صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







روائع غزالية

عمر بن عبد المجيد البيانوني


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

روائع غزالية 1/ 3


الحمدُ لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على مَنْ لا نبيَّ بعده وبعد، فعند تنزُّهي وسياحتي في رياضٍ مثمرة، وبساتينٍ مزهرة، في (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي رحمه الله تعالى، وقفتُ على حِكَم بليغة، ودُرَر مستنيرة، ومواعظ مستفيضة، ذكرها في مواضع متفرِّقةٍ من كتابه، (فما الدُّرُّ في انتظامه أزهى من دُرَر كلامِه، ولا السِّحر الحلال أوقع في النفوس مِنْ نثره ونظامِه)، فأحببتُ أنْ أجمع بعض ما وقفت عليه من فيض غَمامِه، عسى أنْ يُسقى بها متعطشٌ إلى بحر علمه وإنعامِه، فتنفعه في دينه وتذكِّره بربِّه، وتزيل الغشاوة عن بصره، وترفع الرَّان عن قلبه، فإنَّ الكلمةَ الطيِّبةَ كالشجرة الطيِّبة، ذات الأصل الثابت التي لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها الرياح، وهي عالية مرتفعة فوق الشرِّ والباطل، وثمارها دائمة مستمرة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
فيا لها مِنْ كواكبٍ دريَّة، وجواهرٍ من المعاني عليَّة، ولباسٍ من التقوى سندسيَّة، تجعل الروحَ مِنْ جمالها مُشرقة بهيَّة، فالسعيد مَن انتفع بها ورجعتْ نفسُه إلى ربِّها راضيةً مرضيَّة.. واللهُ وليُّ التوفيق والسداد..

ومِنْ هذه الأقوال والحِكَم:


العلم النافع:

- (إنَّ غذاءَ القلب: العلمُ والحكمةُ وبهما حياته، كما أنَّ غذاءَ الجسد الطعام، ومَنْ فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم، ولكنه لا يشعر به؛ إذ حبُّ الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه، كما أنَّ غلبةَ الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعاً، فإذا حطَّ الموت عنه أعباء الدنيا أحسَّ بهلاكه، وتحسَّر تحسُّراً عظيماً ثم لا ينفعه، وذلك كإحساس الآمن خوفه، والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السُّكْر أو الخوف، فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإنَّ الناسَ نيام فإذا ماتوا انتبهوا).

- (إنَّ العلمَ حياةُ القلوب من العمى، ونورُ الأبصار من الظلم، وقوةُ الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازلَ الأبرار والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يُطاع الله عزَّ وجلَّ، وبه يُعبد وبه يوحَّد وبه يمجَّد وبه يُتورَّع، وبه تُوصَل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء).

- (التلطُّفُ في اجتذاب القلوب إلى العلم الذي يفيد حياة الأبد، أهمُّ من التلطُّف في اجتذابها إلى الطبِّ الذي لا يفيد إلا صحة الجسد، فثمرة هذا العلم: طب القلوب والأرواح، المتوصل به إلى حياة تدوم أبد الآباد، فأين منه الطب الذي يعالج به الأجساد؟ وهي معرَّضة بالضرورة للفساد في أقرب الآماد، فنسأل الله سبحانه التوفيق للرشاد والسداد إنه كريم جواد).

الطاعات والخيرات الأخروية:

- (الطاعات غذاءٌ للقلوب، والمقصود شفاؤها وبقاؤها، وسلامتها في الآخرة وسعادتها، وتنعُّمها بلقاء الله تعالى، فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط، ولن يتنعم بلقاء الله إلا مَنْ مات محبَّاً لله تعالى، عارفاً بالله، ولن يحبه إلا مَنْ عرفه، ولن يأنس بربِّه إلا من طال ذكره له، فالأنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة تحصل بدوام الفكر، والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة، ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا، ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها، حتى يصير مائلاً إلى الخير مريداً له، نافراً عن الشر مبغضاً له، وإنَّما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أنَّ سعادته في الآخرة منوطة بها، كما يميل العاقل إلى القصد والحجامة لعلمه بأنَّ سلامته فيهما، وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذى يفرغها للذكر والفكر، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة، وترك المعاصي بالجوارح).


القلب والجوارح:

- (إنَّ بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنَّه يتأثر كلُّ واحد منهما بالآخر، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز مِنْ أعزته، أو بهجوم أمر مخوف، تأثَّرت به الأعضاء، وارتعدت الفرائص، وتغيَّر اللون، إلا أنَّ القلبَ هو الأصلُ المتبوع، فكأنَّه الأميرُ والراعي، والجوارحُ كالخدم والرعايا والأتباع، فالجوارحُ خادمةٌ للقلب بتأكيد صفاتها فيه، فالقلبُ هو المقصود، والأعضاءُ آلات موصلة إلى المقصود، ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم (أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) ([1]) ).

- (قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، وهي صفة القلب، فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر).

- (قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) ([2])؛ لأنَّ همَّ القلب هو ميلُه إلى الخير وانصرافُه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات، وإنَّما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً، فليس المقصود من إراقة دم القربان: الدم واللحم، بل ميل القلب عن حبِّ الدنيا، وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإنْ عاق عن العمل عائق فـ {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، والتقوى ههنا صفة القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا) ([3])؛ لأنَّ قلوبَهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس، والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى، كقلوب الخارجين في الجهاد، وإنَّما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب، وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات).

- (لا تظنن أنَّ في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنَّه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإنَّ مَنْ يجد في نفسه تواضعاً، فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكَّد تواضعه، ومَنْ وجد في قلبه رقَّة على يتيم، فإذا مسح رأسه وقبله تأكَّد الرقة في قلبه، ولهذا لم يكن العمل بغير نيَّة مفيداً أصلاً؛ لأنَّ مَنْ يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه، أو ظانٌّ أنَّه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة، وكذلك مَنْ يسجد غافلاً وهو مشغول الهمِّ بأعراض الدنيا، لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتأكَّد به التواضع، فكان وجود ذلك كعدمه، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يُسمى باطلاً، فيقال: العبادة بغير نيَّة باطلة).

شرف العقل:

- (قد ظهر شرف العلم مِنْ قِبَل العقل، والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنُّور من الشمس، والرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السَّعادة في الدنيا والآخرة، أو كيف يستراب فيه والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل، حتى إنَّ أعظم البهائم بدناً وأشدها ضراوة وأقواها سطوة، إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه، لشعوره باستيلائه عليه، لما خصَّ به من إدراك الحِيَل).


حدود العقل:

- (اعلم أنه كما يطلع الطبيب الحاذق على أسرار في المعالجات يستبعدها من لا يعرفها، فكذلك الأنبياء أطباء القلوب والعلماء بأسباب الحياة الأخروية، فلا تتحكم على سننهم بمعقولك فتهلك، فكم من شخص يصيبه عارض في أصبعه فيقتضي عقله أن يطليه، حتى ينبهه الطبيب الحاذق أنَّ علاجه أن يطلي الكف من الجانب الآخر من البدن، فيستبعد ذلك غاية الاستبعاد من حيث لا يعلم كيفية انشعاب الأعصاب ومنابتها ووجه التفافها على البدن، فهكذا الأمر في طريق الآخرة وفي دقائق سنن الشرع وآدابه، وفي عقائده التي تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست في سعة العقل وقوته الإحاطة بها، كما أنَّ في خواص الأحجار أموراً عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها، حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذي به يجذب المغناطيس الحديد، فالعجائب والغرائب في العقائد والأعمال وإفادتها لصفاء القلوب ونقائها وطهارتها، وتزكيتها وإصلاحها للترقي إلى جوار الله تعالى، وتعرضها لنفحات فضله، أكثر وأعظم مما في الأدوية والعقاقير، وكما أنَّ العقول تقصر عن إدراك منافع الأدوية مع أنَّ التجربةَ سبيلٌ إليها، فالعقول تقصر عن إدراك ما ينفع في حياة الآخرة، مع أنَّ التجربة غير متطرقة إليها، وإنما كانت التجربة تتطرق إليها لو رجع إلينا بعض الأموات فأخبرنا عن الأعمال المقبولة النافعة المقربة إلى الله تعالى زلفى، وعن الأعمال المبعدة عنه، وكذا عن العقائد، وذلك مما لا يطمع فيه، فيكفيك من منفعة العقل: أن يهديك إلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم ويفهمك موارد إشاراته، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرُّف، ولازم الاتباع فلا تسلم إلا به والسَّلام).


السعادة الحقيقية:


- (وأعظم الأشياء رتبة في حقِّ الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال).

- (ما أبعدَ عن السَّعادة مَنْ باع مهمَّ نفسِهِ اللازم بمهمِّ غيره النادر، إيثاراً للتقرب والقبول من الخلق على التقرب من الله سبحانه).

- (قد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجرى الربح ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ}، وقال عز و جل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وقال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ}، ونعني بالإحسان فعل ما ينتفع به المعامل وهو غير واجب عليه ولكنه تفضل منه).

- (وقد أهمل الناسُ طبَّ القلوب، واشتغلوا بطب الأجساد، مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة، والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها، إذ قال تعالى: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }).

وقال رحمه الله بعد أن ذكر قول ابن مسعود «الهالك في اثنتين القنوط والعجب»: (وإنما جمع بينهما؛ لأنَّ السَّعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر، والقانط لا يسعى ولا يطلب، والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى، فالموجود لا يطلب، والمحال لا يطلب، والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة له، ومستحيلة في اعتقاد القانط، فمن ههنا جمع بينهما).

- (فمفتاح السعادة: التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة: الغرور والغفلة، فلا نعمة لله على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة، ولا وسيلة إليه سوى انشراح الصدر بنور البصيرة، ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية، ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة).

- (اعلم أنَّ كلَّ خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر فإنه يُسمى نعمة، ولكن النعمة بالحقيقة هي السعادة الأخروية، وتسمية ما سواها نعمة وسعادة إما غلط وأما مجاز، كتسمية السعادة الدنيوية التى لا تعين على الآخرة نعمة، فإن ذلك غلط محض، وقد يكون اسم النعمة للشيء صدقاً، ولكن يكون إطلاقه على السعادة الأخروية أصدق، فكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بوسطة واحدة أو بوسائط، فإنَّ تسميه نعمة صحيحة وصدق لأجل أنه يفضى إلى النعمة الحقيقية).

- (غاية السعادة أن يموت محبَّاً لله تعالى، وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب، حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب، ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير، فسأله فقال: الآن أفلت. فلما أصبح سأل عن حاله، فقيل له: إنه مات البارحة).

- (قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبَاً مغمورا، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورَا}، وليت شعري كيف يصحح نيته مَنْ لا يعرف حقيقة النية، أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص، أو كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه، فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى: أن يتعلم النية أولاً لتحصل المعرفة، ثم يصححها بالعمل، بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتنا العبد إلى النجاة والخلاص).

- (لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى وإنَّ كلَّ محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي، محترق بنار الفراق ونار الجحيم، وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات والأنس بهذا العالم الفاني، والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعاً ولا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم، والإقبال بالكلية على الله طلباً للأنس به بدوام ذكره، وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته، وأنَّ الذنوب التي هي إعراض عن الله واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوباً مبعداً عن الله تعالى، فلا يشك في أنَّ الانصرافَ عن طريق البُعْد واجب للوصول إلى القُرْب، وإنما يتم الانصراف: بالعلم والندم والعزم، فإنه ما لم يعلم أنَّ الذنوب أسباب البعد عن المحبوب، لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد، وما لم يتوجع فلا يرجع، ومعنى الرجوع الترك والعزم، فلا يشك في أنَّ المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول إلى المحبوب، وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة، وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام، المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق، ففي التقليد والاتباع له مجال رحب، يتوصل به إلى النجاة من الهلاك، فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهذا أمر على العموم وقال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَا} الآية، ومعنى النصوح: الخالص لله تعالى خالياً عن الشوائب).

الخوف:

- (فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والاعتبار وتارة بالآيات والأخبار أما الاعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة، ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه، فكلُّ ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر غايته، وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبَّة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، فإنَّ فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى).


صفة الدنيا:
- (إن الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيراً عنيفاً، ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنَّما يحس عند انقضائها، ومثالها: الظل، فإنَّه متحرِّك ساكن، متحرِّك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيرة الباطنة، ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال:
أحلامُ نومٍ أو كظِلٍّ زَائِلٍ ... إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ)

- (إنَّ طبع الدنيا: التلطف في الاستدراج أوَّلاً، والتوصُّل إلى الإهلاك آخراً، وهي كامرأة تتزين للخطاب، حتى إذا نكحتهم ذبحتهم).

- (إنَّ الدنيا مزيَّنة الظواهر، قبيحة السرائر، وهي شبه عجوز متزينة، تخدع الناس بظاهرها، فإذا وقفوا على باطنها، وكشفوا القناع عن وجهها، تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها، وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها).

- (إنَّ أوائل الدنيا تبدو هينة لينة، يظن الخائض فيها أنَّ حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها، وهيهات فإن الخوض في الدنيا سهل، والخروج منها مع السلامة شديد، وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال: مثل الدنيا مثل الحية، لين مسها، ويقتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإنَّ صاحبها كلَّما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسَّلام).

- (إنَّ أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة، وحذَّرهم المقام وخوَّفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده، وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة، وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة، وألحانها الموزونة الغريبة، وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال، الحسنة المنظر، العجيبة النقوش، السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها، وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها، فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً، فاستقر فيه، وبعضهم أكبَّ على تلك الأصداف والأحجار، وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها، فاستصحب منها جملة، فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً، وصار ثقيلاً عليه ووبالاً، فندم على أخذه ولم يقدر على رميه، ولم يجد مكاناً لوضعه، فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه، وليس ينفعه التأسف، وبعضهم تولج الغياض ونسي المركب، وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح، لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار، والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع، وغير خال من السقطات والنكبات، ولا منفك عن شوك ينشب بثيابه، وغصن يجرح بدنه، وشوكة تدخل في رجله، وصوت هائل يفزع منه، وعوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه، ولم يجد في المركب موضعاً، فبقي في الشط حتى مات جوعاً، وبعضهم لم يبلغه النداء، وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا كالجيف المنتنة.

 وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً، ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل، فتأذى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومن رجع أوَّلاً وجد المكان الأوسع، ووصل إلى الوطن سالماً، فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم ومصدرهم، وغفلتهم عن عاقبة أمورهم، وما أقبحَ مَنْ يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة، وهشيم النبت وهي زينة الدنيا، وشيء من ذلك لا يصحبه عند الموت، بل يصير كلَّا ووبالاً عليه، وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه، وهذه حال الخلق كلهم إلا مَنْ عصمه الله عزَّ و جلَّ).

- (إنَّ مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيَّأ داراً وزيَّنها، وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً واحداً بعد واحد، فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه لا ليتملكه ويأخذه، فجهل رسمه وظن أنَّه قد وهب ذلك، فتعلق به قلبه لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتفجع، ومَنْ كان عالماً برسمه انتفع به وشكره، ورده بطيب قلب وانشراح صدر، وكذلك من عرف سنَّة الله في الدنيا علم أنَّها دار ضيافة، سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري، ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها).


---------------------------------------------
([1]) ـ  رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، (52)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599).
([2]) ـ  رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، (6126)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، (1599).
([3]) ـ  الحديث كما رواه البخاري في كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحِجْر، (4161)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَاماً مَا سِرْتُمْ مَسِيراً، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِياً إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَهُمْ بِالمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ).
 



روائع غزالية 2/ 3
عمر بن عبد المجيد البيانوني
 

حبُّ الدنيا:
- (حبُّ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئة، وأساسُ كلِّ نقصان، ومنبعُ كلِّ فساد، ومَن انطوى باطنه على حبِّ الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود منها ولا ليستعين بها على الآخرة، فلا يطمعن في أنْ تصفو له لذة المناجاة في الصلاة، فإنَّ مَنْ فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته، وهمَّة الرجل مع قرَّة عينه، فإنْ كانت قرَّة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همُّه، ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ورد القلب إلى الصلاة، وتقليل الأسباب الشاغلة، فهذا هو الدواء المر، ولمرارته استبشعته الطباع، وبقيت العلة مزمنة، وصار الداء عضالاً، حتى إنَّ الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثوا أنفسهم فيها بأمور الدنيا، فعجزوا عن ذلك، فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا، وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوسواس، لنكون ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وعلى الجملة فهمَّةُ الدنيا وهمَّةُ الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بخل، فبقدر ما ندخل فيه من الماء يخرج منه من الخل لا محالة ولا يجتمعان).

- (إذا مالت قلوب العلماء إلى حبِّ الدنيا وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة، ويطفىء مصابيح الهدى من قلوبهم، فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه، والفجور ظاهر في عمله، فما أخصبَ الألسن يومئذ، وما أجدبَ القلوب، فوالله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأنَّ المعلمين علموا لغير الله تعالى، والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى).

- (فساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال).

- (الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها، حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها، فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها، ولا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها، ثم هي فرارة عن طلابها، شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، إن أحسنت ساعة أساءت سنة، وإن أساءت مرة جعلتها سنة، فدوائر إقبالها على التقارب دائرة، وتجارة بنيها خاسرة بائرة، وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة، ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة، فكل مغرور بها إلى الذل مصيره، وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره، شأنها الهرب من طالبها، والطلب لهاربها، ومن خدمها فاتته، ومن أعرض عنها واتته، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات، ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم، فهي خداعة مكارة طيارة فرارة، لا تزال تتزين لطلابها، حتى إذا صاروا من أحبابها كشرت لهم عن أنيابها، وشوشت عليهم مناظم أسبابها، وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها، ورشقتهم بصوائب سهامها، بينما أصحابها منها في سرور وإنعام، إذ ولت عنها كأنها أضغاث أحلام، ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طحن الحصيد، ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد، إن ملكت واحدا منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيدا كأن لم يغن بالأمس، تمني أصحابها سرورا، وتعدهم غرورا، حتى يأملون كثيرا، ويبنون قصورا، فتصبح قصورهم قبورا، وجمعهم بُورا، وسعيهم هباءً منثورا، ودعاؤهم ثبورا، هذه صفتها وكان أمر الله قدراً مقدورا).

بين الدنيا والآخرة:

- (إنَّ الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم، فلا جرم مَنْ يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه، لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً؛ لأنَّ المعرفة لا تضيق على العارفين، بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ويفرح بمعرفته ويلتذ به، ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين: زيادة الأنس، وثمرة الاستفادة والإفادة، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة؛ لأنَّ مقصدهم معرفة الله تعالى، وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً فيما عند الله تعالى؛ لأنَّ أجلَّ ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه، وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيق بعض الناظرين على بعض، بل يزيد الأنس بكثرتهم، نعم إذا قصد العلماء بالعلم: المال والجاه، تحاسدوا؛ لأنَّ المال أعيان وأجسام، إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر، ومعنى الجاه ملك القلوب، ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم، انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة، فيكون ذلك سبباً للمحاسدة، وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى، لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره بها وأن يفرح بذلك).

قيمة الوقت ونفاسته:

- (إنَّ العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة، بكى عليها لا محالة، وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه، كان بكاؤه منها أشد، وكل ساعة من العمر بل كل نفس، جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها، فإنَّها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد، وتنقذك من شقاوة الأبد، وأي جواهر أنفس من هذا؟ فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسراناً مبيناً، وإن صرفتها إلى معصية فقد هلكت هلاكاً فاحشاً، فإن كنت لا تبكي على هذه المعصية فذلك لجهلك، ومصيبتك بجهلك أعظم من كلِّ مصيبة، لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنَّه صاحب مصيبة فإنَّ نوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فعند ذلك ينكشف لكلِّ مفلس إفلاسه، ولكل مصاب مصيبته، وقد رفع الناس عن التدارك).

القلب:

- (وليس لكلِّ إنسانٍ قلب، ولو كان لما صحَّ قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلساً من القلب، ولست أعني بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام الصدر بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر واللحم الذي هو من عالم الخلق عرشه والصدر كرسيه وسائر الأعضاء عالمه ومملكته ولله الخلق والأمر جميعاً ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، هو الأمير والملك لأنَّ بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيباً، وعالم الأمر أمير على عالم الخلق، وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، من عرفها فقد عرف نفسه، ومن عرف نفسه فقد عرف ربَّه).

- (وإنما الأهم الذي أهمله الكل علم صفات القلب وما يحمد منها وما يذم إذ لا ينفك بشر عن الصفات المذمومة مثل الحرص والحسد والرياء والكبر والعجب وأخواتها وجميع ذلك مهلكات، وإهمالها من الواجبات، مع أن الاشتغال بالأعمال الظاهرة يضاهي الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذي بالجرب والدماميل والتهاون بإخراج المادة بالفصد والإسهال، وحشوية العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة كما يشير الطرقية من الأطباء بطلاء ظاهر البدن، وعلماء الآخرة لا يشيرون إلا بتطهير الباطن وقطع مواد الشر بإفساد منابتها وقلع مغارسها من القلب، وإنما فزع الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب لسهولة أعمال الجوارح واستصعاب أعمال القلوب كما يفزع إلى طلاء الظاهر من يستصعب شرب الأدوية المرة فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد وتتضاعف به الأمراض، فإن كنت مريداً للآخرة وطالباً للنجاة، وهارباً من الهلاك الأبدي، فاشتغل بعلم العلل الباطنة وعلاجها، على ما فصلناه في ربع المهلكات، ثم ينجر بك ذلك إلى المقامات المحمودة المذكورة في ربع المنجيات لا محالة، فإنَّ القلب إذا فرغ من المذموم امتلأ بالمحمود، والأرض إذا نقيت من الحشيش نبت فيها أصناف الزرع والرياحين، وإن لم تفرغ من ذلك لم تنبت ذاك، فلا تشتغل بفروض الكفاية لا سيما وفي زمرة الخلق من قد قام بها، فإن مهلك نفسه فيما به صلاح غيره سفيه، فما أشدَّ حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب تحت ثيابه وهمَّت بقتله، وهو يطلب مذبة يدفع بها الذباب عن غيره، ممن لا يغنيه ولا ينجيه مما يلاقيه من تلك الحيات والعقارب إذا همت به، وإن تفرغت من نفسك وتطهيرها وقدرت على ترك ظاهر الإثم وباطنه وصار ذلك ديدناً لك وعادة متيسرة فيك، وما أبعد ذلك منك فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فيها).

- (أما المتعلم فآدابه ووظائفه الظاهرة كثيرة، ولكن تنظم تفاريقها عشر جمل الوظيفة الأولى تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف).


من آداب طالب العلم:

- (لا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم، ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين، وهو عين الحماقة، فإنَّ العلمَ سببُ النجاة والسعادة، ومن يطلب مهرباً من سبع ضار يفترسه، لم يفرِّق بين أنْ يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، وضراوة سباع النار بالجهل بالله تعالى أشد من ضراوة كلِّ سبع، فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائناً من كان).

كيد الشيطان:

- (إذا لم يأمن من نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار الدنيا وهي منبع المحن والفتن ومعدن الملاذ والشهوات المنهي عنها).

- (مَنْ كان لله تعالى كان الله عز وجل له، ومن اشتغل بالله عز وجل ألقى الله حبه في قلوب الناس وسخر له القلوب كما سخر قلب الأم لولدها فقد دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيراً كافياً لأهل الملك والملكوت، فمن شاهد هذا التدبير وثق بالمدبر واشتغل به وآمن ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى الأسباب).

بين العلم والمال:

- (الفرق بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى، والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه، والمال أجسام وأعيان ولها نهاية، فلو ملك الإنسان جميع ما في الأرض لم يبق بعده مال يتملكه غيره، والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه، صار ذلك ألذ عنده من كلِّ نعيم، ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق؛ لأنَّ غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته، فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة، فإنَّ نعيم العارف وجنته: معرفته التي هي صفة ذاته يأمن زوالها، وهو أبداً يجني ثمارها، فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه، وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة، بل قطوفها دانية، فهو وإن غمض العين الظاهرة، فروحه أبداً ترتع في جنة عالية، ورياض زاهرة، فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين، بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا، فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء، ومشاهدة المحبوب في العقبى).

السبيل إلى الجنة هو معرفة الله سبحانه:

- (الجنة لا مضايقة فيها ولا مزاحمة، ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضاً، فأهل الجنة بالضرورة برآء من الحسد في الدنيا والآخرة جميعاً، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين، ولذلك وسم به الشيطان اللعين، وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء، ولما دعي إلى السجود استكبر وأبى، وتمرد وعصى، فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل، ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء، ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض، وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء، ولكن السماء لسعة الأقطار وافية بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً، فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ولذة لا كدر لها، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز و جل، ومعرفة صفاته وأفعاله، وعجائب ملكوت السموات والأرض، ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً.

فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها، وفتر عنها رأيك وضعفت فيها رغبتك، فأنت في ذلك معذور؛ إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع، والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك، فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين، فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم؛ لأنَّ الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين، ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين).

قلة العلماء الربَّانيين:

- (فقد الطبيب هو الداء العضال، فإنَّ الأطباء هم العلماء وقد مرضوا فى هذه الأعصار مرضاً شديداً عجزوا عن علاجه، وصارت لهم سلوة فى عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم، فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضاً؛ لأنَّ الداء المهلك هو حبُّ الدنيا، وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافاً من أن يقال لهم فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم، فبهذا السبب عمَّ على الخلق الداء، وعظم الوباء، وانقطع الدواء، وهلك الخلق لفقد الأطباء، بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء، فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا، وإذا لم يصلحوا لم يفسدوا، وليتهم سكتوا وما نطقوا، فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم فى مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم، ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة؛ لأنَّ ذلك ألذ في الأسماع وأخف على الطباع، فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي، ومزيد ثقة بفضل الله، ومهما كان الطبيب جاهلاً أو خائباً أهلك بالدواء حيث يضعه فى غير موضعه، فالرجاء والخوف دواءان ولكن لشخصين متضادي العلة.

أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية، وكلف نفسه ما لا تطيق، وضيق العيش على نفسه بالكلية، فتكسر سورة إسرافه فى الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال، وكذلك المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس استعظاماً لذنوبه التي سبقت يعالج أيضاً بأسباب الرجاء حتى يطمع فى قبول التوبة فيتوب.

فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلباً للشفاء، وذلك من دأب الجهال والأغبياء، فإذن فساد الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلاً).


الحذر من الجدل المذموم:

- (أما الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار المتأخرة، وأبدع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات، ما لم يعهد مثلها في السلف، فإياك وأن تحوم حولها، واجتنبها اجتناب السم القاتل، فإنها الداء العضال، وهو الذي رد الفقهاء كلهم إلى طلب المنافسة والمباهاة، وهذا الكلام ربما يسمع من قائله فيقال: (الناس أعداء ما جهلوا)، فلا تظن ذلك، فعلى الخبير سقطت، فاقبل هذه النصيحة ممن ضيَّع العمر فيه زماناً، وزاد فيه على الأولين تصنيفاً وتحقيقاً وجدلاً وبياناً، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه، فهجره واشتغل بنفسه، فلا يغرنك قول مَنْ يقول: (الفتوى عماد الشرع، ولا يعرف علله إلا بعلم الخلاف)، فإنَّ علل المذهب مذكورة في المذهب، والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأولون ولا الصحابة، وكانوا أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم، بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب ضارة مفسدة لذوق الفقه، فإنَّ الذي يشهد له حدس المفتي إذا صح ذوقه في الفقه، لا يمكن تمشيته على شروط الجدل في أكثر الأمر، فمن ألف طبعه رسوم الجدل أذعن ذهنه لمقتضيات الجدل، وجبن عن الإذعان لذوق الفقه.

وإنما يشتغل به من يشتغل لطلب الصيت والجاه، ويتعلل بأنه يطلب عِلَل المذهب، وقد ينقضي عليه العمر ولا تنصرف همته إلى علم المذهب، فكن من شياطين الجن في أمان، واحترز من شياطين الإنس، فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال، وبالجملة فالمرضي عند العقلاء أن تقدر نفسك في العالم وحدك مع الله، وبين يديك الموت والعرض والحساب، والجنة والنار، وتأمل فيما يعنيك مما بين يديك، ودع عنك ما سواه والسَّلام).

المال والجاه:

(إنَّ الجاه والمال هما ركنا الدنيا، ومعنى المال: ملك الأعيان المنتفع بها، ومعنى الجاه: ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها، وكما أنَّ الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير، أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس، فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس، أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه.

وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات، فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات، ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات، فكل من اعتقد القلب فيه وصفا من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب، وبحسب درجة ذلك الكمال عنده، وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه، بل يكفي أن يكون كمالاً عنده وفي اعتقاده، وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالا، ويذعن قلبه للموصوف به انقياداً ضرورياً بحسب اعتقاده، فإن انقياد القلب حال للقلب.

وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها، وكما أنَّ محبَّ المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد، فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم، بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم؛ لأنَّ المالك يملك العبد قهراً والعبد متأب بطبعه ولو خلى ورأيه انسل عن الطاعة، وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعاً ويبغي أن تكون له الأحرار عبيداً بالطبع والطوع، مع الفرح بالعبودية والطاعة له، فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير.

 فإذن معنى الجاه قيام المنزلة في قلوب الناس، أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه، فبقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب، وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه.

 فهذا هو معنى الجاه وحقيقتة وله ثمرات كالمدح والإطراء، فإنَّ المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه، وكالخدمة والإعانة فإنَّه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده، فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه، وكالإيثار وترك المنازعة، والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام، وتسليم الصدر في المحافل، والتقديم في جميع المقاصد، فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب، ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة، أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالاً، فإنَّ هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون سبباً لقيام الجاه).

علاج حب الجاه:

- (إنَّ مَنْ غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءات لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها، وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها وذلك هو عين النفاق، فحب الجاه إذا من المهلكات فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإن طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال).

- (علاج الجاه أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه، وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم، وذلك إن صفا وسلم فآخره الموت، فليس هو من الباقيات الصالحات، بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له، ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له، فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها، ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة، ويكون الموت كالحاصل عنده، ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز: (أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات)، فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً، وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه: (أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل)، فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة فكان عملهم لها بالتقوى؛ إذ علموا أن العاقبة للمتقين فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا.

وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة التي لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب، ولذلك قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ}، فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حبِّ الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإنَّ كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب والقلوب أشد تغيرا من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض.

فكلُّ ما يُبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يُبنى على أمواج البحر، فإنه لا ثبات له، والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء، كلُّ ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه، فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها، فضلاً عما يفوت في الآخرة، فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة، وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا).

- (مَنْ أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه، فإنَّ فتنة الجاه أعظم، ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس، فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال، فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن، كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق؛ لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم، ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة، فمن قنع استغنى عن الناس، وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس، ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن، ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع).
 



روائع غزالية 3/ 3
عمر بن عبد المجيد البيانوني
 

علاج الحسد:
- (إنَّ الحسدَ من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل.
والعلم النافع لمرض الحسد هو: أن تعرف تحقيقاً أنَّ الحسدَ ضررٌ عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضررَ فيه على المحسود في الدنيا والدين، بل ينتفع به فيهما، ومهما عرفتَ هذا عن بصيرة، ولم تكن عدوَّ نفسِك وصديقَ عدوك، فارقتَ الحسدَ لا محالة.


أما كونه ضرراً عليك في الدين،
فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهتَ نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرتَ ذلك واستبشعته، وهذه جنايةٌ على حدقة التوحيد، وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين، وقد انضاف إلى ذلك أنك غششتَ رجلاً من المؤمنين وتركتَ نصيحته، وفارقتَ أولياء الله وأنبياءه في حبِّهم الخير لعباده تعالى، وشاركتَ إبليسَ وسائر الكفار في محبَّتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم، وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل والنهار.

وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا،
فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به ولا تزال في كمد وغم؛ إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نِعَم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها، وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم، فتبقى مغموماً محروماً، متشعب القلب ضيق الصدر، قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك، وتشتهيه لأعدائك، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقداً، ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك، ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد، لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة، فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه، فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة.

وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه،
فواضح لأنَّ النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة، فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه، فلا حيلة في دفعه، بل كل شيء عنده بمقدار، ولكلِّ أجلٍ كتاب).

سبب الخشوع في الصلاة:
- (إنَّ حضورَ القلب سببُه الهمة، فإنَّ قلبَك تابعٌ لهمتك، فلا يحضر إلا فيما يهمك، ومهما أهمك أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى، فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه، والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلاً، بل جائلاً فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا، فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة، والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها، وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى، وأنَّ الصلاة وسيلة إليها، فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهماتها، حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك، فإذا كان لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر، فلا تظننَّ أنَّ له سبباً سوى ضعف الإيمان، فاجتهد الآن في تقوية الإيمان، وطريقه يستقصى في غير هذا الموضع وأما التفهم فسببه بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر، وعلاج دفع الخواطر الشاغلة: قطع موادها، أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها، وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر، فمن أحب شيئا أكثر ذكره، فذكر المحبوب يهجم على القلب بضرورة، لذلك ترى أن من أحب غير الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر، وأما التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين، إحداهما: معرفة جلال الله عزَّ وجلَّ وعظمته، وهو من أصول الإيمان، فإنَّ مَنْ لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه. الثانية: معرفة حقارة النفس وخستها، وكونها عبداً مسخراً مربوباً، حتى يتولد من المعرفتين: الاستكانة والانكسار، والخشوع لله سبحانه، فيعبر عنه بالتعظيم، وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع، فإنَّ المستغني عن غيره، الآمن على نفسه، يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله؛ لأنَّ القرينة الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه، وأما الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته، ونفوذ مشيئته فيه مع قلة المبالاة به، وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرة، هذا مع مطالعة ما يجري على الأنبياء والأولياء من المصائب وأنواع البلاء مع القدرة على الدفع على خلاف ما يشاهد من ملوك الأرض، وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة، وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز و جل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة، فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة، وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حقِّ الله عزَّ وجلَّ، ويقوى ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخلتها، وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عزَّ وجلَّ، والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقَّت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقيناً انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء، فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه، ففي معرفة السبب معرفة العلاج، ورابطة جميع هذه الأسباب: الإيمان واليقين، أعني به هذه المعارف التي ذكرناها، ومعنى كونها يقيناً: انتفاء الشك واستيلاؤها على القلب، وبقدر اليقين يخشع القلب).

من علامات محبة العبد لله تعالى:

- (المحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح، وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار، ودلالة الثمار على الأشجار، وهى كثيرة فمنها: حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام، فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه، وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت، فينبغي أن يكون محباً للموت غير فار منه، فإنَّ المحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقرِّ محبوبه ليتنعم بمشاهدته، والموت مفتاح اللقاء، وباب الدخول إلى المشاهدة).

- (ومنها: أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيلزم مشاق العمل، ويجتنب اتباع الهوى، ويعرض عن دعة الكسل، ولا يزال مواظباً على طاعة الله، ومتقرباً اليه بالنوافل، وطالباً عنده مزايا الدرجات، كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه، وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار فقال: (يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) ومن بقى مستقرا على متابعة الهوى، فمحبوبه ما يهواه، بل يترك المحب هوى نفسه كما قيل:
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
بل الحب اذا غلب قمع الهوى، فلم يبق له تنعم بغير المحبوب).

- (ومنها: أن يكون مستهتراً ([1]) بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئاً أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به فعلامة حب الله: حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب كل مَنْ يُنسب إليه، فإنَّ مَنْ يحب إنساناً يحب كلب محلته، فالمحبة إذا قويت تعدَّت من المحبوب إلى كلِّ ما يكتنف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه، وذلك ليس شركة في الحب، فإنَّ مَنْ أحب رسول المحبوب لأنه رسوله، وكلامه لأنه كلامه، فلم يجاوز حبه إلى غيره بل هو دليل على كمال حبِّه، ومَنْ غلب حبُّ الله على قلبه أحب جميع خلق الله لأنهم خلقه، فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين).

(ومنها: أن يكون أُنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجُّد ويغتنم هَدْءَ الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، وأقل درجات الحب: التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعُّم بمناجاته، فمَنْ كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته؟).

- (علامة المحبة كمال الأُنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعم بالخلوة به، وكمال الاستيحاش من كلِّ ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة، وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة، كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه، وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به، وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به، ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوةُ والمناجاة قرَّةَ عينه، يدفع بها جميع الهموم، بل يستغرق الأُنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مراراً، مثل العاشق الولهان فإنه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه، فالمحبُّ مَنْ لا يطمئن إلا بمحبوبه).

- (ومنها: أن يتنعَّم بالطاعة ولا يستثقلها، ويسقط عنه تعبها، كما قال بعضهم: كابدتُ الليل عشرين سنة، ثم تنعَّمتُ به عشرين سنة).

- (ومنها: أن يكون في حبِّه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم، وقد يظن أن الخوف يضاد الحب، وليس كذلك، بل إدراك العظمة يوجب الهيبة، كما أنَّ إدراك الجمال يوجب الحب، ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبَّة ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأوَّلها: خوف الإعراض، وأشد منه: خوف الحجاب، وأشد منه: خوف الإبعاد).

(ومنها: كتمانُ الحبِّ واجتناب الدعوى، والتوقي من إظهار الوَجْد والمحبَّة، تعظيماً للمحبوب وإجلالاً له، وهيبة منه، وغيرة على سرِّه، فإنَّ الحبَّ سرٌّ من أسرار الحبيب، ولأنه قد يدخل في الدعوى ما يتجاوز حد المعنى ويزيد عليه، فيكون ذلك من الافتراء، وتعظم العقوبة عليه في العقبى، وتتعجل عليه البلوى في الدنيا، نعم قد يكون للمحب سكرة في حبِّه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله، فيظهر عليه حبه، فإن وقع ذلك عن غير تمحُّل أو اكتساب فهو معذور؛ لأنه مقهور، وربما تشتعل من الحبِّ نيرانُه، فلا يُطاق سلطانُه، وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانُه).

الحُرِّيَّة:
(الحرية هي الخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا، والاستيلاء عليها بالقهر تشبُّهاً بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة، ولا يستهويهم الغضب، فإنَّ دَفْعَ آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة).

(وإنما العبد الحق لله عزَّ وجلَّ من أعتق أولاً من غير الله تعالى فصار حُرَّاً مطلقاً فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغاً فحلَّت فيه العبودية لله، فتشغله بالله وبمحبته، وتقيد باطنه وظاهره بطاعته، فلا يكون له مراد إلا الله تعالى، ثم تجاوز هذا إلى مقام آخر أسنى منه يسمى الحرية وهو أن يعتق أيضاً عن إرادته لله من حيث هو، بل يقنع بما يريد الله له من تقريب أو إبعاد، فتفنى إرادته في إرادة الله تعالى، وهذا عبد عتق عن غير الله فصار حُرَّاً ثم عاد وعتق عن نفسه فصار حُرَّاً، وصار مفقوداً لنفسه موجوداً لسيِّده ومولاه إن حركة تحرك وإن سكنه سكن وإن ابتلاه رضي لم يبق فيه متسع لطلب والتماس واعتراض بل هو بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل وهذا منتهى الصدق في العبودية لله تعالى، فالعبد الحق هو الذي وجوده لمولاه لا لنفسه وهذه درجة الصديقين، وأما الحرية عن غير الله فدرجات الصادقين، وبعدها تتحقق العبودية لله تعالى، وما قبل هذا فلا يستحق صاحبه أن يسمى صادقاً ولا صِدِّيقاً، فهذا هو معنى الصدق في القول).

طول الأمل وقصره:
- (وليس مَنْ أَمَله مقصور على شهر كمَنْ أَمَله شهر ويوم، بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله، فـ {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، و {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ}، ثم يظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى العمل، وكل إنسان يدعي أنه قصير الأمل وهو كاذب، إنما يظهر ذلك بأعماله، فإنه يعتنى بأسباب ربما لا يحتاج إليها في سنة، فيدل ذلك على طول أمله، وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نصب العين، لا يغفل عنه ساعة، فليستعد للموت الذي يرد عليه في الوقت، فإن عاش إلى المساء شكر الله تعالى على طاعته، وفرح بأنه لم يضيع نهاره، بل استوفى منه حظه وادخره لنفسه، ثم يستأنف مثله إلى الصباح وهكذا إذا أصبح، ولا يتيسر هذا إلا لمن فرغ القلب عن الغد وما يكون فيه، فمثل هذا إذا مات سعد وغنم، وإن عاش سُرَّ بحسن الاستعداد ولذة المناجاة، فالموت له سعادة، والحياة له مزيد، فليكن الموت على بالك يا مسكين، فإنَّ السير حاث بك وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزل وقطعت المسافة، ولا تكون كذلك إلا بمبادرة العمل اغتناماً لكلِّ نفس أمهلت فيه).

السبب في طول الأمل:
إنَّ طولَ الأمل له سببان: أحدهما: الجهل، والآخر: حبُّ الدنيا؛ أمَّا حبُّ الدنيا فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكلُّ مَنْ كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده، وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا، فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه، ويقدر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودواب وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر موقوفاً عليه، فيلهو عن ذكر الموت فلا يقدر قربه، فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له سوَّف ووعد نفسه وقال الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر فيقول إلى أن تصير شيخاً، فإذا صار شيخاً قال إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار وعمارة هذه الضيعة أو ترجع من هذه السفرة أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له، أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك،

فلا يزال يسوف ويؤخر ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخر وهكذا على التدريج يؤخر يوما بعد يوم ويفضى به شغل إلى شغل بل إلى أشغال إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته، وأكثر أهل النار وصياحهم من سوف يقولون واحزناه من سوف، والمسوف المسكين لا يدرى أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غداً، وإنما يزداد بطول المدة قوة ورسوخاً ويظن أنه يتصور أن يكون للخائض في الدنيا والحافظ لها فراغ قط، وهيهات فما يفرغ منها إلا مَنِ اطَّرَحَها.
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلا إِلَى أَرَبِ
وأصلُ هذه الأماني كلها: حبُّ الدنيا والأُنْس بها).

الأخلاق الحسنة:
(الخلق الحسن صفة سيد المرسلين، وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين، وثمرة مجاهدة المتقين، ورياضة المتعبدين، والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة، كما أنَّ الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس، إلا أنه مرض يفوت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد، ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وإهمالها هو المراد بقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}).

أمهات الأخلاق وأصولها:

(أمهات الأخلاق وأصولها: أربعة، الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، ونعني بالحكمة: حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية.
ونعني بالعدل: حالة للنفس وقوة بها تسوس الغضب والشهوة، وتحملهما على مقتضى الحكمة، وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها.
ونعني بالشجاعة: كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها.
ونعني بالعفة: تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.
فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها؛ إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير، وجودة الذهن وثقابة الرأي، وإصابة الظن، والتفطن لدقائق الأعمال، وخفايا آفات النفوس، ومن إفراطها تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء.
ومن تفريطها يصدر البله والغمارة، والحمق والجنون، وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل، فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء، والفرق بين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطريق فاسد، فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار، فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً.

وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة، وكسر النفس والاحتمال والحلم، والثبات وكظم الغيظ، والوقار والتودد، وأمثالها وهي أخلاق محمودة.

وأما إفراطها وهو التهور، فيصدر منه الصلف والبذخ، والاستشاطة والتكبر والعجب، وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة، والجزع والخساسة وصغر النفس، والانقباض عن تناول الحق الواجب.
وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء، والصبر والمسامحة، والقناعة والورع، واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع، وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره، والوقاحة والخبث، والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة، والعبث والملق والحسد والشماتة، والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك.

فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل والباقي فروعها، ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه، فكلُّ من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

طبيعة النفس:
(إذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه، بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة، فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته، فهو كالميل إلى الطعام والشراب، فإنه مقتضى طبع القلب، فإنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه.
وإنما غذاء القلب: الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل، ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به، كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب، وهما سببان لحياتها، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معيناً له على حبِّ الله تعالى وعلى دينه، فعند ذلك لا يدل ذلك على المرض).

غاية العبادات:

(إن غاية العبادات وثمرة المعاملات أن يموت الإنسان محباً لله عارفاً بالله، ولا محبة إلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر، ولا معرفة إلا بدوام الفكر، وفراغ القلب شرط في كل واحد منهما، ولا فراغ مع المخالطة).

(المقصود من العلوم والأعمال كلها: معرفة الله تعالى، حتى تثمر المعرفة المحبة، فإنَّ المصيرَ إليه، والقدوم بالموت عليه، ومَنْ قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبَّته، ومَنْ فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه.

فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت: حب الأهل والولد، والمال والمسكن والعقار، والرفقاء والأصحاب، فهذا رجلٌ محابُّه كلُّها في الدنيا، فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب، فموتُهُ خروجٌ من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه.
فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى، وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه، والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب، فالدنيا إذن سجنه؛ لأنَّ السجنَ عبارةٌ عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابِّه، فموته قوم على محبوبه وخلاص من السجن، ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر، فهذا أول ما يلقاه كلُّ مَنْ فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب، فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر، وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها، من الأنكال والسلاسل والأغلال، وضروب الخزى والنكال، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين).

رحمك الله أيُّها الإمام، فقد أيقظتنا بعد غفلة، وذكرتنا بعد نسيان، وجدَّدت فينا من معاني العلم والإيمان، جمعنا الله جميعاً في أعلى الجنان.

لقد رحلت من هذه الدار وكأنك لا تزال فيها تعظنا وتعلمنا، تحيي فينا ذكر الآخرة ونعيمها، وتميت فينا الحرص على الدنيا وزينتها، تذكرنا بحقيقة الدنيا وقرب فنائها، وترغبنا بثواب الآخرة ودوام نعيمها، {وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

لقد علمتنا بفعلك قبل قولك كيف يكون الزهد في الدنيا، عندما تركت التدريس في المدرسة النظامية بعد أن كانت شهرتك ومنزلتك قد طبقت الآفاق، فاعتزلت الناس حتى استقامت نفسك وطهر قلبك من حب الجاه والرفعة والمنزلة بين الناس، وامتلأ قلبك من حبِّ الله والرغبة في ثوابه وإخلاص العمل له سبحانه، فعدت إلى التدريس بعد أن تخلَّيتَ من الصفات المذمومة وتحلَّيتَ بأحسن الصفات، أدخلنا الله جميعاً في رحمته.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ.

-------------------------------
([1]) ـ يقال: اسْتُهْتِرَ بأَمر كذا وكذا، أَي: أُولِعَ به لا يتحدّثُ بغيره ولا يفعلُ غيرَه. لسان العرب (هتر).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية