اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Warathah/1/abnkoaod1.htm?print_it=1

الشيخ عبدالله بن قعود رحمه الله الخطيب المفوه والعالم الناصح والمفتي المحقق

خالد بن عبدالرحمن بن حمد الشايع
المستشار الشرعي والمشرف التربوي وأحد الدارسين على فضيلته

 
الحمد لله الحي القيوم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين ، أما بعد :

ففي صباح هذا اليوم الثلاثاء الثامن من رمضان عام 1426هـ ودَّعت الدنيا بمدينة الرياض أحد أئمة العلماء وأعلامها النبلاء ، وهو الشيخ عبدالله بن حسن بن قعود ، عن عمر يناهز الثالثة والثمانين ، بعد أن لازمه المرض بضع سنين .

وتناقل الناس الخبر آسفين حزينين ، يعزي بعضهم بعضاً ، ويسألون الله له المغفرة ، وأن يخلف على الأمة فيه خيراً .

وتوافد الناس للصلاة عليه في جامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض عقيب صلاة العصر ، حيث امتلأ هذا الجامع الكبير بالتمام وزيادة ، وتقدم المسلمين أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز ، وسمو نائبه الأمير سطام بن عبدالعزيز ، وعدد كبير من الأمراء والعلماء وطلبة العلم ، وأمَّ الناس سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ المفتي العام للمملكة .

ثم وُوري الشيخ ابن قعود الثرى في مقبرة العود وسط مدينة الرياض التي اكتظت الطرقات المؤدية إليها بالسيارات والمشاة ، فقد شيعه عدد كبير من الناس ، فيهم الأمراء والعلماء والمسئولون وغيرهم من محبي الشيخ رحمه الله .

والشيخ ابن قعود ـ رحمه الله ـ صاحب علم وعمل ودعوة ، فقد كان أحد أعضاء لجنة الإفتاء بالمملكة ، إلى قبيل مرضه ، وكانت له جهود علمية ودعوية في الخطابة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وفيما يلي ترجمةٌ مختصرةٌ للشيخ ، استفدتها من مقدمة مجلدات فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ، إضافة لما أعرفه عن الشيخ لدى دراستي عنده وحضوري مجالسه :

فهو الشيخ العلامة عبد الله بن حسن بن محمد بن حسن بن عبد الله القعود .

ولد في ليلة 17 رمضان عام 1343 هـ ببلدة الحريق الواقعة بوادي نعام أحد أودية اليمامة.

نشأ الشيخ في بلدة الحريق بين أبوين كريمين ببيت ثراء وفضل , فوالده أثناء نشأته أحد أثرياء البلد, وتعلم مبادىء الكتابة والقراءة من المصحف لدى محمد بن سعد آل سليمان, وذلك في آخر العقد الأول من عمره وأول الثاني, وقرأ القرآن بعد ذلك عن ظهر قلب ، وبعض مختصرات شيخ الإسلام ابن تيمية, والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله ، على قاضي بلدته آنذاك الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم آل عبداللطيف رحمه الله .

بعد هذا قويت رغبته في تحصيل العلم فرحل في 27 صفر 1367 هـ مفارقاً ذلك البيت الغني بأنواع الأموال ، وتوجه إلى حيث يقيم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله ـ في الدلم بمنطقة الخرج, ولازمه أربع سنوات ، ما عدا فترات الإجازات ونحوها, فكان يعود فيها إلى والديه اللذين يتعاهدانه أثناء تلك الفترة بما يحتاجه من مال ـ جزاهما الله عنه وعن العلم خيراً ـ.

وقد سمع على الشيخ ابن باز أشياء كثيرة من أمهات الكتب وغيرها من كتب الحديث والفقه , ومن المعروف لدى طلاب الشيخ ابن باز أن الشيخ ابن قعود حرر على إحدى نسخ بلوغ المرام فوائد نفيسة لدى دراسته عليه في الدلم ، وقد صورها البعض واستفادوا منها ، وحفظ الشيخ ابن قعود أثناء وجوده لدى الشيخ ابن باز مختصرات كثيرة منها بلوغ المرام, وكان ميالاً كثيراً للأخذ بالدليل ـ أي: لمسلك أهل الحديث ـ .

ولما فتح المعهد العلمي في الرياض في مطلع عام 1371 هـ الذي هو نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، التحق به وتخرج في كلية الشريعة في عام 1377 هـ.

وكان من مشايخه في الدراسة النظامية المذكورة : الشيخ عبد العزيز بن باز, والشيخ عبدالرزاق عفيفي, والشيخ محمد الأمين الشنقيطي, والشيخ عبد الرحمن الإفريقي ، رحمهم الله.

أما وظائفه الرسمية : ففي عام 1375 هـ عين مدرساً بالمعاهد, وفي 1379 هـ انتقل إلى وزارة المعارف وعمل بها مفتشا للمواد الدينية بالمرحلة الثانوية, وفي 1385 هـ انتقل إلى ديوان المظالم ,وعمل به عضواً قضائياً شرعياً, وفي 1 / 4 / 1397 هـ انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء وعمل بها عضواً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء المنبثقة من هيئة كبار العلماء, بجانب عضويته في هيئة كبار العلماء, وفي 1 / 1 / 1406 هـ خرج للتقاعد .

واستمر في المشاركات في اللقاءات والنشاطات العلمية والثقافية ، إضافة لإفتاء الناس فيما يعرضونه عليه ، وتعاون مع جامعة الملك سعود بإلقاء محاضرات لطلاب الدراسات العليا بقسم الثقافة الإسلامية ، وهكذا دروسه العلمية الأسبوعية المستمرة في المسجد والتي يؤمها كثيرٌ من طلبة العلم .

وأما في مجال الإمامة والخطابة : فقد عُين إماماً وخطيباً بجامع المشيقيق بالرياض منذ شعبان 1378هـ , وفي المحرم 1391 هـ عين خطيباً لجامع الملك فيصل (المربع) واستمر فيه على مدى ثمانية وعشرين عاماً ، حتى وقت إعادة بناء منطقة مركز الملك عبدالعزيز التاريخي وترميم الجامع عام 1418هـ.

للشيخ ابن قعود رحمه الله عدد من المؤلفات منها : مجموعة خطب صدرت في أربعة أجزاء في أزمان متفاوتة باسم (أحاديث الجمعة), وله تعليق على بعض مقررات الحديث والفقه في المرحلة الثانوية والمتوسطة إبان عمله مفتشاً بوزارة المعارف . إضافة لبعض الرسائل المختصرة ، ومئات الفتاوى التي اشترك في الإجابة عنها مع أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .

ولدى دراستنا على الشيخ ـ رحمه الله ـ لاحظنا تجرده للحق واتباعه للدليل ، وتميز أسلوبه ـ رحمه الله ـ بالبسط والتفصيل ، بحيث يعرض المسائل عرضاً جلياً يزول معه اللبس والتردد ، ولاحظنا التأثر الكبير منه رحمه الله بشخصية شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله ، في تعليمه وترجيحاته وورعه عن التفرد بالرأي أو الهجوم على المسائل بلا علم .

إضافة لتأثره بالشيخ ابن باز في ورعه وزهده ، وانصرافه عن الدنيا وعدم مزاحمة الناس على ما في أيديهم ، وفي تطلبه للحق والوقوف عنده ، وفي بذله نفسه للناس .

وأما خطب الشيخ رحمه الله ، والتي يسَّر الله لي حضورها إبان دراستي في المرحلة المتوسطة ، فقد تميزت بالمعالجات العميقة لقضايا العقيدة وللمسائل الحياتية الحادثة مع ملاحظة الاختصار والإيجاز ، وكان له رحمه الله أسلوبه المتميز في الخطابة ، الذي يلحظ معه سامعه إخلاص الشيخ لله تعالى ، وشدة نصحه للناس ، وتميزت خطبه بأنه كان يرتجلها ولا يقرأها من ورقة . فكان جامعه متجهاً لطلاب العلم ولعدد من وجهاء الناس ، حيث يؤمونه من أنحاء شتى من مدينة الرياض ، إضافة لعامة الناس ، فكان المسجد يغص بالمصلين.

وقد كان الشيخ ابن قعود رحمه الله يُولي خُطبه اهتماماً بالغاً بالتحضير لها ، وبكيفية أدائها وإلقائها ، كما يظهر ذلك في مقدمته لكتاب الخطب ، ولذلك فكان الشيخ كثيراً ما يبكي على المنبر لشدة تأثره وعظيم نصحه .

وحدثنا من هو أكبر منا أن الملك فيصل ـ رحمه الله ـ إبان حياته كان يصلي الجمعة في ذلك الجامع ، فيسمع خطب الشيخ ويصلي وراءه .

وقد عرفنا عن الشيخ رحمه الله تواضعه ولطفه ورفقه وحرصه على مخالطة الناس ، وكانت الابتسامة لا تغادر محياه ، وكان لطيف المعشر قريب النفس ، تكسوه مهابة العالم في حديثه وشخصيته وسمته ، غير أن سماحته وتواضعه تقربه منهم ، فكان رحمه الله رقيق القلب سريع البكاء ، يبكي في الصلاة ولدى خطابته في النفس .

ومن لطفه وتواضعه ورفقه ما كنا نلاحظه من وقوفه للناس عند باب الجامع بعد خطبة وصلاة الجمعة ، يجيب عن أسئلتهم ويحل إشكالاتهم ، ولا يستطيل وقوفه في حر الصيف أو برد الشتاء . كان الشيخ في لبسه وهندامه نضراً مرتباً ، غالب لباسه البياض ، ومع حسن لبسه وجمال منظره إلا أنه ما كان يتكلف ولا يبالغ في هندامه .

ومنذ بضع سنين حلَّ بالشيخ مرضٌ تمادى به ، حتى ألزمه بيته ، فانعزل عن الناس وخاصةً بعد توالى الفتن والأحداث الجسام ، فإنه إبان صحته ونشاطه كان لا يتفرد بالرأي ، فكان كثيراً ما يحيل على العلماء الآخرين ، أو يطلب عرض المسألة على اللجنة الدائمة للإفتاء ، وكان ازدياد مرض الشيخ بعد أن بلغه خبر وفاة شيخه العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله ، حيث كان صدمةً بالغة له أثرت فيه وفي صحته تأثيراً بالغاً .

وبعد : فإن وفاة عالم جليل كمثل الشيخ عبدالله بن قعود لمما يحزن النفوس ويكدر الخواطر ، فقد كان رحمه الله من أئمة العلماء الناشرين لسنة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ، بالعلم والعمل ، وما أجل ما قاله الإمام أيوب السِّختيانيّ: إنّه ليَبلُغني موت الرّجل من أهلِ السنّة؛ فكأنّما أفقد بعضاً من أعضائي .

ومما يبين أثر موت العلماء على الأمة ما نقله المفسرون في تفسير قول الله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) [الرعد : 41].

قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها ، وروي مثله عن غيره أيضاً .

قال الحافظ ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ إن هذا التفسير للآية حسنٌ جداً وتلقاه أهل العلم بالقبول . ومما جاء في بيان الرزية بفقد العلماء ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في فتح الباري : فدلَّ هذا على أن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء.

وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : إذا هلك علماؤهم .

ونقل عن علي وابن مسعود وغيرِهما قولهم : موت العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار .

وقال سفيان بن عيينة : وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم .

الأرض تحيا إذا ما عاش عالـمُها  *** متى يَمُتْ عالمٌ منها يَمُت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها  *** وإن أبى ، عاد في أكنافها التَّلف

إلى غير ذلك من النقول والآثار التي تبين الأثر الكبير الناشئ عن موت العلماء .

وينبغي أن يشار في هذا المقام إلى أن من حق علمائنا أن تبرز مآثرهم وأن تبسط سيرهم حتى يستفيد منها الناس ، ولكي يقتدي بهم من بعدهم ، ولأجل أن يُعرف ويحفظ فضلهم ، وإن الله لحافظٌ دينه ومعلٍ لكلمته ، والموفق من استعمله الله في بلاغ دينه والعمل بعلمه وتعليمه ودعوة الناس إليه .

فنسأل الله تعالى أن يغفر لشيخنا عبدالله بن قعود ويرفع درجته في المهديين ، وأن يخلفه في عقبة في الغابرين ، وأن يغفر لنا وله ، وأن يفسح له في قبره وينور له فيه ، وأن يخلف على الأمة فيه خيراً .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

حرر في 8/9/1426هـ
 


 العلامة ابن قعود : العالم الداعية المحتسب
الشيخ سعد بن مطر العتيبي


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد ..

فكم في حياة الكبار من خفيات مفيدة ، من حقنا أن نعرفها ، ومن الإحسان إلينا أن يدونوها هم لنا إن استطاعوا ، أو يحدثونا بها لندونها عنهم إن استطعنا ، فكتابة المذكرات من مثلهم أو ممن حولهم لهم ، تورِّث علماً وتجربة يُنيرها العلم الذي يحملون .. فهي ليست ( ماركة تجارية ) تظهر في تخبطات قومية ، أو تهورات ناصرية ، أو إيديلوجية حرباوية في قوالب انحنائية تتنازعها شيوعية بائدة ولبرالية خادعة ، ولا حتى في تعجلات شبابية ، أو تعالمات تكفيرية ، أو تلبيس شيطاني يتخذ من قَدْح أهل العلم قُربة ! ..

كلا إن حياة الكبار لها طعم آخر ، إنَّها لون أصيل ثابت ، وتلك ألوان صناعية باهتة متقلبة ..

إنَّها الدروس العملية النافعة .. فكم في سير أعلام النبلاء من حكاية واقعة عملت في قلوب القارئين ما لم تعمله أسفار العلم التي حوتها مكتباتهم ، ومرت عليها أعينهم .. وكم في المذكرات من تاريخ لم يؤرّخ في سواها ، كما في مذكرات العلّامة الأديب الأريب الشيخ / علي الطنطاوي رحمه الله تعالى .. فكم فيها من نزهة للقلوب وراحة للنفوس وعبرة للمتعظ ، مع ما حوته من الفوائد المشار إليها ..

نقول إنا لله وإنّا إليه راجعون ، رحم الله شيخنا العلامة الجليل / عبد الله بن حسن بن محمد بن حسن بن عبد الله بن قعود .. العالم الفقيه الداعية المحتسب ، هكذا نحسبه ولا نزكي على ربنا أحدا ..

وهنا أُبيِّن : لا أريد أن أتحدث عن حياتنا شيخنا العلمية والعملية العامرة ، كلا ، فذاك شيء يطول الحديث عنه ، فلا يناسب مثل هذا المقام [1] .. وإنَّما أريد أن أسجل شيئاً من وفاء تلميذٍ لشيخه ، بذكر بعض الدروس المستفادة من حياته – مما يخطر الآن على البال - على سبيل الإيجاز الشديد .. لعلّ درساً منها يعلق بنفس أبيّة طاهرة ، فترث عن الشيخ شيئاً من الإرث العملي المنحوت من منهاج النبوّة .. فهكذا ينبغي أن تكون مراثي العلماء ..

لعل بعض شبابنا لم يتيسر له الجلوس بين يدي هذا الشيخ الجليل ، ومهما قلت لأقرِّب لهم صورةً من حياته ومعنى للجلوس بين يديه ، فسيقصر الوصف عن حقيقة مذاق جلسة من تلك الجلسات التي كنّا نستكثر الزمن بينها وبين تاليتها - وإن لم يفصل سوى ساعات في بعض الأحايين - ونحن نُقَبِّل جبينه تقربا إلى الله عز وجل بتوقير ورثة الأنبياء - وهو يشيعنا عند باب داره ، وحتى يصل إلى باب سيارة أحدنا رغما عنّا ، أو وهو يتقهقر إلى مظلة باب الدار ويلوح لنا بيديه ، ووجه إلينا حتى ننصرف ! إذْ لم تُجْد محاولاتنا في إقناعه بالاكتفاء بالتوديع عند الباب حتى صرنا نقرِّب له حذاءه – دون علمه - لعلمنا بعزمه على السير معنا – ولو حافياً - حتى ننصرف !

كانت بداية صلتي بالشيخ رحمه الله في حضور خُطَبه وصلاة الجمعة خلفه في جامع الملك عبد العزيز رحمه الله الواقع بحي المربع من مدينة الرياض ، إذْ كنت أحضر في معية والدي – رحمه الله وجعل قبره روضة من رياض الجنة و أسكنه فسيح جنته - .. وكنا نخرج من خطبه بموعظة ممزوجة بالفقه والتأصيل والتربية مزجا عجيبا ترسِّخه نغمة الصوت الصادقة ، والعبرة الخاشعة ، والبكاء الذي لا تجدي محاولات الشيخ في كبته ! ومن يقرأ كتابه ( أحاديث الجمعة ) يجد فيها شيئا مما ذكرت ، ومن يستمع بعض تسجيلات خطبه يدرك كثيراً مما وصفت ، ومن حضر تلك الجُمع تذكّر أكثر مما أحاول استذكاره .. كان روّاد خُطبه نُخَبٌ مُتميِّزة من العلماء ، وأذكر منهم العلامة الجليل شيخ الحنابلة الشيخ / عبد الله بن عقيل ، والشيخ الجليل العلامة عبد الرحمن البراك حفظهما الله ، وأمَّا من يحضرها من طلبة العلم فقد لا أكون مبالغاً لو قلت : إنَّهم جلّ المصلين خلفه !

ثم شاء الله عز وجل أن نقترب من الشيخ أكثر ، إذ كنت أتصل به كثيراً لأعرض عليه بعض ما يشكل عليَّ من المسائل أثناء الدراسة ، ولا سيما فيما يتعلق بالتخصص ( السياسة الشرعية ) ، والشيخ على علم بهذا الفنّ ، بل قد مارس بعض مجالاته عملياً أثناء عمله في ديوان المظالم ، وكنت أجد أجوبة تدلّ على عمق علمي ، يستند فيها الشيخ إلى النصّ ويرعى فيها المقصد .. ولمّا رأيت من الشيخ انشراحاً ، عزمت وبعض زملائي على أنّ نتقدم إلى الشيخ بطلب دروس خاصّة في فنّ السياسة الشرعية ، فوجدنا منه ترحيباً عجيباً ، ولم نلبث أن حدّدنا الوقت والكتب ، وبدأنا القراءة على الشيخ .. فأنهينا عليه - بحمد الله – كتاب السياسة الشرعية ، للإمام أبي العبّاس ابن تيمية ، وكتاب : مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ، لأبي عبد الله البعلي ، والاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، لأبي الحسن البعلي ، وكتاب : الطرق الحكمية ، للعلامة ابن قيم الجوزية ، وكتباً أخرى موسمية ، وبعض البحوث العلمية ، إضافة إلى بعض الكتب التي بدأناها ولم ننهها ، بسبب اشتداد المرض عليه رحمه الله ، ورفع الله درجته وأجزل الله مثوبته ..

كان هذا الدرس خاصّاً ، فلم يكن يحضره سوى بعض الزملاء – ومنهم الآن القضاة والأساتذة الأكاديميون ، و والله لقد كنّا نجد الشيخ – أحياناً - واقفاً الباب ينتظرنا ! ويصرح لنا بمدى اهتمامه وحبه لهذا الدرس ! .. ومع ما يستفاد منه من التواضع والسمت الحسن ، كان مما يميز درس الشيخ – رحمه الله ورفع درجته وأجزل الله مثوبته – استحضاره السوابقَ القضائية والتاريخية ، مما له صلة بموضوع كثير من الدروس .. وهذا في حد ذاته ، مطلب أندر من الكبريت الأحمر كما يقال ..

وفي ظلال هذه الجلسات العلمية التي تعقد في مكتبة الشيخ المنزلية ، كان المجال خصباً للتعرّف على منهج الشيخ في البحث والترجيح ، والتطبيق الفقهي على الوقائع ..

فكان مما استفدناه منه في هذه الجلسات : أنَّ الشيخ - رحمه الله – لا يأبه بأي قول ليس له مستند من الكتاب والسنّة ، مهما كان قائله . وهذا من آثار تتلمذه على الشيخ ابن باز رحمه الله ! و كان يرى أنَّ ابن باز رحمه الله هو مجدِّد فقه الحديث في الجزيرة العربية ..

وحكى لنا – رحمه الله - بدايات اعتماده للأخذ بفقه أهل الحديث ، قائلاً : كنت أتردد على ورّاق بحي البطحاء بالرياض ، فوقع نظري ذات مرّة على كتاب : نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، للعلامة الشوكاني ، فلمّا تصفحته ، أُعجبت به كثيراً ، فاشتريته واقتنيته ، ومن ثمّ تأثرت بمنهجه في الاستدلال . وكان رحمه الله يحتفظ بنسخة من ( بلوغ المرام ، للحافظ ابن حجر رحمه الله ) عليها تعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله ، وتصحيحاته وتعقيباته ، وبعضها بخط الشيخ ابن باز رحمه الله ، وكان يخرجه لنا إذا ما عرض لنا حديث للشيخ ابن باز تعقيب عليه .. فقد كان يستذكر تلك الأحاديث من بين بقية الأحاديث ..

ومما استفدناه منه رحمه الله : أنَّ على طالب العلم أنّ لا يكون متذبذبا ، تتجاذبه الأقوال والآراء ، بل عليه أن لا يقبل قولاً إلا بحجة ، وإذا ثبت لديه القول بالحجة ، فلا ينتقل عنه إلا أن يتيقن حجة أقوى من حجته السابقة .. وكم في هذه الفائدة من فقه وعلم ..

ومما استفدناه من سيرته العطرة ، أنَّ على طالب العلم أن يلزم غرز العلماء الكبار ، ليعرف ما يأتي وما يذر ، فيحيى عن بيِّنة ، ولا يقع فريسة لكاتب هالك ، أو متعالم جاهل .. لقد كان الشيخ على صلة قوية بمشايخه ، وكان يلجأ بعد الله عز وجل إليهم .. ومنهم على سبيل المثال ، العلامة الجليل الفقيه الأصولي الكبير الشيخ : عبد الرزاق عفيفي رحمه الله .. فكان يشكو إليه بعض ما يعتب عليه أقرانه مما لم يدركوه من أمور الواقع ، فيجد من الشيخ عبد الرزاق رحمه الله عوناً له على الثبات وردّ الشبهات ..

ومما استفدناه منه رحمه الله : ما نصّه : " الأوامر التي تأتي على خلاف القاعدة ، لا تؤخذ على أنَّها قاعدة ، وإنَّما تؤخذ كما جاءت نادرة ، مثلاً : قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للطور والمرسلات والأعراف في المغرب ، التي الغالب فيها القراءة بقصار المفصّل ، فلا يؤخذ بالسنّة التي وردت على خلاف الغالب ، في الغالب ؛ أنّنا نكون عكسنا القاعدة " . قلت : كم أجرى بعض النّاس النادر مجرى الغالب ، فوجدنا من يقرأ الزلزلة في ركعتي الفجر في الأسبوع عدة مرات زاعماً اتَّباع السنّة ! ..

ومما يزيدك حباً للشيخ ، اهتمامه بالعلم الأصيل ، دون التعلق بالتوابع والاستكثار من الإجازات ، وما إليها ، وهي قاعدة قديمة عنده ، بل إنَّ من تطبيقاتها القديمة لديه – وقد ناقشته فيها لعدم تسليمي له بها - : أنَّه ختم القرآن على أحد القراء في المسجد النبوي ، فلما انتهى طلب منه المقريء أنّ يتبعه لداره ، ليكتب له الإجازة في قراءة حفص عن عاصم ، فأبى شيخنا ذلك ، وقد دُهش المقريء لمَّا قال له الشيخ : ما جئت للإجازة ، إنَّما جئتك لأضبط القراءة ! وإنَّما لم أسلِّم لشيخي بالامتناع عن الإجازة ، لأنَّ إجازات القرآن والقراءات ، لا زالت بعافية ولله الحمد ، فلا تُعطى إلا لمن يستحقها ، بخلاف غيرها ، وكتاب الله عز وجل ، لا يُتقنه من لم يأخذه من أفواه القراء المتقنين ..

قلت : وأمَّا ما وافقت شيخي فيه بهذا الشأن ، فهو مقت اللهث وراء الإجازات ، والانشغال بها عن العلم ، حتى رأيت من الطلبة من لا همّ له إلا هي ، يرحل ويضعن من أجلها ، ورأيت من يحضر بعض مجالس العرض في آخر جلسة ، ليسمع حديثاً واحداً أو لا يسمع شيئاً ، حتى يدوَّن اسمه فيمن حضر ! والله المستعان !

وأمَّا سعة أفق الشيخ وعنايته بشؤون الأمّة ، وحبِّه لجمع الشمل ، وتوحيد الكلمة ، وقدراته الدبلوماسية في هذا الشأن ، فشيء قد لا يخطر على البال ! ولو تركت لقلمي المجال ، لربما طال المقام وفاتت المناسبة دون أقدم لمحبيه عنه شيئاً ..

ولكن أكتفي بذكر طرفٍ - حرّج علينا الشيخ نشره في حياته – ليكشف لنا شيئاً من جهوده العملية في متابعة شؤون الأمّة التي لا تحدّها الأقاليم ..

مرّة كان الحديث في الدرس عن الشفاعة - فيما أظن – وأثناء القراءة ، ضحك الشيخ فلفت انتباهنا ، ثم سكت مبتسماً برهة ، ونحن نبادله الابتسامة نتحيّن ما بعدها ، وحينها أدرك الشيخ مبتغانا ، وكاد يعود بنا حيث وقفنا ، ولكن النّفوس قد تهيئت لأمر تردّد فيه الشيخ ، فلم ندعه حتى نطق ، فقصَّ علينا القصّة التالية ( أسوقها كما أتذكرها قدر المستطاع ) قال :

ذات مرّة اتصل بي الشيخ عبد العزيز ( يعني ابن باز - رحمه الله – وكان ابن باز حياً حين إخبارنا بالقصة ) بعد صلاة العصر ، وقال : يا شيخ عبد الله ! أريد أن تأتيني الآن ! فاتجهت إليه وأنا أُفكِّر : ماذا يريد الشيخ في هذا الوقت الذي هو وقت راحته في العادة .. ولما وصلت داره ، وجدته في انتظاري ، يترقب مجيئي إليه وبيده ظرف مغلق .. فرحب بي ثم سارَّني قائلاً : يا شيخ عبد الله ، تذْكِرتُك إلى باكستان جاهزة ، وأريد أن تسلِّم هذا الخطاب لأخينا ضياء الحق بنفسك ! .. وحكى لي قصة الظرف باختصار .. فحاولت أن أعتذر لبعض الأشغال الخاصة ، فلم يترك لي الشيخ مجالا ، وقال : استعن بالله ، وستجد الإخوة في انتظارك هناك ! .. قال : فجهزت نفسي وسافرت إلى هناك ، ولما وصلت مطار إسلام آباد ، وجدت جمعاً من الإخوة في استقبالي ، وسرنا إلى حيث كان الرئيس ضياء الحق رحمه الله ، ووجدنا ضياء الحق عند مدخل المبنى ، فاستقبلنا ورحب بنا ترحيبا قوياً ، ثم جلسنا وسلمته الخطاب ، فنظر فيه ، ثم قال : إن شاء الله .. إن شاء الله .. ولمَّا هممنا بالانصراف ، قال : بلّغ سلامنا للشيخ ابن باز .. وإن شاء الله يسمع ما يسره ( أو كلاماً نحو هذا ) . قال : وكان الشيخ قد قال لي : هذا الخطاب فيه شفاعة خاصّة في أخينا نجم الدين أربكان ، لعلّ الله ييسر له الخروج من السجن .. وكان نجم الدين أربكان – وفقه الله - قد سُجن حينها بأمر من الرئيس التركي الجنرال الهالك كنعان إيفرين - عليه من الله ما يستحق ..

قلنا : يا شيخ عبد الله ! وما علاقة ضياء الحق بالموضوع ؟ لماذا اختاره الشيخ ووجه له الرسالة ؟! قال : سألت الشيخ – يعني ابن باز - فقال : له به علاقة صداقة قديمة ! لعلّ الله ينفع به .. لعلّ الله ينفع به ..

ثم سألنا الشيخ جميعاً بصوت متقارب : هل كان لهذه الشفاعة أثر ؟ قال الشيخ : نعم لم نلبث حتى سمعنا خبر إطلاق سراح نجم الدين أربكان ، وما إن خرج حتى بدأ في تأسيس حزبه الإسلامي باسم جديد .

قلت : وأمَّا ما لم يذكره شيخنا عبد الله ابن قعود - رحمه الله - لنا أثناء سرده لهذه القصّة ، فهو : لماذا اختار شيخنا ابن باز شيخَنا ابن قعود لهذه المهمّة ؟ بل لماذا كان يختاره ممثلاً عنه في عدد من المهام الدقيقة ، والاستجابة للدعوات الخارجية الموجهة إليه من عدد من المؤتمرات الإسلامية ! بل لماذا أرسله لمناقشة مدعي النبوة في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي قصة أخرى عجيبة !

ولعلَّ مما يمكن اندراجه في الجواب : أنَّ شيخنا ابن قعود – رحمه الله ورفع درجته وأجزل الله مثوبته – سلفي حقيقة ، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، علم ، وفهم ، ومرونة شرعية على نهج المرسلين ، ذلَّة على المؤمنين وعزّة على الكافرين ..

لقد كان له عناية بالحركة الإسلامية في تركيا ، ذكر بعضها في محاضرة ألقاها في جامعة الملك سعود في حشد كبير من الأساتذة والطلاب والمهتمين تحت عنوان : ( الدعوات الإصلاحية وأثرها في المجتمع ) ، وله رحلات أجنبية عديدة حضر خلالها مؤتمرات دولية ولقاءات عامّة ، ووقف فيها على كثير من المواقف التي تتطلب مرونة شرعية يتقنها أيَّما إتقان ، مع ما وهبه الله عز وجل من خلق و معرفة بذوقيات التعامل الخارجي ورسمياته . حتى في طريقة أداء العبادة في بعض الأحوال : ومن ذلك أنَّه كان بصحبة أحد المبتعثين في الولايات المتحدة الأمريكية ، فحان وقت صلاة العصر ، وكانوا في أحد المطارات الأمريكية الدولية ، فسارّه الطالب المبتعث : يا شيخ حان وقت الصلاة ، وأريد أن أرفع صوتي بالأذان ؟ فردًَّ الشيخ : لا .. ثم بدأ الشيخ مباشرة يؤذن بصوت عادي - كأنما يحدثني - ونحن نسير ، نحو الصالة الأخرى لنطير منها إلى المطار المحلي ، ثم قال لي : لا ضرورة لرفع الصوت .. الحمد لله الدين يسر .. هذا قد يضرّ ، ونحن اثنان .. أو كلاماً نحو هذا ..

أتذكر هذه القصّة ، ونحوها من قصص علمائنا الذين نشأوا في طاعة الله بالعبادة وطلب العلم ، و ابيضّت لحاهم في ذلك غير محرِّفين ولا منْحرفين ولا مغَيِّرين .. وأتذاكرها أحياناً مع الزملاء الذين أشرت إليهم ، فلا ينتهي عجبُنا من الشيخ ، ومعرفته بدقائق من الواقع العالمي ، لا يعرفها كثيرون من أصحاب الشأن ، وقد سألت عددا من الأكاديميين العسكريين عن علاقة ضياء الحق بكنعان إيفرين من الناحية التاريخية ، فقال لي بعضهم : كان الضبّاط الباكستانيون يَتَخَرَّجون في الكليات العسكرية التركية ! .. وهل في هذا جواب يُفسِّر الواقعة ، أو أنَّ جوابها في غيره ؟! الله أعلم ..

كما لا ينتهي عجبُنا من نابتة لا تعرف قدر علمائنا الكبار ، وتظنّ أنَّهم لا يدركون من أمر الواقع إلا دون ما هم يدركون ..

ولا ينتهي عجبنا كذلك من فئة تظنّ أنَّ علماء الأمة لا حقَّ لهم في الاهتمام بأمر المسلمين ، فما شأن أهل الآخرة بأهل الدنيا ، وكأنَّ علماءنا لم يبطلوا العلمانية من جذورها ، ويُفنَّدوا مقالات دعاتها من أساسها ..

ثم عجبنا ممن يزعمون الثقافة ويتزعمونها – رغماً عنها – ثم هم يحاولون التنقّص من كبار العلماء مباشرة أو من خلال النيل من المؤسسات الشرعية التي ولَّاهم عليها ولاة أمرنا - وفقهم الله لما يرضيه – وكأنَّهم أوصياء حتى على الشريعة التي لم يتخصصوا فيها ! فتجدهم ينقدون الفتاوى ، ويسيؤون فهم النصوص ، بل إنَّهم لا يحسنون قراءة بيانات أهل العلم في الأمور العامة التي يرون وجوب بيانها للنّاس ، نصحاً للأمَّة ، وحذراً من كتم العلم ، ودرءاً لما يُتَوَقَّع من الفتن .

وترد على خاطري خواطر من المشهد الإعلامي - الذي يفتقد الشرعية النظامية بمخالفة كثير من مواد السياسة الإعلامية - حول هذا المعنى ، منها :

هل هذا التحصيل العلمي ، والفقه الشرعي ، والوعي الدعوي ، ووقار المشيخة ، وتجربة السنين ، هل هذا كلّه هو الألم الذي يستنطق الأعداء بالخوف والتخوف والتنادي لحصار الخير الذي بلغ الآفاق ؟ وهل جيل الصحوة الذي ينقاد للعلماء - امتثالاً لأمر الله عز وجل - أشدّ رهبة في صدورهم من الله ؟ وهل هؤلاء قوم يفقهون ! لنجد أي سندٍ لما يتقوّلون ؟ .. وأنا في خضم هذه الأفكار .. أتذكر بعض آي الكتاب ، فأجدني أردَّد قول الله عز وجل : {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ }الحشر13 .

كتبه تلميذه / سعد بن مطر العتيبي
8/9/1426
الرياض

---------------------------
[1] ولعلّ في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ما يكشف بعضَه ، ومما يحال إليه لمن شاء شيئاً من ذلك الكتاب الموسوم بـ : ( مجموع رسائل ومقالات الشيخ عبد الله بن حسن آل قعود ، عناية الشيخ : عبد الله بن سليمان بن عبد الله آل مهنا ) .

 


في رثاء الشيخ عبد الله بن قعود
بقلم د. م. حبيب بن مصطفى زين العابدين


انتقل إلى رحمة الله فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن حسن بن قعود وكنت قد تعرفت عليه منذ أكثر من ثلاثين عاماً في المسجد الذي كان يخطب فيه الجمعة وكنت يوم ذاك مهندساً مبتدئاً أسكن في شارع الوشم بجانب هذا المسجد وقد عدت لتوي من المانيا بعد انهاء دراستي وكان رحمه الله عضواً في هيئة كبار العلماء وأحد أعضاء هيئة الافتاء بالمملكة.. اعجبت بخطبه جرأته في الحق فذهبت إليه وزميل لي لنتعرف عليه في المسجد ودعانا إلى داره فوجدنا فيه الشيخ الواعي المتفتح المتواضع الحنون ونشأت بين مهندس مبتدئ من أهل مكة المكرمة وشيخ جليل من أهل قرية الحريق صداقة واخوة ومحبة لا لمنطقة ولا لجيل ولا لعصبية ولا لمصلحة انما لله وحده. لقد كان الشيخ عبدالله بن حسن بن قعود لمن عرفه فريداً من نوعه متميزاً في قول كلمة الحق لا يخاف في الله لومة لائم متميزاً في علمه وفتاويه جمع بين الأصالة والمعاصرة وتميز باهتمامه بالشباب ورحابة صدره لأسئلتهم ومناقشاتهم وهو متفرد على كثير من العلماء بأخوته للجميع ومحبته للصغير والكبير وتواضعه الجم الذي ساعده على أن يسكن القلوب ويتربع عليها.
لقد كانت خطبه - أسكنه الله فسيح جناته - قد لا تشتمل على الكثير من الفلسفات أو الإطالة والمماحكة وربما لو قرأتها قد لا تتأثر بها كثيراً كما لو سمعتها منه مباشرة بروحه وتفاعله وبكائه الذي يضفيه عليها.. وقل ان سمعت منه خطبة لم يبك فيها.. لقد كان - طيب الله ثراه - يستدل بالآيات والأحاديث ويشير إلى المراجع التي تؤيد رأيه ناقلاً إلى المأمومين صفحات نيرة من أقوال الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية والشيخ محمد بن عبدالوهاب والشيخ عبداللطيف آل الشيخ وغيرهم ذاكراً أسماء الكتب وأرقام الصفحات رحمهم الله جميعاً.
ربما يقول قائل كيف عرفت الشيخ ومن أين لك بكل هذه الشهادات له ولهم أقول لقد صحبت الشيخ في أسفار عدة وجلست إليه نقرأ التفسير في كتب عدة في مسجده بالشميسي القديم مثل ابن كثير وسيد قطب وكان من القلائل الذين أنصفوا سيد قطب وفهموا تفسيره على حقيقته.. وكان يراجع حفظه القرآن الكريم معنا ونستمع إليه حتى نفطر سوياً بالمسجد الحرام في العشر الأواخر من رمضان.. ومن كثرة مصاحبتي للشيخ كان بعض معارفنا يقول حبيب ظل الشيخ عبدالله واعتبرت أحد تلامذته وتشرفت بذلك. يقول فيه أحد العلماء الأفاضل إن مثله وغيره من العلماء الربانيين مثل الجزر المضيئة في بحور الظلمات.. إن مناقب الشيخ عبدالله بن قعود يصعب أن يحيط بها مقال أو كتاب ولكنه غيض من فيض. بعض الوفاء لشيخنا في زمان قل أن يقدر فيه العلماء الربانيون كما يقدر فيه أهل الفن والغناء والثروة والجاه.
قبل يومين من وفاة الشيخ هاتفت زميلي الذي تعرف بالشيخ معي أول مرة في المسجد وهو يسكن الآن في جدة وقلت له نحن أصدقاء عاقون وجاحدون إذ انقضت مدة طويلة ولم نزر فيها شيخنا المريض فاستجاب جزاه الله خيراً وحضر إلى الرياض ووقفنا عند سرير العالم الجليل. يا ربنا ليس لنا من أعمال صالحة نتوسل بها إليك هذا شيخنا أحبنا فيك محبة خالصة لا لشيء إلا لوجهك الكريم وأحببناه فيك محبة خالصة اللهم بهذه المحبة والاخوة فيك التي تظل بها العبيد في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ولا باق إلا وجهك الكريم. اللهم فرج همه ونفس كربه واشفه من مرضه بالصالحات من عمله، إلى آخر ما يسره الله لنا من دعاء له.
بعد أقل من يومين اتصل بي ابنه البار محمد يبلغني فاجعة موته - رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه الدرجات العلا من الجنة آمين. اللهم اجعل ابنه محمداً واخوانه واخواته وأحفاده خير خلف لخير سلف.
تُرى هل كان في دعائي نصيب من تفريج هم الشيخ وتنفيس كربه وشفائه من مرضه؟ أرجو ذلك من الله فقد انتقل من كل ذلك إلى الرفيق الأعلى وما عند الله خير وأبقى. اللهم ارحم الشيخ عبدالله بن قعود واجمعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.
إنا لله وإنا إليه راجعون.

 


ترجمة فضيلة العلامة الشيخ عبد الله بن قعود  .. رحمه الله
 

تراجـم الدعـاة

  • ترجمة العلماء والدعاة
  • عناوين المشايخ
  • ملتقى الدعاة
  • ملتقى الداعيات
  • الصفحة الرئيسية