اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/27.htm?print_it=1

أربع عِبرَ.. من :
مذكرات أحد رموز جماعة "الإخوان المسلمين"

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

سليمان بن صالح الخراشي

 
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
يعد الدكتور "توفيق الشاوي" واحدًا من الرعيل الأول لجماعة "الإخوان المسلمين" ممن صحبوا الشيخ حسن البنا –رحمه الله- وأنصتوا لدعوته وآمنوا بها، فبذل جهودًا كبيرة لنشرها في العالم الإسلامي (طوال خمسين عامًا) لاسيما في بلاد المغرب العربي؛ التي اختص بها، وتعرف على همومها وطبيعتها.
كتب الشاوي مذكراته بعد هذا العمر المديد تحت عنوان "مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي"، وصدرت في قريب من 600 صفحة عن دار الشروق بمصر عام 1419هـ، تحدث فيها عن تجربته في العمل الإسلامي وما واجهه من تحديات وعقبات، وانطباعاته من شخصيات وجمعيات وحكومات.
وأثناء قراءتي لهذه المذكرات كانت تعرض لي فيها صفحات وخلاصات وعبارات مهمة قيدها صاحبها من واقع تجربة وتمرس، يحسن بكل عامل للإسلام في هذا الزمان أن يتأملها ويتدبرها ويأخذ العبرة منها ليستفيد اللاحق من السابق.
فأحببت لأجل هذا أن أنتقي هذه المواضع المهمة وأضعها بين يدي إخواني من طلبة العلم ودعاة الإسلام، مكتفياً بعنونتها والتعليق اليسير عليها؛ لعلهم يجدون فيها ما يغنيهم عن الجهود الضائعة، ويصرفهم إلى الجهود النافعة التي تسارع بالأمة إلى تحقيق آمالها.
ويحسن قبل هذا: التعريف الموجز بالدكتور الشاوي وبمؤلفاته كما جاءت في خاتمة مذكراته (ص 568-572):

تعريف بالدكتور توفيق الشاوي:
- ولد في مدينة المنصورة، وحفظ القرآن الكريم مبكراً.
- تخرج في كلية الحقوق.
- انضم إلى جماعة "الإخوان المسلمين" خلال دراسته الجامعية.
- تعين مدرسًا مساعدًا في كلية الحقوق.
- سافر إلى فرنسا لدراسة الدكتوراه، وحصل عليها عام 1949م.
- بعد عودته تعين مدرسًا بالكلية المذكورة.
- كلفته جماعة الإخوان بالاتصال بزعماء الحركات الوطنية في بلاد المغرب العربي "الجزائر، المغرب، تونس"فانصبت اهتماماته على قضاياهم.
- سجن مع من سجن من جماعة الإخوان في عهد عبد الناصر.
- بعد خروجه من السجن تعين قاضياً بالمحكمة العليا بالرباط عام 1959م وأستاذًا بجامعة محمد الخامس.
- انتقل إلى السعودية عام 1965م حينما تعاقدت معه وزارة البترول مستشارًا قانونياً لإدارة الثروة المعدنية في جدة.
- عينه الملك فيصل عضوًا بالمجلس الأعلى لجامعة الرياض عام 1965م ثم منحه الجنسية السعودية عام 1966م.
- تعين أستاذًا للقانون والفقه المقارن بكلية الاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة عام 1968م.
- تعاون مع الأمير محمد الفيصل في إنشاء مدارس "المنارات"
- شارك في تأسيس البنك الإسلامي للتنمية، وبنك فيصل الإسلامي بالخرطوم والقاهرة.

أهم مؤلفاته :
1- فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة، 1995م.
2- موسوعة عصرية للفقه الجنائي الإسلامي.
3- عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية، 1988م.
4- كتب عديدة في القانون الوضعي !

تنبيه :
يستغرب المسلم من انكباب الدكتور على التأليف في القانون الوضعي، بل تدريسه!، إضافة إلى تمجيده لمن أقاموا صروحه في بلاد المسلمين؛ كالسنهوري (1). متغافلاً عن خطورة هذا الأمر على دينه حيث فيه الرضا بالحكم بالطاغوت وإقراره في بلاد الإسلام، والله يقول (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ويقول في المنافقين (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا).
ومما يزيد العجب والحيرة أن يصدر هذا من رجل ينتسب إلى جماعة إسلامية قامت –كما يقول أصحابها- لتعيد الحكم بالإسلام إلى ديار المسلمين! فتأمل هذا التناقض.
ويحسن هنا أن أذكر فتوى سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله- فيمن يقوم بدراسة القوانين الوضعية أو تدريسها لعلها تكون مبصرة لمن يتهاون في هذا الأمر الخطير.

فتوى الشيخ ابن باز فيمن يدرس القوانين الوضعية :
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ أحمد بن ناصر بن غنيم زاده الله من العلم والإيمان وجعله مباركا أينما كان آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد : فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 3 / 5 / 1397 هـ وصلكم الله بهداه ولم يقدر الله اطلاعي عليه إلا منذ خمسة أيام أو ستة ، وقد فهمت ما تضمنه من السؤال عن حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها هل يكفر بذلك أو يفسق؟ وهل تصح الصلاة خلفه؟
والجواب : لا ريب أن الله سبحانه أوجب على عباده الحكم بشريعته والتحاكم إليها ، وحذر من التحاكم إلى غيرها ، وأخبر أنه من صفة المنافقين ، كما أخبر أن كل حكم سوى حكمه سبحانه فهو من حكم الجاهلية ، وبين عز وجل أنه لا أحسن من حكمه ، وأقسم عز وجل أن العباد لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه بل يسلموا له تسليما ، كما أخبر سبحانه في سورة المائدة أن الحكم بغير ما أنزل كفر وظلم وفسق ، كل هذه الأمور التي ذكرنا قد أوضح الله أدلتها في كتابه الكريم ، أما الدارسون للقوانين والقائمون بتدريسها فهم أقسام :
( القسم الأول ) من درسها أو تولى تدريسها ليعرف حقيقتها أو ليعرف فضل أحكام الشريعة عليها أو ليستفيد منها فيما لا يخالف الشرع المطهر أو ليفيد غيره في ذلك فهذا لا حرج عليه فيما يظهر لي من الشرع ، بل قد يكون مأجورا ومشكورا إذا أراد بيان عيوبها وإظهار فضل أحكام الشريعة عليها ، والصلاة خلف هذا القسم لا شك في صحتها ، وأصحاب هذا القسم حكمهم حكم من درس أحكام الربا وأنواع الخمر وأنواع القمار ونحوها كالعقائد الفاسدة ، أو تولى تدريسها ليعرفها ويعرف حكم الله فيها ويفيد غيره ، مع إيمانه بتحريمها كإيمان القسم السابق بتحريم الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشرع الله عز وجل وليس حكمه حكم من تعلم السحر أو علمه غيره .
لأن السحر محرم لذاته لما فيه من الشرك وعبادة الجن من دون الله فالذي يتعلمه أو يعلمه غيره لا يتوصل إليه إلا بذلك أي بالشرك بخلاف من يتعلم القوانين ويعلمها غيره لا للحكم بها ولا باعتقاد حلها ولكن لغرض مباح أو شرعي كما تقدم .
( القسم الثاني ) من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها أو ليعين غيره على ذلك مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم وفسق لكنه كفر أصغر وظلم أصغر وفسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام ، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم ، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب ( الصلاة ) وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة ( الرسائل الأولى ) ،
ولا شك أن أصحاب هذا القسم على خطر عظيم ويخشى عليهم من الوقوع في الردة ، أما صحة الصلاة خلفهم وأمثالهم من الفساق ففيها خلاف مشهور ، والأظهر من الأدلة الشرعية صحتها خلف جميع الفساق الذين لم يصل فسقهم إلى حد الكفر الأكبر ، وهو قول جم غفير من أهل العلم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
والمعلمون للنظم الوضعية والمتعلمون لها يشبهون من يتعلمون أنواع الربا وأنواع الخمر والقمار أو يعلمونها غيرهم لشهوة في أنفسهم أو لطمع في المال مع أنهم لا يستحلون ذلك ، بل يعلمون أن المعاملات الربوية كلها حرام ، كما يعلمون أن شرب المسكر حرام والمقامرة حرام ، ولكن لضعف إيمانهم وغلبة الهوى أو الطمع في المال لم يمنعهم اعتقادهم التحريم من مباشرة هذه المنكرات وهم عند أهل السنة . لا يكفرون بتعاطيهم ما ذكر ما داموا لا يستحلون ذلك كما سبق بيان ذلك .
( القسم الثالث ) من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها مستحلا للحكم بها سواء اعتقد أن الشريعة أفضل أم لم يعتقد ذلك فهذا القسم كافر بإجماع المسلمين كفرا أكبر . لأنه باستحلاله الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله يكون مستحلا لما علم من الدين بل لضرورة أنه محرم فيكون في حكم من استحل الزنا والخمر ونحوهما ، ولأنه بهذا الاستحلال يكون قد كذب الله ورسوله وعاند الكتاب والسنة ، وقد أجمع علماء الإسلام على كفر من استحل ما حرمه الله أو حرم ما أحله الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ومن تأمل كلام العلماء في جميع المذاهب الأربعة في باب حكم المرتد اتضح له ما ذكرنا .
ولا شك أن الطلبة الذين يدرسون بعض القوانين الوضعية أو المدخل إليها في معهد القضاء أو في معهد الإدارة لا يقصدون بذلك أن يحكموا بما خالف شرع الله منها ، وإنما أرادوا أو أريد منهم أن يعرفوها ويقارنوا بينها وبين أحكام الشريعة الإسلامية ليعرفوا بذلك فضل أحكام الشريعة على أحكام القوانين الوضعية ، وقد يستفيدون من هذه الدراسة فوائد أخرى تعينهم على المزيد من التفقه في الشريعة والاطمئنان إلى عدالتها ،
ولو فرضنا أنه قد يوجد من بينهم من يقصد بتعلمها الحكم بها بدلا من الشريعة الإسلامية ويستبيح ذلك لم يجز أن يحكم على الباقين بحكمه؟ لأن الله سبحانه يقول : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ) أُخْرَى ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يجني جان إلا على نفسه".
وبما ذكرنا يتضح لفضيلتكم أن القدح في إمامة الطلبة المذكورين والحكم بعدم صحة الصلاة خلفهم أمر لا تقره الشريعة ، ولا يقره أهل العلم ، وليس له أصل يرجع إليه ، وأرجو أن يكون ما ذكرته مزيلا لما وقع في نفس فضيلتكم من الشك في أمر الطلبة المذكورين في القسم الأول ، أو تفسيقهم أو تكفيرهم ، أما القسم الثاني فإنه لا شك في فسقهم ، وأما القسم الثالث فإنه لا شك في كفر أهله وعدم صحة الصلاة خلفهم .
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه ، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن مضلات الفتن إنه سميع قريب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) . انتهى من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ( 2 / 325 – 331 ) باختصار .


العِبرة الأولى : هل يمكن التقارب مع العلمانيين ؟!
يخطئ بعض الدعاة عندما يظن أن باستطاعته أن يقيم حلفًا مشتركًا بين أهل الإسلام والتيار العلماني "المنافق" ضد عدوٍ مشترك! ويقدم لأجل ذلك كثيرًا من التنازلات المتتالية التي تثلم دينه لعله يرضي أحفاد ابن سلول. فيصدق فيه قول الشاعر:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله *** والزاد حتـى نعـله ألقـاها !
ثم يكتشف في نهاية الأمر أن الطابور الخامس قد اتخذه سلمًا ومطية وواجهة شعبية للوصول إلى أغراضه بالتعاون مع دول الكفر "من اليهود والنصارى" حتى إذا وصل المنافق إلى مبتغاه قلب ظهر المجن وتنكر لأهل الإسلام، ورماهم عن قوس واحدة، والتجارب الكثيرة شاهدة لهذا، ولكن أين المعتبر؟!
والحل: أن لا يشغل أهل الإسلام بالهم بأمر إرضاء بني علمان أو التعاون معهم، بل يواصلون فضحهم والنفير منهم، وعدم تقريبهم بعد إذ أبعدهم الله، مع مواصلة نشر الدعوة بين عامة المسلمين، فهذا أنكى بأسًا وأشد وقعًا على الطائفة المنافقة. جاعلين شعارهم قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) وقوله سبحانه (ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم) حذرين من أن يقعوا فيما حذر الله منه بقوله تعالى (لا تلبسوا الحق بالباطل) وقوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) وقوله (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
والدكتور توفيق الشاوي يعترف بأنه كان ممن انخدعوا بفكرة التقارب من أهل العلمنة رغم نصح الناصحين! إلا أنه استمر في هذا الطريق ولم يكتشف خطأه وخطورته إلا متأخرًا ! فلعل في اعترافه ما يكون عبرة لغيره ممن لا زالوا في أول خطى هذا الطريق المظلم.
يقول الشاوي (ص5-6): "خلال هذه التجارب الطويلة لاحظت أخطاء كثيرة وعيوباً لابد من نقدها وأبدأ في الاعتراف بما وقعت فيه من خطأ أو تقصير كانت له نتائجه… فأعتذر لكثير من إخواني الذي طالما عابوا عليّ التعاون مع من كانوا يعتبرونهم غير جديرين بالثقة التي أوليتهالهم، وأن ولاءهم للإسلام مشكوك فيه، وكانوا يحذرونني من هذه الثقة فيمن يرفعون شعارات غير إسلامية، وكنت أقنع نفسي أن الوطنية تكفي لكي تجمعني بهم في ساحة الكفاح الوطني، لكنهم كانوا يردون بأن وطنيتهم ليست كما كانت شعوبنا تعتبرها مجرد مرحلة من مراحل كفاحها في سبيل التحرر الكامل، و"الوحدة الشاملة" و"الأصالة الإسلامية" التي نعتز بها، وأن كثيرين منهم إنما يعتبر شعارات الوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية مجرد بديل عن الانتماء الإسلامي أو مبرراً للتنصل من التزامات العقيدة والأصالة الإسلامية، وأنها تمكنهم من معاداة ذلك كله عند الاقتضاء بحجة أن هذا الاتجاه قد فات أوانه، أو أنه لم يعد يصلح لهذا الزمان أو أنه يغضب القوي الأجنبية المسيطرة التي نستجدي منها القروض والمساعدات.
الآن اكتشفت أن هذا النقد الذي وجه إليّ كان صحيحاً، وأن كثيراً من الوطنيين الذين وثقت فيهم أو عاونتهم وتعاونت معهم من أجل الاستقلال لم يكونوا جديرين بهذه الثقة؛ لأنهم قبلوا السير في طريق العداء للفكر الإسلامي والوحدة الشاملة لجميع شعوبنا وتحررها الكامل ولكنني بكل أسف لم أعرف ذلك إلا تدريجياً بعدما كشفت عنه كثير من المواقف والحوادث بعد الاستقلال، وخاصة لدى كثير ممن استولوا على السلطة، وسعوا لاحتكارها بعد كل ما قمنا به من أجل التعاون الشامل وما قدمه المجاهدون الإسلاميون من تضحيات، كما نرى في كثير من بلادنا حيث تبنى كثير من الحكام الوطنيين سياسة خصومة وعداء للإسلام، وفكره، وتاريخه، ومن يعملون له، مما يثير الفتن التي نشكو منها في كثير من بلادنا.
لقد بدأت أسترجع الأحداث التي عاصرتها، أو شاركت فيها مع من وثقت في وطنيتهم من أصدقائي، لأكشف الدلائل التي بينت لي أن من وصل إلى الحكم منهم قد انحاز إلى صفوف أعداء الفكر والتيار الإسلامي الأصيل، بل إنهم اختاروا هذا الأسلوب ومارسوه فعلاً دون أن ألحظه إلا بعد فوات الأوان.
لذلك فإني قررت أن أعرض تجاربي خلال هذه الخمسين عاماً من حياتي لأستكشف أسباب هذه النهاية الحزينة التي تقاسيها جماهيرنا المؤمنة بأصالتها، ويواجهها العاملون للإسلام بعد الاستقلال الوطني رغم ما قدمناه من تضحيات في سبيله؛ لأننا اعتبرناه خطوة ضرورية لكي تواصل شعوبنا جهادها للتحرر الكامل والوحدة الشاملة.
إنني آمل ألا يعتبر القراء كتابي تاريخاً أو مجرد تسجيل لأحداث شهدتها، ولا إحصاء للأخطاء التي أدت إلى هذا الفشل الذي نقاسي مرارته، وإنما هو قبل كل شيء دروس وعبر استخلصتها لأقدمها للجيل الناشئ، ومن يأتون بعدنا لعلهم يستفيدون منها في تصحيح مسيرة شعوبنا؛ حتى تستطيع أمتنا العربية الإسلامية العريقة الأصيلة أن تحقق النصر الذي وعد به الله عز وجل عباده الصالحين".

العبرة الثانية: الطواغيت يرددون : "على نفسها جنت براقش" !
أجرم كثير من الطواغيت العرب بحق أهل الإسلام، وعملوا على حربهم والتنكيل بهم والتضييق عليهم، وتشويه دعوتهم، كل هذا قربانًا يقدمونه لدول الكفر التي ساهمت وساعدت في نصبهم حكامًا على رقاب المسلمين؛ إلا أن هؤلاء الحكام المجرمين جهلوا أنهم بفعلهم المشين هذا يُضعفون بلادهم ويجعلونها صيدًا سهلاً لدول الاستكبار لنهب خيراتها ومسخ شخصيتها. ثم سرعان ما تنقلب تلك الدول الكافرة عليهم عندما تحترق أوراقهم أو تتعارض مصالح الفريقين، وقد بدأ هذا الأمر على أرض الواقع فيما نراه اليوم في حرب العراق. عندها يحق لهؤلاء الحكام أن يرددوا: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.
ولو أن هؤلاء الحكام نصروا الإسلام وأهله وتواثقوا معهم ضد الأعداء، لما وجد أولئك الأعداء موطئ قدم لهم في ديار الإسلام يمكنهم من تفتيت وحدته أو استغلال خيراته، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى أن يتصالح الحكام مع أهل الإسلام ضد أعداء الله ويقوموا جميعًا بنصر دينه وإعلاء كلمته فيكفروا عن سيئاتهم، وما ذلك على الله بعزيز.
يقول الشاوي (ص7-8): "لقد تبين لي أن أخطر هذه المكاسب الوقتية العاجلة التي استخدمتها بعض الدول الكبرى لإغراء بعض الوطنيين أو القوميين هو الاستقلال الذي كنا نهتف له، وننادي به في مظاهرات الطلاب ومسيرات الجماهير، وفي حين كنا شباباً نفهم الاستقلال على أنه شامل لجميع أوطاننا، وأنه تحرر كامل لجميع شعوبنا بلا استثناء، وإيجاد دولة وأمة كبرى تمكننا من الاكتفاء الذاتي في الغذاء والإنتاج المدني والعسكري، وإيجاد اقتصاد كبير يغنينا عن استجداء العون العسكري والمالي ممن يعادوننا. لقد تبين لنا الآن أن طائفة ممن يرفعون شعارات الوطنية لا يهمهم من الاستقلال إلا التربع على مقاعد السلطة في قطر صغير، وبلد فقير ضعيف محدود الإمكانيات لا يستطيع أن يعيش بدون معاونة الدول الأجنبية، وما يستجديه هؤلاء الوطنيون المسيطرون عليه من بعض الدول الكبرى الطامعة التي لا تقدم قروضاً ولا مساعدات إلا لمن يخضع لما تمليه عليه حكوماتها وخططها الإمبريالية.
إن هذا الصنف من الوطنيين ما زال يواصل الخضوع لتوجيهات القوى الأجنبية التي لها خطط بعيدة المدى، وهو يعلم أنها تستلزم في نظرها تفريغ استقلال الدول الصغيرة من محتواه الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، بل والعسكري والسياسي وبقائه محصوراً في نطاق قطري ضيق، يعزل كل شعب من شعوبنا عن الشعوب الشقيقة أو المجاورة، بل ويدخله في خصومات أو معارك إقليمية أو داخلية مع أشقائه وجيرانه لا تنتهي، وبذلك يتحول استقلال كل قطر إلى وسيلة لانفصاله عن كيان الأمة الكبرى العربية والإسلامية، وعن وحدتها التي سادت منطقتنا قرونا طويلة، ومكنتها من أن تبني أعظم حضارة في عهود الإسلام الزاهرة.
هذه النظم تقبل السير فيما رسمته القوى الأجنبية من خطط لاستبعاد الإسلام ذاته من كيان الشعب وذاتيته، وثقافته وقيمه الأصيلة، مقابل بعض المساعدات والقروض والأسلحة والنصائح التي يؤدي إلى التبعية التي تربطها بالقوى الكبرى المهيمنة على النظام العالمي، وتتخذه وسيلة لفرض سيطرتها على شعوبنا بحجة العولمة تارة، والشرق الأوسط تارة أخرى.
إن هؤلاء يظنون أنهم يستغلون أموال القوى الأجنبية ونفوذها للبقاء في السلطة، وينسون أنها هي التي تستغلهم وتخدعهم، وقد رأينا كيف استغل زعماء الثورة العربية الكبرى ما قدمه لهم "لورنس" من ذهب بريطانيا، ومن وعود كاذبة بدعم استقلالهم عن تركيا، بل ووحدة العرب بعد انفصالهم عنها، وتبين أن بريطانيا هي التي خدعتهم واستغلتهم؛ لتنتصر هي وحلفاؤها على الدول العثمانية وتستولي على الأقطار العربية وتمزق وحدتها.
والذين يظنون أنهم يستغلون مساعدات الدول الكبرى ينسون أن ما يقومون به لاقتلاع جذور الفكر الإسلامي، والقضاء على التيار الإسلامي؛ هو هدف استراتيجي لأعدائنا؛ لأنه يسهل لهم تنفيذ مخطط استراتيجي طويل المدى يحرمون فيه شعوبنا من الوحدة حتى يستغل الاستعمار الأجنبي ثرواتها، ويفرض سيطرته على دولها أطول فترة ممكنة".
ويقول (ص72): "الحقيقة أن الكفاح الوطني بدأ دائماً صورة من صور الجهاد الإسلامي في مرحلة معينة للقضاء على الاحتلال العسكري الأجنبي الذي يمكن أعداء الإسلام من تنفيذ مخططاتهم الاستيطانية لغرس مستوطنين أجانب في أقاليم عربية وإسلامية كما كان الأمر في الجزائر وفلسطين وليبيا، أو تكوين طبقات مستغربة عميلة في مصر وغيرها من الأقطار تتولى تنفيذ مخططات القوى الأجنبية الرامية إلى فرض التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية على أمتنا بواسطة حكومات وطنية لا تستطيع البقاء إلا في ظل هذه التبعية، وتفرض عليها أن تمارس العلمانية التي تسوقها نحو الانفصال عن التيار الشعبي الإسلامي، وتؤدي إلى تورطها في السير في طرق القمع والاضطهاد لرموز هذا التيار وقياداته الفكرية والهيئات والمنظمات التي تعبر عن هذا التيار الشعبي.
إن الوضع قد تغير عندما تم في بعض الأقطار تصالح الأحزاب والحكومات الوطنية مع القوى الأجنبية، ووصل التصالح إلى درجة قيام بعضها بالتعاون مع تلك القوى الأجنبية ومساعدتها في تنفيذ مخططاتها بعد الاستقلال، بل جعل بعض هذه الدول القطرية وحكوماتها عاجزة عن توفير أسباب الاكتفاء الذاتي في النواحي الاقتصادية والدفاعية، وجعلها تستجدي المال والسلاح من القوى الأجنبية مقابل أن تسير في ركابها وتقبل ما فرضته عليها من التنكر لمقومات الأمة وأصالتها وعقيدتها ووحدتها ومقاومة دعاتها، بحجة فصل الدين عن الدولة أو رفع شعارات علمانية لا دينية تزعم أنه لا دين في السياسة.
هنا بدأت الحركة الإسلامية في الانفصال عن الحكومات الوطنية الحزبية أو الدكتاتورية التي انحرفت عن الأهداف الإسلامية الشاملة التي تؤمن بها القاعدة الشعبية، وعارضت الحكام الذين ساروا في طريق الدكتاتورية لفرض الشعارات المستوردة والاتجاهات اللادينية أو العلمانية أو القومية العنصرية، كما فعل أتاتورك ومن سار على نهجه وهذه هي المرحلة الثانية، مرحلة الانفصال بين الحكم الوطني الذي يتجه نحو العلمانية القطرية، والتيار الإسلامي الذي يدافع عن الأصالة والوحدة الإسلامية التاريخية الشاملة".
ويقول (ص267) : "في مارس 1956م خرجت من المعتقل في القاهرة بعد سنتين تقريباً، كانت فيها حركة الإخوان المسلمين هدفاً لكل وسائل الاضطهاد من قتل وتعذيب وتشريد، ولم يقتصر الاضطهاد على أعضائها، ولكنه امتد إلى كل من له نشاط إسلامي في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي؛ بحجة أنه مؤيد للإخوان أو أنه سوف يؤيدها في يوم من الأيام.
خلال تلك الليالي المظلمة، والأيام العسيرة، بل وبعد خروجنا من السجن كان السؤال الذي يشغلنا دائماً هو: كيف أن الاضطهاد والتعذيب والسجن والقتل الذي تعرضنا له تم على أيدي ضباط من حركة الجيش المباركة!! التي تحالفت مع الإخوان المسلمين وأقسم قادتها على الولاء للإسلام وشريعته، وأعلنت في بدايتها عام 1952م أن هدفها هو تحرير الشعب من الطغيان والفساد وفرض احترام الدستور والديمقراطية الصحيحة وضمان الحريات الكاملة للشعب والأفراد.
كيف تحول هؤلاء إلى حكام عسكريين مستبدين يضطهدون ويعذبون ويقتلون من يدافعون عن الدستور والحريات، ويطالبون بانتخابات حرة نظيفة؟! ولماذا يستخدمون أحط الأساليب للاستئثار بالسلطة واحتكارها والقضاء على كل من يخشون منه مشاركتهم في الحكم أو محاسبتهم على تصرفاتهم ؟!
ليس هنا مجال للرد على هذه التساؤلات، لكن من واجبي أن أؤكد أن هذا الأسلوب كان يحقق للقوى الأجنبية وخاصة الصهيونية وإسرائيل هدفاً أساسياً في خططها التي تهدف إلى استبعاد جميع القيادات والأحزاب التي تصر إلى مواصلة المقاومة الشعبية لنفوذها بل ولوجود إسرائيل ذاته، وهي تعرف أن الشعوب تكره هذا النفوذ وترفضه وتقاوم وجودها ولذلك فإن من أهدافها حرمان شعوبنا من الاستقرار وتعطيل حرية اختيارها وتجفيف منابع العقيدة والأصول والمبادئ التي تستمد منها قدرتها على المقاومة وإرادتها في التحرر، والتي يعتقدون أن مصدرها العقيدي والتاريخي هو الإسلام".
ويقول (ص476): "لاحظت أن هذا المخطط تعمل له الدعاية والخطط الصهيونية التي تعرف أن العقيدة الإسلامية هي المنبع الأول لحركات الجهاد التي تعارض مخططاتها الاستيطانية والتوسعية في العالم العربي والإسلامي، وأنها تستغل نفوذها في الإعلام العالمي وتأثيرها السياسي لتدفع فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وبعض الدول الأجنبية الأخرى في هذا الطريق.
أما في العالم العربي، فإن كثيراً من الحكومات المحلية تتورط فيه لأهداف حزبية أو وقتية دون إدراك للأهداف البعيدة لهذه السياسة التي ترمي لها القوى الأجنبية التي تصر على فرضها على دولنا جميعاً، بقصد عزلها عن جماهير شعوبها التي تعلن ولاءها للإسلام وثقتها بدعاته".

العبرة الثالثة: حاجة الحزبيين إلى عقيدة "الولاء والبراء":
لا زالت الحزبية البغيضة حاجزًا ومعوقًا لانتشار الدعوة الإسلامية بين الناس، وصارفة لمن تلبس بها عن التعاون مع إخوانه على البر والتقوى، بل أصبحت سببًا رئيسًا في تفرق أهل الإسلام وعمل بعضهم ضد بعض؛ ولو أدى بهم ذلك إلى التآزر مع أعداء الإسلام ضد إخوانهم ! وهذا ما يؤكد حاجة أبناء الدعوة الإسلامية إلى تشرب العقيدة الإسلامية الصافية التي تربيهم على مبدأ الولاء والبراء، وتنقلهم من ضيق الأحزاب إلى سعة الإسلام.
وقد تحدث الدكتور الشاوي عن تجربة مرة له في هذا المجال؛ وهي محاولة التوفيق بين "جماعة الإخوان المسلمين" في الجزائر بقيادة رئيسها محفوظ نحناح -هداه الله- وجبهة الإنقاذ، إلا أن جهوده فشلت بسبب تجذر الحزبيات في النفوس، إضافة إلى إصابة بعض أهل الإسلام بمرض حب الرئاسة والتصدر، وقبل هذا كله –كما سبق- زهد كثير من هذه الشخصيات "الحركية" في العقيدة السلفية التي تضبط حركتهم بضابط الشرع، لا ضابط المصلحة والتنافس.
وإليك شيئًا من أقواله :
-يقول الشاوي (ص469): "أما الشيخ (محفوظ) فقد فهمت منه أنه غير مستعد للمبادرة بالاتصال مع قيادة الجبهة، فقلت له -عندما يئست من إقناعه- لا مانع عندي من أن تنسق مع جبهة التحرير وتتعاون معها إذا كنت لا تستطيع التعاون مع الإنقاذ، فاكتفى بأن قال لي: إن بن بيلا قد أرسل له من يدعوه لمقابلته، وطلب مني رأيي؛ لأنه يعلم علاقتي مع بن بيلا، ولكني قلت له: إنني لا رأي لي في هذا الموضوع؛ لأن ما أريده هو التنسيق مع الإنقاذ أو مع جبهة التحرير.
وغادرت الجزائر يائساً من أي محاولة لإقناعه بهذا التنسيق".
-ويقول (ص491-492) :"حاولت إقناع الشيخ محفوظ بوقف تصرفاته أو تصريحاته التي كانت غير موفقة في كثير من الأحيان لأنها تظهره بمظهر المعادي للجبهة وتثير أنصار الإنقاذ، وتوغر صدورهم عليه وعلى جماعته وكان المتسللون والعناصر المخربة هي التي تتخذ التطرف والنفاق وسيلة للتأثير على المسئولين لإحداث الشقاق بين الجميع.
ومما لا شك فيه أن حب الزعامة والرياسة هو مرض شائع لدى كثير من الوطنيين بل والعرب والإسلاميين أيضاً، والحجج التي يقدمها كل منهم لتبرير خصومته أو العاملين معه تكون في كثير من الأحيان ستاراً يخفي حب الظهور والتطلع للزعامة أو طموحه للانفراد بالزعامة أو الرياسة أو السلطة، سواء داخل الحكومة أو الحزب أو الهيئة.
والأصل أن الإسلام والسلوك الإسلامي يوجب معالجة هذا المرض الموروث لدى العرب خصوصاً، ولدى كثير من المسلمين، إلا أنه إلى الآن لم يقض على هذه الظاهرة: ظاهرة الخلاف المتكررة والمتزايدة في صفوف العرب والمسلمين، التي تؤدي إلى الفتن التي تزعزع كيان الدولة والأمة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى شغلهم بالخلافات الداخلية عن مواجهة المؤامرات والعداوات الأجنبية التي تهدد بلادهم وشعوبهم ومستقبلهم جميعا".
ويقول (ص494): "كنت معارضاً لقادة الهيئات والأحزاب الأخرى وخاصة من يرفعون شعارات إسلامية مثل الشيخ (محفوظ نحناح) لأنهم يتخلون تدريجياً عن المشاركة في هذه الانتفاضة الشعبية، بل ويعاونون العناصر المسيطرة على الدولة المتآمرة على الإنقاذ التي تقود هذه الثورة الإسلامية".

العبرة الرابعة: خروج الأعداء وبقاء العملاء :
لقد كان "الاستقلال" هدفًا مشتركاً يجمع أهل الإسلام وغيرهم من "الوطنيين" و"العلمانيين" في الدول الإسلامية الواقعة تحت ما يسمى "الاستعمار" فلما أيقنت الدول المستعمرة أن خروجها من بلاد الإسلام قادم لا محالة بسبب عدم قبول أهل البلاد "بمختلف توجهاتهم" لهذا الأمر مكرت المكر الكُبَّار وقررت أن تسلم مقاليد السلطة بعد رحيلها لأصحاب الطموح السياسي من الوطنيين والعلمانيين الذي يسهل انقيادهم لتنفيذ ما تريد، فلم تشد رحلها خارجة من بلاد الإسلام إلا بعد أن أخذت العهود منهم ليقوموا بحرب الإسلام وأهله خير قيام؛ عندها سيجدون التمكين والعيش الرغيد ! فكان لها ذلك وقام الطواغيت بمهمتهم الموكولة لهم؛ ليحق فيهم قوله تعالى (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا).
يقول الشاوي (ص194) عن زيارته لأبورقيبة أثناء اعتقاله في فرنسا بسبب محاربته للاستعمار: "وزرت الرئيس بورقيبة فعلاً، وتغديت معه، وجلسنا مدة طويلة نتجاذب أطراف الحديث، ولم يكن معنا إلا زوجته الفرنسية التي لا تعرف العربية! ولذلك لم تشترك معنا في الحديث، بل آثرت ألا تشترك معنا في الغداء لكي نستطيع أن نتحادث بالعربية التي لا تعرف منها شيئاً، ولا زلت أذكر كيف كانت تخدمنا أثناء الطعام وحدها، ولم ألاحظ وجود خادم أو أي شخص آخر، لذلك طال الحديث وتشعب".
ثم يقول الشاوي (ص317-318) -بعد أن وصل أبو رقيبة إلى السلطة بدعم من فرنسا التي ضمنت تنفيذه لجميع مخططاتها تجاه الإسلام وأهله-: "لقد كنت متردداً في الذهاب لتونس؛ لأنني أعرف ما أعلنه بورقيبة من اتجاهات أثارت الإسلاميين في تونس وغيرها، وخاصة إلغاء جامعة الزيتونة وإصدار ما سماه مدونة الأحوال الشخصية البورقيبية، وما يقال عن إنكاره لفريضة الصيام، ودعوته أعضاء حزبه للإفطار كما دعا الجميع لذلك.
ورأينا الرئيس بورقيبة يصعد المنبر ويلقي خطبته المشهورة التي أعلن فيها من منبر "عقبة بن نافع" أنه باعتباره ولي الأمر قد اجتهد وقرر أن تونس في مرحلة جهاد لبناء اقتصاد وطني، وصوم رمضان يضعف قدرة الناس على العمل من أجل البناء "الاقتصادي" ولذلك فإنه رأى عدم وجوب الصوم، رغم ما يقوله بعض العلماء "التقليديين" الذي لا يهتمون بمراعاة مقتضيات وظروف العهد الجديد".
أما عن الزعيم الجزائري أحمد بن بيلا الذي سار على نهج بورقيبة في التعاون مع الفرنسيين ضد أهل الإسلام فيقول الشاوي (ص275): "لقد سعدت بخروج بن بيلا وإخوانه من السجن، كما سعد كثيرون لذلك، واعتبرناه نصراً للجزائر وبداية لمرحلة الاستقلال الوطني، ولم أشغل نفسي بالبحث فيما حصل عليه الفرنسيون مقابل هذا الإفراج ومقابل الاعتراف باستقلال الجزائر وظهر لي فيما بعد أنهم لم يعطوا هذا الاعتراف دون مقابل!
والمقابل هو التحول الاشتراكي الذي يهدف إلى إقصاء الاتجاه الإسلامي، لا من ساحة العمل السياسي فقط، بل من مجال الفكر والثقافة، بل والعقيدة ذاتها؛ لأن الماركسية التي تحالف معها الناصريون وأصدقاؤهم لم تكن تخفي أنها لا تستطيع أن تتعايش مع الإسلام في الجزائر ولا في مصر ولا في العالم العربي.
لقد أشرت إلى أن المكان الذي زرت فيه بن بيلا في وسط فرنسا كان قريباً من المكان الذي زرت فيه "مصالي حاج" و"المنصف باي" و"بورقيبة" من قبل، لكن "مصالي والمنصف باي" بقيا في المعتقل حتى الموت، أما بورقيبة وبن بيلا فقد خرجا من المعتقل ليصل كل منهما إلى مقاعد السلطة والحكم بمباركة علنية وضمنية ممن اعتقلوهم ونجحوا في التفاهم معهم.
وأعتقد أن الفرق بين "بيلا" و"بورقيبة" أن هذا الأخير سار في طريق المساومة والتفاهم مع فرنسا تلقائياً ولأهداف شخصية، أما "بين بيلا" فإنني أعتقد أنه تأثر إلى حد كبير بالسلطات الناصرية التي كانت قد اختارت ما تسميه طريق التحول الاشتراكي وأنها قد فرضته على "بن بيلا" وعلى الثورة الجزائرية ليكون مبرراً لإقصاء الإسلاميين جميعاً و"الإخوان المسلمين" من صفوف التحرير الجزائرية، ومن جميع مواقع السلطة والنفوذ".
ويقول (ص430): "لقد أشرت من قبل إلى ما لاحظته من اتجاه "بن بيلا" إلى السير في النهج الذي رسمه له مستشاروه وأصدقاؤه الاشتراكيون الجزائريون والفرنسيون الذين اعتبروا اللغة الفرنسية "بل والتعاون مع فرنسا" شرطاً ضرورياً لتعميق المنهج الاشتراكي الذي كان يعني لدى كثير منهم السير نحو الإلحاد الماركسي المتناقض مع عقائد الإسلام ومبادئه، فضلاً عن أنه يعني الانتماء إلى الكتلة الاشتراكية والابتعاد عملاً عن فكرة الوحدة الإسلامية وعن الفكر الإسلامي ومعاداته، حتى وصل بهم الأمر إلى تعمد تشويه عقائد الإسلام والتشهير بقيمه ومبادئه وشريعته مما اضطرني إلى اليأس من فائدة بقائي في الجزائر، وتركت صديقي بن بللا وحكومته تسير في نهجها الاشتراكي الذي كان يرضي الاشتراكيين في فرنسا ومصر في عهد عبد الناصر كذلك".
أما ياسر عرفات فيقول عنه الشاوي (ص407): "لقد تصادف أن لقيت ياسر عرفات بعد ذلك في السعودية فعاتبته في ذلك وقلت له ألا تذكر ما قلته لي في المغرب عام 1965م من أنكم كنتم من الإخوان المسلمين وأنكم تعملون باسم الإسلام؟ ألم تذكر أننا التقينا مع الملك فيصل وقال لك إننا نعاونكم لأن الإخوان المسلمين هم الذين قدموكم لنا، وأنك قلت له: إنك من الإخوان المسلمين، قال لي معتذراً: نعم أذكر ذلك ولكن أنت تعرف أننا عندنا فصائل متعددة ومن واجبنا أن نحافظ على التعاون بين جميع هذه الفصائل حتى لا يشذ أحدها، وقال لي إن هذا الوضع يفرض علينا كثيراً من التنازلات وأنت تعرف أننا كنا نصدر بيانات العاصفة، وفي السنة الأولى كنا نبدأها: "بسم الله الرحمن الرحيم" لكن بعد إنشاء منظمة التحرير وجدنا أن بعض الفصائل احتجت على ذلك، واجتمع المجلس التنفيذي للمنظمة ودرس احتجاجات أعضاء المنظمة على ذكر: "بسم الله الرحمن الرحيم" في بيانات العاصفة، ولقد اضطررت أنا أن أجاريهم في ذلك وتعهدنا بحذف "بسم الله الرحمن الرحيم" من بيانات العاصفة منذ ذلك التاريخ! وفرضوا علينا أن يكون خطنا خطاً وطنياً بحتاً ليس له أي طابع إسلامي والتزمنا بذلك.
قلت له : معنى ذلك أنكم وافقتم على أن تكونوا علمانيين ؟!
قال: إذا كان هذا يمكننا من إنشاء دولة فلسطينية علمانية أو غير علمانية فنحن مستعدون لذلك، ونحن نريد أن نقنع العالم بأننا نريد إنشاء دولة تضم اليهود والعرب على حد سواء، ولا يمكن أن تكون هذه الدولة في نظرهم دولة إسلامية؛ ولذلك فنحن لا نريد أن نرفع شعارات إسلامية (!)
قلت له: أتذكر أنك طلبت مني أن أدعو (الإخوان المسلمين) للتعاون معكم وأن يأمروا أعضاءهم بالعمل في إطار منظمة فتح، وأنني بذلت جهداً كبيراً لإقناعهم بذلك، ولكنهم كانوا أبعد مني نظراً لأنهم كانوا يؤكدون أنكم لا تلتزمون بمنهج إسلامي وأن العمل الإسلامي يجب أن يكون مستقلاً عن المنظمات التي لا تلتزم بأهدافه".

----------------
[1] انظر شيئًا من انحرافات هذا الرجل في مذكرة "نظرات شرعية في فكرٍ منحرف" –المجموعة الرابعة- لمعد هذا البحث، منشورة في موقع "صيد الفوائد" على شبكة الإنترنت. وانظر أيضًا: رسالة الشيخ عمر الأشقر –حفظه الله-: "الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية". وقد كان الشيخ عبدالرحمن الدوسري –رحمه الله- يلقب السنهوري بـ"الطاغوت" !

 

سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية