اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Minute/469.htm?print_it=1

سعدت بإذن الله يا شيخ سعد!!

أبو مهند القمري


بسم الله الرحمن الرحيم


(وفاءً لزوجتى الحبيبة؛ هذا رثاء لوالدها رحمه الله)

سعدت بإذن الله يا شيخ سعد!!

كنا صغاراً . . كان ازدراء الكبار يلاحقنا من كل مكان . . شوية عيال . . جهلة . . يريدون أن يعلمونا الدين من جديد!! تجولت بناظريَّ بين وجوه أقراني، فلم أجد إلا من هم في مثل عمري أو قريب!! فكان الحزن يزداد عمقاً في القلب ألا يكون بيننا رجل رشيد؛ لعله يخاطب الناس عن طهارة دعوتنا، واستقامة طريقنا، لعلهم يصغون إليه السمع طالما قد نفروا منَّا!! إلا أن النداء صار يتطاير في كل ناحية بوصفنا (الغرباء)!!

حتى جاء ذلك اليوم الذي رأيت فيه
لحية بيضاء، قد التف حولها الشباب من رفقاء الطريق مرحبين ومهللين!! قد أضاءت بنورها  أجواء مسجدنا؛ فسألت : من هذا؟ فقالوا إنه الشيخ سعد الذي يذبح للإخوة الذبائح بيديه؛ خشية أن يأكلوا لحوماً قد ذبحت بيدي من يسُب الدين!!

تهلل قلبي فرحاً
بهذا الشيخ الذي خالف إنكار المجتمع لنا، واتخذ قراراً جريئاً بأن يشاطرنا هموم وأحزان الطريق!! وتأصلت صورته في ذهني - على الرغم من عدم معرفته بي - سنين طوال، ولم يمحها بعد الزمان، حتى غادرت بلادي فراراً بديني؛ فإذا بالشيخ سعد قد سبقني إلى نفس البلدة مهاجراً؛ بعدما أثخنته جراح السجون والمعتقلات التي لم تخطئة في أي قضية من قضايا التلفيق التي اصطنعوها للشباب المسلم مع تباشير الصحوة الإسلامية منذ السبعينات على أرض مصر!!

عرفت أنه يقوم
بإمامة المصلين في إحدى المساجد، ففرحت بصحبته في الغربة، غير أني لم أجرأ على زيارته؛ بسبب عدم معرفته السابقة بي، حيث كنت مغموراً بين أصحابي بالنسبة له.

ومرت الأيام، وسألني أحد مشايخي عن السبب في عزوفي عن الزواج، على الرغم من توفر كافة الإمكانات؛ فقلت له : لم أجد صاحبة الدين التي أرتضيها، فأنا أريد فتاة لا تعرف معنى جهاز التلفاز، ومنتقبة منذ أول لحظة لبلوغها، فقال لي : إذا وصلت
!! فقلت له : كيف؟! فقال : الشيخ سعد لديه بنتان حافظات للقرآن، وبنفس المواصفات التي ذكرت!! وأخذني من يدي جبراً وذهبنا لزيارته في الحال!! وكانت تزكية شيخي عند الشيخ سعد كفيلة بأن يبدي موافقته على الفور!! بل ويلبي رغبتي في عقد النكاح في اليوم التالي مباشرة!!

لم أصدق نفسي من
هول الفرحة والمفاجاة معاً!! ولكن زال هول المفاجاة عني؛ بمجرد ارتباطي بتلك الأسرة، التي عرفت من خلالها بحق معنى الالتزام!! فالرجل قد جعل من بيته ساعة لا تتحرك عقاربها إلا على ضوء قال الله وقال رسوله (صلى الله عليه وسلم)!! حازم في أمر دينه!! لا يعرف التمايع مع أوامر الله، ولا الهوادة في قبول الحق والالتزام به!!

يقدم أمر الله على كل ما سواه
!! يعامل الناس بقولبة تجعلهم ينساقون لا إرادياً في تلك الصياغة التي صاغها على النهج الذي يرضي الله!! حيث تسيطر قوة قناعته واعتقاده بما يفعل أو يقول على من أمامه، فلا يترك مجالاً للجدال أو المناقشة!! حتى ارتبطت صورته تماماً في ذهني بمعنى الحزم في الالتزام ولا شيء غيره!!

سرعان ما ذبت حباً في تلك الأسرة، وسعدت
بما استشعرت من رحمة الله بي في تعويضي عن أسرتي التي هاجرت عنها مرغماً بصحبتي لهذه الأسرة السعيدة، وكأن الله يعزيني في فقدان أسرتي، ويمسح الحزن والأسى عن نفسي!!

حتى جاء اليوم الذي طاردني فيه
شؤم ذلك العميل المخلوع وملاحقته لأهل الدعوة في كل مكان في أنحاء العالم!! فأوعز إلى السلطات الأمنية هناك بطردي من تلك البلاد، فقمت بتخيير زوجتي بين رفقتي أو صحبة والديها، فكان منها الود باختيار رفقتي!!

وكانت هذه أولى الصدمات النفسية الموجعة
للشيخ سعد، والتي هدَّت صحته بالفعل هداً!! حيث كان تعلقه بزوجتي دوناً عن سائر أبنائه وبناته أمراً مشهوداً له بين الجميع، فهي صغيرته الحبيبة، وقرة عينه في هذه الحياة!!

وبدأت صحته تتدهور مع مرور الأيام، وبشكل ملحوظ، ما بين جلطة دماغية أو شلل نصفي، حتى أدرك الجميع أن
بداية الانهيار كانت بالفعل مع مغادرة زوجتي لجواره!!

ولم يكن أمامنا سوى عودتها إليه بعد أشهر قليلة من سفرنا، لعل صحته تتحسن، ثم دأبت على زيارته كل عام أو عامين حسبما تيسرت الأمور؛ لعل ذلك يخفف عنه ألم المصاب.

واستمر الوضع على هذه الحالة 15 عاماً، كان فيها وضعه الصحي مطرداً بين التردي والتحسن، حتى قرر العودة إلى مصر وهو على مقعده المتحرك؛ خشية أن يدفن خارجها
!!

وفي ليلة من الليالي؛ عرفت زوجتي بطريق الخطأ أنه راح في إغماءةٍ تامةٍ
!! وأن وضعه الصحي يتدهور بشكل سريع، طلبت مني النزول إلى مصر، فوافقتها، غير أن شقيقها طلب منها التريث؛ حتى يتبين الأمر من الأطباء، ما إذا كانت حالته سوف تتحسن أم لا؟

وبعد يومين أو ثلاثة،
استيقظت زوجتى الساعة الثالثة صباحاً، لتتصل على أسرتها في مصر، وكأن هاتفاً بداخلها قد أيقظها في نفس لحظة احتضار والدها!!

فشعرت بأن الجميع يتهرب من الحديث معها
!! حيث كان بالفعل يعاني سكرات الموت في تلك اللحظة!! بل المدهش في الأمر، أنه استفاق بعد غيبوبته التي استمرت شهراً كاملاً؛ لكي ينطق بالشهادة قرابة الـ 15 مرة، يرددها ويقول الحمد لله، وما أن خرجت روحه من جسده، حتى عادت ملامح وجهه وكأنه عاد إلى الثلاثين من عمره!! صاحب ذلك إشراقة جميلة ملأت وجهه نوراً!!

كان آخر عمل وفقه الله إليه قبل ذهابه في تلك الغيبوبة، هو وصيته لزوجته حين جاءت امرأة تشتكي غلاء المعيشة، وتطلب عدم رفع الإيجار عليها عند أوان التجديد؛ فأوصاها بأن تجدد لها العقد سبع سنوات؛ دون أن تأخذ منها الأجرة مطقاً، ففرحت المرأة فرحاً شديداً، وذهبت والدعاء لا ينفك عن لسانها طلباً له بالمثوبة والأجر
!!

رحمك الله شيخي الحبيب، ووالد زوجتي الحبيبة، وجمعنا وإياك في مقعد صدق عند مليك مقتدر، من غير سابقة عذاب ولا مناقشة حساب
، وعلى الرغم من تماسكي عند سماعي خبر الوفاة، حتى أذكِّر زوجتي بأن الصبر عند الصدمة الأولى، إلا أن سيلاً من الدموع قد انهمر من عيني لا إرادياً بمجرد خلوتي، وسفري وحيداً بعيداً عن زوجتي المكلومة، حتى لا أزيد عليها الحزن والبكاء، فرحمك الله شيخنا الحبيب داعياً، ورحمك الله مربياً، ورحمك الله وأنت لفعل الخيرات دوماً سابقاً، ولعل تلك الخاتمة الجميلة، هي أعز ما يهون علينا ألم الفراق!!

ولعلك بها قد سعدت بإذن الله يا شيخ سعد

 

منوعات الفوائد