صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مجانين العقلاء .!

د. عبد المجيد البيانوني


بسم الله الرحمن الرحيم


اللهمّ يا ربّ لك الحمد على نعمة العقل بكلّ فصاحة وبيان ، وكلّ حرف ولسان ، وبكلّ لغة للإنس والجانّ ، بما تقدّم من ذلك واندثر ، وبما عمّ وظهر ، وشاع وانتشر ، وبما هو كائن إلى يوم المحشر .. والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان ، الأغرّان الأزهران ، على سيّد الأنبياء ، ودرّة تاج العقلاء من بني البشر .. وبعد ؛ فإنّ نعمة العقل على الإنسان أكبر نعم الله بعد نعمة الإسلام ، وحديثي إليكم أيّها الأحبّة عمّن لا يقدر هذه النعمة قدرها ، ولا يرعى حقّها ، ممّن أسمّيهم : مجانين العقلاء .! نعم ، مجانين العقلاء .! أنا أقصد ما أقول .. لا عقلاء المجانين .! فعقلاء المجانين يتحدّث الناس عنهم كثيراً ويتندّرون ، ويحفظون عنهم من الطرائف والغرائب الشيء الكثير .. وأحسب أنّ أكثر الحديث عنهم لا هدف له إلاّ التفكّه في المجالس ، ونقل المواقف الطريفة المسلّية ..
وفي الناس سفهاء عقول ، أمرهم بيّن ، والسفيه خفيف العقل إلى درجة لا تبلغ حدّ الجنون الظاهر ، وهو الذي لا يحسن التصرّف بماله ، فيشتري الخسيس بالنفيس ، ويبيع النفيس بالخسيس ، ويضيّع المال فيما لا ينفع ، ضج بعد ، ولكنّه يحجر عليه لمصلحته ومصلحة الأمّة ، حتّى يظهر رشده ، فيدفع إليه ماله ..
أمّا مجانين العقلاء فقلّ من ينتبه إليهم وينبّه ، ويتحدّث عنهم وينوّه ، ويرصد نماذجهم ، ويضعها تحت مجهر البحث والنقد .. فمن هم مجانين العقلاء .؟
إنّهم عقلاء فيما يبدو للناس ، لا يظهر عليهم أيّ مظهر للشذوذ عن منطق العقل وأحكامه ، ولكنّ عقولهم في الحقيقة في إجازة مفتوحة ، وتعطيل ظاهر ، وتبلّد يفتقر إلى أدنى شعور .. والتحليل الدقيق لمواقفهم يكشف عن جنون خفيّ مُستَحكِم ومُتحَكِّم ، وأكثر الناس عنه غافلون أو متغافلون ، إذ يحتاج إلى تجلية وبيان .. لأنّ تعطيل العقول عن أحكامها ، وتناقض العقلاء فيما يفعلون ، ضرب من الجنون لا محالة ..
والقرآن الكريم يصف مجانين العقلاء ببيانه المعجز أنّهم : ( .. لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام ، بل هم أضلّ ، أولئك هم الغافلون (179) ) الأعراف .
وأنّهم يتحسّرون على عقولهم المعطّلة ، يوم لا تنفع الحسرة والندامة : ( وقالوا : لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير ، فاعترفوا بذنبهم ، فسحقاً لأصحاب السعير (9 ـ 10) ) الملك .
مجانين العقلاء تفسد تصوّراتهم فيما يقبلون ويرفضون ، وتضطرب مواقفهم فيما يفعلون ويتركون ، وتختلّ موازين أحكامهم ويتناقضون ، وتغلب عليهم الحيرة فيما يأتون ويذرون .. وكأنّهم المعنيّون بقول الشاعر أبي تمّام :

يقضى على المرء في أيّام محنته حتّى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ

( يرى حسناً .. ) تلك هي الرؤية العقليّة القلبيّة ، لا الرؤية البصريّة .. وهي إعاقة للإنسان تشلّ فاعليّته ، وتعطّل مواهبه ، وربّما وصلت به إلى آفة فكريّة ونفسيّة ، مزمنة مستديمة ، لا تنفع معها علاجات الدنيا كلّها ، تتشعّب مسالكها ، وتتنوّع مظاهرها .. إنّها أشدّ أنواع الإعاقة .. فدونها الإعاقات الجسديّة ، والبصريّة ، والسمعيّة ، لأنّ هذه يمكن التغلّب على آثارها ببعض وسائل التقنية المعاصرة ..
وتصوّر أيّها العاقل أنّ أمامك عدداً من أنواع هؤلاء المعاقين عقليّاً .! وهم يرون في قرارة أنفسهم أنّهم عقلاء حكماء ، ويرون أنّك أحوج منهم إلى المعالجة .. فأنّى لك بمعالجتهم ، وتقويم اتّجاهاتهم .؟ فاحمد الله تعالى على نعمة العقل والعافية ..

نماذج وأنواع من مجانين العقلاء :

1 ـ من مجانين العقلاء من يتخلّى عن عقله لأهواء الآخرين الكبراء ، الذين يحكمونهم بدعوى العقول وأحكامها ، ولكنّهم مُستَرقّون لأهوائهم وشهواتهم ، مُستَعبِدون لمن سواهم .. إنّهم الإمّعات التائهون ، الذين يعيشون بغير مبدأ في الحياة ، إنّهم أشبه بقطيع السائمة ، يقول أحدهم : ( أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت .. ) ، كما جاء في الحديث ([1]) ..
وقال الله تعالى في أمثال هؤلاء : ( وقالوا : ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا (67) ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً (68) ) الأحزاب .
وما أكثر هذا الصنف من الناس ! وما أسوأ ابتلاء عقولهم بهم .!
فالإحسان والإساءة عند هؤلاء سواء ، ولا استعداد عندهم أن يغيّروا مواقفهم إلاّ إذا غيّر الآخرون الكبراء ، فعند ذلك تراهم يسارعون ، ويبرّرون ويفلسفون ..
ترى نماذج هؤلاء في الأخلاق والعادات ، والسلوك والمواقف ، وفي أخطر القضايا وأهمّها كالعقيدة والعبادة ، كما في أدناها شأناً ، وأقلّها أهمّيّة ، كمظاهر السلوك والعادات ، وفي كلّ حال يبرّرون مواقفهم بمزيد من التقديس والتعظيم لكبرائهم ..

2 ـ ومن مجانين العقلاء من يبذل النفيس الذي لا يعوّض
، من الشباب والصحّة والمال ، لينال التافه الخسيس ، وما أكثر هذا النوع ! وما أكثر نماذجه !
خذ مثلاً من يبدّد الأموال بتوافه الأعمال ، وخبائث المحرّمات ، كالخمور والمخدّرات ، وصحبة المفسدين الذين لا يكون منهم إلاّ السير في أودية الضلال ..
ومن يضيّع أعزّ ما يملك من زهرة شبابه وميعة صباه باللهو والعبث ، وغيره يبني نفسه ، ويصنع مستقبله ، ويعمر آخرته ..
وفي الحديث الصحيح : ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالفَرَاغ ) ([2]) .
وهذا الحديث أصل كبير في موضوع هذا المقال ، نحبّ أن نقف عنده قليلاً ، لاستجلاء ما فيه من حقائق الوحي والهدى ، التي تضع الإنسان على المسار القويم ، يقول الإمام ابن حجر في شرح هذا الحديث :
" قال ابن بطال : معنى الحديث أنّ المرء لا يكون فارغاً حتّى يكون مكفياً صحيح البدن ، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه ، ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فمن فرط في ذلك فهو المغبون . وأشار بقوله : كثير من الناس إلى أنّ الذي يوفّق لذلك قليل .
وقال ابن الجوزيّ : قد يكون الإنسان صحيحاً ، ولا يكون متفرّغاً لشغله بالمعاش ، وقد يكون مستغنياً ، ولا يكون صحيحاً ، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون ، وتمام ذلك أنّ الدنيا مزرعة الآخرة ، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون ، لأنّ الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم ...
وقال الطيبيّ : ضرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للمكلف مثلاً بالتاجر الذي له رأس مال ، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال ، فطريقه في ذلك أن يتحرّى فيمن يعامله ، ويلزم الصدق والحذق ، لئلاّ يغبن ، فالصحة والفراغ رأس المال ، وينبغي له ان يعامل الله بالإيمان ومجاهدة النفس ، ليربح خيري الدنيا والآخرة . وقريب منه قول الله تعالى : ( هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم .. ) الآيات . وعليه ان يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح . وقوله في الحديث : " مغبون فيهما كثير من الناس " كقوله تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور ) ، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية ([3]) .
وقال ابن بطال : ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أنّ الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم ، وبدأهم بالنعم الجليلة من غير استحقاق منهم لها ، فمنّ عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول ، وتضمّن أرزاقهم ، وضاعف لهم الحسنات ، ولم يضاعف عليهم السيئات ، وأمرهم أن يعبدوه ، ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة ، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة ، وجعل مدّة طاعتهم فى الدنيا منقضية بانقضاء أعمارهم ، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا فى جنات لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فمن أنعم النظر فى هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه فى طاعة ربه ، ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك ، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا ، ومرت أيامه عنه فى سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه ، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم ... ([4]) .
وقال حجة الإسلام : " الدنيا منزل من منازل السائرين إلى الله تعالى ، والبدن مركب ، ومن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتمّ سفره ، وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتمّ أمر التبتل والانقطاع إلى الله " ([5]) .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : ( ثمّ لتُسئلُنّ يومئذٍ عن النعيم ) ( التكاثر ) : النعيم صحّة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : ( إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولاً ) ([6]) .

3 ـ ومن مجانين العقلاء من لا يملك إرادة لعقله على سلوكه
، ولا قوّة ضابطة ، وإنّما سمّي العقل عقلاً لأنّه يعقل صاحبه عمّا يشينه ، ويكبح جماح النفس عن ركوب متاهات الهوى ، ولكنّ هذا الصنف عقله في واد ، وسلوكه في واد آخر .. فربّما عُذر الأخرق السفيه ، إذ هذا مبلغه من العقل ، ولكن أيّ عذر للعاقل إن لم يستعمل عقله .؟!
وقد أثر عن بعض العقلاء الحكماء أنّه كان يكرّر على ابنه الناشئ كلّما أخطأ : " استعمل عقلك يا بنيّ .! " فلمّا سأله عن سرّ ذلك قال له : وهل رأيت خطأ من أخطأ ، وانحراف من انحرف إلاّ لتعطيل عقله ، وإبعاده عن ضبط سلوكه .؟!

4 ـ ومن مجانين العقلاء من يعلم أنّه في الطريق الخطأ
، ويصرّ على الاستمرار فيه ، مكابرة وعناداً ، أو كسلاً وتراخياً عن اقتحام ميدان التغيير ، أو خشية كلام الناس ونقدهم ، ولن يبوء بالخسر سواه ، لأنّه يسترضي الناس على حساب شقائه وسوء عاقبته ..

5 ـ ومن مجانين العقلاء من يعظّمون ما يُحتقر
.. ويحتقرون ما يُعظّم .. فتراهم يلهثون وراء توافه الأمور وسفسافها ، ويعرضون عن معاليها ونفائسها ، وربّما ضيّع أحدهم يوماً من عمره أو أكثر ، لتحصيل ما لا يعود عليه بطائل ..
وأظهر نموذج لهؤلاء من يتمسّك بالعادات والتقاليد ، ويعلم تفاهة كثير منها ، ولا يتخلّى عنها ، ولو كلّفته أشدّ العنت على نفسه وأهله وماله ..
ومن يتتبّع « الموضات » القادمة من أعداء الأمّة والملّة في المجلاّت والإعلانات ، أوّلاً بأوّل ، وبكلّ لهفة وشغف ، ودون أدنى منطق من عقل ، أو حجّة من ذوق .. إلاّ أنّها من فعل فلان أو فلانة من التافهين والتافهات .. فأيّ عقل لهؤلاء .؟!

6 ـ ومن مجانين العقلاء مَن تحكمهم اللحظة الحاضرة
، ولا يستشرفون العواقب ، ولا يفكّرون في المستقبل .. ولو وسّعوا أفق نظرهم قليلاً لأعادوا النظر بأحكامهم ، وغيّروا كثيراً من مواقفهم ، وخفّفوا كثيراً من غلوائهم ..
فكم من رجل سارع في ساعة غضب إلى طلاق زوجته ثلاثاً أو أكثر ، ثمّ ركبته الندامة بعد قليل .! وأخذ يضرب يميناً وشمالاً يبحث عن الحلّ .. ثمّ تكرّر منه هذا الأمر مرّة بعد مرّة .. ويا أيّها المُفتون ! أنقذوا أسرتي من الخراب ..
وكم من رجل لا يعرف إلاّ العنف مع زوجته وأولاده ، والكبت والتسلّط ، ثمّ يقع في بيته عواقب عنفه ، من ردّة فعل لم يحسب لها حساباً ، فيندم ، ولات ساعة مندم .!
وعلى نقيض هذا من يترك الحبل لأهله على الغارب ، فلا يسأل ولا يحاسب ، ولا يوجّه ولا يعاتب ، ولا يعرف من خرج ومن ولج ، بدعوى الثقة وإعطاء الحرّيّة ، وعندما تقع الطامّة ، يعضّ الأصابع من الندامة ..

7 ـ ومن أسوأ أنواع مجانين العقلاء مَن يبيع دينه بعرض من الدنيا
.. كمن يبيع دينه ، ويدنّس شرفه بشهوة ساعة ، تعقبها ندامة عمر ، أو بغضب لحظة تقوده إلى مقتله ، أو يلهث وراء ما لم يكتب له ، فيذلّ نفسه ، ويهدر كرامته ، ويضيّع دينه في سبيله ..
* ـ وشرّ منه من يبيع دينه بدنيا غيره .. كمن يرضى لنفسه أن يكون عبداً للطاغوت من دون الله ، وأداة بيد الظالم الفاجر ، يحرّكها كيف يشاء ، فيبلغ به مآربه ، ثمّ يرميه غير مأسوف عليه ، كما يرمي المنديل الوسخ ..
* ـ وشرّ منهما من يبيع دينه بدنيا عدوّه .. كالجاسوس الخائن ، الذي يجسّ لحساب عدوّ دينه ووطنه ، في سبيل عرض دنيويّ تافه ، أو شهوة نفس دنيئة .. فحقّ على مثله القتل بلا رأفة ، لأنّه ميّت في صورة حيّ ، لا ترتجى حياته ، ولا يؤمل خيره ، بل هو مفسد في الأرض ، قد قتل نفسه ثلاث مرّات قبل أن يخون أمّته ، ويسعى في قتلها ..
8 ـ ومن مجانين العقلاء من يأبى السلوك السويّ ، ويعرض عن الحلال الطيّب ، وهو رهن بنانه ، وطوع يديه ، ويسارع إلى الفعل الشاذّ ، ويركب الصعب إلى السلوك المعوجّ .. والله تعالى يقول : ( قل : لا يَستوي الخبيثُ والطيّبُ ، ولو أعجبكَ كثرةُ الخبيث ، فاتّقوا الله يا أولي الألباب ، لعلّكم تفلحون ) المائدة (100) .

9 ـ ومن مجانين العقلاء من يرى عبر الحياة أمامه وحوله
، ومن أين أتي الناس فيما حلّ بهم من مصائب ، وما نزل بهم من بلاء ، ويسمع عن مصائر الغابرين من المفسدين ، فلا يتّعظ بما يسمع ، ولا يعتبر بما يرى ، ويصرّ على أن يسير مسارهم ، ويسلك مسالكهم ، ثمّ يستنكر ما يأتي به القدر ، وما يحلّ به من بلاء .!

10 ـ ومن مجانين العقلاء من يعاند الحقّ
، وقد قامت حجّته ، وخفقت أعلامه ، وسطعت براهينه ، وعمّت خيراته ، وتهاوت شبهاته ، وأذعن له المنصفون العقلاء ، وشهد له الأعداء ، وسارع إليه السعداء .. فماذا أضرّ الحقّ هؤلاء .؟! إنّه الحقد والكبر ، الذي يملأ القلوب ، ولا يضرّ إلاّ أصحابه ، ولا يصطلي بناره إلاّ موقدوها .. ( إنّ الذين يجادلون في آياتِ الله بغير سُلطان أتاهم ، إن في صُدورهم إلاّ كبرٌ ما هُم ببالغيه ، فاستعِذ بالله ، إنّه هُو السميعُ البصيرُ (56) ) غافر .
وأظهر مثل عن هذا النوع من المجانين أولئك الشيوعيّون ، ومن كان على شاكلتهم ، الذين افتضحت أنظمتهم ، وتهدّم بنيانهم ، وسقطت نظريّتهم ، وظهر عوارها ، وانكشفت سوآتها ، وانفضّ عنها أتباعها في أرضها وديارها ، وتفرّق أنصارها ، وارتفعت أصواتهم في نقدها وفضحها .. وبقي فريق من الأذناب التافهين يكابرون ويعاندون ، ويصرّون على التعلّق بأذيالها ، والتحمّس لها ، والتهالك في الدفاع عنها ، أفليس هؤلاء مجانين في صورة عقلاء .؟! وماذا أضرّ الحقّ هؤلاء .؟!
لقد ضرب الله في القرآن الكريم لهؤلاء مثلاً ، يدلّ على مبلغ جنونهم ، واستغلاق عقولهم ، يقول الله تعالى : ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متمّ نوره ، ولو كره الكافرون (8) ) الصفّ .
وإنّ من يتطاول ليطفئ نور الشمس بفمه نقول عنه مجنون ، فماذا نقول عمّن يريد أن يطفئ نور الله بفمه .؟! أفليس هو أجنّ المجانين .؟! ومع ذلك فهذا الصنف من الناس يصرّون ويكابرون ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ..!

والسؤال المهمّ أخيراً في هذا المقام : كيف يبتلى الإنسان العاقل في ظاهر الأمر ، فيكون مجنوناً بصورة من هذه الصور ؟! وكيف له أن يستمرئ هذا الحال ، ويرضى به .؟!
إنّها معادلة بسيطة ظاهرة ، ولكنّها واسعة متشعبّة ، عميقة متجذّرة ، في حياة الإنسان وسلوكه ، لا ينجو منها إلاّ من استنارت بصيرته بنور الإيمان والعلم ، وحفّته عناية الله وتوفيقه قبل كلّ شيء :

إنّه نقص العلم + غلبة الهوى = تعطيل العقل وتغييبه . وتعطيل العقل هو الجنون بكلّ صورة من هذه الصور ..

وغنيّ عن البيان أنّ غلبة الهوى وراءها الشيطان المتربّص بالإنسان ، كما يتربّص الوحش الكاسر بفريسته .. وعندما يغلب الهوى ويتمكّن ، يستحوذ الشيطان على الإنسان وينسيه ذكر الله ، فما أبعده عندئذٍ عن الفلاح إلاّ أن يشاء الله ..
وبعد ؛ فممّا هو شائع عند عامّة أهل الشام دعوة حكيمة : " اللهمَّ يا مالكَ يوم الدين ، ثبّت علينا العقل والدين " ، فالعقل والدين صنوان ، لا يفترقان إلاّ كان أحدهما بلاء على صاحبه . وهم يقولون ذلك كلّما رأوا خروج أحد عن منطق العقل وبداهته ، وتندّراً ببعض المواقف والتصرّفات ..
وممّا سمعت من بعض المشايخ كلمة مأثورة لم أعرف قائلها : " من عصى الله فارقه عقل لا يعود إليه أبداً .. " إلاّ أن يتوب .
فيا ربّ لك الحمد على نعمة العقل ، ونسألك أن تحفظ علينا ديننا وعقولنا ، وتلهمنا رشدنا ، وتعيذنا من تسلّط الأهواء علينا ، وتحكّم المحن بنا ، وتأخذ بنواصينا إليك ، ولا تجعل للشيطان علينا سبيلاً ..
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية