صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مابالُ أقوامٍ لم يدَعوا لنا خالدًا القسري ؟!

سليمان بن صالح الخراشي

 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مناسبة هذا الكتابة عن القسري - رحمه الله - مقالٌ قرأتُه في أحد المواقع المحسوبة على أهل السنة - للأسف - ، أفرده صاحبه للتشنيع على القسري ! ولا أدري ما المصلحة في هذا ؟! لأن خالدًا إنما شكره أهل السنة ؛ لأنه تفرد من بين الأمراء بقصبه لرؤوس الزنادقة ، وهذه منقبة يعجز عنها فئامٌ من الأمراء ، وإلا فالجميع يعلم أنه كغيره من أمراء المسلمين : له ماله ، وعليه ماعليه . فماحاجة " السني " للتشنيع عليه ؟! ومثل هذا الصنيع ضد القسري لم يُعرف إلا من الرافضة ، أو أحفاد الجعد بن درهم من الجهمية ؛ كالكوثري ، وأمثاله . فلعل في قراءة مايأتي من كلام أهل العلم ، مايحجز أهل السنة عن الوقوع في عرض أمير المشرق - كما سماه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( تلبيس الجهمية 4/604-605) . وقال عن قتله للجعد : " وشكره العلماء على ذلك " . وقال في ( منهاج السنة 3 / 165) : " قتله - أي الجعد - خالد بن عبدالله القسري برضا علماء الإسلام " . خاصة إذا علم القارئ من هم أسلاف الطاعنين .

1- قال الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - في كتابه " تنبيه ذوي الألباب السليمة " ( ص 137-143 ) ردًا على الزيدي المعترض على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - :
"قوله : لم يُجمع المسلمون على قتل الجعد ".
" فالجواب أن يقال لهذا الجاهل الأحمق : نعم ذكر الشيخ رحمه الله في رسالته إجماع التابعين ومن بعدهم على كفر الجعد بن درهم وقتله ، كما ذكر ذلك أهل العلم ، وادعى الإجماع على ذلك كما ادعاه على كفر المختار بن أبي عبيد وقتله ، ولا يشك في ذلك من له أدنى إلمام بإجماع العلماء وما قاله أهل العلم في ذلك ، ودعواه أن هذا باطل كلامُ من لا يعقل ما يقول ، فهلا ذكر أحداً من العلماء قال ذلك وأنكره ؟! ولن يجد إلى ذلك سبيلا . ولو قال ذلك أحد كان قوله مردوداً مخالفاً لما أجمع عليه أئمة السلف رحمهم الله ، وقد ذكر إجماع أهل السنة على قتل الجعد وعلى كفره شمس الدين ابن قيم الجوزية ، وقد ذكرتَ في نظمك أنه الأوحد الذي أتى بنفيس القول في كل ما يبدي .
فمن نفيس ما يبدي رحمه الله تعالى قوله في الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ  -- ـقسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبـراهيم ليـس خليله  -- كلا ولا موسى الكليم الدان
شكر الضحيةَ كلُ صاحب سنة  -- لله دَرُّك من أخي قربــان

