بسم الله الرحمن الرحيم

نبض القلم
أبو مهند القمري

 

1 - نبضة قلم .
2 - الحريصون على الانخداع .
3 - يقلبها كيف يشاء .
4 - الصدق منجاة .
5 - لكن لا زلت أملك قلباً .
6 - ثم عد إليه فإنه معيار لا يكذبك أبداً .
7 - خطورة عبور دار الغرور .

8 - مفترق الطريق .
9 - التمايع مع الحق .
10 - كيف ترخص لديك الدنيا ؟
11 - ونجعلهم الوارثين .
12 - خراب العمران ، أم عمران الخراب ؟
13 - على من ستدور الدائرة ؟
14 - علام تكون الحسرة ؟

15 - واحترقت منا القلوب يا شيخ !
16- مستقبل الإبادة . . هو الحل !!

17- إنّه الدرس.. ومنه تبدأ رحلة العودة !!
18- فلنلتحف بالألغام
19-  بأي المصطلحين تحيا ؟!
20- إعادة صياغة قبل الافتتان

نبضــــــةُ قلمٍ

شعرت بالخوف ذات يوم ، فأخذت أبحث عن أسباب الأمان هنا وهناك ، حتى أصرف عني نفسي ما ألمّ بها من هواجس الخوف والاضطراب ، فأمسكت بمجلة كانت بجواري ، وأخذت أقلب بين صفحاتها ؛ لعل ذلك يزيل ما نزل بنفسي من الضيق والاكتئاب ، غير أن إحساسي بالخوف والقلق تزايد بشكل كاد ينخلع معه قلبي فسارعت بفتح جهاز التلفاز ؛ لعلي أجد بين قنواته ما يصرف عني نفسي شعورها بهذا الجحيم ، إلا أن هذا الشعور تعاظم ؛ حتى أضحى كالشبح الذي أخذ يتهيأ ؛ كي ما يجثم على صدري ، وحيينها نهضت مسرعاً نحو كتاب ربي ، أفتح دفتيه بلهفة اللاهث ؛ أبحث فيه عن النجاة مما ألمّ بي ، وما كاد لساني يلهج بذكر الله تعالى تالياً أولى آياته ؛ حتى فاضت من عيني دمعة ! !
فسألتها : ماذا وراءك أيتها الدمعة ؟!
فأجابتني وهي تسيل حارةً على مدمعي : لقد طالت الوحشة بينك وبين ربك ، ومنذ سنوات وأنت لم تقرب القرآن ؛ حتى جفّ لسانك عن ذكر الله ، وأصاب قلبك ما أصابه من القسوة والغلظة !!
فأجبتها متأسفاً على حالي : لقد جرفتني مشاغل الحياة ، فماذا أفعل ؟!
فقالت : إن حياتك وموتك ، وسعادتك ورزقك ، كلها بيد الله ، فلماذا تذهب بعيداً أيها المسكين ، وتلهث وراء السراب ؟ لقد خُدعت بطول الأمل ، الذي صرفك بالفعل عن خير العمل ، وغداً ستقدم على ربك فيحاسب على ما فات ، فماذا ستغني عنك الدنيا بأسرها ؟!
إن فوزك وسعادتك الحقيقية أن تغتنم فرصة حياتك في القرب من الله ، فبقربه ستشعر بالأمان ، وسوف تهنأ لك الحياة بكل ما فيها ، فإذا ما أنعم الله عليك ، واستشعرت لذة الطاعة بحقٍ ، فإن معنى السعادة حينئذ قد جمع بين يديك حين تستشعر أن الدنيا قد حيزت لك بأسرها ، متمثلةً في شعورك بالأمان على الحاضر ، وشوقك إلى ذروة النعيم في ما عند الله من النعيم في روضات الجنان ، فلماذا تحرم نفسك من عظيم هذا الخير يا مسكين بمتاع قصير ، سريع الزوال ؟!
ارجع إلى ربك . . وكن على يقين أنه أرحم بك من الوالدة بولدها ، بل إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده ، ويباهي بها ملائكته وهو الغني عنه ! ! فاجعل من لحظتك هذه بداية الطريق نحو النجاة ، وتأكد من أننا سـوف نلتقي مرة أخرى بل مرات ؛ حين تقر عينيك برؤية وجه ربك ذو الجلال والإكرام في أعالي الجنان .
وحيينها . . سوف تنحدر على مدمعك دمعةٌ . . بل دمعات ، ولكنها وقتئذٍ ستكون دموع الفرح بلقاء مولاك ثم ودعتني وهي تلوح قائلةً :
" عينان لا تمسهما النار . . منهما .. عين بكت من خشية الله "


الحريصون على الانخداع

هي بوتقةٌ صغيرةٌ ، لكنّ من بداخلها يراها كبيرة عظيمةَ الخطرِ ، يكاد يضلّ طريقه بينها من كثرة شعابها وشدة اتساعها ، ولكن عليه أن يبحث ، ويظل يجتهد في البحث ؛ حتى يدرك مكاناً له بين هذه الجموع الغفيرة المتشبثة بتلك الرحى التي أخذت تدور ويشتد دورانها ، وكل متشبثٍ يأمل في الحصول منها على قمحةٍ أو قمحتين !! تبدأ بهم من مكانٍ . . سرعان ما تعود بهم إلى نفس المكان !! وهم غارقون في الوهم ، كلٌّ يمني نفسه بأنه قطع مسافاتٍ بعيدة ولا بأس من المعاناة بمواصلة السعي ؛ حتى يلتقط منها قمحة أو قمحتين !!
وما هي إلا لحظات ، حتى تعاود الرحى دورانها ؛ فيسقط من يسقط ، ويثبت من تشبث بالحياة ، حتى إذا ما عادت بهم من حيث بدأت ؛ هام كلٌ منهم في خياله ، وظن أنه سار إلى مسافاتٍ يعجز الخيال عن وصف بعدها وهاهو قد صار قاب قوسين أو أدنى من أن يلتقط منها قمحة أو قمحتين !!
وتدور الرحى ، وتشتد في الدوران ؛ حتى يسقط كل من كان عليها ؛ دون الحصول على أي شيء ! !

لقد قتلهم الانخداع ، أو قتلوا أنفسهم به ! !

تماماً كما هو الحال في واقع حياتنا ! ! فالكل منّا يدور مع رحى العيش ، يمنيه طول الأمل بجمع طائل الثروات والعيش في ظلالها منعماً مكرماً ، ويظل يسعى وراء حلمه الوادع ؛ لاهثاً بذلك وراء السراب ! !
حتى يسقط فجأة ، ودون أي مقدمات في أكفان ملك الموت الذي لايمهل ولا يتأخر ، فيفجعه ذلك السقوط المباغت ، الذي بدد أحلامه الوردية ، وأحالها هباءً كالسراب ؛ وتحتم عليه معاينة ما غفل عنه من هول يوم المحشر وحيينها يستيقن أن أحلامه الوردية وآماله العريضة ؛ قد أضاعت عليه أيام عمره دونما أدنى شعور ، بل وكانت بالفعل كالسم الزعاف الذي جرعته له بزيف أمانيها وسم خداعها ، وهو يبتسم على أمل الوصول إلى تلك الأماني التي أفاق منها على مثل هذه النهاية المفجعة !
إنه نفس المسلسل المؤلم الذي لم يسأمه البشر ، ولم يستفيدوا مما فيه من حقائق مفجعة ، بل ظلوا يكررونه ويمعنون في تكراره ؛ حتى سقطوا جميعاً من على الرحى ، ومن بقي منهم الآن ، لا يزال مهددًا بملاقاة نفس المصير إلا أن يعقل آيةً واحدةً من كتاب الله ، عقلها قبله الصالحون فكانوا لها من الموقنين ؛ حتى صاروا بها من الناجين قال تعالى : ( يا أيها الناس إن وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور )
وأخيراً ، ليكن تشبثنا بكتاب ربنا خلال دوران الرحى ؛ حتى لا نهلك مع الهالكين ، وحتى يمن الله علينا بتجاوز الصراط يوم الدين ، فنكون بذلك أسعد الخلائق أجمعين ، فربنا . . هو أكرم الأكرمين .


يقـلبـــــــــــــــــها كيف يشاء

على رسلك أيها العابد . . فدموعك لا زالت تبلل موضع السجدات ، ولكن تمهل ، فمن قبلك قد تفطرت قدماه من القيام بين يدي مولاه ، وهو الذي قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ! !
فهل ضمنت أن الله قد غفر لك ذنباً واحداً ؟ ! تمهل ولا ترميني بسهام الاتهام بتقنيطك من رحمة الله ، ولكنني أخشى عليك فقط من هذا الشبح المتربص في الخفاء ، والذي أخذ يتهيأ كي ما يجثم على صدرك بمجرد فراغك من تلك الركعات ، إنه شبح العجب والخيلاء ، سوف يستقبلك بابتسامته العريضة قائلا :
( هنيئاً لك أيها العابد على هذه الدموع الحارة ، إنك بحقٍ سيد العباد ) !!
وما هي إلا لحظاتٍ حتى يلقي عليك ثوباً من الوهم والخيلاء ، سوف تستشعر معه علو مكانتك ، وتزهو معه بصدق عبادتك ، حتى تنتفخ منك الجوانب ، وتشعر ألا أحدٌ على الأرض مثلك ! !
وحينها ترقب يا مسكين نازلة تصيبك في دينك ، لتعرف معها قدرك ، و تخشى على ثواب عملك من الضياع فكن على حذر من العجب والخيلاء على أيةِ حالِ :
فإنك إن كنت عابداً
==>  أحبط ثواب عبادتك ، وأغلق عليك باب الازدياد .
أو إن كنت متصدقاً
==> أذهب أجر صدقتك ، وجعلك ممتنا على الله بما أعطاك من الزاد .
وإن كنت متواضعاً
==> غرس في قلبك بذرة الكبر ، وحرمك رفعة رب العباد .
وإن كنت عالمــًا
==> ألقى في أمنيتك الغرور ، وجعل فتنتك عبرة للعباد .
وإن كنت قويــًا
==> دفعك إلى التعدي ، ومن يتعدَ ، كان له ربه بالمرصاد .
وإن كنت ذا سلطةٍ
==> أصابك بجنون العظمة ، فتستوجب عليك نقمة رب العباد

وعليك أن تتذكر دائماً أن الأمر كله بيد الله ، وأن توفيق العبد للطاعة ، إنما هو محضُ فضلٍ من الله عليه
وأنه فقيرٌ دوماً لفضلِ اللهِ ورحمتِهِ ، وأنه إذا حُرم الطاعة ، فإنما ذاك بعدل الله الذي لا يظلم الناس شيئاً
ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، من كثرة ما يذنبون ، فتأسف على حالك ، ولا تبرح التذلل عند باب الكريم

حتى يتغمدك بواسع فضله العظيم
فيبدل حالك إلى خير حال
إنه سبحانه جواد كريم
وهو حسبنا ونعم الوكيل .


الصــــــدقُ منجـــــاةٌ

اغفل أو لا تغفل ، فمصيرك للمواجهة لا محالة ، ولكن شتان بين أن تباغتك المواجهة حال غفلتك وعصيانك ، وبين أن تأتيك حال يقظتك واستعدادك ، فالآمر بك إلى الجنة أو النار هو الله الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه ، فعليك أن تقتطف ثمرة أيام عمرك بيديك ، وأنت موقوفٌ بين يدي علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية ، وذلك بعد فترة إمهالٍ دامت لك ؛ لعلك تسعى لعمار آخرتك بلحظات أيامك القليلة ؛ غير أنك آثرت مسايرة ركب الغافلين عن مواجهة الحقيقة الواقعة _ ولو بعد حين _ فعشت أيام حياتك واهماً ، حتى أيقظتك يد المنية متحسراً ، ففاتك من الخير ما الله به عليم ، فهيهات أن يجدي منك الندم ، أو تنفع الحسرة !!
فهلا سألت نفسك : أين أنتِ من الصدق مع الله فيما تبقى من فرصة هذه الحياة ؟!
فبالصدق ترجع ، وبالصدق تتوب ، وبالصدق تدنو من رحاب الله ؛ فتحظى برعاية الله في دنياك وبالنجاة في أُخراك . . .
إن قوماً عرفوا حقيقة ما ينتظرهم من وعد الله ووعيده ؛ فعاشوا أيام حياتهم مشفقين ، ومن حساب ربهم وجلين ؛ فأمنّهم الله يوم تفزع الخلائق أجمعين ، وأظلهم بظل عرشه يوم الدين ؛ فكان الفلاح حليفهم ، والفوز بالجنة مآلهم ، لأنهم بادروا في دنياهم بمفارقة ركب الغافلين ؛ فسلك الله بهم طريق الصالحين ، فاحرص أن تكون في زمرتهم يوم يجمع الله الأولين والآخرين

ويحاسبهم بالذر على ما كانوا فيه مفرطين
فتلُهب الحسرةُ قلوبَ الغافلين
وتعم الفرحةُ قلوبَ المؤمنين
وحينها يُعلن على رؤوس الخلائق أجمعين
أن قُطع دابرُ القوم الذين ظلموا
والحمد لله رب العالمين


لكن . . لا زلت أملكُ قلباً

سبعةٌ وثلاثون عاماً قضيتها على ظهر هذه الحياة . . ليس لي فيها أي معلمٍ من المعالم سوى رحمة الله التي بها حُفظت في بطن أمي ، وبها خرجت إلى هذه الدنيا ، وبها انتقلت من طور الطفولة إلى طور الشباب ، ثم ها أنا الآن على مشارف طور الشيخوخة التي يعقبها لقاء الله لا محالة ، ولعله قد آن الأوان لكي أسأل نفسي :
ما العمل الذي سألقى به ربي ؛ فينجيني يوم يفزع الأنبياء ، وتُصعق الملائكة ؟!
من خلال سردٍ سريع لأيام حياتي الخالية ، لن أجد من الأعمال ما يؤهلني إلا إلى الإلحاح على الله في الدعاء بأن يُفنيني فلا يَبعثني تارةً أخرى ؛ حتى لا يُؤاخذني بما كان من فرط الذنوب والآثام !!
إلا أن أمراً مقضياً قد سبق من الله ببعث الخلائق للحساب ، فلا مفرّ منه ولا عتاب ، ولم يبق أمامي فيما بقي من أيام حياتي ، أو عند دخول قبري ، وعند نصب الموازين لحسابي ، إلا رجاء رحمة الله ، مراتٍ أخرى ومرات . فأنا أعرفها جيداً . . فهي هذه التي لم يحرمني الله بها رزقاً رغم انغماسي في المعاصي والشهوات ، وهي هذه التي ستر الله بها عليَّ يوم أن كنت أبالغُ في اقتراف الزلات ، وهي هذه التي أنجاني الله بها من كيد الماكرين والأوغاد إنّ أيَّ معنىً لحياتي يفتقد مضمونه وجوهره ؛ إذا ما افتقدت معنى هذه الرحمة ، وإنًّ يوماً أقضيه دون ما استشعارٍ لهذه الرحمة ؛ فليس من عمري ولا أعرفه ، وإنما أعرف فقط المعنى الحقيقي للضعف والذِّلة والمهانة ، فبالبعد عن هذه الرحمة أوشك على الهلاك ، وبالبعد عن هذه الرحمة أصبح فريسةً لكل العباد ، وبالبعد عن هذه الرحمة أُسلب معنى الحياة ، إلا أنني برغم ذلك ، لا آمن على نفسي أن أُسلب هذه الرحمة لفرط زللي ، و لإسرافي في أمري فهذه الرحمة ، قد جعلها الله قريبةً من المحسنين _ ولست منهم _ فأنّى لي أن أطمع فيها ، ولست من أهلها ؟!
أم كيف لي أن أتجرأ على الله بسؤال نصرته ، وقد نكصت عن نصرة دينه ؟
إنّ كافة الأسباب قد سلبتها من نفسي بنفسي ، ولكن يبقى الأمر من الله بعدم القنوط من رحمته ، هو عزائي الوحيد فيما تبقى لي من أيام عمري ، فبأمرك يا رب لن أقنط من رحمتك على الرغم من معصيتي !!
وبأمرك يا رب سأظل واقفاً بابك وإن طردتني لسوء فعلي !!
فأنت الذي علمتني استشعار معنى هذه الرحمة ، وأنت الذي جعلت مستقرها في قلبي ، فجُد عليَّ بعفوك ومغفرتك ، وأصلح لي ما بقي من عمري ، واغفر لي يا مولاي ما كان من ذنبي ، فبرغم غفلتي ومعصيتي . . .

إلا أنني لا زلت أملك قلباً ؛ فلا تعذبني . .


ثم عُد إليه . . فإنه معيارٌ لا يكذبك أبداً

الصدق مع الله منجاة من النفاق الذي به كرب الدنيا وعذاب الآخرة، والطريق إلى الصدق الذي لا يشوبه كذب أو نفاق، لا يكون إلا من خلال الإخلاص لله تعالى في السر والعلن، وفي القول والعمل؛ حتى يستقيم حالك على أمر الله، فإذا ما داهمتك الفتن، واشتدت عليك الأمور، وأضحى كل من حولك يعينك على الغفلة، وعز عليك أن تجد من يعينك على طاعة الله تعالى، فاجعل نصب عينيك لحظة نزولك إلى قبرك، ونفاد آخر أنفاسك من عمرك، وإقبالك على أولى منازل آخرتك، فإن فيها من الأهوال والشدائد ما يعجز الوصف عن بيانها، ولتكن هي زادك الذي لا يفارقك أبداً، إذ ستكون بعد تلك اللحظة أسير عملك، دفين قبرك، تراب الأقدام من حولك، ولن تنفعك عندئذٍ العبرات وإن جرت من عيونك الأنهار، ولن يجدي منك الندم؛ ولو تهدمت من نحيبك الجدران، إنها لحظة المفاصلة بين العمل والحساب، ولا يهلك على الله إلا هالك، فاحرص أن تكون من عباده الناجين، لا من عباده الغافلين الهالكين، وتذكر تلك اللحظة كلما همت نفسك أن توردك موارد الهالكين، واعلم أن سكرة المعصية وإن أغفلتك، فإنها ستنكشف عنك حتماً بالموت، بعدما تكون قد أبعدتك وأهلكتك، فلا تستمرئ سكرتها، وانظر في مغبتها، فإنها متاع زائل، سوف يودي بك إلى عذاب دائم، وإذا ما أردت حقيقة الصدق مع الله؛ فتوهم نفسك قبل كل قول أو فعل أو عمل، ملاقٍ الله بعده على الفور، فإذا ما تذكرت ذلك؛ لم ترض لنفسك أن يختم لك بخاتمة السوء، وإنما سوف تحسن في هذا القول أو ذاك الفعل أو هاك العمل؛ كي يرزقك الله حسن الخاتمة؛ فتفوز بسعادة الدارين .
إنه
معيار الموت الذي لا يحتمل الهزل أو النفاق؛ لأن ما وراءه جدٌ لا هزل فيه، وحقيقةٌ لا خداع فيها، إنه يوم الفصل، ويوم الحاقة، ويوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين !!
وهو قادم قادم لا محالة، مهما غفل عنه الغافلون، ومهما بالغ في نكرانه الجاحدون، فهو وقعٌ صداه فريق في الجنة وفريق في السعير، وميعادٌ سيسفر لا محالة عن أحوال الناس، فمنهم شقي وسعيد، فاجعل هذا اليوم معيارك في جميع أعمالك، وعد إليه كلما التبست عليك الأمور . . .
فإنك لن تضل معه بإذن الله أبداً
وذلك لأنه معيارٌ لا يكذبك أبـــداً .


خطورة عبور دار الغرور

كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ، والموت علامة النهاية لفرصة الحياة التي وهبها الله لعباده فإما أن يأتي العبد مصحوباً بعمل صالح ؛ فتكون بذلك سعادته الأبدية التي لا يشقى بعدها أبداً ، وإما أن يأتيه حال فتنته ، وانغماسه في الشهوات والغفلات ؛ فتكون بذلك الطامة والمهلكة بعينها ؛ إذ لا رجوع إلى الدنيا أبداً ولا نجاة من فتنة القبر أبداً ، ولا فرار من هول يوم المحشر أبداً ، إنما هي فقط المساءلة التي لا يجدي معها الاعتذار ولا ينفع معها الندم على ما كان من الإصرار ، إنها قصــة هذه الحياة التي عقلها قبلنا الصالحون فكانوا لها من المعتبرين ، بينما غفل عن عظتها الغافلون ؛ فكانوا على ذلك من النادمين ، وعن دار النعيم مبعدين ، ومن رحمة الله محرومين ؛ وذلك لأنهم ظنوا دنياهم دار مقر ، لا دار ممر ؛ سوف يعبرون منها إما إلى جنة وإما إلى نار ؛ فلما جهلوا حقيقتها ؛ خلدوا إليها ، واطمئنوا بها ، حتى أذاقتهم من ويلاتها ، فلم تعافهم حتى من غدرها ؛ إلى أن انتهت بهم رحلة الأيام ، وانقضت من آجالهم الأعوام ؛ فوجدوا أنفسهم في مواجهة صريحة مع هول الحساب الذي لم يحسبوا له أي حساب ، وفي عمق فتنة القبور التي أغفلتهم عنها سعة الدور والقصور ، وحيينها أيقنوا أنهم ما عاشوا إلا دار غرور ، كان عليهم أن يتزودا فيها لدار النشور ليكون عبورهم لها خير عبور ؛ وذلك لأن هذه الدنيا خدّاعة لأهلها ببريق زيفها ، حتى إذا ما أجهزت عليهم وأنفدت منهم أنفاسهم ؛ تحشرجت في الحلقوم آمالهم وأحلامهم التي زينتها لهم ، فلا الآمال منها طالوا ، ولا الأحلام فيها حققوا ، ولا إلى الدار التي رحلوا إليها تجهزوا !!
فكانت عليهم الحسرة مضاعفة ؛ بفقدان الدنيا وضياع الآخرة ، وهنا تكمن الخطورة في أن يبقى العبد غافلاً لاهياً ، تستشرفه الدنيا ببريقها ؛ حتى يهون عليه أمر آخرته ؛ فيسوف فيها تمام التسويف ؛ حتى إذا ما اطمأن إليها وركن لها ؛ صرعته يد المنية في لحظة مباغتة ؛ فأفلت منه ما كان حريصاً عليه ، وأقبل عليه ما كان مفرّطاً فيه دون أدنى استعداد منه لمواجهة السؤال عن ذاك الحرص أو هذا التفريط ، فكان الضياع حليفه ، والخوف والهلع زاده ، ووحشة القبر مستقره ، وساحات القيامة معرض فضيحته ، وسؤال الله محكمته التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وآخذته عليها ؛ حتى يؤذن به إلى هلاك لا سبيل للفرار منه أبداً ، وإلى عذاب لا سبيل لوصفه أبداً ومنبت ذلك كله ؛ أنه لم يحترز من الفتن خلال أيام الزهو والغرور ، وإنما تمادى في سبل الغي والشرور ، فكان نصيبه العذاب والثبور ، وهكذا أخفق في عبور دار الغرور ، فشمروا عن ساعد الجد ، كي تحظوا بنعيم الخلد فإنما هي ساعة نقضيها في هذه الدار
ولكن عاقبتها . . . . إما إلى جنة ، وإما إلى نار .


مفــترق الطـــــريق . . .

أن تطابق تصرفاتك قناعتك الشخصية على ضوء من مرضاة الله تعالى ؛ فأنت في مأمن من النفاق ؛ طالما أنك تتحرى الصدق مع الله تعالى في القول والعمل ، أما إذا ما كانت تصرفاتك مغايرة لقناعتك ، وحاولت تسويغ ذلك لنفسك _ بشيء من الخداع _ بموافقة تلك التصرفات لمرضاة الله تعالى ؛ فقد وضعت نفسك على بداية طريق النفاق الذي به هلاك الدنيا وعذاب الآخرة ؛ وذلك لأن النفس تهوى دون قيد أو شرط ، والمسلم الصادق هو الذي يروض هوى نفسه ويقيده وفقاً لمرضاة الله تعالى ، إذ أن الفتن لا تعد ولا تحصى ، وإذا ترك العبد لنفسه الحبل على غاربه ؛ أهلكته منذ الوهلة الأولى مع الهالكين ، إلا أن عناية الله تعالى ، ورحمته بعبده تحول بينه وبين إهلاك نفسه بين الحين والحين ، وذلك بإيقاظ ضميره تارةً ، أو بالحيلولة دون تحقيق رغبته تارةً أخرى ، أو بتقدير شتى ألطاف الله به ؛ حتى ينجو العبد من كثير من المهلكات ، إلا أنه ينبغي على العبد أيضاً ألا يترك نفسه هملاً دون محاسبة أو مراقبة ؛ خشية أن يصل به الحال إلى حد ألا يبالي الله به في أي أودية العذاب هلك ، وذلك لأن الله يرحم ولا يظلم ؛ ويمهل ولا يهمل ؛ فمن أغرته رحمة الله بالتمادي في المزيد من الموبقات أيقظته عدالة الله بنيل شيء من العقاب ؛ لعل ذلك يردعه ، أو يرجعه لجادة الصواب ، ولا يهلك على الله إلا هالك ، لذا كانت مراقبة النفس ومحاسبتها ، خير سبيل لتزكيتها ، ونجاتها في آخرتها ، قال تعالى :
" ولمن خاف مقام ربه جنتان " أما من أظلم بالمعصية حياته ؛ فأعرض عن مولاه ؛ ولم يعد يأمل في رحمته ولا يعبأ بما ينتظره من عقابه ، فقد حكم على نفسه حكماً قاسياً ، لا يعلم مدى فداحة جرمه إلا الله سبحانه إذ أنه حكمٌ لا يقضي بضياع حياته فحسب ؛ وإنما بهلاك آخرته ودمارها ، في الوقت الذي يُعتبر هو فيه كالسكران الذي لا يدري ما اقترفت يداه من سفاهات مدمرة ، وأعمال موبقة ، إنه نفس المسلسل المؤلم الذي يتجرعه دوماً الغافلون ، حين تسكرهم الدنيا بأمانيها ، فتصرعهم يد المنية بمباغتتها ، فينتبهون على الحساب ، وقد مضت فسحة العتاب ، وصار محتماً في حقهم العذاب ، فلم تسعفهم أمانيهم ، ولم يدر كهم طول أملهم ؛ وكل ذلك بسبب حيادهم عن طريق المحاسبة ، ومجا نبتهم سبيل المراقبة ؛ فساغ لديهم الحرام وشق عليهم تحري الحلال فضلوا عند مفترق الطريق بين السعادة والشقاء ؛ حين وضعوا أقدامهم على بداية الطريق إلى النفاق ، فكانت في البداية نهايتهم ، واختتمت بالشقاوة سعادتهم !!
فصاروا أُسارى أعمالهم ، وأضحوا رهناء حسابهم ، وما سيلحق بهم من شديد عقابهم وجزائهم ، فيا ليت شعري . . . ماذا كان سيفقدهم الصدق من الرزق ؟! وماذا زادهم النفاق والفجور والفسق ؟!
إنه الحرمان بكل ما يعنيه من معاني الخسارة والضياع والرق لعبودية الهوى والنفس والشيطان ، والتي ما جلبت عليهم إلا الشقاوة والبؤس والخسران ، فشمِروا عن ساعد النجاة من النفاق ؛ بإخلاص النية وصدق العبودية لله الواحد القهار ، المستحق لكل معاني الوحدانية والربوبية والألوهية ، فإن في ذلك النـجاة والسعادة الأبدية وتزودوا دوماً بالإخلاص والشفافية ؛ عسى الله أن يرزقكم الصدق والتوفيق . . عند مفترق الطريق .


التمايـــــــع مع الحــــــق

ليست العبرة باختلاق الكثير من الأعذار في عدم قدرتك على القيام بواجبات ذلك الحق الذي تعتقده ، والذي وهبك الله فرصةَ عمرٍ محدودةٍ ؛ ليرى كيف سيكون قيامك به ، وإنما العبرة بتلك المفاصلة التي يجريها علام الغيوب المطلع على ما في القلوب ؛ المحصي من أعمالك الحسنات والذنوب ، حين يزن أعمالك بميزان الحق الذي لا يظلم ولا يجور ؛ فمن أحسن القيام بعمله كان له من الله البر والإحسان ، ومن أساء ؛ فلن تجدي منه الأعذار ؛ مهما تحايل في النكران ؛ وذلك لأن الله اختص سبيله ومنهجه بسمة الثبات ، فلا تعتري مبادئه التغيير أو النقصان مهما تغيرت الدهور أو الأزمان ، فمن أطلق العنان للترخص في الأحكام ؛ بسبب ازدياد فتنٍ أو تغير وضعٍ فأحلَّ الحرام ، وحرَّم الحلال ، وصاغ لنفسه منهجاً ، توهم فيه الموافقة لرضى الرحمن ؛ ساءت والله سريرته وخاب والله عمله ، وأضحى مهيئاً لأن يرد بنفسه موارد سوء الخاتمة التي لا فلاح بعدها أبداً ، وذلك لأن الله لا يُخدع ، ولا يرضى لمنهجه أن تجري عليه الأهواء ؛ فمن شاء زاد ، ومن شاء أنقص وكأنه ليس برب الأرباب ، الذي يعلم من الغيب ما هو كائن إلى يوم الحساب ؛ والذي جعل من منهجه لعباده زاداً لا يُحتمل معه النفاد ، ومرجعاً لا يضل معه العباد ، وإنَّما وَفَقَ لفهمه من أخلص الاتباع ، وأسلم تَعَبُّدَهُ لربه بلا ابتداع ، أما من ظن في منهج ربه النقصان ، وتوهم قدرة عقله المحدود على جبر ذلك النقصان ؛ كانت الخيبة والتعاسة _ أيضاً _ نصيبه بلا أدنى نقصان ؛ لأن الله ما زاده إلا ضلالاً فوق ضلاله ، وزيغاً فوق زيغه ؛ فلم يعرف للهداية طريقاً ولم يعرف للحق سبيلاً ؛ وذلك لأن الشيطان لا يضل العبد إلا من خلال سبيلين لا ثالث لهما ، هما :
( الشبهة أو الشهوة ) فمن اشتبهت عليه الأمور ، واغتر بعقله ، وظن فيه القدرة على النجاة دونما استرشاد بالوحي ، غاص به الشيطان في وحل الضياع ، وضل من هذا السبيل ، أما من تحكمت فيه شهواته ، وأضحى التكليف أثقل شيء في حياته ، فأحب أن يتخير لنفسه طريقاً ميسراً ، يجمع فيه بين شهواته و مرضاة ربه !! فصاغ لنفسه منهجاً ما أنزل الله به من سلطان ، ظاناً بذلك أنه قد وفق بين الأمرين ؛ فإن الشيطان قد سلك به أيضاً سبيل الهلاك من هذا الباب ؛ وذلك لأن الله لا يُعبد إلا بما شرع ، ومن ظن غير ذلك فهو واهم ، لأن الله قد جعل لعباده شرعةً ومنهاجاً يرجعون إليه متى اختلفوا ؛ وينهلون من نبعه متى ظمئوا ؛ حكمةً منه ورحمةً بعباده وإلا ساغ لكل أحدٍ أن يُشرع لنفسه ما شاء ، ثم يدعي أنّ ما شرَّعهُ سبيلُ النجاة ، وفي هذه الحالة سوف تُطمس الشريعة ، ويندثر الهدي ، ولن تبقى إلا الأهواء ، ولن يسلك الناس إلا مسالك الزيغ والإغواء ، من أجل ذلك أمر الله عباده بالصدق والعزم في تناولهم لأوامره قال تعالى : ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . . البقرة . . فمن امتثل لأمر الله كان له النجاة في الدنيا والآخرة ، مهما استهزئ به المستهزئون ، ومهما نقد سبيله المتفلسفون ، أما من تناول أوامر الله بهزلٍ ووهن عزيمةٍ ؛ فإن نصيبه من هذا الدين بمقدار ما كان من هذا الهزل وذاك الوهن ، ولن يلوم في نهاية المطاف إلا نفسه ؛ لأنه لم يأخذ أوامر الله بقوة كما أمر ، وإنما أطلق لنفسه العنان في التفريط والخور . . .

ففاته من الخير ما لا عَدّ له ولا حصر
وهذه دوماً عاقبة التمايع مع الحق !!


كيف ترخص لديك الدنيا ؟

هذه الهالة الكبيرة التي قلبت الموازين لدى القاصي والداني من الناس ؛ حتى أضحت شغلهم الشاغل الذي لا يستطيعون الفكاك منه صباح مساء ، أو العيش بعيداً عن أجوائه في أخص أوقات حياتهم ، أو صياغة مختلف علاقاتهم في منأىً عن خطوطه العريضة التي تأصلت في قلب الصغير منهم قبل الكبير ، وذلك لأنها قد ألقت بظلالها على جميع مناحي حياتهم ، فلم يعودوا يفكروا إلا فيها ، أو يبصروا إلا من خلالها ، بعدما هيمنت على وجدانهم ، وتحكمت في جميع عواطفهم وأحاسيسهم !!
إنها الدنيا . . صاحبة الباع الكبير _ الذي لا يباريها فيه أحد على وجه هذه البسيطة _ في الإيقاع بفرائسها على اختلاف أشكالهم وألوانهم وطبائعهم ؛ إذ تلقي لهم الطعم متمثلاً في أمانيها العريضة ؛ فلا يلبثوا يسيراً حتى يلتقموه بشغفٍ وولهٍ ؛ فيتأصل حبها في قلوبهم إلى المدى الذي يفوق معنى الالتصاق ؛ بل قد يصل في كثير من الأحيان إلى حد العبودية الخالصة التي لا تعرف معنى النفاق !!
لذا تجد أن الفطن هو الذي يتأمل ملياً في عواقب الأمور ؛ ليرى بمنظار البصيرة ما يعجز عن رؤيته كثير من أهل الهلاك والثبور ، الذين يندفعون ملء قوتهم ووسع طاقتهم لولوج ساحة الآثام والفجور ، ثم ما يلبثوا يسيراً حتى تطويهم ظلمة القبور ، دون أن يمنحوا أنفسهم أدنى فرصة للتروي قبل دمارهم ، إذ خالطت الدنيا شغاف قلوبهم فأضحوا يهيمون بها ملء صدورهم ، أما من أبصر الحقائق ، وأمعن النظر في العواقب ، يجد أنها صفقةٌ خاسرةٌ تلك التي جعلته ينافس الكلابَ والخنازيرَ خلال فترة عمره المحدودة على عظمةٍ باليةٍ ، وجيفةٍ مُنتنةٍ ؛ حتى نهشوا منه اللحم ، ومزقوا منه العرض ؛ وأضحت رحى الشحناء والبغضاء ، تضرب فيهم بأطنابها وتجرف الجميع في دورانها ، حتى أشعلت منهم القلوب ، وأوغرت منهم الصدور ، فصار عيشهم كدر ، ونفعهم ضرر ، وما لبثوا أن تخطفتهم يد المنية في لحظة غرر ؛ فلا الدنيا أدركوا ، ولا الآخرة أبقوا ؛ حتى إذا ما أيقنوا بالهلاك ؛ عضوا أصابع الندم على ما فات ، فيا ليت شعري . . أين ذهبت من أصحاب العقول عقولهم ، وأين فُقدت من أصحاب البصيرة بصيرتهم ، فالعبرة تتكرر أما أعينهم صباح مساء ، ويد المنية تخطف الفقراء منهم والأغنياء ووحشة القبر تفتتن في ظلماتها الصالحين والأشقياء ، فمتى تزول عن العيون غشاوتها ؟ ومتى تستيقظ القلوب من غفوتها ؟ فالخطب عظيم والأمر جلل ، واللحظات تمضى دون توقف لتنقص آجالنا ، وتختلس أعمارنا ، في حين لا نجني من دنيانا سوى السراب ، ثم نفارقها راغمين إلى التراب لتبدأ رحلتنا مع الحساب ، ولا ندري بعدها أنحظى بالعفو أم العقاب ، فأوقفوا هذا السيل من استنزاف الأعمار ، واجعلوا من العواقب معياراً للاعتبار وألينوا قلوبكم بالتضرع بين يدي ربكم في دجى الأسحار ، واعلموا أن تمكّن الدنيا من القلوب لا يودي إلا إلى كل خزيٍ وذلٍ وعارٍ ، فارتقوا بالنفوس إلى رحاب الملك القدوس ، ولا تدنسوها بمزيد من تدني النفوس فإذا ما استشعرتم عزَّ الطاعةِ وذلَّ المعصية . . .

فسوفَ ترخص لديكم الدنيا


ونجعلهم الوارثين

في الماضي كنا ننادي الويل للأعداء ، واليوم صرنا ننادي من ينهض لنصرة الأعداء !!
فماذا دهانا ؟ وكيف تحولت المعايير وانقلبت الموازين خلال هذه الحقبة الزمنية القصيرة ، حتى أضحى الاستنفار فيها لحرب الأولياء ، بدلاً من شن المزيد من الهجمات على الأعداء !!
إنها مؤامرة كبيرة ، ولعبة قذرة يصعب على عامة الشعوب المسكينة استيعابها ، أو الإحاطة بها ، إذ كيف يمكن لهذه الشعوب البسيطة أن تصدق يوماً أن يكون الراعي هو المتآمر ، أو أن يكون الحارس هو السارق أو أن تكون الخيانة هي الدافع لرفع شعار الأمانة ، أو العمالة المطلقة للاستعمار هي الدافع لرفع الراية العريضة للاستقلال ، أو أنّ من ينصر الحق يُنبذ وتُشوه صورته في الإعلام ، ومن ينصر الباطل يُمجّد ويُمدح ، وتُنشر صورته في صدر صفحات الجرائد ووسائل الإعلام !!
إنها المهزلة بكل معانيها ، أن تُساق خير أمةٍ أخرجت للناس في أذيال شرار الأمم ؛ بسبب أذناب العمالة التي تربعت فوق كراسي العرش ، وأدارت أضخم المشروعات التجارية التي شهدها العصر الحديث ، والتي جعلت من الشعوب سلعةً رخيصة يوزعها أعداء الله كيفما شاءوا ؛ كهبات وعطيات على أشد العملاء نذالة وخيانة وولاءً لهم ؛ ثم يأمرونهم بعد ذلك برفع شعارات الوطنية ، ورفض نداءات الهزيمة ؛ كي تلمع صورتهم لدى عامة البسطاء من شعوبهم !!
وتزداد الدهشة حين تحظى هذه الشرذمة الحقيرة بالتأييد لدى بعض المخدوعين ؛ مما يجعلك توقن أن التضليل لم يعد بصورته المبسطة التي يمكن التعامل معها أو النجاح في إزالتها بعرض القليل من الحقائق فحسب ، وإنما صار معقداً ومركباً بصورة يكاد يستحيل معها إعمال العقل أو الإقناع ؛ إذ وصل الحال بهؤلاء البسطاء إلى حد أن جعلهم يدينون بالولاء لذابحيهم ، ويتمنون طول البقاء لمن كان سبباً في شقائهم وتعريهم !!
إنها أعجوبة الزمان ، وأضحوكة الأمم أن تهيم الشعوب على وجهها ، لا تدري وليها من عدوها ، ولا تعـلم شـيئاً عن الأخطـار المحيطـة بها أو المخططات التي تنخر لاقتلاع جذور كيانها ، وتستهدف مسخها ومحو هويتها ؛ حتى إذا ما وقعت عليهم الطامة ، وحلت بهم الكارثة ؛ تساءلوا بدهشة عن أسباب وقوع الحادثة ، وما السبيل للنجاة من تلك الكارثة ؛ وكأنهم لم يكونوا المعنيين يوماُ بمواجهة الحقيقة الدامغة ، والوقوف بقوة أمام زحف كل طاغية ، والأخذ على يديه ؛ كي لا يُلقي بمصير أمته في الهاوية !!
أما وقد نخرت في جسد أمتهم كافة الأمراض والأوبئة ؛ فلم يجدِ معها الدواء بعد استشراء الداء ولم ينجع معها الكي، بعد استفحال الغي، فإن سنن الله الكونية تأبى أن يبقى هذا المسلسل الهزيل آخذاً في الاستمرار والهذيان، وسوف تأتي الرياح بما تشتهي أنفس المؤمنين، وتلفظه لأول مرة أنفس الظالمين !! إذ ستلقي بهم عند أول هبوب لها في مزبلة التاريخ؛ كي يلعنهم كل لاعنٍ، ويزدريهم كل مؤمنٍ، ثم لن يلبث الأمر إلا يسيراً حتى يُنفض الغبار عن كثير من الحقائق التي طمست طوال حقبٍ مظلمة من الزمان، وسوف تشرق الأرض بنور هذا الدين، يرفع لواءه أناسٌ تجردوا له، بعدما جعلوا الدنيا وراء ظهورهم أو تحت أقدامهم، وأسلموا وجوههم خير إسلامٍ لمليكهم، فمكنهم حسبما اقتضت سنة التمكين :
( وكذلكَ نمنُّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين . . . الآية )


خراب العمران أم عمران الخراب ؟!

يندفع الناس بقوة نحو وجهة النظر القائلة بأن عمار المدن ، وتشييد البنيان ، وتوفير كافة سبل الراحة هي وحدها الأسباب التي توفر السعادة للإنسان ، وعلى كافة المجتمعات أن تبذل قصارى جهدها للتسابق في هذا الميدان ؛ كي ما تسعد البشرية ، ويهنأ الإنسان ، وعلى هذا سار الناس ، حتى أضحت المظاهر فقط هي ميدان التنافس بين كافة البشر ، سواءً كانت على مستوى الأفراد أو المجتمعات ؛ مما جعل المادة هي لغة التعامل الوحيدة بينهم ، وعلى مبادئها يتقاربون أو يتباعدون ؛ فخلقت هذه الأجواء أناساً بلا قلوب ، وصوراً بلا أرواح ؛ حتى تكاد تشعر معها أنك تعيش في غابة _ سكانها يشبهون فقط خلقة البشر _ وإنما قلوبهم أشبه ما تكون بقلوب الثعالب والذئاب ، فإذا ما كنت فيهم ضعيفاً افترسوك ؛ فلم يبقوا فيك باقية ، وإذا ما كنت فيهم جباراً عتياً طأطئوا لك الرؤوس _ لا حباً فيك ، ولا احتراماُ لشخصك _ وإنما حرصاً على البقاء وخوفاً من الفناء ، وذلك حسبما تقتضيه حسابات لغتهم المادية ، إنها بالفعل مغالطة كبيرة ، أن نصف بعض المباني والجسور والجدران بالعمران الذي يجلب السعادة للبشر ، في حين أن سكان هذا العمار ، يمثلون بقلوبهم حقيقة الخراب بكل ما يعنيه من معاني البؤس والشقاء والخوف والفزع والحرمان والهلع !!
إنها معادلة معكوسة ، رفع النبي صلى الله عليه وسلم منذ الوهلة الأولى لبعثته لواء اعتدالها ، وذلك بأن جعل من القلب محور العمران لحياة الإنسان ، فصوب سهام الحق إلى تلك القلوب المتنافرة ، فلانت بإذن ربها ؛ فإذا هي متآخية ، وأضحى العمران محله القلوب الطاهرة ، ثم انطلق منها لينشر الخصب والرخاء في أرجاء الصحاري القافلة ، فكان عمار الجدران ، منبته عمران الوجدان ، وكانت الرحمة بين الناس بديلاً للغدر والكفران ، فسعدت حينذاك البشرية في أولاها وآخرتها ، وابتسمت الدنيا لأهلها ، وكان هذا بالفعل المعنى الحقيقي للعمران ، أما أن يتحول الناس إلى جدران !! ويفقدوا أدنى مستويات الشعور بالوجدان ، فإنه والله عمران الخراب ، وإن شئت فسمه خراب العمران ، وليس عمار العمران ، إنها المأساة المأساوية ، والمعادلة البهيمية أن يقنع الناس بمأكلٍ أو مشربٍ تحت ظلال المخاوف ومكر الليل والنهار ، تماماً كما تفعل الحيوانات ، ويعرضوا عن المعنى الحقيقي الذي من أجله خُلقت هذه الحياة ، ألا وهو ( ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) فمن أحسن العمل ( دنيا ودين ) حسنت له دنياه بطيب العيش ، وحسن العشرة ، ومن أساء ، ساءت له دنياه وآخرته ، ألا فعمروا القلوب ، واجعلوها منطلقاً لعمار البشرية _ روحاً ومادة ، قولاً وعملاً ، دعوة وقدوة _ وحيينها سوف تهنأ لكم وبكم الحياة ، وسوف يكون عماركم الدنيا بالإسلام ، خير دعوة لكافة الأنام ، حين يجدوا لديكم ما يفقدون ، ويرتووا من نبعكم ما كانوا له متعطشون ، ولن يكون ذلك إلا بأن نعمر من قلوبنا روح حياتها وليس فقط شرايين دمائها ؛ فإذا ما استطعنا ذلك ، أضحى محتماً على أيدينا تحقيق معنى العمران


على من ستدور الدائرة ؟!

لا تزال فترة الإمهال التي منحها الله لعباده مستمرة ، ولا يزال الناس يتجرعون بسبب اغترارهم بطول الأماني خلال تلك الفترة ألواناً من التردي والضياع ، تارةً تحت مطية النسيان ، وأخرى تحت مطية التغافل والتجرؤ على العصيان ، إلا أن العاقبة التي ستحيق بهم محتومةٌ لا محالة ، والمسألة مسألة وقتٍ ، قد يطول أو يقصر ، ولكن تعال معي لنتعد بأبصارنا ما تحت أقدامنا ، وننظر من خلال سنن الله الكونية إلى هذه النافذة على المستقبل القريب وذلك في الوقت الذي يبالغ فيه الناس بالإمعان في الغفلة _ إنها نافذة العاقبة التي لم تجد من ينظر من خلالها إلا فئةً قليلةً من الناس _ أضحوا هم الغرباء بين أهليهم ومجتمعاتهم ؛ إلا أن نظرتهم من خلال تلك النافذة قد جنبهم في كثير من الأحيان الوقوع في مواطن الزلل ، والتردي في أودية الهلاك ، ولكن تبقى الأخطار محيطة بهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، والفتن تحيط بهم من كل جانب ، إلا أن عليهم أن يلتزموا التأمل الدائم من خلال تلك النافذة ، سائلين مقلب القلوب أن يثبت قلوبهم على دينه ؛ حتى يردوا عليه سبحانه سالمين غانمين غير خزايا ولا مفتونين ، ولا مبدلين ولا مغيرين .
أما الفئة الأخرى التي ارتضت مسايرة ركب الغافلين ، واقتفاء خطى الضالين والمنافقين ، فهم الذين عميت أبصارهم عن النظر من تلك النافذة ، وهم الذين طمست عقولهم عن مجرد التأمل في عواقب تلك النهاية الدامغة وهم الذين أظلمت قلوبهم ، وأبت إلا أن تُصعق بسياط الموت اللاذعة ، إنها قلوب أشربت روث الدنيا وليس مجرد حبها !! وإنها نفوس فاقت معنى الحيوانية في طباعها ، فلم يكن نصيبهم من الدنيا إلا تبؤ المزيد من الآثام ، ولم يكن نصيبهم من الآخرة إلا تجرع الحسرة على حصاد الأيام ، وقد كان يكفيهم مجرد التأمل للرجوع عن دروب الغفلة والعصيان ، إلا أنهم آثروا النظر تحت أقدامهم ، ولم يرفعوا رأساً للنظر إلى العاقبة التي حاقت بالذين من قبلهم ، فأني يجدي منهم الندم ، أو يشفع لهم البكاء !!
إن وعداً من الله سبق لينصرنّ من ينصر دينه ، والنصرة تكون في النفس بتزكيتها ، وفي المجتمع بنشر الخير فيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الأهل بدعوتهم للصلاح والاستقامة ، وفي الأرض بموالاة المؤمنين ونصرتهم ، ومعادة الكافرين والمنافقين ومنابذتهم بل وبحربهم في بعض الأحيان ، فأين نحن من ألوان هذه النصرة ؟!
وإن وعداً من الله سبق ليخذلن من يحيد عن طريقه ، والحيد يكون بارتضاء المناهج المخالفة لمنهج ربنا ، وصياغة المجتمعات صياغة تختلف عن مقصود إلهنا _ وقد حصل كل ذلك _ حتى أضحى الناس كالثعالب والذئاب التي تتحين كل فرصة للإيقاع بفريستها والفتك بها ، وصارت مجتمعاتنا برمتها كالغابات الموحشة التي لا يأمن فيها أحد على نفسه أو ماله أو عرضه ، فلم يعد مصير أمتنا يمثل هماً لأحد ، ولا المخاطر التي تحيق بكياننا تثير اهتمام أحد ، فمن المسؤول عن كل ذلك ؟! إن المسؤولية تشمل الآمر والمنفذ ، والمؤيد والساكت ، والقاصي والداني من الذين لم يرفعوا بالحق رأساً ولم ينصروا للحق رأياً ، فإذا ما انتهت المهلة التي أمهلها الله لهم ، وحل عليهم سخط الله وعذابه ، سوف يعلم الجميع حيينها . . .
على من ستدور الدائرة ؟!


علام تكون الحسرة ؟!

فترة المرور بهذه الحياة محدودة ، قد تطول أو تقصر ، غير أن سرعة زوالها تتواكب تماماً مع سرعة تسابق خطى الأيام التي لا يستشعرها أحد ، والنهاية القبر ، والموعد البعث ، والمحاسب الله ، فتُرى . . أي الناس أشد حسرةً ؟ ذاك الذي مرت به خطى الأيام على سرعتها ممزوجة ببعض معاناة شظف العيش مع السلامة في أمر الدين ثم سعد بلقاء ربه ، وكان في الجنان برحمة الله من المخلدين ، أم هذا الذي توفرت له بعض أسباب السعادة الظاهرية الممزوجة بكدر العيش الذي يلازم متع الدنيا لا محالة ، ثم سرعان ما انتهت به حياته ، ليستقبل حساباً يطول آلاف السنين ، ثم يهوي بتفريطه في نار غضب رب العالمين ؟!
من البديهي أن حسرة المتمتع قليلاً ثم المعاني كثيراً ، ستكون أضعافاً مضاعفةً من حسرة المعاني قليلاً ، ثم المتمتع بألوان النعيم أبد الخالدين .
ولكن . . تبقى النفس بما فيها من استعجال المتاع ، وحب الخير ، وتأثرها بالمظاهر الخداعة ، والغفلة عن العواقب رهينةً لسلوك درب الخاسرين ؛ وذلك لقلة صبرها ، وخوفها من غيب مستقبلها المجهول ، ويقينها بأن البشر صاروا أشبه ما يكونوا بالوحوش المفترسة التي لا ترحم ، ناهيك عن وساوس الشيطان ، وما ينخر به في عصب العزائم ليوهنها ؛ فترضخ تحت مطية تلك المخاوف ، وتنساق لضعفها في ركب الغافلين .
والنجاة . . تتمثل في سبيل واحد لا ثاني له ، هو إغمار القلب بالله ، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني الإيواء إلى هذا الركن الشديد ، والثقة فيما عنده سبحانه ، والتوكل عليه ، والرضى بقضائه ، وتفويض كل الشأن له إذ الأمر كله بيده ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، فهو سبحانه منبع الأمان والاطمئنان والسكينة والعدل والإنصاف والخير والإحسان ، فمن غمر قلبه بالله ؛ لم يعبأ بتغير الأحوال من حوله ، ولم يجزع لنوائب الدهر التي تزلل قلوب الكثير من حوله ، ولم يحزن لفوات حظٍ مأمولٍ من الدنيا ؛ لأنه قد جعل الآخرة كل حظه ، وأضحى هذا التسابق السريع لمرور أيام حياته ، يعزف على أوتار قلبه ألحان الحنين إلى هذا اللقاء الذي تهفو إليه نفسه ممنياً له بقرب النجاة ، هامساً في أذنه ألا تحزن فإن الموعد الله ؛ فتزداد روحه شوقاً إلى شوقها ، ولهفةً إلى لهفتها وتقفز على خطى الأيام غير عابئةٍ بما يدور في دنياها ، متعدية كل همومها وعقباها ، متجاوزةً ضيق عيشها وشقواها ، فأني لهذه الدنيا على حقارتها أن تحتل جزءً ولو يسيراً من هذا القلب الذي غمرته جذوة الإيمان !!
وأنى لهمومها على وضاعتها أن تشغل جزءً ولو بسيطاً من هذا النبع الذي يفيض بنور الإيمان !!
فهذه المعاني التي لامست بصدقٍ شغاف قلبه ، قد جعلت الدنيا بحذافيرها في عينه موضع الاستصغار ، وفي قلبه موضع الاحتقار ، وصار تمتعه بها تمتع المضطر الذي لا يرغب في المزيد منها ، وإنما يلجأ إليها فقط ليتبلغ بها إلى رضوان ربه ، فإذا ما لاحت له لحظة اللقاء ، كان أسعد المفارقين لها ، وأهنأ المسافرين إلى غيرها ، بعدما نفض عن نفسه غبار وسخها ، واستقبل الله طاهراً من أدرانها ، لينعم برحمة الله في روضات الجنان . .
فعلام بعد ذلك تكون الحسرة ؟!


واحترقت منا القلوب يا شيخ !!

لا زلت أتذكر تلك الجلسة الروحانية التي تعانقت فيها الأفئدة ، ولانت فيها القلوب برغم هذا التزاحم الكبير لذاك الحشد الرهيب من الحضور ، حيث تزاحمت على إثره الركب ، محاولة تحقيق أكبر قدر من الدنو نحو مقعد الشيخ وسط ساحة مسجد مدينتنا الكبير ؛ كي يستمعوا لكلماته النورانية التي اخترق بها مسامع القلوب وأرهف بها مسامع الأفئدة ، وكان محور محاضرته يدور حول مقولة الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف :
( دلوني على سوق المدينة ) وكيف كان لصدقات عثمان وأبو بكر وعمر وأمثالهم من أثر كبير في نصرة الدعوة وكيف يمكن للمسلم أن يحقق النصر لأمته من خلال خوض المجال التجاري ، وتحقيق التكتل الاقتصادي الإسلامي الذي نستطيع به مواجهة تحديات أعداء هذا الدين ، الذين رجحت كفتهم في هذا المجال ، فاستعبدوا كثيراً من شعوبنا الإسلامية ، فخرجت تلك الجموع من هذه المحاضرة تتوقد حماساً لخوض هذه المعركة ، إذ سيطرت على مشاعرهم كل معاني البذل لهذا الدين ، وصاروا يندفعون في كل اتجاه لتحقيق هذا الهدف ، وكل منهم يمني نفسه أن يعيد للتأريخ أمثال عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان وأبو بكر وعمر ، ومع مرور الوقت ، وملامسة واقع الساحة التجارية التي صبغتها أيدي لا تعرف الله ولا رسوله ، اصطدمت تلك النفوس بهذا الواقع الأليم ، الذي تأصلت فيه الخيانة ، وصار الكذب والغدر هي لغته المثلى والفريدة ، فأصيبت كثير من تلك النفوس بالإحباط وآثرت التراجع عن خوض هذا المجال ، قانعة بما لديها من الرزق ، متهمةً نفسها بالعجز وعدم الخبرة في هذا المجال غير أن البقية الأخرى واصلت السير ، متجاوزةً الكثير من المحذورات الشرعية ، تارة تحت مطية ضعف النفس وتارة أخرى تحت مطية الأمر الواقع المرير ، وتارة أخرى تحت مطية الرغبة الفطرية في جمع المال والخوف من حدوث الخسارة ، حتى طال بها الأمد ، ووقعت فيما وقعت فيه من المخالفات ، وأضحت عملية التراجع بعيدة المنال ؛ حيث خبا نور الحس الإيماني تحت وطأة تلك المادية البحتة _ البعيدة كل البعد عن الروحانيات _ والتي أضحى التعامل على ضوئها صباح مساء ، فاشتعلت في تلك النفوس الشعور باللهفة اللاهثة لجمع المزيد من المال لتحقيق الربح الآمن ، ولتفادي الخسارة بشتى أنواعها ، وتناثرت كلمات الشيخ على إثر ذلك ، حتى صارت هشيماً يذروه الرياح !! فلا القوة الاقتصادية تحققت ، ولا جذوة الإيمان في القلوب بقيت ، فيا ترى . . هل كان الخطأ في توجيه الشيخ للشباب ؟! أم كان الخطأ في عدم توفير أسباب المحافظة على حياة القلوب ، وبث روح التطلع بأشواقها إلى الله والجنة ،وترسيخ حقارة الدنيا ووضاعتها في القلوب جنباً إلى جنبٍ مع هذا التوجيه
إذ أن مجرد التوجيه للنزول إلى الساحة التجارية يعد أمراً في غاية اليسر ، أما مهمة تأمين الوقاية لهذا القلوب من مضلات فتن تلك الساحة على اختلاف أنواعها ، فهو الأمر الذي يعد في غاية الصعوبة ، إذ أن القلوب تتقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، والفتن تزداد استعاراً ؛ كلما ازداد إقبال الناس على المادة ، وهذا هو الواقع فكيف يمكن الوثوق بثبات القلوب على مبادئها دون إمدادها بالوقود اليومي من الزاد الإيماني ؟!
من خلال معاينةٍ بسيطةٍ لما آلت إليه أحوال شريحة من ذاك الشباب الذين اهتزت من خطبهم المنابر يوماً ما وجهت سؤالاً لنفسي ، بعدما عاينت انهيارهم تحت وطأة المادة قائلاً : ماذا دهاكم ؟ فأجابني لسان حالهم قائلاً :
واحترقت منا القلوب يا شيخ !!


مستقبل الإبادة . . هو الحل !!

انتزع نفسك بقوة معي من وحل العمالة ومستنقعات النفاق المتخمرة عبر عشرات السنين، والتي لم يعرف التأريخ مثيلاُ لها على مر العصور، وارجع إلى منبع الحقيقة، فابنتزاعك لما تراكم عليه من غبش الزيف والخداع؛ سوف يتجلى لك على الفور الكثير من الحقائق الدامغة التي عمدت أجهزة عالمية ضخمة لتزييفها وطمس معالمها، ولكنها بقيت لدى النفوس الصادقة بنفس بريقها الناصع؛ لارتباطها بالحق الذي لا يفنى ولا يزول، فمع تدهور حال أمتنا وتفككها الناتج عن ضعف تمسكها بتعاليم ربها سبحانه، أخذت قوى الكفر تزداد قوة وتمكيناً؛ كردة فعل طبيعية لتخلي المسلمين عن قيادة العالم، وأخذت تلك القوى تملي مفاهيمها ومبادئها الباطلة، بداية بقوة السلاح، ومروراً بالغزو الإعلامي الخطير الذي مسخ الملايين من عقول أبناء أمتنا، وتسابقت الحكومات والزعامات المزيفة _ تتبعهم الشعوب المفتونة _ تلقي بنفسها تحت أقدام تلك القوى الشيطانية المهيمنة، على أمل نيل رضاها، والحصول على المزيد من عطاياها، وازدادت حدة التنافس بينهم استعاراً ، كل بحسب مصلحته، فما بين راغب في البقاء على كرسيه، وما بين طامح في نيل المزيد من الرضا؛ لامتلاء خزانته البنكية، وما بين مستغل للأوضاع المتردية؛ لعقد العديد من الصفقات المشبوهة، وهكذا التقى الجميع عند غاية واحدة _ ألا وهي المصالح المادية _ فاندحرت في خضم هذا التردي السريع هوية الأمة ، بعدما سُحقت الضمائر ، واندثرت المبادئ، وأضحى الصادقون قلة، واتفقت جموع الهالكين على نعتهم بالتطرف والإرهاب، وطار نداء _ أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون _ في كل ناحية؛ فجمعت تلك البقية المخلصة شتاتها من مختلف البقاع، وارتضوا مواجهة مصيرهم المحفوف بالمخاطر عن مسايرة ركب العمالة والنفاق، وسلموا أمرهم لله؛ فتحلوا بالصبر، وأيقنوا بالنصر ولو بعد حين، فالأمر كله بيد الله وحده، وما كان لتلك القوى مهما تعاظمت أن تعجز الله في الأرض ولا في السماء، وإنما هو قدر معلوم، ومحنٌ يجتبي الله فيها من يشاء، وأضحوا على الرغم من ضعفهم ومحنتهم ، شامخي النفوس، شاهقي الأعناق بما يستشعرون من عزة التصاقهم بربهم، بل إنهم في خضم تزايد الهلكى ذلاً تحت أقدام اليهود لم يروا سبيلاً غير إبادة اليهود، وصاروا في الوقت الذي يتجهز فيه مئات الملايين من المتذللين بتقديم قرابين العمالة لأعداء الله، يعدون أنفسهم ليقدموا أعناق اليهود قرباناً لله !! ولا يكتفون بمجرد عقد النية على ذلك فحسب، بل يعلنونها على الملأ غير هيابين لشيء، فمصدر قوتهم هو الله، وهل يستطيع أحد أن يخمد جذوة هذه القوة ؟! إن مستقبل الإبادة الذي ينتظر اليهود على أيدي هذه الصفوة المؤمنة؛ ليبعث بالعديد من بشارات الخير للبشرية التي تلطخت بألوان الرذيلة على أيدي هذه الشرذمة الحقيرة من يهود العالم، وفي نفس الوقت ينذر بألوان العذاب والهلاك التي سيتجرعها اليهود على أيدي هؤلاء النفر المتعطش للموت في سبيل الله ، والذين لا يرتضون بديلاً لإصلاح العالم إلا بإبادة _ رأس الأفاعي _ اليهود الذين ما فتئوا يضخون سموم الفتن والرذائل في كل المجتمعات، حتى أشاعوا الظلام في كل حدب وصوب ، بل وراحوا يطاردون النور أينما حلّ ؛ حتى هاب الناس بطشهم وافتتنوا بإرهابهم ؛ ومن هنا أيقنت تلك العصبة المؤمنة ، أن الإبادة لهذه الأفاعي السامة ، هي الحل الأمثل لإنهاء هذه الأزمة الإنسانية المأساوية ولن يكون ذلك إلا حين يعاد عليهم حكم سعد بن معاذ الذي حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات . . إذ أن الحكم ذاته ليمثل المستقبل الحتمي لليهود !!


إنّه الدرس.. ومنه تبدأ رحلة العودة !!

مع النظرة السطحية للأمور ، والتي تفتقد في مضمونها إلى الخبرة بالواقع ، ومع تناول وجهات النظر بشيء من التساهل في الكثير من القضايا ، ومع حسن الظن المفرط بعواقب الأمور دونما علمٍ مسبق بها ، وجدت نفسي منغمساً في عالمٍ لا يعرف الله ولا رسوله ، قد اختلفت عليّ فيه المصطلحات ، وتبدلت عليّ فيه كافة المرادفات وأضحى محتماً عليًّ مسايرة ركب أعدائي !! والجلوس في موقع الرفض لكل قناعاتي واعتقاداتي !!
فأفقت لنفسي في لحظةٍ ، علمت عندها بمفارقتي للطريق الذي عاهدت ربي عليه ، وأحسست بعظم الأوزار التي تتهيأ ؛ كي ما تلقي بثقلها على ظهري ، فأيقنت بفداحة الخطأ ، ورحت أبحث عن أسباب النجاة في كل صوب وحدب بالتماس النصيحة ممن أتوسم فيهم الخير ؛ عساهم يرشدونني إلى الطريق ، فوجدت العزائم من حولي قد خارت ؛ بعدما أخذت منها مخالب الوهن كل مأخذ ، وأصابتها رياح التغريب في مقتل ؛ فسُحقت منها الهمم وخيمت عليها روح اليأس والهزيمة ، فبدلاً من أن أحظى بنصحها ورشدها ؛ أرادت أن تريدني معها بوهنها وضعفها ؛ فضاقت مني النفس لفقدان المعين ، وحار مني البال لإيجاد البديل ، وكبلتني المادة وما لها من ارتباطات ودين ؛ فلجأت إلى ربي بجسدي المنهوك ، وروحي الواهية ، وفؤادي المطعون ، وعزيمتي الخاوية ، فترددت في الدعاء ، وكيف لا . . وأنا أعتزم سؤاله النجاة مما قد غمست فيه نفسي بنفسي من هذا الوحل السحيق من التردي والضياع ؟! بل إنني حرصت على نسج واقعي بالعديد من ألوان الأوهام حتى عظم البناء ؛ وخار فوق رأسي !! إن أية دعوى لالتماس الأعذار مرفوضة بل مبتورة ، وإن أي تساهل في تناول ما آل إليه حالي ؛ ليعد قضاءً مبرماً على آخر رمق في جسدي ، إنني المسؤول وحدي عن كل ما حدث ، وأنا المآخذ وحدي عن جميع ما سلف ، فدربي الذي رسمه لي ربي ، لم يسر فيه يوماً كلابُ الدنيا وعابديها !!
وربي الذي أمرني بالسعي وحده ، لم يسألني يوماً عن النتائج وما جرى فيها !!
إذاً فلماذا غمست نفسي في وحل الماديات بدعوى نصرة الدين ؛ حتى تفلت مني ديني ؟!
ولماذا كلفت نفسي من الأعمال ما لا أطيق ؛ حتى ضعف مني يقيني ؟!
إن مواجهة الحقيقة بكل تبعاتها هي آخر فرصة لي للنجاة من الغرق فيما أسقطت فيه نفسي من الأوحال ، وإن تحديد الخطوة الأولى التي ينبغي عليّ اتخاذها الآن ، لهي نقطة الانطلاق التي يجب عليَّ أن أبدأ منها رحلة العودة إلى الله، ولن تكون هذه الخطوة سوى اتخاذ قرار حاسم ، انتزع به نفسي من عمق وحل هذه الدنيا ومادياتها، مستغفراً ربي من فرط ما اقترفت من الزلل، متعلقاً ببابه سبحانه على الرغم مما عَلُق بي من درن الدنيا ووسخها، سائله العفو والمغفرة على ما كان مني على ظهرها، صارفاً وجهي عن كل بهرجها وزينتها، مستغنياً به عن كل شيء راضياً بأنس القرب منه سبحانه، قانعاً بما يأتيني من الرزق، فالذي خلقني سيرزقني، وماذا عليّ لو عانيت ساعةً لأنعم بجنة الخلد؟ إن القرار يتلخص في حتمية التوقف عن التمادي في طريق الهلاك الآن وليس بعد دقيقة أو لحظة، فكفى ما كان من الغفلة، وكفى ما كان من الآثام، إن واقع الدنيا أضحى محفوفاً بالفتن التي لا يجاوزها إلا صابرٌ محتسبٌ، وهذا ما ينبغي أن يستحضر العبد له النية ، ويبرم عليه العهد مع الله تعالى، ولا ينبغي له أن يندرج رويداً رويداً في دروب الغفلة حتى يهلك مع الهالكين، إن خلاصة ما حصل درسٌ لابد أن تبدأ منه رحلة العودة .


فلنلتحف بالألغام . . لنتوسد أعالي الجنان . . ونزلزل عروش الطغيان

بدون إطالة . . فعداء أهل الكفر للإسلام لا شك فيه، وعمالة الأنظمة الخائنة لقوى الكفر ظاهرة البيان، ومخططات حزب الشيطان للقضاء على الإسلام قطعت شوطاً بعيداً؛ صارت على إثره الصحوة الإسلامية محاصرة في كل مكان، وأضحت الشعوب الإسلامية في أوروبا تواجه الإبادة الجماعية التي ستواجهها كافة الشعوب المسلمة في أنحاء العالم حسبما خطط لذلك أعداء هذا الدين، إذاً فالقضية صارت واضحة جلية لا يخالطها أي لبس أو غبش، والحل أيضاً أضحى واضحاً جلياً لا يخالطه أي غبار أو عمه، وهو بالطبع لن يكون في تحرك تلك الجيوش العاجزة التي تقبع تحت إمرة الأنظمة العميلة في بلادنا لقوى الكفر والطغيان _ إذ لا يُعقل أن يعول عليها أحد !! _ ولن يكون كذلك بثورة الشعوب المخدرة تحت أضواء الإعلام الماجنة التي غلّفها اليهود بألوان الشهوات والغفلات وإنما سيكون فقط بهذه العصبة القليلة المؤمنة التي اصطفاها الله لنصرة دينة، والذين يحملون مشاعل النور وسط هذا الظلام الحالك، فهم قليلٌ من قليلٍ من قليلٍ . . هم من باعوا الدنيا بحذافيرها، ولم يبق في قلوبهم أدنى ذرة من التعلق بها، فتوجهوا إلى الله بخطى ثابتة، يحدوها الشوق إلى لقاء الأحبة في الجنة محمدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) وصحبه، هم من خلصت قلوبهم، وتعالت هممهم، وأضحى احتراق قلوبهم على ما ألم بأمتهم من الذلة والمهانة، والضعف والهزيمة، هو الوقود الذي يشعل وهج العزيمة في صدورهم، وضياء المشاعل في أيديهم؛ فعقدوا العزم على توجيه السهم قاتلاً في نحور الأعداء، وأداروا الظهر كاملاً لإرجاف الأدعياء، والتحفوا بألغام العزة ثأراً لدماء الشهداء، فارتعدت والله منهم فرائص الأعداء، وأضحت رياح هجماتهم تؤرق مضاجع العملاء، وحارت في مواجهتهم كافة مخططات الأعداء، إذ أن محور مواجهتهم الوحيد هو عشقهم للموت، واندفاعهم نحوه بلهفة الولهان، وهل يقف أمام رغبتهم في الموت شيء ؟!
إن أحدهم ليستقلل أن يقدم روحاً واحدة في سبيل هذا الدين، ولكن عزاؤه أنه لا يملك غيرها، وإنه والله ليستثقل تلك الثواني الأخيرة التي تمر عليه وهو يلتحف بتلك الأحزمة من الألغام التي سوف تزفه إلى حور الجنان، ويتمنى أن تمر عليه سريعاً، كي ما يلقى الله شهيداً في سبيله، بعدما أثخن القتل في صفوف أعدائه، وكأن لسان حاله يعتذر لربه وهو يقدم دماءه رخيصة في سبيله قائلاً : اللهم إني أبرأ إليك مما فعل هؤلاء ( يعني المشركين ) وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني ( المسلمين ) ثم يأتي صوت الانفجار مدوياً، ليطهر الأرض من دنس الأشقياء، ويبعث نشوة النصر في قلوب الأولياء، فتتهلل له ملائكة السماء، وتنشرح له صدور الأبرياء، إذ أن هذا الصوت وحده ليعد بمثابة لغة التخاطب الوحيدة التي لا حياد عنها في زمانٍ ساد فيه الخونة والجبناء، وإن هذا الصوت وحده لهو المخرج من رق العبودية واستباحة الأعراض والمقدسات، ألا فلتتهيأ بطون السحت لبقرها من وقع هذا الانفجار، ولتستعد رؤوس المكر لشطرها من شظايا الانشطار، ولتمطر السحب لهيبها على من تبقى من فلول الفجار، كي تطهر الأرض من آثار الجريمة والخيانة والعار !!
ألا فلنلتحف جميعاً بالألغام . . لنتوسد أعالي الجنان . . ونزلزل عروش الطغيان


بأي المصطلحين تحيا ؟!

إنهما مصطلحان يحيا تحت ظلالهما الخلق _ لا ثالث لهما _ مهما ابتدع الناس من المسميات والمصطلحات، هما مصطلح الدنيا ومصطلح الآخرة فأهل المصطلح الأول يحيون في ظلاله بمفهوم المصلحة الدنيوية فحسب مهما تعددت أشكالها وألوانها ، فبها يفترقون و عليها يجتمعون ، ومن أجلها دائماً يتصارعون ، والغلبة دوماً للأقوى الذي يمتلك من أساليب المكر والخديعة والخيانة والمكيدة ما يتفوق بها على أقرانه في هذا الصراع ، ولا مجال بالطبع في هذا الصراع لأصحاب القلوب أو من لديه حتى ولو بقايا آثارٍ من ضمير !! إذ سوف يُفتك به منذ الوهلة الأولى في خضم التسابق على افتراسه من الجميع ، وعلى هذا فلا مجال للحياة تحت ظلال هذا المصطلح إلا لأصحاب الفطر المنكوسة و القلوب السوداء المتعفنة ، والطباع الجشعة المتوحشة ، الممعنين في ألوان الفجور والمعاصي حتى أتخمت صدورهم من ألوان الضلالة والظلمة ، فهؤلاء أموات في صورة أحياء ، ووحوش في صورة آدميين ، وجمادات في صور متحركة ، يزداد وهنهم بإمعانهم في المعاصي ، وهم يحسبون أنهم يزدادون قوة ، حتى صارت حياتهم منبعاً للشقاء والتعاسة من ظلمة المعاصي ، وهم يلهثون وهماً وراء أسباب السعادة التي تخيل لهم كالسراب ، حتى إذا ما سبقهم قطار الأيام ، صاروا إلى حفرة من الهول والفزع ، بعدما تبددت منهم آمال دنياهم ، وضاعت منهم فرصة الفوز بأخراهم ، فعليك إذا ما اخترت أن تحيا تحت ظلال مصطلحاتهم أن تتهيأ يوماً ما لتكون حياتك نموذجاً طبق الأصل من حياتهم _ عياذاً بالله _ ولا تلومن حينئذٍ إلا نفسك ، إن كان لديك حينها بقية من الإحساس أو الشعور الذي توجه به اللوم إلى نفسك ، ولا أظن أن مثل ذلك يبقى لك !!
أما أهل المصطلح الثاني فهم من أسلموا وجوههم وأمرهم لله تعالى منذ الوهلة الأول فبيده سبحانه مقاليد كل شيء ، وإليه يرجع الأمر كله ، فقوَّتهم من قوةِ الله ، وحياتهم نسمات من رحمة الله ، وهمومهم بذل الجهد لنيل رضوان الله ، وسعيهم دوماً في سبيل نصرة دين الله ، فسعادتهم في رضوان ربهم ، وغناهم في قناعتهم برزق ربهم واستعلائهم في زهدهم في الدنيا وفيما في يدي غيرهم ، وقوتهم في اعتزازهم بدينهم ، وسعة قلوبهم في مبادرتهم لفعل الخيرات وحرصهم على آخرتهم ، فأنت بينهم في مأمنٍ ، وبهم في منعةٍ ، ومعهم تسلك طريق النجاة ، وبذا يكون قد اجتمع لك خيري الدنيا والآخرة ، فاختر لنفسك أي السبيلين تسلك . . .
وفي ظلال أي المصطلحين تحيا !!!


إعادة صياغة قبل الافتتان

يعتقد الكثيرون من البسطاء أن تقدم مظاهر الحياة وازدهارها يجعل ركب الحياة برمته يتحلل من الدين يوماً بعد يوم ، وخير دليل على هذا الاعتقاد ما اشتهر على ألسنة الناس من قولهم : لقد صعد الغرب إلى القمر ، ونحن لا زلنا نناقش في جواز شرعية بعض الأمور من عدم جوازها !!
وهذا الفهم المحدود في حقيقة الأمر ناتج عن مزيج من الأخطاء المركبة ، سواء تلك التي تولت كبرها وسائل إعلامنا _ فاقدة الهوية _ التي فتحت الباب على مصراعيه للمادة الإعلامية الصهيونية ، كي تخترق عقول وقلوب أبناء أمتنا ، موجهة لهم خطاب واحد ، مفاده أن التقدم والحضارة يتلخصان في الاتباع الأعمى للغرب في كل خطواته ، وأخذ كل ما لديهم من الغث والثمين ؛ وأن التخلف التأخر يكمن في التمسك بأي شيء يمت للدين بصلة _ في إشارة لما وصفه الكفار من قبل بأنه أساطير الأولين _ حتى تم الافتتان التام بالغرب ، وصاروا مضرباً للمثل العليا ، ونموذجاً للإنسان الحضاري ، على الرغم مما هم عليه من الكفر والفجور ، والشذوذ الجنسي والانحطاط الأخلاقي !! ويرجع السبب بالطبع في هذا التردي إلى إعلامنا المتحضر ، الذي ما فتئ يجلب للأمة أنواع الرذائل على اختلاف ألوانها وأشكالها ؛ لتدمير عقول وقلوب أبناء أمتنا ، إذ لم يكن في الحسبان يوماً ما، أن يتبوأ سفلة الخلق هذه المكانة ؛ لولا ما قدمه لهم إعلامنا الممعن إخلاصاً لوطنيته !!
والحق لمن يريد أن يزن الأمور بميزان العقل المطلق ، يجد أنه ليست هناك أي ثمة حاجة للتقدم العلمي أن يتحلل من الدين، أعني بذلك أن التكنولوجيا التي أوصلتنا لصناعة الطائرات ، لا تكمن في هذه الملابس الخليعة التي ترتديها مضيفات الطائرة ، حين تقدم للركاب المشروبات ، كما أنها لا تكمن في كؤوس الخمور التي يتناولها رجال الأعمال على متن الدرجة الأولى ، بالإضافة إلى أنها لن تتوقف كذلك إذا ما ركب بداخلها رجل يرتدي ثوباً على السنة أو بدلة برابطة عنق ، وإنما كل ذلك مجرد تقليد أعمى للغرب ، ولا يمت إلى تطور الحياة بصلة ، ولكنه فقط إرث التخلف الذي ورثناه عن إعلامنا الحائز على أعلى مراتب العمالة والخيانة .
ومن هنا تأتي حتمية قيام كل مسلم بدوره الأساسي في توعية الأمة ، مستخدماً في سبيل ذلك كل وسائل الإيضاح الحديثة ، غير مكتف بمواعظ المساجد ، ودور الندوات ، وإنما يجب عليه الخروج للساحة بأساليب متجددة ، كي ينقذ ما بقي من أبناء الأمة من الغرق في هذه الهاوية السحيقة ، وهذا لن يتحقق إلا بجهود جبارة يكون مبعهثا الإخلاص، مع ما يكتنفها من العلم الشرعي الصحيح ، والوعي الشامل لواقع الأمة المنهارة ، إن الدور المناط بكل مخلص اليوم ، لا يمكن أن يتغاضى عنه بأي شكل من الأشكال ، وذلك على الرغم من السجون والمعتقلات وحملات البطش والتنكيل التي تجتاح أرجاء أقطارنا الإسلامية ، إلا أن كل ذلك لا يمثل عذراً من القيام بهذا الدور ، لأنه مناط النجاة يوم القيامة ، قال تعالى : "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين " هود 116

الصفحة الرئيسة