اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Minute/304.htm?print_it=1

الطابور السادس

د. عبدالرحمن ذاكر الهاشمي


بسم الله الرحمن الرحيم

 

لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مُعلِّم الناس الدِّين، وآله وصحابته، ومَن اتبع دينه إلى يوم الدين، سلام من الله عليكم ورحمة وبركاته.

المادة في سطور:
من أين جاءتْ فكرة الطوابير؟
قصة "الطابور السادس".
أسباب ظهور "الطابور السادس" وانتشاره.

صور "الطابور السادس" في حياتنا اليومية.
رسائل علاجية موجهة لكلّ سبب من أسباب ظهور "الطابور السادس" وانتشاره.

من أين جاءت فكرة الطوابير؟

أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي نشِبتْ عام 1936 للميلاد، والتي استمرتْ ثلاث سنوات، قام الجنرال كويبو كيللانو - أحد قادة القوات الوطنية الزاحفة إلى مدريد، وكانتْ تتكوَّن مِنْ أربعة طوابير منَ الثوّار - وقال: إن هناك طابورًا خامسًا يعمل داخل مدريد، ويقوم بإيصال المعلومات ومحاربة الحكومة في مدريد، وترسَّخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحروب، واتَّسَع ليشملَ مُرَوِّجي الشائعات، ومنظمي الحروب النفسية.

هذه هي فكرة الطوابير الخمسة الأولى.

وحديثنا اليوم عن طابور جديد هو: الطابور السادس، وأترككم بدايةً مع قصة توضح المفهوم.
 

حِصْن من بين الحصون كان قد كُتب له وأُريد له أن يقود، فكانتْ سُنةُ الله في الأيام تجعله يظهر زمنًا، ويخبو زمنًا آخر، حتى بزَغَ فجرُه، فكان منارة علم، وحضارة وتمدُّن، وصار في فترة قياسية محطَّ أنظار الآخرين، يتوافَدون إليه، ويتعلمون منه، كان لديه قيادةٌ واعية تُخطط له وترسم له المستقبل، محققة رسالةً ساميةً وأهدافًا نبيلة، ومع مرور الزمن، ولأسباب مختلفة، تراجع هذا الحصنُ الكبيرُ بمقوماته الحضارية والفكرية، لتتقدَّمَ عليه الحصونُ الأخرى التي كانت تَتَرَبَّص به، وتعمل بشكلٍ أو بآخر، وبقصْد أو بغير قصد، على إضعافِه والتغلُّب عليه.

وفعلاً تقدَّمَت الحصون الأخرى، حتى صارتْ راياتها محطّ أنظار أهْل الحصن الأول، فأُعْجِبوا بها وبِحُصُونها، حتى من قبل أن يروا ما فيها.

وصار شباب الحصن الأول بين أمرَيْن:
الأول: الشعور بالضِّيق من حالة الحصن الأول - الذي نشؤوا فيه - والتي بلغت بهم حد الشعور بقلة - أو عدم - الانتماء إليه، وعدم محبته، كما كان الأمر سابقًا.
والثاني: مشاعر مختلطة من الفضول لمعرفة ما تمتلكه الحصونُ الأخرى، والنقص والتخلُّف، والرغبة في الالتحاق بركب "المتقدِّمين".

وفعلاً بدأتْ فكرة الهجرة تَتَسَلَّل إلى قُلُوب وعقولِ الأجيال الناشئة في عصر تَقَهْقُر الحصن الأول، وتَحَوَّلَت الفكرةُ إلى عمل، يدفعها ويغذيها طلبُ المعرفة والعلم من جهةٍ، وطلب المال من جهة أخرى.

وكانتْ قيادة الحصن الأول قيادةً حرَّةً منفتحة، تحب الخيرَ لأبنائها ولغيرهم، ورسالتها الراقية - رغم كل ظروف التراجُع - إنسانية عالمية، توصي بنشر الخير والانفتاح على كل الحصون، ولم يكن الكرهُ والحقدُ يعمي نفوس القائمين على هذا الحصن، فقاموا إلى الأبناء، وقالوا لهم بقلوب يملؤها الحبُّ والعطاء: يا أبناء العزة والفخار، إليكم نعطي الميراث الذي ورثناه عن الآباء والأجداد، نعطيكم سرَّ النجاح وسر البقاء والديمومة لهذا الحصن، وطريق العودة إلى العزة والفخار، فعليكم باتِّباع هذا الميراث.

وضمنتْ قيادة الحصن ما تريد إبلاغه لأبنائها في "رسالةٍ"، احتوتْ هذه الرسالةُ على الخطوط العريضة لإنسانية الأجيال، وقيامها بدَوْرها في هذه الأرض، احتوت "الرسالةُ" على الإجابة النظريةِ والعمليَّة عن السؤالين: "مَن أنا؟ ولِمَ أنا؟"، كما احتوت "الرسالةُ" تفصيل الإجابة في ثلاثة محاور رئيسة: "الهُوية، والوظيفة، والهدَف".

إلا أنَّ الأمرَ لَمْ يكن بالسهولة المتوقَّعة، ولا كما ظنَّ بعضُ العاملين تحت قيادة الحصْن؛ فكان أن الأبناء - سواء مَن بقوا في الحصن، أو من غادروا الحصن، سواء بنية الهجرة أو مجرد السفر - اختلفوا في التعامل مع هذه "الرسالة"؛ فمنهم مَن أسقطوها من حسابهم فور استلامها، ورموا بها في الهواء أو في أقرب سلَّة للنفايات، ومنهم مَن وضعوها على رفٍّ من رفوف مكتبة المنزل أو احتفظوا بها في جُيُوبهم، على أن يقرؤوها لاحقًا، ومنهم من حملوها معهم إلى الحصون الأخرى، فما أن رأوا ما في تلك الحصون مِنْ "تقدُّم وحضارة"، حتى صدمتْهم النظرةُ الأولى، فسقطتْ منهم "الرسالة" - ولو دون قصد - فأضاعوها.

وكانتْ قيادة الحصونِ الأخرى حريصةً على تتبُّع القادمين إليها من الحصن الأول خاصة، ومن غيره عامة، وكانتْ تحرص على تتبُّع "المتميِّزين منهم"، وعندما رأى بعضُ الجنود "الرسائل" التي سقطتْ مِنْ يد بعض القادمين، فتَحُوها ليقرؤوا ما تَحْويه، فما كان من البعض منهم إلا أن جزعوا جزعًا شديدًا؛ إذ تصوَّروا أن تطبيق ما جاء في هذه "الرسالة" يعني قيامَ الحصن الأول وعَوْدته إلى سابق مجْدِه على أنقاضِهم، والقضاء على حُصُونهم، فما كان منهم إلا أن عرضوا الأمرَ على قيادتهم.

وهنا كان قرارُ القيادة ما يلي: إعادة "الرسالة" إلى مكانِها، وتنْبيه أصحابها إليها، ولكن قبل هذا إجراء بعض "التعديلات" على مُحتوى "الرسالة"؛ أي: تزْوير ما جاء فيها، مع الحرْصِ على ألا يَشْعُر أصحاب "الرسالة" بهذا "التزوير".

وكان هذا ما حصَل فقاموا بتزْوير "الرسالة" ونشْرها في أرجاء الحُصون الأخرى، بل وحرصتْ قيادة تلك الحصون على تسْخير كلِّ طاقاتها في محاولة تسويق "النسخة المعدَّلة من الرسالة" في الحصن الأول.

وتلقَّتْ غالبيَّةُ أجيال الحصن الأول - المهزومة سابقًا - "الرسالة المعدَّلة" بترحيبٍ شديد، وحسن ظنٍّ بالغٍ، وشعور بالتفاؤُل بحقبة جديدة من التعامل مع "الآخر"، ملؤها الحوار والحضاري، والاحترام المتبادل، والتعايش الحر السمح.
 

وبعد سنوات، وبطبيعة الحال، كان لا بُد للمسافرين من عودة، وكان لا بُدَّ للغائبين من رجوع، وكان لا بد للمهاجرين مِن لحظة حنين إلى "وطنهم" الذي هو الحصن الأول، وكما اختلف تعامُلهم مع "الرسالة" بادئ الأمر، اختلف كذلك تعامُلهم مع الشعور بالحنين ولحظة "الوطنية"؛ فمنهم مَن رأوا أن أفضل ما يُمكن أن يقدموه لأنفسهم وللحصن الأول هو أن يعودوا ليعملوا فيه - إمَّا تعبًا من حياتهم في الحصون الأخرى، أو رغبة حقيقية في العودة لما يظنون أنه الأفضل - مستفيدين من الكمِّ الذي حصلوا عليه من الحصون الأخرى، علمًا وخبرةً ومالاً، ومنهم مَن رأوا أن الأفضل أن يبقوا في الحصون الأخرى، فيحتفظوا بما وصَلُوا إليه من مكانةٍ مرموقة - علمًا، أو خبرةً، أو مالاً - ومُحاولين أن يساعدوا أهلهم في الحصْن الأول من مواقعهم المختلفة هناك.
 

ومنهم مَن أعلنوا انتماءَهم الكامل للحُصُون الأخرى، إلا أنهم لَم يَتَبَرَّؤُوا تمامًا من الحصن الأول، وحاولوا الحفاظ على شيءٍ مما يربطهم - راغمين - بهذا الحصْن من علاقات أسرية وذكريات وعاطفة وغير ذلك.
 

وتذَكَّر جميعُ هؤلاء "الرسالة"، ورأوا أنه قد آن الأوانُ ليفتحوا "الرسالة"، ويقرؤوا ما جاء فيها ليعملوا به، ويدركوا ما فاتهم، محاولين بذلك خدمة وطنهم، والعمل على النهضة بالحصن الأول.
 

وفعلاً قرؤوا "الرسالة"، وبدؤوا يعملون بجدٍّ واجتهاد؛ ليُطَبِّقوا ما جاء فيها من تعاليم وقِيَم ومنهج، فكانوا يطبقون ما جاء فيها، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، ولكنهم في حقيقة الأمر، كانوا يعملون بمنهج الحُصُون الأخرى، بمنهج العدو، كانوا ينفِّذُون حرفيًّا ما رَسَمَه له عدوُّهم لتحقيق مآرِبِه هو، كانوا يُحطمون حِصْنهم من الداخل، كانوا يضْربون أسسه التي قام عليها، كانوا معاول هدْمٍ في هيئة عوامل بناء.
 

إذًا؛ فالطابور السادس هو ذلك الطابور الذي يخدم العدو دون قصد، إمَّا نتيجة الجهل، أو عدم إدراك معالم "الرسالة" - الهُوية، والوظيفة، والهدَف - أو الانبهار بالآخر، هو ذلك الطابور الذي يحاول أن يخدمَ وطنَه وفكْرَه وأُمته - هذا في حال حُسن الظَّن، بعيدًا عن أولئك الذين لا يخدمون إلا بهيميتهم ومصالحهم الشخصية الدنيئة - ولكنه دون قصد يُدَمِّر مجتمعَه.
 

هذه هي قصة الطابور السادس.

ولِجَعْل القصة أشد وضوحًا، ولتكون واقعًا يسهل فَهْمُه، وإسقاط رموزه على حياتنا اليوميَّة، وليعرف كلٌّ منَّا أين هو، وأين هي مِن رموز القصة، فدونكم فكًّا لرُمُوزها.

أما الحصن الأول:
فهو الإسلام - عقيدةً ومنهجًا وفن حياة - الدِّين الذي بدأ منذ أن أرادَ الله لآدم أن يكونَ خليفةً في الأرض، وانتهى بالرسالة الخاتمة التي جاء بها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - والتي تصلُح لكلِّ زمان ومكان حتى نلقى الله.

وبهذا فإنَّ "الرسالة" ببساطة: الإسلام، وُجُود الخالق، ووظيفة المخلوق، الخلافة في الأرض، الأدوار الموَزَّعة على كل شخص منَّا في مكانه أو مكانها؛ للقيام بالدور التكامُلي على وجه هذه الأرض.

وأما الحصون الأخرى:
فيُمَثِّلُها ضعْفُ الإنسانية، الذي تحوَّل إلى "دينٍ" في حدِّ ذاته، واتخذ أشكال المؤسسات، فبدأ هذا الضعفُ بالحرب، واتخذ هذا الضعفُ أشكالاً مختلفة: الجهلة - من أبناء المسلمين خاصة، والشرق عامة - والمستشرقين، والمنصِّرين، والمُلحدين، والعلمانيين، وغيرهم، وانتهاء بالجبهة الغربية التي يُمَثل رأس حربتها السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.

اتخذ هذا الضعف أسلحة مختلفة: حربًا عقَدِية، طُرُقًا غير نظيفة وغير شريفة؛ الكذب والغش، والتزوير والتحريف، والدجَل والبهتان، وقلب الحقائق.
سَخَّر هذا الضعْفُ وسائل مختلفة: الأموال الطائلة، والإعلام الضخم المدعوم من جهات كبرى، وأما صور تلك الحصون، فسيمر بنا لاحقًا في هذه المادة - إن شاء الله.

وأما "الطابور السادس":
فهو الظاهر من ذلك الجيل الذي قدَّر الله له أن ينشأ كنتيجة وسبب لظروف الضعْف التي تمر بالأمة الإسلامية، وليس بالضرورة أن يكونَ كلُّ مَن ينتمون إلى هذه الحقبة أو إلى هذا الجيل "طابورًا سادسًا"، بل هو مَن تحقَّق فيهم الجهْل، والتبَعيَّة، ومسْخ الهُويَّة، وغياب مفهوم الوظيفة، وضياع الهدف.

وأما صور "الطابور السادس" وأشكاله المختلفة، فستأتي تباعًا - إن شاء الله.

لافتة:
عندما نذكُر لفْظ "الغرب" أو "الآخر"، فإنَّنا نعْني به: الغرْب الذي يُعادي الإسلامَ جُملةً وتفْصيلاً، ولا نُعَمِّم بهذا اللفظ كل أبناء الغرْب، فإنما ننطلق من قوله تعالى في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
 

أولاً: "التربية البهيميَّة" وآثارها:
تنبهَّتُ مؤَخَّرًا لأمرٍ كان يخطُر على ذهني بين والحين والآخر، إلا أنَّني توقَّفْتُ عنده جادًّا هذه المرة، توقَّفْتُ قليلاً لأجد أنني - ونفرًا غيري - في خطرٍ، ألا وهو: الانشغال بأُمُور كثيرة تصُب في دائرة "البهيميَّة"، أو العيش البَهِيمي، في الوقت الذي نسَينا فيه أمرَ النفس والأهل والأقربين والأصحاب، نعم، نَتَزَاوَر ويلتقي بعضنا ببعضٍ للحديث في كثيرٍ من الأمور التي قد لا تخرُج عن دائرة "اللَّغْو"، إلا أنَّنا لا نقومُ بأمر "النصيحة الواجبة"، في حين نعتقد بوُجُوب النصيحة في أمورٍ ثانوية؛ أمور مثل: اختيار نوع تلفزيون، أو نوع سيارة، أو عقار للاستثمار، أو حتى نوع من الملابس، أو وجبة طعام شهيَّة، وقد تأخذ منَّا هذه الموضوعات ساعات وساعات.

لن أطيلَ عليكم، فإليكم خلاصةَ ما أود قوله:
لا أريد لي ولا لكم أن نكونَ نحن أو أبناؤنا من أولئك "الغافلين"، الذين ألتقيهم بين الحين والآخر، وأسألهم: مَن أنت؟ لماذا أنت في هذه الحياة؟ فتكون الإجابة أقرب إلى البهيميَّة منها إلى الإنسانية التي أرادها الله لنا، ومن أمثلة الإجابات: "فقط هكذا!"، أو: "ماذا تعني بهذا السؤال؟" أو: "هذا سؤال فلسفي، ولا داعي لتعْقيد الأمور"، أو: "أدرس وأتعلَّم ثم أتزوج وأُنْجِب ثم يكبر الأولاد!"، أو: "لا أعرف، فلم أُفَكِّر يومًا في الإجابة فعلاً عن هذا السؤال"، أو: "أكيد أنني أعيش لأعبد الله"، فإذا سألتهم: "وما هو تعريفُك للعبادة؟"، بدَأَت الأَوْجُه بالتلوُّن؛ لأنهم لا يعلمون ما الذي يَتَحَدَّثُون عنه!

ولا أريد لي ولا لكم أن نكونَ ممن يظنون أنهم يؤَدُّون واجبهم تجاه أنفسهم أو أهليهم بمجرد أن يوفروا لهم الطعامَ والشراب والملبس والمسكن وأماكن الدراسة الأكاديمية، فهذه أمور لا تزيد كثيرًا عما تُقَدِّمُه البهائم لبعْضِها، فبعضُ أولياء الأمور صاروا يحْرِصُون أن يعلموا هم وأبناؤهم "من أين تؤكَل الكتف"، فيما يتعلق بالمعيشة البهيميَّة في هذه الدُّنيا، في حين أنهم يَجْهَلُون تمامًا ما "يحتاجونه" إذا ما تعلَّقَ الأمْرُ بـ: "مَنْ أنا؟ ولِمَ أنا؟"، فصار تفوُّق هؤلاء كتفوِّق بعض أنواع القِرَدَةِ التي تسعى لتعليم "أبنائها" مهارات تؤهِّلها دخول عالم الإنسان عن طريق "السيرك"!

إنَّ التفوُّق في تعليم أبنائنا التميُّز الأكاديمي، وتجاوز الثانوية العامة أو الشهادة الثانوية بمَنْهَجِها الأمريكي، أو البريطاني، أو الدراسة الجامعية، أو امتحانات "TOEFL"، أو "GRE"، أو "MBA"، أو "CBA"، أو غيرها، إن كل هذا لا يعني الطمأنينة أو السعادة أو الرضا، إن هي إلا مهارات دنيويَّة، وأدوات تأخذ من أهلها أهميتها.

ولا أريد لي ولا لكم أن نكونَ ممن يسهمون في إفساد الأرض والحياة، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، ثم نعود بعدها لنشتكي الفساد المنتشر، والظلم الطاغي، وندَّعي أنه لا يد لنا في هذا، فنحن لسنا مديرين، أو سياسيين، أو صانعي قرار، في الوقت الذي نسهم في صناعة مسؤولين فاسدين، وعمال مرتشين، أو على الأقل مواطنين سالبين وسلبيين، وذلك عن طريق التربية "البهيمية" التي ذكرْتُها سابقًا.

إن هذا كله مِنْ شأنه أن يُحَوِّلَ الأسرة إلى مصنع يقدم "الطابور السادس" بكل رحابة صدر، ودون ثمن مقابل يُذْكَر.

ثانيًا: "الرسالة المُزَوَّرة" بين المدرسة والمسجد:
لا يخفى ما نعانيه اليوم مِنْ خلَلٍ كبيرٍ في مؤسَّستَيْن هامتَيْن من مؤسساتنا التربوية التي تصقل مفاهيم الإنسان، أو فلنقل: تصقل مضمون "الرسالة"، إن هذا الخللَ يجعل من هاتَيْن المؤسستَيْن مصْنعًا ينتج جيلاً من "الطابور السادس"، ذلك أنَّ المدرسة أصبحتْ ترسخ "التربية البهيميَّة" التي سبقها إليها البيتُ، وتؤكِّد على أن المادة هي أساس الحياة، وأن العلمَ أصبح وسيلةً للحُصُول على المال، أصبحتْ رسالةُ المدرسة تكاد تكون محصورةً في الشهادات الأكاديمية، والمعلومات التي تصب في عقلِ الطالب، ثم يقوم باستخراجها عندما تطلب منه "ساعة الامتحان".

أصبحت المدرسةُ تُصوِّر النجاح بتلك الإنجازات المادية التي قد تُقام على تجاوُزات دينية وأخلاقية، أصبحتْ مدارسُنا عبارةً عن مواقعَ لإنتاج الحواسيب البشرية التي تُدار وتتحرك بـ"رسائل مزورة" عنْ وُجُودنا في الأرض، لم تَعُد المدرسة ذلك الكيان الذي يزرع القِيَم والأخلاق والمحبَّة والعطاء، لَم يَعُد هناك علاقةٌ بين المُعلِّم والطالب سوى علاقة "العلامة"، وحتى "العلامة" يُمكن الحصولُ عليها بطرقٍ أخرى أحيانًا!

هذا كله في المؤسسة الأولى، وهذا الخللُ الكبير يُدَمِّرُ المجتمعَ المسلم وقيَمه، ويزيد الطين بِلة عندما يكونُ القائمون على أمْر التعليم في مدارسنا أفرادًا مِن "الطابور السادس"، مهما اختلفتْ مُسمياتهم المهنية.

أما المؤسسة الثانية: "المسجد":
فقد أضاعتْ هي الأخرى - إلاَّ ما رَحِم ربُّك - رسالتها التربوية، التي تَتَحَدَّث عن مفهوم الخِلافة في الأرض، وتزكية النفس، وقواعد التعامُل مع الآخرين؛ من قَبُول وانفتاح وتسامُح، ومحبَّة وعطاء، وعمل وإنتاج، واستمرارية وصبر، ووقع المسجد في فخِّ التطرُّف، فإما إفراط، وإما تفريط.

إنَّ "الرسالة المزوَّرة" قد تكون إمَّا تَشَدُّدًا وغلوًّا لا يقرُّه عقلٌ ولا نقلٌ، وإما تمييعًا للشريعة، وانسلاخًا من الهُويَّة الأصيلة؛ سعيًا لإرضاء هذا أو ذاك.

إنَّ مساجدنا اليوم مفرغة من رسالتها الرُّوحيَّة، أصبحتْ مكانًا تجتمع فيه أجسادٌ لا روح فيها، (أو روحها فاسدة)، تُرَكِّز على مظاهر النسُك دون بناء الإيمان - العقيدة - والأخلاق، وإن حصل وذُكِر الإيمانُ والأخلاقُ فلا ربط بواقع الحياة، ولا إسقاط على ميادين الحياة اليوميَّة.

ثالثًا: الإعلام المُوَجَّه:
إنَّ إعلامنا اليوم يُعاني مِنْ مشكلةٍ أكبر مما يتصوره بعض "الطيبين"، إنَّ الخطورة ليستْ في الإعلام الذي يحمل هُوية شبه واضحة - مع أن حتى هذا الإعلام أصبح يحتاج إلى التنْبيه عليه، والتحذير من خُطُورته، في ظلِّ حقيقة كون الجماهير لا تكاد تعقل ما ترى وتسمع ولا تتدبره - ولكن الخطورة - كما أراها - تكْمُن في ذلك الإعلام الذي يتحدث باسم الأمة، وباسم المدافعين عن هُويتها، وباسم المخلصين من أبنائها وبناتها، ثُم ما هو في الحقيقة إلا متحدث باسم "الآخر"، وكم مِنْ "فضائية" تغذيها وتشرف على نُموِّها بلدان وجِهات وشخصيات "مسلمة"، إلا أنها تقطر سُمًّا زعافًا فيما تطرحه من موادَّ مرئيةٍ أو مسموعة.

لقد بلغ الأمرُ بي أنَّني ترَدَّدتُ كثيرًا قبل أن أكتبَ هذه الكلمات؛ لأنَّني خشيتُ أن أظلم أحدًا بلفْظ يُفهم منه تعميم، أو تجريح، أو غمز، إلا أنني وجدتني في أمسِّ الحاجة لأن أُبَيِّن هذا الخطر، بل إن من أكثر ما كنتُ أخشاه هو مسألة التعميم، فلا أكاد أستثني من إعلام "الأمة" إلا بضع قنوات؛ بعضها محلي، وأقل منه هو تلك الفضائيتان أو الثلاث.

حتى ما بات يُعرف على أنه "إعلام إسلامي"، صِرْنا نخشى أن نؤتَى منه، فلا رقابة "شرعية" كما يَجِب، ولا "هُوية واضحة عزيزة" كما نحب ونفهم من كتاب الله وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم - ولا حتى فنًّا راقيًا كما ينبغي للفنِّ أن يكون، إن هي إلا محاولات سمجة لتقليد كل ما هو "غربي"، مع شيءٍ من محاولات "الأسلمة"، ويا ليتها "أسلمة" ذكية، فهل كثير من الفضائيات الإسلامية تؤدِّي ما ينبغي لها أو بها؟ أو أنها - قصدت أم لم تقصد - تغذي ما يريدُه أعداءُ الأمَّة من تحطيم للرُّموز الشرعية، وشغل للأمة بفروع، بعيدًا عن قضاياها الرئيسة - من عقيدة، وأصول، وقيام بأمر الخلافة في شتى مناحي الحياة... إلخ - وتقاتُل بين "المشايخ" و"الدعاة"، وترسيخ قاعدة التجهيل لعوام جمهور المسلمين، بالاعتماد على "الفتاوى السريعة"... إلخ؟

رابعًا: الهُويَّة الممسوخة في "الجامعة":
ننتقل من مرحلةٍ إلى أخرى، لنجدَ أن مصانع "الطابور السادس" يُضاف إليها مصنع آخر، برداء آخر؛ الجامعة، تلك المؤسسة التي يفترض بها أن تخرج بنَّائِين يبنون الحِجر - بكسر الحاء - ثم الحَجر - بفتح الحاء.

والأمر لا يحتاج إلى تفصيلٍ كثيرٍ؛ فإن زيارةً واحدة إلى أية جامعة من جامعاتنا - حكومية كانتْ أم أهلية خاصة - لَكفيلة بأن ترينا من أعراض "الطابور السادس" وأشكاله المختلفة الشيء الكثير.

الجامعةُ أصبحتْ رمزًا للفترة "الضائعة" من حياة شبابنا، فهُمْ عالةٌ على أهليهم أو حكوماتهم، يتَوجَّهُون إلى الجامعة لقضاء "أوقات فراغ مدْفوعة الأجر مع علاوة متمثلة بورقة توضَع على الحائط في آخر المشوار"! فكيف إذا أضَفْنا إلى هذا عوامل الهدم الأخرى؟!

ومِنْ هذه العوامل:
منهج التعليم الذي تَمَّ استيرادُه دون فحْصٍ أو عرض على "مصفاة الأفكار"، فجاء في صورةٍ ظاهرُها العلم التجريبي الحديث، وباطنُها جاهلية الغرب وأعرافه، فإنَّ من السذاجة أن نتصَوَّر أن التقانة تدخل إلى بلادنا عفيفة طاهرة نقية، وإن من البلاهة أن نظنَّ أن العلوم الإنسانية تأتي موضوعية مجردة، لَم تعبث بها يد المزوّرين؛ وإن من الطبيعي أن خير مَن يسوق لهذا المنهج هو عامل آخر من عوامل الهدم: معلم - أو ما يسمى دكتورًا - يقطر فمُه خيانة في كل حصة من حصص التعليم داخل الفصل الجامعي، وهو يُمَجِّد الجامعة التي تخرَّج منها في "الغرب"، والبلد الذي سكن فيها، بل والحي الذي كان فيه، في حين أنه يَتَمَعَّر وجْهُه إذا جاء على ذِكْر حسنة واحدة مِن حسنات وطنِه، وهو الذي يدفع في كل هذا بكَمٍّ هائل من الرسائل الإيحائية التي تقول للشباب: "غادروا هذا الوطن المتخَلِّف، والحقوا بركْب الحضارة، وإياكم أن تخطئوا خطئي بالعودة إلى هنا"، وهو الذي يسخر من كل إنجاز يقوم به طلابُه بأنه بسيط، وأن الغرب قد سبقنا إليه أشواطًا، هذا كله يبني فينا "الطابور السادس" بقِيَمِه السالبة.

ومن هذه العوامل:
ما يُعرف بـ"الوضع الأمني"، فإنَّ أي تحرُّك لأيَّة جهةٍ طالبية فيما يُعرف بـ"الحرَم الجامعي"؛ سعيًا لتَوْعِية مجتمعية، أو تنمية بشرية، أو مشاركة سياسية - كفيلٌ بأن يجعل أصحابه "على القائمة السوداء"، وكمْ شَهِدْنا طلاَّبًا وطالبات متفوقين أو من أوائل كلياتهم، إلا إنهم لم يتمكَّنُوا من العمل بسهولة في "وطنهم"؛ لأنَّ الجهات الأمنية لَم توافقْ على منْحهم ما يُعرف بـ"شهادة حُسن السيرة والسلوك"، لا لشيء إلا لأنهم كانوا "مشاغبين" حسب تعريف الجهات الأمنية، فمن أين لطلابنا وطالباتنا بالشعور بالانتماء والفعالية؟!

ومن هذه العوامل:
سوق العمل، وهو ما سنأتي على ذكره لاحقًا - إن شاء الله - فهل بعد هذا كله نؤَمِّل من جامعاتنا ألا تكونَ هي الأخرى إلا معول هدْم في صورة عامل بناء؟!

خامسًا: سوق العمل والنجاح الغربي:
إنَّ كلَّ ما تقدَّم من أسباب - التربية البهيميَّة، والرسالة المزوّرة بين المدرسة والمسجد، والهُوية الممسوخة في الجامعة - لا بُدَّ أن يوَصِّلنا إلى هذا العامل، بِحُكم السبب والنتيجة، وإن كان هذا العامل في حدِّ ذاته سبب لما بعده أيضًا.

انتشرتْ مؤخرًا - فيما يُعرَف بـ"سوق العمل" - بدْعَةٌ جديدة، ألا وهي بدْعة الدورات التدريبية، التي تَتَخَصَّص في مفاهيم الإدارة والتسويق والتخطيط، وما إلى ذلك من مسميات تحمل معها لَمَعانَ ما تَحْمله من "زخرف"، والخطر في هذه الدورات ليس عناوينها أو أهدافها (الطيبة)، أو حتى ضرورتها لِمُواكبة التقدُّم في سوق العمل، فكل هذا مما لا نظن فيه سوءًا، ولكن الخطرَ يكْمُن في المنهج الذي يتبعه أفرادُ "الطابور السادس" من بعض القائمين على هذه الدورات التدريبية، المنهج الذي يسوق للنجاح على أنه لا يعرف إلا بمفردات النجاح "الغربي"، النجاح الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعريفات الرأسمالية - شركات، وشخصيات، وسوق عمل - دون أي اعتبار لكثيرٍ مِن حُدُود الدِّين الذي قد يتم تجاوُزها في سبيل هذا النوع من "النجاح"، ومن المُضْحِك بعد هذا أن يدعمَ أحدُهم ما لديه من أفكار بآيةٍ قرآنية، أو بحديث نبوي!

فصارتْ فكرةُ العمل والنجاح في سوق العمل إنَّما هي مستورد "غربي"، يحمل معه كلَّ قِيَم المادية والوُصُولية والغائية، التي لا يقوم للأخلاق الروحية معها قائم، ما علينا إلا أن نسأل شبابنا سؤالاً واحدًا؛ لنعلمَ أين هم من هذا الحديث:
"كيف تكتب أو تكتبين سيرتك المهنية؟"، أو ما يُعرَف بـ"CV"؛ لنجدَ حينها أن أبسط مقومات التقدُّم إلى سوق العمل إنما ينبغي أن يكون بمعايير "الغرب"، سيقول البعضُ مُعترضًا: ولكن أين الخطأ في هذا؟ أليس الحكمة ضالة المؤمن؟ أليس مطلوب منَّا أن نطلب العلم ونسعى إليه حيث كان؟

أقول: نعم، ولكن عندما يجمعني لقاءٌ بعدد من الشباب المتفوقين في مجالاتهم، وأسألهم عن أحوال عملِهم، فيظهر لي أنهم لا يصطحبون معهم "الدين" إلى أماكن عملِهم، وعندما يُعلن لي أحدُهم أنه "يخْجل" من الصلاة أو الإمساك بالمُصْحف وقراءة القرآن في مكتبه "الخاص"، والذي هو في شركة "عالمية ومتعدِّدة الجنسيات"، وعندما يقول لي آخر: إنه يضطر للجلوس مع مديرين وهم يشربون الخمر، وعندما تعلن أخرى أنها اضطرتْ لخلْع الحجاب لضرورات العمل، أسألهم: "أَلَمْ تذكروا من أنتم في سيرتكم المهنية؟" فيقولون: "هل تسخر منَّا؟ طبعًا لا، وما دخْل هذا كله بالسيرة المهنية؟"، فأقول لهم: "ولكنِّي أعلم أنني يمكن أن أذكر أن هدفي هو وظيفة ذات تحدٍّ، أو منصب فاعل منتج، أو أن من هواياتي قراءة الروايات، أو ممارسة الرياضة، أو غير ذلك، فهل تجدون كل هذا جديرًا بالذِّكْر، ولا تجدون مبررًا لأن تستخدموا كل ما أوتيتم من ذكاء لتذكروا ما يدل على هويتكم فيما أسميه: "جواز سفركم" للعمل في هذه المؤسسات؟"، فيأتيني الردُّ الصاعق: "ومَن قال لك: إنَّنا نهتم أن يعلم أحد مَن نحن؟ على العكس، فنحن نحرص ألا يعلمَ هؤلاء القوم مَن نحن؛ حتى لا تتأثرَ مهننا أو مناصبنا"!

وعلى صعيدٍ آخر بلَغَ الأمر بأحد "المتوهمين"، وكان أحد الإخوة قد دعاني إلى جلسة كان هذا "المتوهم" حاضرًا فيها، وبعد أن خُضْنا في جدالٍ ليس بالطويل حوْل "بدعة التدريب" التي ذكرتُها منذ قليل، وكان يدافِع عنها بشدة، وبعد أن حاولْتُ جهدي في أن أكون واضحًا في أنني أودُّ منه ومن غيره أن يوفِّروا جهدهم وطاقاتهم في استخراج الكنوز "النفسية"، والنفيسة من بطون "الأصول"، فإذا به في ختام الجلسة - وقد مارس كل مظاهر "الشعور بالنقص" في الجلسة - يقوم بتوزيع كتاب قام هو بترجمته إلى العربية، ترى ما هو الكتاب الذي سهر في قراءته وترجمته؟ وما كان عنوان الكتاب الذي ترجمه هذا "المتوهم

أما موضوع الكتاب فهو: "فنون التسويق"، وأما عنوان الكتاب فهو كما أذكر: "أرجوك، اخدعني"! وعندما قلَّبْتُ الكتاب لأُطالع موضوعه، وجدته يتناول أساليب التسويق بالمعايير الغربية التي تخلو مِن أخلاقيات الدِّين الذي ينتسب إليه هذا الشخص - هداه الله - وبعد هذا كله، يأتي "الطابور السادس" ليحاول أن يلبس مجتمعاتنا هذه الحلة "الغربية" رغم أنفه، مزيِّنًا حالها، ومُبَيِّنًا أن مجتمعنا لن تقومَ له قائمة بغير هذه القيَم والمهارات والعلوم، ويظهر هنا صفٌّ جديد من صُفُوف "الطابور السادس"، ألا وهو "رجال الأعمال" الذين لا هَم لهم إلا زيادة الملايين، ولو على حساب النمو الحقيقي لوطنهم وأبناء جلْدتهم.

رأينا كثيرين من هؤلاء شقُّوا الأرض، وخرجوا من باطنها، مجتهدين مجاهدين في سبيل "لقمة العيش"، التي بدأت كوسيلة للحياة الكريمة، ترونهم يعرفون من أين تؤكل الكتف؟ إلا أن "لقمة العيش" لَم تعدْ كذلك بالنسبة إليهم، فصارتْ هدفًا في حدِّ ذاته، وصاروا لتوسيع "مشاريعهم" يركبون كل موجة في عالَم "الإدارة والتسويق"، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يتجاوزَ حُدُود الشرع، سواء في التعامل بالربا، أو بتجارة الفنادق - وما أدراك ما الفنادق؟! - أو في مكاتب السياحة والسفر، أو في البورصة وشراء الأسهم - وهذا طاعون في حدِّ ذاته - أو في السعي وراء الحصول على "توكيلات" حصرية لمنتجات قد تصب في آخر المطاف في صالح "العدو".

قد يقول البعض: ماذا علينا لو لَم يكن الأمر حرامًا مبينًا؟
أقول: لو أن الهُوية واضحة لاسْتطعنا أن نفرضَ شروطنا، وكنَّا نحن اليد العليا، وإلا أصبحنا - كما قالها لي بلسانه أحدُ رجال الأعمال، الذين يملكون سلسلة مطاعم أمريكية في بلد شرق أوسطي -: عُمَّالاً لدى أصحاب تلك المصانع؛ نعمل بأجر بخْس، ونسوق لهم بضاعتهم وأسلوب حياتهم، والصور غير ذلك كثيرة، وهو ما سنأتي على ذكره لاحقًا - إن شاء الله.

سادسًا: الاغتراب والهِجْرة إلى "الفِرْدَوْس المُسْتعار":
"اقتبسْتُ مُصطلح "الفرْدوس المستعار" من الكتاب المتميز للدكتور/ أحمد خيري العمري، بعنوان: "الفردوس المستعار، والفردوس المستعاد"، فأنصح بالرجوع إليه، فهو سِفْر لَم أَرَ في غناه وتفرُّده".

كل ما مضى من أسباب يؤدِّي بطبيعة الحال إلى الوصول إلى هذه النتيجة: جيل نشأ وتعلم في بيئة تعلي من قيمة المادة، ولا تكاد ترفع أو تذكر قيمة للروح أو الدين أو الأخلاق، إلا بحسب ما يغذي المادة؛ تعليم مدرسي يصب في نهاية المطاف في حياة اللهو ولقمة العيش - وإن تعددت مظاهرها، واختلفتْ صورها الاجتماعية -: مساجد ترسخ قيمة العلمانية تحت شعار "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، جامعات ترسم الحلم الغربي هدفًا للشباب، وسوق عمل ترتبط ارتباطًا راغمًا - شاءت أم أبت - بالسوق الغربي وما تحمله من معايير جاءت من جاهلية المادية والإلحاد!

أقول: كل هذا سيؤدِّي بطبيعة الحال إلى شبابٍ لا ينتمي إلا إلى نفسه - هذا إذا كانوا يعرفون ما هي أنفسهم أصلاً! - سيؤدي إلى نفوس تتوق إلى "الآخر"؛ إما لتتخلص من عبودية "لقمة العيش" في وطنها - مع أنها تجهل أنها تتوجه إلى العبودية ذاتها، ولكن نوع العبودية يختلف وثمن لقمة العيش سقْفُه أعلى، وظاهره دون ذلك - أو لأنها تبحث عن معنى بديلٍ للحضارة، كما زين لها ذلك إعلامُ العدو - وهي هنا تقع في فخٍّ آخر؛ حيث لا تكاد تعرِف معنى أصيلاً للحضارة بادي الرأي، فكيف إذا كان التعريف مُعَلَّبًا وجاهزًا ومرسومًا مِن قبل العدو؟! - أو لأنها تظن أنها تبحث عن وسائل القوة من العلم التجريبي في المعاهد التعليمية وغيرها - ولعل هذا السبب هو من أقلها خطورة - إلا أن هذه الأصناف مجتمعة - إلا ما رحم ربك - تلتقي في أمرٍ واحدٍ، إنها تخرج فاقدة للبوصلة، ممسوخة الهُوية، بهيمية في تعْريفها للوظيفة، ولا يوجد هدفٌ واضحٌ لديها سوى ما ذكرناه.

وكما تعودتُ أن أقول: مُعظم شبابنا يُسافر إلى الغرب "مشلحًا" وليس "مسلحًا"، بما يحتاج إليه من أسلحة تدعمه وتقوِّي موْقِفه، كنتُ في جلْسة يومًا في ولاية ميتشيغن الأمريكية، فقام أحد الشباب بالتهجُّم على "السلفيَّة"، فلم أرد للموضوع أن يأخذَ أكبر مما يستحق، إلا أنَّني قلتُ له: بغَضِّ النظر عن جهلك الواضح بما يدل عليه اللفظ (السلَفيَّة)، إلا أنني أرى أننا - على الأقل - في حاجة إلى تربية "سلفية" فيما يخص "الإيمان"، و"العقيدة"، و"مصطلح الحديث"، قبل أن نرسل بشبابنا إلى هنا، وكم لقيت من زملاء هنا في أمريكا كانوا معي في كلية الطب، وكانوا من المتفوقين، وكانوا من "المصلين"، إلا أنَّ بعضَهم تَحَوَّل إلى "علماني"، وآخرون صاروا "متشككين لا أدريين"، وغيرهم ممن أصبح من أهل الدنيا "بتفوق"، ومنهم من حرص خلال أول سنتين أن يتزوج بأمريكية؛ حتى يضمن لنفسه "الفردوس"، ولأبنائه "بشرة بيضاء وعيونًا زرقاء"، حتى قال لي أحدهم يومًا في حوار هاتفي: لا أدري لماذا كان على النبيِّ أن يتزوجَ بكلِّ هذا العدد من النساء؟ فقلتُ له: ولماذا تتحدث وكأنك تخجل من هذا؟ وبعد حوار طويل، علمت أنه وقع في غرام "أمريكية"، وعندما سألتْه عن ذلك - دون شُعُور منه، بل لاطلاعها الشخصي على الأمر - لَم يستطعْ أن يجد لها إجابةً مقنعة، فرمى بخطأ جهْلِه على التأريخ الإسلامي!

وأخرى تدرَّجتْ في مراسلاتها لي بدءًا بالحديث عن الحدود في الشريعة الإسلامية، وانتهاء بالتشكُّك في وجود الله، ولأنني لا أؤمن بظهور أعراض هكذا دون سبب باطن، فلم أكتفِ بهذا، حتى وصلت معها إلى حقيقة الأمر، وكان أنها قد أعجبت جدًّا بـ"أخلاق" زميلة لها في المستشفى الذي تعمل فيه، ثم اكتشفتْ أنها "شاذة جنسيًّا"! ولَمَّا لم تستطعْ أن تمتص الصدمة كما ينبغي، وبدلاً من أن تفهم كيف يمكن للشذوذ ألا يتعارض مع "التعامل اليومي"، اختارتْ أيسر السبُل، ألا وهو التشكيك في الدِّين الذي ورثتْه دون أن تعقله!

وآخرون - أكثر من ثلاثة فيما أذكر - لَم يعودوا يرغبون في الارتباط بفتاة (عربية)؛ لأنَّ "الفتاة الأمريكية" في نظرهم "أكثر واقعية وعمليَّة"، وغير ذلك من صور قد نأتي على ذكرها لاحقًا - إن شاء الله.

إنَّ كثيرين من هؤلاء وغيرهم يعيشون حياة غير مستقرة، أقول هذا لا تخمينًا، بل نقلاً حرفيًّا عن بعضِهم، فكم جاءتْني حالات يستفسر أصحابُها عن إمكانية البقاء أو العودة - سواء خوفًا على أنفسهم أو على أبنائهم - فإذا أبديتُ استغرابي من مدى صعوبة اتخاذ القرار، قالوا: نحن لا نشعر بالانتماء هنا ولا هناك، والذي يجمع هؤلاء أيضًا أنهم "سالبون" في حديثهم العام عن وطنهم، ينتقدون الواقع المُعاش هنا، دون أن يُسهموا حقيقة في مُحاولة تغييره، أو العمل على إيجاد البدائل، بل من المثير للسخرية أن كثيرًا من هؤلاء إذا أرادوا أن يُدَلِّلوا لنا على "ثقافتهم"، بدؤوا بجلْد الذات، وتقديس "الآخر".

قرَّرتُ قبل فترة كتابة رسالةٍ عنوانها: "أمريكا ملاذ الخائفين"، وكنتُ أعني بـ"الخائفين" هنا: أولئك الذين يشعرون بما أسميه: "قلة أو انعدام الأمن الداخلي"، أو (Self-Insecurity)، وهؤلاء النفر هم ثُلة من الأشخاص الذين يعانون من "القلق الداخلي" لأسباب كثيرة - ليس المقام هنا ذكرها - ولا يملكون لأنفسهم أن يحيوا في وطنهم حياةً مطمئنة؛ لأنهم يظنون - متجاهلين حقيقة ضعفهم - أن الوطن هو السبب فيما هم فيه، فيكون أول ما يُفَكِّرون فيه هو أن يلتحقوا بركب "أمريكا"؛ لعلهم يجدون هناك ما يُخَفِّف قلقهم، وفي الحقيقة فإنهم يفرون إلى ما يعلمون أنه يخدرهم، فأمريكا مثلاً تمتلئ بأمثال هؤلاء "الخائفين" - مع اختلاف الأسباب - ومِن هنا فهُم يلُوذُون بـ"نادي الخائفين"؛ لأنهم يسهل عليهم أن "يندمجوا" حيث "ينتمون"، ولقد رأيتُ منهم من يحلم بـ"أمريكا" حتى من قبل أن يعلم إمكانية السفر إليها.

كانتْ هذه هي الأسباب التي جمعتُها، وربما يكون هناك غيرها، والله - عزَّ وجلَّ - أعلى وأعلم.
 

يُستثنى من هذا التصنيف كلُّ مَن التزم بـ"الرسالة" -:
آباء وأمهات يحرصون أشد الحرص أن يلتحقَ أبناؤهم وبناتهم بمدارس الإرساليات التنصيرية، أو العلمانية، أو حتى اللا دينية، دون أن يلقوا بالاً لِمَا حصنوا به هؤلاء "الضحايا"، قبل إرسالهم إلى ساحة المعركة.
آباء وأمهات يظنون - جاهلين - أن التربية تعنِي الاهتمام بالمأكل والمشرب والملبس والألعاب والخدم.
عوائل تَحْرص في اجتماعها على الحديث في كلِّ أمر "بهيمي"، في الحين الذي لا تكاد تفقه تلك العوائل حياة أبنائها، ولا اهتماماتهم، ولا تَوْجِيههم التوجيه الصحيح.
عوائل يشكل "الإعلام الغربي" جزءًا هامًّا مِنْ "وقت العائلة" في حياتها اليومية.
عوائل تُسهم بقصْدٍ أو بغَيْر قصد في نشْر جاهلية الإعلام، وما يُقدمه من فساد، وذلك عن طريق شراء المواد الفاسدة - من صورٍ لمشاهير الإعلام الفاسد أو أشرطة أو مجلات - أو متابعتها، أو عدم الاكتراث باقتناء أبنائهم لها، أو شغفهم بها، أو متابعتهم لكل ما فيها، وكذلك الأمر مع أولئك الذين يُشَكِّلون الجماهير الغفيرة في "المهرجانات الفنية المَوْسِميَّة"، والتي تحفل بكل مظاهر "السَّفَه".
عوائل تحرص أشد الحرْص على مظاهر الأعراس "الغربية"، بعيدًا عن أي ضوابط شرعية.
عوائل تجتمع في الجلسات العائلية؛ حيث ينشغل "الكبار" في اللغو وما لا طائل منه، في حين يهيم "الصغار" على وُجُوههم في "لغو" أخفى، ولكنَّه أشد وأخطر.
مدارس تجعل من الدِّين "أمرًا شخصيًّا"؛ بحيث لا يكاد يكون هناك أي حديث عنه، في الوقت الذي تتخذ نفس هذه المدارس "العلمانية" دينًا بديلاً.
مدارس لا يكون لمادة "الدِّين" فيها أي تأثير في الأداء الأكاديمي للطالب أو الطالبة.
مدارس تمنح مدرسين مادة الدِّين راتبًا شهْريًّا أقل مِن غيرهم.
مساجد لا يلمس الإمامُ فيها حياة الناس، ولا يخاطب آلامهم وآمالهم.
مشايخ يُنَفِّرون الناس أكثر مما يرغبون في دينهم، ولعل هذا مما لا يحتاج في أيامنا إلى "شاهد إثبات".
خريجو "كليات الشريعة" ممن لَم يُمَكِّنهم مُعدلهم الجامعي إلا من هذه "المهنة"، فصاروا عالة على الدِّين وأهله، وصاروا حربًا على أهل الإصلاح في المساجد؛ لأنها "لُقمة عيش"!
الإعلام الموَجَّه: سيما القنوات الفضائية التي تدَّعي أنها تنشر الوعي وتنشد الحضارة.
الفضائيات "الإسلاميَّة" التي تفتقر لمفهوم "تقدير النفس"، وتسْعى لإرضاء "الآخر" بحجة "الانفتاح".
بعض ما صار ينتشر تحت اسم "النشيد الإسلامي"، سيما ذلك الذي يرتبط بـ"الفيديو الكليب"، الذي يُحاول أن يكونَ "نُسخةً إسلاميَّة" من "الأغاني الغربية".
مُذيع ناجح في معايير "المهنة"، ولكنه "حيثما مالت الريح يميل"، فهو مع العالِم طالب علم، ومع الممثّل متفرّج معجَب، ومع الراقصة متابع نَهم، ومع المغنِّي أو المغنية مستمع أصيل، ومع الداعية صاحب فكر، ومع السياسي مواطن واعٍ، فهو بحق "لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء"!
مجموعة منَ المُذيعات المتبَرِّجات التائهات، ثم هُنَّ يَتَحَدَّثْن عن "حكم تعدُّد الزوجات"، و"زواج المسيار"، و"صفات الزوج الصالح"، وهن اللواتي يردن أن يأخذن بيد المرأة "الشرقية" إلى بر الأمان والحرية والكرامة والمساواة!
فنانة تائبة - الله أعلم بحالها - ولكنَّها تتحوَّل بين ليلة وضحاها إلى "داعية"، ثم ما تلبث أن "تخلعَ الحجاب".
مُمَثلون وممثلات يظنون أنهم يخدمون قضايا الأمة عن طريق الاشتراك في أفلام تحوِي بضع دقائق من "الحق"، وساعات من الهزل والرسائل الإيحائية السالبة والمستهترة، وهؤلاء مَن أسميهم "مهرجو السلطان".
ممثلون ومغنون، شباب وممثلات، ومغنيات شابات، يفتتحون لقاءاتهم ويختتمونها بـ"حمد الله" على "نجاحاتهم"، ويذكرون أداءهم لفريضة الحج أو زيارتهم لأداء العمرة، ثم لا يلبثون أن نراهم في أدوار ومشاهد وصور لا يرضى الله عنها، ولا يفرح لرؤيتها رسوله - صلى الله عليه وسلم.
الناعقون في كل جلسة، لا نسمعهم يتحدَّثون إلا بلُغة اليأس والإحباط والتذمُّر مِن كل شيء في الوطن، دون أن يُحَرِّكوا ساكنًا، أو أن يُقَدِّموا حَلاًّ بديلاً.
شباب "يضيعون أوقاتهم" في الشوارع والمجمعات والمقاهي العامة في لَغْو ومغازلة ومشكلات.
فتيات "يضيِّعن أوقاتهن"، وهن يعلمْن أنهن يتجوَّلن في نفْس أماكن "الشباب" سابقي الذكر.
شباب جامعيون، وفتيات جامعيات، غاية أهدافهم: لُقمة عيش آمنة، وحياة "كريمة"، عن طريق "الشهادة الأكاديمية" و"التعليم العالي"، (مع التحفظ على كل من "الحياة الكريمة" و"التعليم العالي").
شباب جامعيون يأتي "التحصيل العلمي" على ثاني قائمة أولوياتهم بعد "الجنس الآخر".
فتيات جامعيات يستيقظن منذ الفجر؛ ليتأكدن مِنْ تبرُّجهن الذي يقضين فيه ساعات قبل يومهن الجامعي!
شباب جامعيون وفتيات جامعيات يقضون أكثر أوقاتهم في "الحرَم الجامعي"، أو الكليات أو المعاهد العلميَّة في خلوات "غير شرعية".
شباب جامعيون يقضون مُعظم لياليهم حتى قبيل الفجر يلعبون الورق - حتى في ليالي الامتحانات أحيانًا!
شباب وفتيات يبكون على مشاهد "الانتفاضة"، في حين أنهم يخونون "القضية" باقي أوقاتهم.
خريجو الجامعات من الجنسين، والذين يسعون سعيًا حثيثًا ليلقوا بأنفسهم في أحضان الشركات "العالمية متعدِّدة الجنسيات"، ثم هم لا يعتنون أبدًا بإبراز هُويتهم، أو حتى الدفاع عنها إذا هُوجِمَتْ.
موظفون وموظفات يشكلون "البطالة المقنَّعة"، حيث العاملون والعاملات في المهن الحكومية أو الخاصة لا يتَّقون الله في أوقات العمل، ولا في مصالح العباد والبلاد.
أصحاب "المقاهي العامة" التي تُقدِّم كل محرم ومكروه ومشبوه، وتحوي جماهير "الطابور السادس" من الجنسين، ومِنْ مُختلف الأعمار.
أصحاب و"روَّاد" المجمعات التسويقية التجارية، والتي باتتْ تُعرَف باسْم (Shopping Malls)، وما تَحْويه من مظاهر مستوردة لأساليب حياة "غربية"؛ مطاعم، ومتاجر ألبسة، ومحلات أطفال... إلخ.
 "عقول مهاجرة" - من أكاديميين وغيرهم - لا تكتفي بأنها نزيف لأوطانها، بل تتجاهَل - بقصد أو بدون قصد - حقيقة كونها تشكل ترسًا في ماكينة الفكْر الغربي.
مغتربون ومهاجرون لا يتحدثون عن الوطن إلا بلُغة النقد السالب، في حين يحرصون على التسويق لكلِّ إيجابيات "الآخر" ومحاسنه.

وأترك الفُسحة هنا لخيالكم:
رسائل علاجية موَجَّهة لكلِّ سبب من أسباب ظهور "الطابور السادس" وانتشاره:
أولاً: من التربية البهيميَّة إلى تربية الإنسان القائد، وهنا رسالة إلى أولياء الأمور:
إن أبناءَنا يعيشون حرْبًا باردة مع هذه الحياة، لا يعلمون حقيقتها، ولا مفرداتها، ولا أصول لعبتها - إذا اعتبرناها كذلك - ولكن الغريب ليس في هذا، فهُم للتوِّ قد خطوا خطواتهم الأولى على هذه الأرض، والجهل ليس عيبًا فيهم، إنما الغريبُ أن يفقدَ أولياء الأمور العلْم بقواعد هذه الحياة، ثم يَطْلبون مِن أبنائِهم وبناتهم ذلك.

كثيرًا ما أُخاطب أبًا أو أمًّا في أسلوب توجيه الأبناء، فيكون الرد: "يا دكتور، إذا كنَّا نحن لا علم لنا بهذا، فكيف سنعلمه أبناءنا؟!"، وبالله عليكم، فلْنحذر من الوُقُوع في فخِّ تقليد مَن أخطأ ممن سبق مِنْ آبائنا وأمهاتنا، فنكون كمَن قال الله عنهم في القرآن: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 22، 23].

علينا نحن أولاً كأولياء أمور أن نعلم: مَن أنا؟ ولِمَ أنا؟ ما هي هُويتي؟ وما هي وظيفتي؟ - والوظيفة ليست ذاتها المهنة التي أتكسب منها - وما هو هدفي؟ هل أعطي نفسي حقها كل يوم؟ وكيف؟ وهل الاعتناء بنفسي قبل الآخرين - حتى أهل بيتي - أنانية سالبة؟ هل أقوم حقًّا بتربية أبنائي؟ وما الفرْق بين التربية بمعناها الروحي - أي: تزكية نفسي ونفوس أبنائي - والتربية بمعناها الجسدي - أي: "الانشغال بتغذية أجساد أبنائي؟ - هل أنا حقًّا أحب أهل بيتي وأبنائي؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل هم يعلمون ذلك ويقدرونه؟

إذا لَم تكن إجابة هذه الأسئلة لدينا، أو كانت الإجابة غير ما ينبغي لها، فنحن في حاجة أن نلحق بقافلة التربية الصحيحة، أبدأ بنفسي أولاً قبْل أن أُوَجِّه لأبنائي أي توجيه أو نقد أو عقاب.

ثانيًا: نحو رسالة أصيلة عتيقة مُتَجَدِّدة للمدرسة والمسجد:
وهنا رسالة إلى القائمين على أمر التعليم في مدارسنا أولاً - قدَّمتُ الحديث عن المدرسة لا لأنها تتقدَّم في أهميتها على المسجد، ولكن لأن حال الأمة يجعلها حقيقة متكرِّرة في حياتنا اليومية أكثر من المسجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله -:
اتقوا الله في أبنائنا الذين هم أبناؤكم، علِّموهم أن المدرسة إنما هي مكان يكمل رسالة البيت، وليست مكانًا لقضاء وقت الصباح مع الأصدقاء، أو مكانًا للحُصُول على تعليم يُمَكِّنهم من العمل وكسْب العيش فقط.

قدروا المعلم والمعلمة قبل أن تطلبوا ذلك من الطلاب، أعيدوا للمعلمين وللمعلمات هيبتهم، أكرموهم فيما تدفعونه لهم من رواتب شهرية، لا تدفعوا بالمعلمين والمعلمات إلى أن يرخصوا من قيمة أنفسهم بالسعي إلى مصادر كسب خارج أسوار المدرسة، أين هي المواد التدريبية التي يمر فيها المعلمون قبل أن يتمكنوا من عقول أبنائنا؟ بل أين هي الصحة النَّفسيَّة والبناء الفكري السَّوي لكثير من المعلمين والمعلمات الذين يطلعون على أبنائنا بين الحين والآخر بأفكار ومسميات ما أنزل اللهُ بها من سُلطان؟! والحديث عن هذا يطول.

ثم رسالة إلى القائمين على أمْر الشريعة في بلادنا:
إليكم يا مَن تعلموننا، أنتم في وادٍ والشباب في وادٍ آخر، الشباب "نائم" في "خطبة الجمعةفهل مَن يستفزه ويحفزه ويوقظه؟ والله إنكم بعيدون عن أن تصلوا إلى قمة الهرم، فعليكم بقاعدته، عليكم بالأولى فالأولى، العقيدة أولاً، علمونا الإسلام كمنهج حياة، لا تسرقنكم أضواء الفضائيات وتبعدكم عن شارع الحياة الحقيقية، ارحموا الشباب من "سوق الفتاوى المتعارضة"؛ فهم ليسوا بحاجةٍ إلى المزيد من التمزُّق والتشتُّت، فلديهم ما يكفيهم من تلك الأسباب، لقد صار من المضحك المبكي أن نرى "شيخ جامع"، أو "خريج كلية شريعة" يتصدرون وبجدارة صفوف "الطابور السادس"، وهم يحسبون أنهم هم الدرع الواقي.

ورسالة إلى الشباب:
لا حجة لكم إن لَم يبادر العلماء إليكم، فبادِروا إليهم، فإنَّ العلم يؤتى ولا يأتي، عليكم بالتعلُّم، ثم ها هي المصادر متعدِّدة، والكُتُب بين أيديكم، عليكم بمنهج "اقرأ"، اقرؤوا النفس والكون والكتب، رسالتنا واضحة المباني، سهْلة التعاطي والنشر، لا تثيروا الشبهات، ولا تكونوا كبَنِي إسرائيل، ولا تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبلُ، فهذه من أحوال "الطابور السادس".

ثالثًا: نحو دور فاعل للجامعات في صناعة إنسان الغد:
إنسان واضح الهُوية، فاعل الوظيفة، أبَديّ الهدف، وهنا رسالة إلى القائمين على ما يُعرَف بـ"التعليم العالي
":
اتقوا الله فيما تقدمونه لشباب الأمة من مناهج ووسائل وإمكانات، أين هي المواد الدراسية التي تغذي في الشباب قيمة الانتماء إلى الوطن؟ بل أين هي المواد التعليمية التي تُعَلِّم الشباب كيف يُخَطِّطون وبشكلٍ عملي لأهداف مرسومة على أرض الواقع يكونون فيها جزءًا هامًّا من بناء أوطانهم؟ وأين هم أولئك المربون، قبل أن يكونوا معلِّمين؟ هل يخضع حاملو الشهادات الأكاديمية والذين يتقدمون للعمل في الهيئات التعليمية إلى امتحانات أو مقابلات من شأنها أن تخبرنا عن مدى وضوح الهُوية والوظيفة والهدف لديهم؟ ما الذي يلعب الدَّور الأهم في تعيين هؤلاء وغيرهم في أماكنهم؟ ثم أين هي مشاريع البحث والدِّراسة العمليَّة التي مِن شأنها أن تطبق في أرض الوطن، فيشعر من خلالها الشباب أنهم يسهمون حقيقة من خلال دراستهم في بناء وطنهم؟

ورسالة إلى الشباب الجامعي:
اعلموا أنَّ هذه المرحلة هي مِن أهم المراحل التي يتم فيها صياغة الشخصية صياغة شبه نهائية، اغتنموا أوقاتكم، تعلَّموا واجتهدوا، وروحوا عن أنفسكم ترويحًا مباحًا منضبطًا، لا تقعوا في فخِّ الشعور بأنكم في مرحلة "اللا مسؤولية"، بل إنكم في مكانٍ مهم جدًّا، وعلى ثغْرٍ خطير، "يوم يُسأل المرءُ عن شبابه فيمَ أبلاه؟"، قدروا أنفسكم، وخاطبوا معلميكم بقوة وتقدير في آن واحد، وأظهروا احترامهم، لا تجعلوا الشهادة الأكاديمية أو سوق العمل غاية أهدافكم، فوالله إن هي إلا وسائل ستحصلون عليها تلقائيًّا إذا كبرتْ أهدافكم، أنتم محطُّ أنظار الأهْل والأصحاب والأمة، وقبل ذلك وبعده، أنتم بأعين الله، فلا يُؤتينَّ الإسلام من قبَلكم.

رابعًا: نحو إسلام يشمل جميع نواحي الحياة، والاقتصاد أنموذجًا:
وهنا رسالة إلى كلِّ مَن يُسهم في صناعة القرار السياسي أولاً - لأنَّه يُؤَثِّر حتمًا على ما بعده - والاقتصادي ثانيًا؛ وأعني بهذا: ولاة أمور البلاد، ووزراء ورؤساء ما يُعرَف بـ"الغُرَف الاقتصادية"، أو "غرف التجارة والصناعة"، ورجال أعمال - مهما كبر حجمهم أو صغر - ومدرسين في المعاهد والكليات والجامعات التي تُعنَى بالجانب الاقتصادي، ومدربين في مجالات ما يعرف بـ"التنمية البشريَّة"، بل وحتى المستهلك البسيط، ولا يفوتني هنا أن أُوَجِّه هذه الرسالة أيضًا إلى أهل الذِّكر والعلم من علماء ومشايخ وباحثين متخَصِّصين في هذا الجانب، أقول لكلِّ هؤلاء:
إنَّ في ديننا ما يغني، وليس هذا شعارات نواسي بها أنفسنا، بل حقيقة يمكن أن نراها على أرض الواقع إذا فسحنا المجال لأنفسنا أن ترى ما لديها من خير، وإذا وثقنا بما في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإذا تعلمنا الإسلام وعلمناه الآخرين كمنهج حياة متكامل، وإذا توكَّلنا على الله وحده في أمر الرزق، ثم أخذنا بأسباب الرزق، كما يُحب الله ويرضى، وإذا سمحنا للمبدعين أن يخرجوا ما لديهم دون كبْت ومطاردة وتضْييق، وإذا فتحنا أبواب التعلُّم والبحث والتطبيق لطلابنا وطالباتنا، وإذا ولينا أمور التعليم المهني والجامعي - سيما ما يَتَعَلَّق بتخصُّص الاقتصاد وما والاه - أهل علم بالشريعة وبالاقتصاد، وإذا نظرنا إلى ما لدى الآخر وفرقنا بين أصل النظرية - المادية والإلحاد - وواقعية التطبيق - إمكانية إسقاطها على واقع مجتمعاتنا - وإذا كانتْ مصلحةُ الفرد - سيما أهل القرار ورجال الأعمال - تلحق بمصلحة الأمة لا العكس، وإذا سعينا لاستشارة أهل العلم واستفتائهم قبل التفكير في "المشاريع" لا بعد أن تقعَ الواقعة، عندها - وعندها فقط - سيكون الاستقلال كلمةً ممكنة، ومشاهدة على أرض الواقع - بإذن الله.

خامسًا: نحو هجرة دُعاة، لا هجرة رعاة:
للدكتور صلاح سلطان كُتيب مبدع بعنوان: "هجرة الدعاة أم الرعاة؟"، أنصح به لكل من يريد الاستزادة في هذا الموضوع.

وهنا رسالة إلى كلِّ الذين فكروا ويفكرون، وحلموا ويحلمون، ورحلوا ويرحلون الآن، مسافرين أو مهاجرين إلى بلاد الغرب، أيًّا ما كانت دوافعهم وأهدافهم:
عليكم بالصدق مع الله، ثم مع أنفسكم في الإجابة على هذا السؤال: "هل أنا مستعد للسفر روحًا وجسدًا؟"، وبعبارة أخرى: "هل أنا مسلح أم مشلح؟".
عليكم بطلب العلم الشرعي، أو على الأقل السعي بنية صادقة أن تحفظوا لأنفسكم خطًّا ولو رفيعًا من "ما لا يسع المسلم جهله".

عليكم أن تكونوا صادقين مع الله، ثم مع أنفسكم قبل أن تقرروا إن كنتم قررتم السفر هربًا أم طلبًا لِمَا أحلَّه الله في أرض الله، واعلموا أن أول شهادة تحتاجونها في سفركم هي: شهادة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

أعلم أنَّ هناك مَن سيضحكون على هذه الجملة، وأعذرهم على ذلك، ولكن لو تعلمون حقيقة ما تحويه هذه "الشهادة" من عوالم، لعلمتم أنكم تحتاجونها قبل أية شهادة أخرى، فإذا تمكنتم منها فلكم حينها أن تضيفوا إليها ما تشاؤون من "شهادات"، وحينها ستسافرون إلى أي بلد دعاة أقوياء، لا رعاة ضعفاء، دعاة تحملون الإسلام منهجًا متكاملاً، والخلافة واقعًا حيًّا، و"الرسالة" أسلوب حياة يغبطكم عليه كل مَن يتعاملون معكم هنا أو هناك.

ابحثوا عن صُحبة صالحة، وستجدونها، ولو كنتم في بلاد ليس فيها إلا نفر قليل من أهل الصلاح، فإن لم تجدوها - وهذا فرض - فعليكم بمن يتفقون معكم على الأخلاق العامة والتعايش الإيجابي.

وللشباب أقول:
احذروا - مهما ظننتم أنكم أذكياء - الوُقُوع في فخِّ الإعلام الغربي ورسائله الإيحائية التي تُزَيِّن "الفتاة الغربية" على أنها "فتاة الأحلام"، وهذا ليس تعميمًا، فهناك من تتفوق على من سواها هنا أو هناك، ولكن الصورة الإعلامية هي صورة "مزورة" تشبه تزوير "الرسالة" التي ذكرناها سابقًا؛فالفتاة الحقيقية لا ترونها على شاشات التلفزيون، بل هي في أروقة الحياة الحقيقية، كما أن كثيرًا منكم لا يعرف "الفتاة المسلمة" حقيقة، بل إن معظم ما سمعته من كثيرين منكم هو خيالات من الحياة المهنية، أو الجامعية، أو حتى العلاقات العائلية غير الواضحة ولا المكتملة.

وأقول للجميع:
اتقوا الله في أوطانكم، ولا تعرّوها أمام غيركم، اذكروا ما لها وما عليها، ولا تقعوا في فخِّ "عقدة النقْص"، قدروا أنفسكم، وقدروا تاريخ أمتكم بلا إفراط ولا تفريط، ولطالما قلتُ: لو عقدنا مقارنةً عادلةً، لفازتْ أوطاننا، فالمقارنةُ العادلة تقضي بأن نقارن المعطيات والنتائج، فإن المعطيات لديهم - النظام المؤسسي الذي يُقَدِّم للمواطنين حياة مادية سهلة، ويعودهم على النظام، فيُصبح جزءًا من حياتهم شاؤوا أم أبوا، وقيمة الوقت، والإنتاجية، واحترام قيمة اليد المهنية العاملة، ونظام العقاب قبل الثواب، وغيرها - لا تكاد تقارن مع المعطيات لدينا - حيث النظام يدفع بالناس دفعًا إلى الإحباط - ومع هذا، فإن النتائج لدينا - إذا ما قورنتْ بالمعطيات كنسبة وتناسُب على المستوى الشخصي الفردي - تقارب النسب لديهم على المستوى الشخصي (النفسي) إذا لم تكن أفضل، فنرى الرضا - وهو أقل القليل مما بقي من بقيَّة الإيمان بالقضاء والقدر - يجعل الإنسان المسلم في الشرق أفضل حالاً من كثيرين من أولئك الذين ينعمون بـ"الحلم الأمريكي".

وأخيرًا، فلا أدعي أن هناك حلاًّ سحريًّا لهذه الظاهرة، ولكن دعوني أقل لكم في سطور:
العلم أولاً، العلم بـ: "من أنا؟"، و"لِم أنا؟"، العلم بـ"الهُوية والوظيفة والهدف".
العمل ثانيًا، العمل المبني على علم، يؤدي بالضرورة إلى تقدير النفس، واغتنام الوقت، والإيجابية مع النفس، ومع الآخرين.
النصيحة ثالثًا، وذلك بتنبيه الآخرين، بأساليب مختلفة، حتى لا يكونوا "طابورًا سادسًا".

وباختصار أقول:
دعوني أتصور أن للعدو منظارًا بعدسة مكبرة يجول في بلداننا وشوارعنا وبُيُوتنا، ثم أتساءل هنا:
ماذا لو رآني العدو في أية لحظة من لحظات حياتي اليومية؟ فهل سيفرح لما أنا فيه من حال؟ فإن فرح، فأنا - وبكلِّ أسَف - فرد من أفراد "الطابور السادس".

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله وصحابته والتابعين.


المصدر : موقع الألوكة
 

منوعات الفوائد