فذكر رحمه الله إجماع أهل السنة على استحسان قتل خالد للجعد ، وأن جميع أهل السنة شكروه على هذا الصنيع ، وأخبر أن قتله لأجل أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، فقتله لأجل ذلك لا لأجل شيء من المقاصد التي يرميه بها من قل نصيبه من العلم والدين ، وأنه إنما قتله لغير ذلك من المقاصد السيئة .
وإذا أجمع أهل السنة على قتله ، فماذا عسى أن يكون قاتله من عمال بني أمية أو من غيرهم إذا حسن قصده والحامل على ذلك الغيرة لله من كفر هذا الملحد المفتري على الله ؟ فليس علينا من تحامل هذا المعترض إذ جعل ذلك مطعناً بأن قاتله قد كان عامل مروان ؛ فإن هذا لا يذكره من له علم وفضل ودين ، وحاشا لله أن يكون هذا الكلام الساقط المتناقض كلام الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني ، فإنه لا يليق بمنصبه وجلالته وإمامته في الدين وعلو قدره.
وأما ما ذكره من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في المنهاج من حال الجعد بن درهم وقتل خالد له ، فقد ذكر في الرسالة الحموية أن أصل مقالة التعطيل إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضُلال الصابئين ، فإن أول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام من أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعنى استولى ونحو ذلك ؛ أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد ابن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها ، فنُسبت مقالة الجهمية إليه ، وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أرض حران وكان قبلهم خلق كثير من الصائبة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم .. إلى آخر كلامه رحمه الله ، ولم يذكر رحمه الله أنه لم يجمع الناس على قتله كما ذكر هذا المعترض ، بل قرر كفره وذكر أنه أول من أظهر مقالة التعطيل وأنه إنما أخذ هذه المقالة من اليهود والفلاسفة والصابئين . فما وجه الاستدلال بكلام شيخ الإسلام على ما يدعيه من عدم الإجماع على قتله ؟ وشيخ الإسلام لم يذكر ما يدل على مطلوبه ، بل ذكر ما يناقضه ويدل على كفره ووجوب قتله ، اللهم إلا ما استراح إليه هذا المعترض من كلام شيخ الإسلام من أن الجعد كان معلم مروان ! فكان ماذا ؟! وهذا لا يستدل به عاقل فضلاً عن العالم ، والله المستعان.

وأما قوله : " فهذا الذي قتل الجعد عامل من عمال بني أمية قتله من غير مشاورة عالم من علماء الدين فكيف يقول ابن عبدالوهاب إنه قتل بإجماع التابعين فأين الحياء من رب العالمين في نسبة الإجماع لهذا الفعل إلى التابعين وهو فعل عامل من عمال الجبارين " .
والجواب : أن يقال لهذا الجاهل الذي ينطق بمالا يعقل : قد كان خالد بن عبدالله القسري من عمال بني أمية ، وقد غضب لله وغار من كفر عدو الله الجعد بن درهم ؛ حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى تكليما ، فقتله غضباً لله وغيرة وحمية ، فأقره على ذلك وشكره عليه جميع أهل السنة ، فكان إجماعاً ، ولا يلزم من ذكر الإجماع على مسألة أو قضية أو فتوى أن يبعث إلى جميع الأمة ويشاورهم على فعلها ، ولا يكون إجماعاً إلا ما كان كذلك ، وهذا لم يقله أحد من العلماء ، بل الذي ذكر أهل العلم أن الصحابي أو الواحد من العلماء إذا قال قولاً أو قضى بقضية فانتشرت وظهرت ولم يكن لها مخالف من الصحابة ، أو فعل ذلك أحد من التابعين ولم يعرف له مخالف ، أن ذلك إجماع ، وقد اشتهر قتل خالد بن عبدالله القسري لجعد عدو الله ولم ينكره أحد من التابعين ولا من بعدهم من العلماء ، ولم يُعرف في ذلك مخالف ، فكان إجماعاً .
والطرق التي يُعرف بها الإجماع القطعي معروفة عند أهل العلم مقررة في محلها لا تخفى على مثل شيخنا ، فإذا احتج بالإجماع قبل منه وأخذ عنه ، فإن القول ما قالت حذامِ ، ولا يقدح في مثل حكاية الإجماع على قتل الجعد إلا رجل مغموص بالنفاق ، قد غاظه وأمضه ما فعل أمراء الإسلام من قتل أعداء الله ورسوله ، وقد أقره على ذلك وشكره عامة علماء أهل السنة .
وأما تعليله بأنه من عمال الجبارين ! فهو تعليل بارد ، أما علم هذا المفتون أن أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية حاشا عمر بن عبدالعزيز وما شاء الله من بني أمية قد وقع منهم ما وقع من الجرأة والحوادث العظام والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام ، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معروفة مشهورة ، لا ينـزعون يدًا من طاعتهم فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام وواجبات الدين ، وأضرب لك مثلاً بالحجاج بن يوسف الثقفي ، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغشم والإسراف في سفك الدماء وانتهاك حرمات الله ، وقتل من قتل من سادات الأمة كسعيد بن جبير ، وحاصر ابن الزبير وقد عاذ بالحرم الشريف ، واستباح الحرمة ، وقتل ابن الزبير مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن وأكثر سواد العراق ، والحجاج نائب عن مروان ثم عن ولده عبدالملك ، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان ولم يبايعه أهل الحل والعقد ، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته ، وكان ابن عمر ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه ولا يمتنعون من طاعته فيما يقوم به الإسلام ويكمل به الإيمان ، وكذلك من في زمانه من التابعين كابن المسيب والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم التيمي وأشباههم ونظرائهم من سادات الأمة ، واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة وأئمتها يأمرون بطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر ، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد ، وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهرًا بالسيف لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين ، فقتلوا خلقاً كثيراً وجماً غفيراً من بني أمية وأمرائهم ونوابهم ، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق ، وقتلوا الخليفة مروان حتى نُقل أن السفاح قتل في يوم واحد ثمانين من بني أمية ووضع الفرش على جثتهم وجلس عليها ودعا بالمطاعم والمشارب ، ومع ذلك فسيرة الأئمة كالأوزاعي ومالك والزهري والليث بن سعد وعطاء بن أبي رباح مع هؤلاء الملوك لا تخفي على من له مشاركة في العلم ، واطلاع ، والطبقة الثانية من أهل العلم كأحمد بن حنبل ومحمد ابن إسماعيل البخاري ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن نوح وإسحاق ابن راهويه وإخوانهم وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكار الصفات ودعوا إلى ذلك وامتحنوا فيه ، فقُتل من قتل كمحمد ابن نصر ، ومع ذلك فلا يعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة ولا رأى الخروج، والمقصود أنه إذا فعل عامل من عمال هؤلاء الملوك الظلمة أمراً يحبه الله ورسوله يجب على كل مسلم إعانته عليه وحضه على فعل ما أمر الله ورسوله ، وكان فيه إعزاز الإسلام وأهله وقمع الشرك وأهله ومحق آثار البدع وأهلها ومن أحدثها ، فإنه لا يعاب على فعل ما أمر الله به ورسوله لكونه عاملاً من عمال الظلمة الجبارين ، فكيف إذا أقره على ذلك كافة علماء السنة وشكروه على هذا الصنيع ، فلا يعيب بهذا إلا رجل جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم ، ولا يعيب على الشيخ محمد رحمه الله بنقل إجماع أهل السنة على ذلك إلا معتوه مصاب في عقله ، مغموص بالنفاق ، والله المستعان.

وأما قوله : "فلذلك قلنا :

فذلك لم يجمع على قتله ولا  -- سوى خالد ضحى به وهو عن قصد

على أن ابن عبدالوهاب خالف إمامه الإمام أحمد بن حنبل في دعوى الإجماع ؛ فإن أحمد يقول من ادعى الإجماع فهو كاذب ولذلك قلنا:

وقد أنكر الإجمـاع أحمـد قائلاً  -- لـمن يدعيه قد كذبت بلا جحد
روى ذلك ابن القيم الأوحد الذي  -- أتى بنفيس العلم في كل ما يبدي " .

فالجواب أن يقال :

ودعواك في الإجماع إنكار أحمــد  -- فذاك لأمـر قد عنــاه من الضد
يرون أموراً محدثات ويذكــروا  -- على ذلك الإجماع من غــير ما نقد
فأنكره لا مطلقاً فهو قد حــكى  -- على بعض ما يرويه إجماع من يهدي
كما ذكر ابن القيم الأوحد الـذي  -- أتى بنفيس العلم في كل ما يــبدي
على قتل جعد في قصيــدته التي  -- أبان بها شمس الهـــداية والرشـد
وفيها حكى الإجماع في غير موضع  -- وفي غيرها من كتبه عن ذوي النقـد
وقد كان من سادات أصحاب أحمد  -- ويحكي من الإجماع أقوال ذي المجـد
وقد ذكر الإجماع بعضُ ذوي النهى  -- فسـل عنه أهل الإصـابة من نجـد
وذلك لا يخفى لدي كــل عالم  -- فـفي كتب الإجمـاع ذاك بلا عـد
فما وجه هذا اعتراض بنفــيه  -- وقــد كان معلوماً لدى كل مستهد

 

2- وقال العلامة المعلمي اليماني في رده على طعن الكوثري الجهمي بالأمير خالد : " أقول: كان خالد أميراً مسلماً خلط عملاً صالحاً كإقامة الحدود، وآخر سيئاً الله أعلم ما يصح عنه منه. وقد جاء عن جماعة من الأئمة كما في التأنيب نفسه أن أبا حنيفة استتيب في الكفر مرتين، فإن كان خالد هو الذي استتابه في إحداهما، وقد شهد أولئك الأئمة أنها استتابة عن الكفر ، فأي معنى للطعن في خالد؟ هبه كان كافراً! أيجوز أن يحنق عليه مسلم لأنه رُفع إليه إنسان يقول قولاً شهد علماء المسلمين أنه كفر فاستتابه منه؟ وكان خالد يماني النسب وكان له منافسون على الإمارة من المضريين ، وأعداء كثير يحرصون على إساءة سمعته، وكان القصاصون ولا سيما بعد أن نُكب خالد يتقربون إلى أعدائه بوضع الحكايات الشنيعة في ثلبه، ولا ندري ما يصح من ذلك؟ وقضية الكنيسة إن صح فيها شيء فقد يكون بر أمه بمال فبنى لها وكيلها كنيسة ؛ فإنها كانت نصرانية ، وليس في هذا ما يعاب به خالد، فقد أحل الله عز وجل نكاح الكتابيات والتسري بهن ، ونهى عن إكراههن على الإسلام وأمر بإقرارهن على دينهن وأمر ببر الأمهات.

فأما قضية الجعد، فإن أهل العلم والدين شكروا خالداً عليها، ولا يزالون شاكرين له إلى يوم القيامة، ومغالطة الأستاذ في قضية التضحية مما يضحك ويبكي، يضحك لتعجرفه، ويبكي لوقوعه من رجل ينعته أصحابه أو ينعت نفسه "الإمام الفقيه المحدث، والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير..." لا يخفى على أحد أن الأضحية الشرعية هي ذبح شاة أو بقرة أو بدنة بصفة مخصوصة في أيام الأضحى تقرباً إلى الله تعالى بإراقة دمها، وليأكل منها المضحي وأهله ويهدي من لحمها إلى أصحابه ويتصدق منه على المساكين، وأن خالداً لم يذبح الجعد ليأكل من لحمه ويهدي ويتصدق ! وإنما سماه تضحية لأنه إراقة دم يوم الأضحى تقرباً إلى الله تعالى ، فشبهه بالأضحية المشروعة من هذا الوجه ؛ كما سمى بعض الصحابة وغيرهم قتل عثمان رضي الله عنه تضحية ؛ لأنه وقع في أيام الأضحى.

فقال حسان:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به  -- يُقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

وقال أيمن بن خريم:

ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ُضحىً  -- وأي ذبح حرام ويلهم ذبحوا

وقال القاسم بن أمية:

لعمري لبئس الذبح ضحيتم به  -- وخنتم رسول الله في قتل صاحبه

فإن قيل: لكن يظهر من القصة أن خالداً لم يضحّ، بل اجتزأ بذبح الجعد. قلت: ليس ذلك بواضح، وكان خالد يذبح كل يوم عدة ذبائح، وهب أنه لم يضحّ ذاك اليوم، فغاية الأمر أن يكون اجتزأ بإقامة ذلك الحد من جهة كونه قربة إلى الله عز وجل وإقامة حد من حدوده، والأضحية عند جمهور أهل العلم ليست بواجبة، فلا إثم على من تركها، فإن كان مع تركه لها قد قام بقربة عظيمة ورأى أن ما يفوته من أجر الأضحية وإقامة الشعائر بما يجبره ما يرجوه على تلك القربة الأخرى فهو أبعد عن الإثم، ولو ضحى الرجل ألف أضحية لما بلغ من أجرها وإقامة الشعائر بها أن توازن إقامة الحد على الجعد، وإماتة فتنته " . ( التنكيل ، 1/255-256 ) .

3- وقال الدكتور محمد بن خليفة التميمي في رده على الشيخ مشهور سلمان - عفى الله عنه - الذي ضعّف قصة قتل الجعد ، وتابع غيره في اتهام القسري :

" قال المؤلف - أي مشهور سلمان - : " ثانياً: ترجمة خالد بن عبد الله القسري مظلمة، وفيها ما يفيد أنه كان ظالماً، ولذا قال الذهبي في "السير" (5/432) عقب القصة: "قلت: هذه من حسناته"‍‍!. انتهى كلامه.
قلت: المؤلف متناقض في مواقفه ، ويكيل بمكيالين ، ويزن بميزانين، فهو في قصة قتل الجعد يريد تطبيق شروط المحدثين في ثبوت الحديث المرفوع على قصة تاريخية ، وهنا في سيرة خالد القسري أصدر حكماً بأنها مظلمة دون أن يحقق في أسانيد سيرته أو أن يُفصل شيئا من ذلك ! وهذا الغمز في هذه القصة من هذا الوجه لم يكن المؤلف أول من طعن في ذلك ؛ بل هو مجارٍ لغيره فيه.
فمن قبله جمال القاسمي في كتابه تاريخ الجهمية والمعتزلة الذي نقل خليطاً من الروايات في الطعن في خالد بن عبد الله القسري بأنه جعل الولاية للنصارى والمجوس على المسلمين، وأنه كان ناصبياً يبغض علياً رضي الله عنه، وأن الإسلام كان في عهده ذليلاً، وأحال من أراد استيفاء أحواله وأخباره إلى كتاب الأغاني للأصفهاني الشيعي!!

ولنا مع كلام المؤلف وكلام القاسمي وقفات:
الوقفة الأولى: زعْمُ المؤلف أن ترجمة القسري مظلمة وكذا التهم التي ذكرها القاسمي، على فرض صحتها، لا تطعن في صحة القصة، فلو قرأ المؤلف ومن قبله القاسمي التاريخ بتأمل ، لعلموا أن صاحب القرار في إعدام وقتل الجعد هو هشام بن عبد الملك، فالفضل يعود إليه في المقام الأول ، فلو اعتمدنا رواية ابن الأثير للقصة، لعلمنا أن هشاماً هو الذي قبض على الجعد وأرسله إلى خالد القسري ، وأن خالداً القسري اكتفى بحبسه ولم ينفذ أمر القتل ، وأن هشاماً أرسل إلى خالد يلومه ويعزم عليه بقتله. قال ابن الأثير: ( وقيل إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك، فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاماً، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله ) .
ولو اعتمدنا رواية ابن عساكر وابن كثير لوجدنا كذلك هشام بن عبد الملك هو الذي طلب القبض على الجعد في بداية الأمر عندما كان في دمشق ، لكن الجعد هرب إلى الكوفة.
قال ابن عساكر: ( كان الجعد أول من أظهر القول بخلق القرآن في أمة محمد فطلبه بنو أمية فهرب من دمشق إلى الكوفة ) .
وقال ابن كثير: ( وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم، فسكن الكوفة..) .
والنديم في الفهرست ينص على أن هشاماً هو الذي أمر بقتل الجعد حيث قال: ( وقتَلَ الجعدَ هشامُ بن عبد الملك في خلافته بعد أن طال حبسه في يد خالد بن عبد الله القسري. فيقال إن آل الجعد رفعوا قصته إلى هشام، يشكون ضعفهم وطول حبس الجعد، فقال هشام: أهو حي بعد؟! وكتب إلى خالد في قتله، فقتله يوم أضحى، وجعله بدلاً من الأضحية بعد أن قال ذلك على المنبر، بأمر هشام..) . فالروايات التاريخية السابق ذكرها تؤكد أن هشام بن عبد الملك هو صاحب القرار في ذلك.

الوقفة الثانية: لا يُسلم للمؤلف زعمه بأن ترجمة خالد بن عبد الله القسري مظلمة، وفيها ما يفيد أنه كان ظالماً، وليس الأمر كما زعم ؛ فالرجل له وعليه، وهناك صفحات مشرقة في تاريخه، وبعض ما نُسب إليه لا يصح عنه. فهذا الذهبي ينصفه ويقول في ترجمته: ( الأمير الكبير أبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد ين أسد بن كرز البجلي القسري الدمشقي أمير العراقين لهشام، وولي قبل ذلك مكة للوليد بن عبد الملك ثم لسليمان ، وكان جواداً ممدحاً معظماً عالي الرتبة من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف...) وقد اعتذر له بعد أن ذكر شيئاً مما له وعليه فقال: ( وكان خالد على هناته يرجع إلى الإسلام ) .
وقد أشاد الذهبي بقتله للجعد بن درهم وقال: ( هذه من حسناته هي وقتله مغيرة الكذاب ) .
وقد دافع عنه ابن كثير في البداية بعد أن أورد بعضاً من تلك المثالب التي نُسبت إليه وقال: ( والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد ، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة لأهل البيت ) .
وحال صاحب كتاب الأغاني الذي اعتمد عليه القاسمي في ترجمة القسري ليس ببعيد عن صاحب العقد الفريد ، فقد قال عنه ابن كثير: ( وكان فيه تشيع، قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر) . والأصفهاني قد روى الكثير من أخبار كتابه عن طائفة من الرواة الكذابين.
وأما عن اتهامه بالنصب وشتم علي رضي الله عنه فأجاب عنه ابن الأثير فقال: ( قيل كان يفعل ذلك نفيا للتهمة وتقرباً إلى القوم ) ، وقال: ( وكان خالد يصل الهاشميين ويبرهم ) .
وفي العموم فإن خالداً القسري ليست ترجمته مظلمة بالصورة التي حاول المؤلف والقاسمي رسمها عنه في ذهن القارئ ، وأترك الحكم للقارئ الكريم ليقارن بين كلام الذهبي وابن كثير من جهة - وهما إمامان من أئمة أهل السنة في المعتقد والتاريخ- ، وبين كلام صاحب العقد الفريد وصاحب الأغاني - الشيعيين الحاقدين على أعلام أهل السنة- ، فأي الفريقين خير مقاماً ؟!

الوقفة الثالثة: أساء المؤلف استخدام عبارة الذهبي في السير (5/432) حيث قال الذهبي بعد إيراده لقصة قتل الجعد ( قلت: هذا من حسناته هي وقتله مغيرة الكذاب ) ، فقد أراد المؤلف إفهام القارئ أن الذهبي يذم خالد بن عبد الله القسري ! والأمر في حقيقته على العكس من ذلك، فلقد أنصف الذهبي خالداً القسري، ولم يقصد بتلك العبارة انتقاصه أو التقليل من حسناته، ومن يقرأ سير أعلام النبلاء، يدرك صواب ما أقول.
وقد شكر علماء المسلمين هذا العمل وأثنوا عليه، وعلى رأس أولئك الحسن البصري.

وقال ابن القيم:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالدُ الـ --- ـقسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليـس خليلــه ---  كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كلُ صاحب سنة --- لله دَرك من أخـي قربان

وقال أبو محمد اليمني : ( فاستحسن الناس منه ذلك، وقالوا نفى الغل عن الإسلام جزاه الله خيرا ً) .
وقال الدارمي: ( وأما الجعد فأخذه خالد بن عبد الله القسري، فذبحه ذبحاً بواسط يوم الأضحى، على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، ولا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن ، بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه) .
قال المؤلف: ( ثالثا: لم يكن من همِّ أمثال القسري -آنذاك- هذه الغيرة التي لا تكون إلا ممن يعتقد العقيدة الحقة، وكان الخلفاء وولاتهم في زمن الأمويين أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل مثل هذه، ولهذا قال بعض المعاصرين إن قتل الجعد لم يكن إلا لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة ) . انتهى كلامه .

قلت: لي مع هذه الشبهة وقفات:
الوقفة الأولى: قول المؤلف: (لم يكن من همِّ أمثال القسري -آنذاك- هذه الغيرة التي لا تكون إلا لمن يعتقد العقيدة الحقة ) .
هذا الطعن في القسري يخالفه قول ابن كثير : ( والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد) ، وليست أدرى ما موقف المؤلف من كلام هذا الإمام العلم الحافظ ابن كثير؟
الوقفة الثانية: قول المؤلف: ( وكان الخلفاء وولاتهم في زمن الأمويين أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل مثل هذه) .
الرد عليه: هذه العبارة ليست من كلام المؤلف ، وإنما نقلها عن شعيب الأرنؤوط في تعليقه على السير ، وعزاها الأرنؤوط إلى بعض الباحثين.
والمؤلف هنا أورد هذه العبارة بطريقة توهم أنها من كلامه ! وهي عبارة خطيرة ؛ لأنها لم تستثنِ أحداً من خلفاء بني أمية ولا حتى الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه، أول خلفاء بني أمية، وكذلك لم تستثنِ عمر ابن عبد العزيز وهو أحد خلفاء بني أمية وعلم من أعلام أهل السنة، و المؤلف ينقل عبارات وينسبها لنفسه وهو لا يدرك مدى خطورتها وفسادها، فمثل هذه العبارة لا تصدر من شخص يحمل عقيدة أهل السنة.
وقد سبق أن تحدثت عن جهود بني أمية الأوائل في الدفاع عن السنة وإطفاء نار أهل الضلال والبدع، والحق يقال إنَّ راية السنة وكلمة علماء السنة كانت هي العليا في تلك الفترة، ولم يكن أهل البدع يتجرأون على إظهار بدعهم فضلا عن أن يدعوا إليها.
الوقفة الثالثة: قال المؤلف ( ولهذا قال بعض الباحثين المعاصرين إن قتل الجعد لم يكن إلا لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة ) ، وأشار في الحاشية إلى سير أعلام النبلاء (5/433).
والجواب عن ذلك: نقل المؤلف هذا الكلام عن شعيب الأرنؤوط من تعليقه على كتاب سير أعلام النبلاء،، فقد قال بعد أن نقل كلام ابن كثير عن الجعد وأنه أخذ مقالته عن اليهود : ( قلت -القائل الأرنؤوط- لم يذكر ابن كثير سنده في هذا الخبر حتى ننظر فيه، ويغلب على الظن أنه افتعله أعداء الجعد. ولم يحكموه لأن أفكاره التي طرحها في العقيدة مناقضة كل المناقضة لما عليه اليهود، فهو ينكر بعض الصفات القديمة القائمة بذات الله ويؤولها لينزه الله تعالى عن سمات الحدوث، ويقول بخلق القرآن وأن الله لم يكلم موسى بكلام قديم بل بكلام حادث، بينما اليهود المعروف عنهم الإغراق في التجسيم والتشبيه، ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن قتل الجعد كان لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة، ويعلل ذلك بأن خلفاء بني أمية وولاتهم كانوا أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل تمت إلى العقيدة) . انتهى كلام الأرنؤوط ، وهو كلام مشحون بالطعن والغمز والافتراء، ولست هنا بصدد الرد على جميع ما ورد في هذا النقل من عبارات باطلة، لكن المقصود الرد على زعم من قال بأن الدافع لقتل الجعد كان سياسياً ، وقد شارك علي سامي النشار الأرنؤوط في هذا الزعم والتسويغ لضلالات الجعد وانحرافاته ، حيث يقول: ( لا نستطيع أن نصدق أن قتله -أي الجعد- كان لآرائه الفكرية، بل يبدو أنه سبب سياسي ) .
ولكن لم يوضح صاحب الأرنؤوط ولا النشار ما هو الدافع السياسي وراء قتل الجعد ! فبقيت دعواهم مجرد استنتاج لا دليل عليه ولا برهان، وهو استنتاج لا يقوم على أساس من الواقع، ويحق لنا أن نسأل : ما هو الدافع السياسي المزعوم ؟ وأي ثقل كان الجعد يشكله في الساحة السياسية آنذاك ؟ خاصة إذا علمنا أنه من الموالي ، والعمل السياسي آنذاك بيد العرب، فهم الولاة وهم القادة وهم أهل الحل والعقد والرأي والمشورة، ولذلك كان يحسب لهم حسابهم في كل تحرك سياسي على عهد الأمويين، ولم يكن للموالي دور سياسي إلا في عهد العباسيين ، ولذلك فإن هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت.
والحقيقة أن قتل الجعد كان لزندقته وإلحاده ، وفي هذا يقول ابن تيمية: "فضحى بالجعد خالدُ بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وهم بقايا التابعين في وقته: مثل الحسن البصري وغيره ، الذين حمدوه على ما فعل، وشكروا ذلك." ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين " . انتهى كلام الدكتور محمد التميمي – وفقه الله - . أسأل الله الهداية والتوفيق للجميع .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية