فكيف لا ترتاب وتستهزئ بها وتتهمها بالتزييف مهما كانت نزيهة، فكل ما يأتي من دول الاستعمار لابد أن يكون مزيفاً، ولابد أن تكون هذه الدول قد تدخلت فيها لمصحتها ، فهكذا علمتها التجارب !
وخلاصة القول، فإن الديمقراطية الأوروبية كما دعا إليها الأوروبيون في البلاد الأخرى ما هي إلا وهم أو سراب استخدمته الدول الاستعمارية قبل الاحتلال لتغليف مقاصدها اللئيمة ولإغراء بعض أبناء الأمة بالأماني والآمال الكاذبة لكسبهم إلى جانبها، ليمهدوا لها احتلال البلاد، وبعد الاحتلال صار وسيلتها لاختراق الأمة وتسييرها كما تشاء لخدمة مصالحها، وبعد الاستقلال أصبح وسيلة لاستمرار تبعية البلاد لها . واستخدمه الأفراد والأحزاب من أبناء الأمة وسيلة للوصول إلى الحكم. فما داموا بعيداً عن السلطة والحكم فهم باسم الحرية والديمقراطية يهدرون حريات الآخرين ويعتدون بما ينشرون من الأكاذيب والأباطيل عن أصحاب السلطة ما يشوشون به الحقائق على الأمة، ليبنوا لأنفسهم محفة فاخرة تنقلهم باسم الديمقراطية إلى مواقع السلطة ليستبدوا بها ويركلوا الديمقراطية بعد ذلك بعيداً عنهم، ولذلك وبعد أكثر من مائة عام على الدعوة الديمقراطية لا نجد حولنا إلا استبداداً تطور مع مرور الأيام وانتقل من مرحلة إلى أخرى ليصل إلى ما وصل إليه اليوم من الشدة التي يصفها دعاة الديمقراطية أيضاً ، ولم يتحقق للأمة من خلال هذه المسيرة الطويلة سوى هوان التبعية للدول الأجنبية صاحبة الديمقراطيات! ) .

( وعلى رأس هذه السلبيات ما يلي:
1-الحزبية ؛ سواء التعددية أو الحزب الواحد، فالديمقراطية كفكرة تقوم على انتخاب الحكام والممثلين عن الشعب ليشارك هذا الأخير بواسطتهم في اتخاذ القرارات، مثل طبخة شهية ومغذية وغنية بكل ما يفيد الإنسان والمجتمع ككل، ولكن ومع الأسف، فإن اعتبار الحزبية والتعددية إحدى مقوماتها يصيبها بالعفن والفساد وتصبح سما قاتلا لحكم الشعب. وأسباب هذا العفن والفساد عديدة، منها ما قيل في صفحات سابقة عن الحكم الدكتاتوري الذي يجعل الفرد يفقد حريته ويجعله آلة تطيع القوانين وتتبع الأنظمة ، ويحوله من قوة فعالة مبدعة إلى قوة مسيرة تخضع لما يكتب لها، هو عين ما يحدث للمنتمين للأحزاب المختلفة الذين عليهم طاعة القوانين والأنظمة التي يضعها قادة الحزب ومفكروه، والفرق الوحيد بين الاثنين هو أنه بدلاً من أن يكون الفرد تابعاً للهيئة الحاكمة يصبح تابعاً للهيئة الحزبية ويعمل بأمرها، وهذا أسوأ بكثير من حال الأول ؛ لأن الحالة الأولى قد تؤدي إلى تماسك الشعب وسيادة القوانين أما في الحالة الحزبية فتسود الفوضى والاستهانة بالقوانين والأنظمة، ومن أسباب هذا العفن أيضاً أن الحزب عادة يدعم مرشحه، بالحق أو بالباطل، ويلمع صورته ويوفر له من الدعم المادي والمعنوي ما لا يمكن أن يتوفر للمرشح المنافس، المستقل أو المنتمي لحزب آخر لا تتوفر له الإمكانات المادية والمعنوية التي للأول،ويحرم بالتالي الأمة من الإفادة من أفضل عناصرها، فالحزبية هنا قتلت الديمقراطية وجعلتها حكم الأقوى وليس حكم الشعب.
وبما أن بعض الأحزاب تعتمد فكراً أجنبياً في تحديد أهدافها ووسائل تحقيقها فالضرر سيكون أكبر ؛لأن حكم الشعب سيصبح ليس فقط حكم الأقوى بل حكم التبعية للأجانب وسيطرتهم. هذا غير ما تتلقاه بعض الأحزاب من دعم مادي ومعنوي من الأجانب مما يزيد الأمر سوءا والأجانب سيطرة.!!
ثم إن الحزب الحاكم حتى يمثل الشعب حقيقة يجب أن يضم القسم الأكبر من البالغين من أبناء الشعب الذي يمثله، وهذا لم ينطبق على أي حزب في العالم، فالأحزاب الشيوعية مثلاً، في البلاد التي حكمت فيها ،لم تكن تضم إلا جزءاً صغيراً من شعوبها وحكمت البلاد الشيوعية بالحديد والنار . وباسم الشعب! ألغت وحاربت كل ما عداها من الأفكار والتوجهات ، مع أن نسبتها إلى السكان لم تكن تتجاوز 3-5% بحسب ما كان ينشر من إحصاءات، وما يدل على صدق ذلك هو انهيار هذه الأحزاب بهذه السرعة وبجرة قلم من جوربا تشوف وأعوانه!! أما في بلادنا فالمنتمون إلى الأحزاب المختلفة لا يتعدون العشرات وليس المئات فقط!! حتى إن البعض وصفها بكونها رؤوساً بلا أجسام، ولكن ما أن يصل الحزب بطريقة أو بأخرى إلى السلطة حتى يفرض نفسه على كل من عداه ويصبح الممثل الوحيد للشعب!! وهذا ينطبق على الدول التي فيها انتخابات تدعي الديمقراطية تماماً كما ينطبق على غيرها.
هذا غير أن الحزب الذي يدعى أنه يمثل الشعب حقيقة يجب أن يتبنى قيم ذلك الشعب وطموحاته وآماله ، وهذا أيضاً لم يحدث في العالم أجمع ؛ إذ أن الأحزاب في كل البلاد فصلت لنفسها ثوباً يناسبها ويحقق مطامحها ومطامعها وحشرت الشعب فيه بالقوة، فهذه الأحزاب الليبرالية التي نراها اليوم هي أبناء وأحفاد الحركات الثورية التي على رأسها الثورة الفرنسية التي قامت على أكتاف قلة من الفرنسيين استدعت مصالحها الخاصة القضاء على كل من كان في سبيل تحقيق هذه المصالح من الطبقة الحاكمة والإقطاع ورجال الكنيسة، وارتكبت الفئة الأولى من المجازر ما يخجل منه الفرنسيون حتى اليوم ، وفرضوا بواسطة تلك المجازر التي استمرت لسنوات طويلة : أفكارهم ونظام حكمهم وكل ما يحقق مصالحهم على الأكثرية التي بعد أن أنهكتها المقاومة صمتت فاعتبر صمتها تأييداً للفئة صاحبة الثورة وصاحبة المصالح من الثورة .
وهكذا حتى اليوم، فكل حزب أو فئة حاكمة تعتبر الأكثرية الصامتة معها وتؤيدها بهذا الصمت ، ولم يخطر ببالها أن هذا الصمت قد يكون يأساً ورفضاً أبلغ من الكلام، وما حدث في أوروبا الليبرالية حدث في أمريكا وحدث أيضاً في المجموعة الاشتراكية والصين وكل مكان فرضت فيه الدساتير على الشعوب والأفكار والأحزاب أيضاً وباسم الشعب!!!
ولكن أي فئة من الشعب تمثل هذه الأحزاب؟ أهي الملايين التي دفعت حياتها ثمناً لرفضها كما حدث ولا يزال يحدث في معظم دول العالم من الثورة الفرنسية والأمريكية والإنكليزية والروسية والصينية إلى اليوم ؟! أم الملايين الصامتة التي لا تفهم هذه الأفكار والقوانين التي تفرض على الناس ولا تريدها لنفسها ولم تكن في يوم من الأيام من طموحاتها، ولما تعجز عن فعل شيء حيالها تصمت وتنسحب وتترك الساحة للاعبين يلعبون وحدهم ؛ مثل لاعبي السرك في ساحة عامة مفتوحة للمتفرجين، قد يمر البعض ولا يُلتفت إليهم ، وقد يحدث أن يقف البعض الآخر لدقائق يشارك خلالها بالتصفيق لهذا المهرج أو ذاك.
أما في بلادنا : فالأحزاب – العلمانية منها بشكل خاص- لم تستطع حتى أن تفصل لنفسها ثوبها الذي يناسبها ، وإنما استوردت أشكالاً شتى من الأثواب الأجنبية وحاول ويحاول كل منها أن يحشر الشعب بالترهيب أو بالترغيب في هذا الثوب المستورد. وكل منهم يباهي بثوبه المستورد ويعتبره الأفضل ويعتبر الأكثرية الصامتة هذه معه وتؤيده!!!
أما المشكلة الأهم فهي أن الحزبية في بلادنا تقوم على أفكار متضادة ومتناحرة، وكل حزب ينطلق من مبادئ ومفاهيم وأهداف معينة يريد تحقيقها في جميع مجالات الحياة ، فلو وصل حزب علماني اشتراكي إلى السلطة عن طريق الديمقراطية والحصول على الأكثرية! فلا بد أنه سيعمل على تحقيق هذه الأهداف وقلب المؤسسات القائمة، الاقتصادية والسياسية والتربوية الخ... المبنية على أسس ومفاهيم أخرى مخالفة ، ويحولها إلى مؤسسات تقوم على مفاهيمه الاشتراكية وسياسته الموجهة، وإلا كان انتهازياً وخائناً لمبادئه.
ثم بعد أربع سنوات أو خمس سنوات يحصل حزب آخر على الأكثرية ويأتي للسلطة وهو يحمل مفاهيم معاكسة تعتمد الليبرالية بما فيها من مفاهيم الحرية والتحرر واقتصاد السوق وغير ذلك من مفاهيم مخالفة لمفاهيم الأول، وهذا أيضاً لابد له من قلب هذه المؤسسات ليحقق ما ينادي به وإلا أصبح وصولياً وخائناً لمبادئه! ثم قد يأتي بعد ذلك حزب آخر ينطلق من مفاهيم تختلف، قد تعارض فكر ومفاهيم الحزبين السابقين، وعليه هو الآخر ليكون منسجماً مع مبادئه ودعوته أن يغير هذه المؤسسات لتنسجم مع ذلك.
فإن حصل هذا الذي ذكر أعلاه، وهو لابد سيحصل ما دام التأكيد على الحزبية والتعددية مستمراً، ماذا سيحدث لهذه الأمة ولهذه الأوطان وهي تتحول من النقيض إلى النقيض كل أربع أو خمس سنوات؟!! هذا إن لم تعمل المعارضة في كل مرة على إشعال نار لا تنطفئ ؛ مما يوقف العمل ويبدد الأمل!!!
2-الحملات الانتخابية هي الأخرى من سلبيات الديمقراطية. عندما يرى المرء هذه الحملات وما تهدر من الأموال والأخلاق والقيم أيضاً! لابد أن يتساءل: لماذا هذه الحملات الانتخابية التي تكلف الملايين من الأموال التي يمكن استخدامها لأغراض تخدم الشعب بدل هذه الحملات التي تغش الشعب وتنشر السطحية والتفاهة بين أبنائه؟!! خاصة وأنه من المفروض أن المرشح يمثل شريحة من الشعب يعرفها وتعرفه، يفهم مشاكلها ومطامحها ويعمل على معالجتها، وقد أثبت من خلال تعاملها الطويل معه أنه أهل للثقة وأنه يمثلها أحسن تمثيل وأنه أفضل من غيره في ذلك، وبغير هذا يصبح الأمر تمثيلية سخيفة لا معنى لها ولا علاقة لحكم الشعب بها، فلماذا مرة أخرى هذه الحملات؟
حتى أن الحملات الانتخابية في البلاد الديمقراطية تبدو للمتمعن فيها مجرد "سيرك" كبير يضم مجموعة من المهرجين يتبارون بالكلام المنمق والملفق، في الغالب، وإعطاء الوعود بالجنة الموعودة في حالة انتخابهم ، مما لا يمكن تحقيق ولو جزء يسير منها، ويكيلون الاتهامات لبعضهم البعض ويقللون من شأن بعضهم البعض مقابل إعلاء شأن الذات ووصفها بما ليس فيها من المؤهلات والحسنات ، التي كلها لا تخرج عن كونها كذباً وتلفيقاً تسقط أهلية المتبارين لتولي أية مسؤولية، هذا غير المشاهد التمثيلية التي تجعلهم يقفون أمام شاشات التلفزيون ليعرضونها على المشاهدين، فهذا المرشح المعروف عنه خيانته لزوجته وإهماله بيته وعائلته يظهر على شاشات التلفزيون وقد احتضن زوجته وأولاده، إن وجدوا، وتواجد معهم في البيت ليثبت عكس ذلك !!
وهذا المرشح المفصول عن زوجته وعلى وشك طلاقها، يظهر معها مبتسماً وقد حمل معها أكياس ما تسوقاه، ليساعدها في ترتيبه في المطبخ ، وكأن مهارته في ذلك هي من أهم مؤهلات رجل الدولة!!
وذاك المرشح المعروف عنه العنصرية واضطهاد الأقليات يظهر معهم مبتسماً يربت على رأس هذا العجوز ويقبل ذاك الطفل منهم!!
وغير ذلك الكثير من مشاهد الحملات الانتخابية المضحكة المبكية التي تثير القرف والاشمئزاز قبل أي شيء آخر، والتي كلها لا تهدف إلا إلى ابتزاز أصوات البسطاء من الناس وإشغال الناس بما لا ينفع الناس، هذا غير ما خفي من مساومات وصفقات وأعمال سرية لا تبدو للناظر المتأمل للديمقراطية والانتخابات من بعيد .
وإذا علمنا أن هذا يحدث كل ثلاث أو أربع سنوات وأن التحضير للانتخابات يبدأ قبل سنة أو حتى سنتين من موعد إجرائها ، ثم تبدأ الاحتفالات بالنصر وتقاسم المكاسب للمنتصرين وجلد الذات والبحث عن أسباب الفشل للذين فشلوا بعد الانتخابات مباشرة وتستمر لأشهر عديدة أو حتى سنة أخرى ، لابد أن يفرض التساؤل نفسه: متى يعمل هؤلاء إن هم انشغلوا وشغلوا الأعداد الكبيرة ممن حولهم لأكثر من نصف الدورة بهذا التهريج وهذه المهاترات؟!! ولماذا تفرض الأحزاب على الناس مرشحين غير معروفين لديهم ، ثم تقوم بكل هذا التلميع والتزويق لعرض بضاعتها عليهم وتعريفهم؟!!
3- ثم هذا التنافس على السلطة والحكم في لعبة الديمقراطية والتناوب على السلطة والتي تجعل الجالسين على مقاعد المعارضة –أحزاباً وأفراداً- يعارضون بالحق قليلاً وبالباطل كثيراً لا لشيء إلا لإظهار عجز الحكومة القائمة وإحداث الأزمات لها، مما يضر بمصالح الشعب ويعرقل مسيرته وتحقيق أهدافه، أليس في هذا عجز في الديمقراطية يجب معالجته والتخلص منه قبل الدعوة إلى اقتباسها وتطبيقها في بلادنا؟! فالمفروض في المجلس النيابي أن يكون ليس فقط مراقباً يتصيد أفراد الحزب المعارض من أعضائه الأخطاء للحكومة لإسقاطها على أمل تولي المسؤولية مكانها ليتابع ذات سياستها ويقوم بكل الأعمال التي اعتبرها أخطاء يجب أن تسقط الحكومة لأجلها ، ليتولى الحزب الحاكم السابق موقع المعارضة ويبدأ بمعارضة الحزب الحاكم الجديد ويعارض ما كان هو يعتبره إنجازاً عندما كان هو يحكم !! وهكذا.
وإنما المفروض من المجلس أن يكون مراقباً نزيها ومرشداً وناصحاً أميناً للحكومة، فكيف يتسنى له ذلك وهو يضم من هو معني بإسقاطها ليحل محلها؟ بينما القسم الآخر من الأعضاء معني بالإبقاء على الحكومة التي هي من حزبه ، فينشغل المجلس بالخطب الرنانة والمناقشات السقيمة، هذا إن لم تصل إلى التراشق بالكلمات الجارحة أو حتى بكراسي المجلس مثلما حصل في أكثر من مجلس ليس فقط في العالم العربي بل حتى في العالم الديمقراطي .
4- ثم هناك مسألة ترشيح الفرد لنفسه وفرض نفسه على الآخرين (الشعب) مستنداً إلى قوة قد تكون حزبية أو حكومية أو قبلية الخ... أليست هي الأخرى من أمراض الديمقراطية التي كان يجب على مفكرينا معالجتها قبل الدعوة إلى اقتباس هذه الديمقراطية ؟ خاصة وإننا أمة لها تراث يغوص في أعماق التاريخ وفيه من نماذج الحكم الشيء الكثير، حتى القبلية التي نحاربها اليوم كان فيها في عصرها الذهبي الكثير من مبادئ الديمقراطية، وإن نحن عدنا إلى ديننا وتراثنا الإسلامي لوجدنا الكثير مما يمكن أن يفيدنا ويكون الأساس الذي نبني عليه في هذا المضمار، ففي مسألة ترشيح الفرد لنفسه، على سبيل المثال، نجد أن الله سبحانه وتعالى قال: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)   وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي موسى وأبناء عمه الذين جاءوا الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يوليهم مما ولاه الله قال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه" . وعن عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة إن أعطيتها عن مسألة أوكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها..."  .
وفي عدم جواز طلب الولاية حكمة كبيرة لعدة أسباب منها: أن يكون لطالبها أغراض خاصة يريد تحقيقها كالجاه والعلو في الأرض، أو استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية، إلى آخر ذلك من الأغراض الدنيوية التي تتمثل فيها الأنانية الإنسانية المنبثقة من شهواته الدنيوية ، وفي هذه الحالة يجب أن يحال بينه وبين الولاية التي توصله إلى أغراضه الأنانية هذه لما فيها من ضرر عام .فالولاية والمنصب أياً كان في الإسلام ليس ترفاً، ولا مرتبة للتباهي ولا شركاً لاستغلال الآخرين، كما أنه ليس سيفاً مسلطاً على رقاب الناس، بل هو عكس ذلك، فهو مسؤولية، المسؤول فيها مغبون وخاسر غير رابح... لأنها تعب وشقاء في الدنيا وحساب عسير في الآخرة  ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مؤكداً المسؤولية الجسيمة التي تقع على عاتق أولي الأمر: "ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم معلقة بالثريا يتخلخلون بين السماء والأرض" ، وقال أيضاً: "من عمد على عشرة أتى يوم القيامة مغلولاً لا يفكه من غله إلا العدل" . ولذلك أيضاً قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ولايته: (فوالذي نفسي بيده لو وددت أني خرجت منها كما دخلت فيه لا أجر ولا وزر)   وقال عندما أصيب وطلب منه الصحابة أن يستخلف: (أتحمل أمركم حياً وميتا، لوددت أن أحظى منها الكفاف لا علي ولا لي)  .
وهذا قليل من كثير مما يدل على أن المنصب العام أمانة ومسؤولية جسيمة فلا يطلبه أحد لنفسه إلا إن كان له غرض فيه، وحتى عندما يكلف به يرفض البعض هذا التكليف ، وقد قال الطرطوشي: (لولا أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه لم يرض عاقل بها ولم يعدها لبيب مرتبة)  . فسيد القوم في نظره (أشقاهم)  .
وحتى إن كانت أغراض طالب المنصب العام والمسؤولية سليمة وخالية من الأنانية والشهوات الدنيوية، ومن أجل تحقيق الصالح فقط لا غير، فإنه قد يكون أساء الحكم في تقدير طاقاته وتصور لنفسه من الإمكانات ما ليست له، فالإنسان معروف بحبه لذاته، ذلك الحب الذي يجعله يضخم حسناته ويقلل من شأن نواقصه وجوانب ضعفه، فيتولى المسؤولية من ليس مؤهلاً لها مما يؤدي إلى الضرر العام بالإضافة إلى الضرر للفرد نفسه في تحميله ما لا طاقة له به، فعن أبي ذر أنه عندما طلب لنفسه ولاية قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم... إنك ضعيف وإنها أمانة يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" .
وهذا قليل جداً من كثير جداً من مساوئ الديمقراطية ونواقصها التي قد لا تبدو للمتأمل الذي ينظر إليها من بعيد، ولو دخل المرء في خضمها لوضع يده على الكثير مما يجري فيها من مساومات وصفقات ورشاوى وغش وخداع وغير ذلك من وسائل ابتزاز الأصوات ، وكلها تبعد الشعب عن حكم الشعب أو حتى المشاركة في حكم نفسه ).

( المرجع : " الديمقراطية : تأملات وطموحات " ، مفيدة محمد إبراهيم ، - مواضع متفرقة - ) .

----------
هوامش الموضوع  في الملف المرفق
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية