صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







شجاعة الشيخ إبراهيم بن جاسر -رحمه الله- في رجوعه للحق

سليمان بن صالح الخراشي

 
من المعلوم أن من أصول أهل السنة أنه لاأحد من هذه الأمة معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُبلغ عن ربه ، وأن المسلم مهما علا شأنه في العلم لا ينجو من الخطأ ، ولكن الموفق منهم إذا نوصح رجع ، ولم يُصر ويستكبر . وقديمًا قال عمر في رسالته لأبي موسى - رضي الله عنهما - : ( ولا يمنعنك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم ، فراجعتَ فيه رأيك ، فهُديتَ فيه إلى رشدك ، أن تُراجع فيه الحق ، فإن الحق قديمٌ لا يُبطله شيئ ، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ) . فالرجوع للحق من التواضع الذي يرفع الله صاحبَه ، ويعوضه خيرًا منه ؛ لأنه يتطلبُ شجاعة ، وجهرًا بالتوبة ، وتجردًا لا يستطيعه إلا ذوو النفوس الشريفة ، أما التعالي عليه - عنادًا أو استنكافًا خشية مقال الناس - فهو منقصة لصاحبه ، ودليلٌ على عدم إخلاصه وتجرده ، وعقوبته تكون بنقيض قصده ؛ حيث المقت العاجل في قلوب المؤمنين ، والحرمان من بركة العلم ، وهذا أمرٌ واقع . ( ولا يظلم ربك أحدا ) .

ومن تأمل تاريخ أهل السنة وجد في قَصَص الراجعين للحق بعد زلتهم ، ثم نوصحوا من العلماء الصادقين المحبين له وللأمة الخير الذين استجابوا لقوله تعالى : ( وتواصوا بالحق ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة .. الحديث " - عبرة لكل من عثر كعثرتهم فألم بشيئ من أقوال أهل البدع .

ومن أبرز هؤلاء في القديم : العلامة أبو الوفاء ابن عقيل - رحمه الله - الذي زلّ فنوصح ؛ فكتب يقول : ( إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره ، ومن صُحبة أربابه ، وتعظيم أصحابه ، والترحم على أسلافهم ، والتكثر بأخلاقهم . وما كنتُ علقته ، ووُجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته ، ولا تحل كتابته ولا قراءته ، ولا اعتقاده . - إلى أن قال - واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات ، ونصرتُ ذلك في جزء عملته ، وأنا تائب إلى الله تعالى منه ، وأنه قُتل بإجماع علماء عصره ، وأصابوا في ذلك وأخطأ هو . ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة ، وغير ذلك ، والترحم عليهم ، والتعظيم لهم ؛ فإن ذلك كله حرام ، ولا يحل لمسلم فعله ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " . وقد كان الشريف أبو جعفر ومن كان معه من الشيوخ والأتباع ، سادتي وإخواني - حرسهم الله تعالى - مصيبين في الإنكار عليّ ؛ لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها ، وأتحقق أنني كنتُ مخطئًا غير مصيب ) . ( الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 3/144-145) .

أما في العصر الحديث : فقد أخطأ الشيخ ابراهيم بن جاسر - رحمه الله - ( ت 1338هـ وله ترجمة في علماء نجد1/277-293، وروضة الناظرين 1/41-43 ) في عدد من المسائل ، وجانب العقيدة السلفية ؛ فنوصح من مشايخه وعلماء عصره ، فتفكر وتأمل ، ثم كتب وجهر بـ" رجوعه " عنها ، قائلا في وثيقة محفوظة بمكتبة الحرم :

( الحمد لله الذي جعل الرجوع إلى الحق بعد بيانه من سيما المتقين وإمارات المتورعين المخلصين لله الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، صلى الله عليه وعلى أصحابه أجمعين ، أما بعد : فإن الله تعالى إذا قضى أمرًا فلا راد له ، ولا بد من وقوعه ، وكان من قضائه - له الحمد على كل حال - أن أراد وقوع نزاع بين الفقير وبين مشايخه الكرام – عفى الله عن الجميع ووهب المسيئين منا للمطيع – في 7 شوال سنة 1303هـ في أربع مسائل :

أحدها : أنهم كانوا يقررون لنا سابقًا ولاحقًا أن من طلب من الميت ما هو في قُدرة الحي ؛ كأن يقول : يا فلان ادعُ الله لي فهو كافر ، وكنتُ لهم موافقًا ، فعرض لي في أثناء السنة المذكورة في نسخة لشيخ الإسلام فهمتُ منها أن ذلك ليس بكفر ، فاعتمدتُ على ذلك ، فلما شعر المشايخ بذلك شق ذلك عليهم ، وتكابروا صدوره مني ، وهم في نفس الأمر مصيبون ، ثم استبان لي بعد ذلك أن الحق ما كانوا عليه ابتداء وانتهاء ، ثبّت الله الجميع عليه ، فرجعتُ إلى قولهم اعتمادًا على الدليل الشرعي ، لا موافقة بظاهري دون باطني ، فالله حسيب من ظن ذلك بي ؛ وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم يُنتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الميت إذا مات فقد انقطع عملُه إلا من شيئ قد تسبب له في حياته ، واكتسبه حال قدرته ؛ فأجري ثوابه بعد موته ، وهي ما ذكر في هذا الحديث .. وما عدا ما ذُكر لا يلحقه إلا بإهداء الغير له كما دل على ذلك القرآن والسنة ، فمن طلب من الميت أن يسأل له الله فقد ضل عن الصراط المستقيم ، وخالف خبر النبي صلى الله عليه وسلم في أنه قد انقطع عملُه . فإن قال قائل : لا ريب في ذلك ، وإنما الشأن في أنه هل يكفر ؟ قلنا : نعم . فإن قال : هذا خبر آحاد لا يوجب العلم اليقين ، وإنما يوجب العلم الظني . قلنا : هذا حكم خبر الآحاد إذا لم تحتف به قرائن ، فأما إذا احتفت به قرائن فإنه يوجب العلم القطعي ، وقد احتف بهذا الخبر قرينة من أقوى القرائن ، وهي ما علم بالضرورة من الدين من قدرة الحي فقد اعتقد ثبوت ما هو معلوم من الدين بالضرورة انتفاؤه ، فيستحق إطلاق الكفر عليه حينئذ ، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، رواه مسلم ، وقال تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ، وهذا القدر كفاية لمن هداه الله ، اللهم اهدنا والمسلمين .

الثانية : أنهم يعتمدون القول في أن شد الرَحل لزيارته صلى الله عليه وسلم لايجوز ابتداء وانتهاء ، وكنتُ معهم أولا ، ثم عرض لي ترجيح القول باستحباب ذلك ؛ مستدلا على ذلك بأحاديث ضعيفة ، وتبين لي الآن أن الصواب معهم ، نفع الله أهل الإسلام بوجودهم ، وجعلهم مسددين في جميع أمورهم ؛ لقوة مستندهم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " ، هذا الحديث رواه الشيخان من حديث أبي سعيد – رضي الله عنه - ، وفي رواية : " لا تشُدوا " بصيغة النهي ، رواها مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، فإذا نهى صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلى المساجد غير الثلاثة ؛ فشد الرحال إلى القبور أولى بالمنع .

الثالثة : أنهم كانوا يذهبون إلى القول بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعة بعد موته ، وأن حديث الأعمى الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي خاصٌ بحياته كما قاله الجمهور ، وصوّبه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكنتُ موافقًا لهم ، ثم تبين لي أخيرًا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز ، لا شك في جوازه ؛ لأثر روي في ذلك عن بعض الصحابة – رضي الله عنهم - ، فقال المشايخ – متعنا الله بحياتهم - : القول بالمنع بعد الموت أولى ، وبالصواب أحرى ؛ سدًا للذريعة ، وقطعًا للوسيلة المفضية إلى محظورات الشريعة ، فامتنعتُ من ذلك مدة وأنا الآن قد شرح الله صدري لموافقتهم ، جعلها الله بحق اسمه موافقة مستمرة ، وعلى الحق أبدًا مستقرة ، إنه على ذلك قديرٌ وبالإجابة جدير .

الرابعة : في شأن ابن عربي ، وذلك أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال : الحكم بالولاية ، والتوقف فيه ، والقطع بكفره ، وهذا اختيار المشايخ ، فسنح في أثناء السنة المذكورة أن الوقف أقرب إلى الورع ، بعد أن كنتُ موافقًا لهم على قولهم ، والآن : كفرُ الرجل بكلامه واضح ، وزندقته بخذله ناضح ، فلا معنى للتوقف فيه إلا ما سبق في القضاء من وقوع هذا الأمر المقدور ، فالحمد لله على الاتفاق ، وأتضرع إليه أن يجعله اتفاقًا مؤبدا ، مرضيًا له . والله أعلم . اهـ .

قلتُ : رحم الله الشيخ إبراهيم ، ورفع منزلته ، وجعل في رجوعه تشجيعًا لمن شابه حاله ممن تأثر بشيئ من أقوال أهل البدع ؛ من إرجاء أو تأويل أو تكفير لمن لا يستحقه .. ، وشكر الله للأخ الشيخ خضر بن سند الذي صور لي هذه الوثيقة من المكتبة المذكورة ، مع التنبيه على أن الشيخ أباعبدالرحمن الظاهري - وفقه الله - سبق أن نقلها في مجلة الدرعية ( العدد 2 ) ، وعلّق عليها . والله الهادي .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية