صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مقال عن والدي: صالح بن عبد الرحمن المديميغ – رحمه الله-

عبدالإله بن صالح المديميغ


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد
فإن فقد الأحبة من أعظم ما يمكن أن يبتلى به المرء، فليس هناك شعور أشد من أن تشتاق لحبيب تعلم علم اليقين أنك لن تراه مرة أخرى في الدنيا، وتوقن أن رحيله عنك رحيل أبدي لا رجعة بعده، وكل فقد يهونه أمل اللقاء وإن طال، إلا فقد الميت فهو ذهاب بلا عودة، وفراق ليس بعده اجتماع في الدنيا، هكذا قضى الله وحكم وهو خير الحاكمين.

وأعظم الحب هو حب الوالدين لولدهما، وحب الولد لوالديه، لأنه في الغالب حب لا تشوبه مصلحة، أو تقدر مقداره منفعة، حب خالص نقي لا تزيده الأيام إلا جمالا، ونقاء مرت علي سنوات خمس منذ فقدت حبيبي وسيدي وأنيسي وجليسي والدي رحمه الله، لم تكن هذه السنوات الخمس كسنوات عمري التي سبقتها، والتي بفضل الله لازمته في أكثرها، فبعد أن كنت أراه، وأجالسه، أصبحت أتذكر مجلسه، وأحاديثه، وبعد أن كنت أصافحه، وأُقبل جبينه، أصبحت أتذكر خياله، وأتأمل في مقتنياته، وأتمثل قول القائل:

يبنغص نومي كل يوم ويقظتي --- خيال له يسري وذكر له يجري
ويوسع صدري بالحديث ادكاره --- على أن ذاك الوسع أضيق للصدري

والحديث عن والدي الصالح صالح بن عبدالرحمن المديميغ،حديث طويل محفوف بالحذر من أن أذكر شيئا قد يراه البعض مبالغة الحامل لها محبتي له – رحمه الله- لهذا فكل ما سأذكره هنا يشهد عليه كل من عرفه من أهله , وقراباته , وجيرانه , وعسى ربي أن يهدني سواء السبيل

ولد أبي – رحمه الله- سنة 1340هـ في بيئة محافظة متدينة، فنشأ على تعظيم أمر الصلاة، وحب القرآن وحب استماعه وتوقير أهله.

عاش طفولته كسائر أطفال ذلك الزمن، طفولة عانت شدة الحياة وقسوتها، حدثني كثيرا عن مشقة زراعة الأرض وسقيها وبذرها، وقطف ثمارها أثناء عمله مع جدي – عبدالرحمن – وأعمامه -رحمهم الله جميعا - في مزرعة آل مديميغ،في وادي الليسن وسط الرياض حاليا .

وفي سنة 1358 تقريبا وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره فجع بوفاة جدتي نورة بنت الشيخ عبد الله بن مسلّم رحمهم الله جميعا.

ثأثر بوفاتها كثيرا وما زال يتذكرها ويدعو لها ويتصدق، ويعتمر، حتى توفي

كان دائما يكرر: ماتت أمي وما تهنيت بها، وكان يرحمها لقسوة الحياة التي عاشتها.

حج لأول مرة سنة 1360هـ على الإبل , وكان كثيرا ما يذكر أحداث حجته تلك ، ويقول : خرجنا من الرياض منتصف شهر شوال ,ومكثنا في الطريق إلى مكة خمسة وعشرين يوما , وذكر أحداثا وقصصا ليس هذا مكان سردها .

لم تكن في حياة والدي رحمه الله جوانب يمكن أن يذكرها الكاتب، إلا ما يتعلق بالعبادة من صلاة، وتلاوة للقرآن، واستماع له، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.

حيث قضى حياته ما بين تلك العبادات، فلم يشتغل بتجارة، ولم يتبوأ مناصب تجعل الكاتب يشير إليها.

منذ عرفته وهو لا يترك مناجاة ربه في الثلث الأخير من الليل، فكان يحرص على النوم المبكر ليدرك فضيلة وقت السحر، ويبرر نومه المبكر بقوله: أنام علشان أقوم أشحذ الرب الكريم.
فكان يقضي ساعات السحر بين صلاة ودعاء وتلاوة.

أما الضحى فوالله إن حاله من أعجب ما أنت راء يقضي معظمه في الصلاة، وتلاوة القرآن، والاستماع له، كان دائما يردد كلمة يقولها عند أول بدء استماعه للقرآن فيقول: القرآن أسأل الله العظيم من فضله.
وكذلك بعد العصر كان يقضي أغلبه بين تلاوة القرآن واستماعه.

أما المغرب فيجلس مع أهله وأولاده.

سألته مرة في كم تختم فلم يجبني فرصدت تلاوته فعلمت أن يختم كل خمسة أيام، وأحيانا في أقل من ذلك، يقرأ قراءة مترسلة، وربما راجع ما يحفظه من الآيات التي تمر عليه أثناء تلاوته.

تؤثر فيه آيات تستدر دمعته، وكان أكثر شيء يؤثر فيه قول الله تعالى: (ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) سمعته مرارا يبكي عندها .

ومن شدة تعلقه بالقرآن أنه في آخر حياته – وهو يعاني من ألم الجراح في ساقيه- طلب مني إحضار مسكن الألم فلما أحضرته له، وجدته ممسكا مصحفه يقرأ وهو يصارع الألم.

لم يكن تعلقه بالصلاة والقرآن أمرا عارضا في حياته، أو أن هذا يقع منه في مواسم الطاعات، أو أنه انصرف له آخر حياته، بل منذ عرفته وهذه حاله، ليس له هم إلا الصلاة والقرآن.

أثر القرآن في أخلاقه وتعامله وطيبة نفسه، فالقرآن ولا شك أعظم مربي للمسلم.

فكان رحمه الله طيب النفس سمحا بشوشا.

قال لي مرة: ما حقدت على أحد، ولو أردت أن أحقد ما عرفت.

يحب الأطفال ويمازحهم، ويلقي عليهم الألغاز ويستمتع بأجوبتهم، وأحيانا يطلب منهم تكرير عدة كلمات ذات حروف متشابهات بسرعة، ثم يضحك كثيرا على أخطائهم في نطقها.

لا تكاد تسمع له صوت في البيت , إلا إذا قرب موعد الأذان , سمعته يجلجل بأمره بها فيقول: الصلاة الصلاة، صلوا، صلوا، الصلاة من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا.

ويزيد في الفجر: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.

لم يكن يقدم على الصلاة شيئا، الصلاة أولا وبعدها أي شيء .

وله مع الأذان أخبار تذكر ، حيث عمل مؤذنا ما يقرب من أربعين سنة، لا يتخلف عن الأذان إلا نادرا، وربما مر شهران وثلاثة ما فاته أذان فرض واحد.

ومن القصص التي تدل على ولعه بالأذان، أننا سافرنا مرة إلى مدينة أبها، وسكنا بجوار مسجد ,لم نر فيه مؤذنا , ولا إماما , فاستلم الأذان، وفي يوم ممطر وبهيج , أردنا أن نخرج في نزهة قبل الظهر، فرفض وقال: نروح ونترك المسجد؟ من يؤذن؟ روحوا أنتم ولا تتأخروا.

وبعد مرضه الأول سنة 1431هـ ترك الأذان، ولكن اهتمامه بالتبكير للصلاة لم ينقطع فما كان يؤذن المؤذن غالبا إلا وهوفي المسجد، وإذا سمع الأذان وهو في البيت فحاله كحال كثير منا إذا سمع الإقامة وهو في البيت يقوم مسرعا لا يلوي على أحد وربما لبس شماغه في الطريق لشدة استعجاله.

كان رحمه الله شديد الاحترام والتوقير لنعمة المطعم والمشرب، فما كنا نرمي بقايا الطعام في النفايات إطلاقا، وكان يأمرنا بجمع ما بقي من الطعام ثم ننثره في أرض طاهرة فتأكله الطير والقطط، وبقايا الخبز كنا نجمعها ثم نعطيها لمن يربي الماشية ليطعمها ماشيته.

أذكر أني سألته سنة 1430هـ فقلت له: بلغت تسعين سنة، فكيف رأيت الدنيا؟ فقال: ذهبت كأنها يوم واحد، ذهب التعب والكد، وكأنه لم يمر بي شيء من أكدارها، وأتذكر طفولتي وشبابي وكأنها في الأمس القريب .

قلتُ: صدق رحمه الله فهذه الدنيا كأنها طيف خيال تمر , سريعا بأفراحها وأحزانها، وكل يوم تغيب شمسه نقترب من آخرتنا ونبتعد عن دنيانا حتى يأتي أجل الله الذي قدره ,والذي لا يعلمه إلا هو سبحانه، فاللهم حسن الخاتمة والوفاة على الإسلام.

ومع اقتراب أذان الظهر ليوم الثلاثاء الموافق 9-7-1436هـ، خرجت معه للصلاة ، فصليتُ بالناس إماما، وبعد الصلاة اتجهت لمقدمة المسجد لصلاة النافلة، وبعد ما شرعت في الركعة الثانية سمعت جلبة وأصواتا ترتفع وتيرتها بشكل متسارع , لم أكن أعلم ما الذي يجري فلما جلست للتحيات سمعت أحدهم يقول: ين ولده؟ فعلمتُ أني المقصود وأن أبي قد جرى له أمر, اختصرت أتممت ما بقي من الصلاة , ثم التفت خلفي , فإذا بركة دم في المسجد، والناس قد شخصوا بأبصارهم اتجاهي , فنظرت فإذا الوالد قد جرح في ساقيه جروحا بالغة، أخذته واتجهت به لمستشفى دله، وفي أثناء الطريق قال لي: أنت الوصي، ولا تنس بناء المسجد الذي وصيتك عليه، فقلت: الحمدالله إنك طيب جروح تخيط وينتهي الأمر بإذن الله , فسكت ولم يجبني.

بعد هذه الجراح بدأت حالة والدي الصحية تسوء وكان قبلها لا يعاني شيئا من أمراض العصر كالسكر أو الضغط وغيرها .

وفي مساء يوم الخميس 25-7-1436هـ أحس بكتمة شديدة اتصلنا بالإسعاف , وقرر نقله لأقرب مستشفى لأن حالته حرجة، نقل للمستشفى السعودي الألماني، ومكث فيه حتى فجر يوم الأحد الموافق 28-7-1436هـ حيث توفي رحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الأبرار وجعله في رياض الجنة ووالديه وأجداده وإخوانه وأخواته وأعمامه وعماته أخواله وخالاته ومن أحبه فيك.

وآخر آية وقف عندها خاتمة المؤمنون (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) ويليها صدر سورة النور، فاللهم اغفر له وارحمه وأنت خير الرحمين، ونور له في قبره وأنت ذو الفضل العظيم.
هذا شيء يسير من أبرز سيرته تركت أشياء كثيرة وذكرت أهم ما يتعلق بها


أسأل الله القبول والإخلاص
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه: عبدالإله بن صالح المديميغ
يوم الخميس 30-8-1441هـ



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية