اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Minute/202.htm?print_it=1

ما بعد جونو ...

كرم صفر مبارك


لأول مرة في حياتي تمنيت لو كنت عسكرياً في الجيش بدلاً أن أكون معلماً ..
ذلك عندما رأيت هؤلاء الفرسان يتقافزون من سياراتهم العسكرية البرمائية كأنهم أسود أشاوس لكي يساعدوا أهل "سهيلة" في منطقة كلباء و"شرم" في الفجيرة ..
تمنيت ساعتها لو كنت معهم وبرشاقتهم أخوض في تلك المياه والأوحال وأحمل على ظهري عجوزاً ، أو أدفع بيدي سيارة غارقة أو أمنع عن شخص ضرراً ..
قمة سعادتي أن أقدم ما يسعد الآخرين ويخفف عنهم ..

كثيرة هي الابتلاءات التي يبتلي الله بها عباده وجونو هذا ابتلاء بسيط من الله عز وجل ليظهر قوة إيمان الناس وصبرهم الجميل وحب الأخ لأخيه والجار لجاره والمسلم عموماً للمسلم أسأل الله تعالى أن يرحم موتى أخوتنا في عمان وأن يتغمدهم برحمته ..
وأسأله أن يصّبر كل مبتلى هُدِم له بيت أو وقع له جدار أو عطبت له سيارة أو نفقت له ماشية ..
كلها أضرار مادية تهون مقابل حفظ النفس والولد ..

في الابتلاءات تظهر المعادن الجميلة
يظهر الذهب الأصلي من المقلد ..
وأنا أشهد أن شعب دولة الإمارات - حكاماً ومحكومين - ، ذهب أصلي ، ومعادن نفيسة ، وجواهر غالية ،، أثبت هذا الشعب قوة حبه لبعضه وقوة تلاحمه وقت الشدائد ، وقوة نكرانه لذاته ،، وأشهد لتلفزيون الشارقة – إدارة وعاملين - شعورهم بآلام أمتهم ، وتواجدهم في قلب الحدث ، ونقلهم للواقع ،، مما قلل من حجم قلقنا على أخوتنا في المنطقة الشرقية ..
فتحية لهم ..
بداية بمديرهم خالد صفر .. ثم بمذيعهم المحبوب محمد خلف ، وانتهاءاً بذلك البطل الذي أحبه قلبي من حيث لا أدري ، ذلك الشاب الذي طبعت صورته على قلبي ، وألفت محياه عيني ، واستأنس بصوته سمعي ، إنه مراسل التلفزيون في المنطقة الشرقية الأخ محمد السويجي ، كلما تابعت أخبار الإعصار وجدته يقف شامخاً شموخ أهل الجبال هناك ، صورته أعطتني إحساساً بالاطمئنان إن أهلنا هناك بخير ، حتى قلت في نفسي ، هذا الرجل ألا يكل ، ألا يتعب ، حفظه الله وسدد خطاه ، وبارك الله فيه وفي ذريته ..

في المقابل كانت بقية قنواتنا غارقة في سباتها ومشغولة كالعادة في مسلسلاتها وأفلامها وبرامجها الفاشلة - وإن كانت على استحياء - تذيع بعض الفقرات في بعض نشراتها المحلية !!

وكأن أهل الشرقية لا يعنوهم في شيء !، وكأن الأعصار يدمر في جزر الواق واق وليس في جزء من الوطن الغالي ،،!!

ومما لوحظ – وقد أحزن كل محب لهذه الأرض الطيبة - والذي أرجو أن يقف مسؤولينا عندها بكل قوة وشدة ، جشع بعض التجار واستغلالهم المصيبة برفع أسعار السلع والفنادق والشقق المفروشة ،، في تلك المناطق، بدلاً أن يقفوا وقفة تلاحم ومواساة وتراحم ،، وكأن الرحمة قد نزعت من قلوبهم ، والإنسانية ماتت في جوانحهم ، وأصبحت المادة فقط هي التي تحركهم ،، وهذا أمره خطير وتداعياته جسيمة في المستقبل ، إن لم تقف الجهات المختصة وقفة صارمة ضدهم ضماناً لعدم التكرار ..

ثم أن أمر البعض عجيب ، وهؤلاء هم الفضوليون ، ممن يزاحمون ويتزاحمون في المصائب من أجل الفرجة وأخذ الصور للذكرى ، وكأن الأمر عندهم مجرد مناسبة للسياحة والتنزه !
لا يقدمون يد العون والمساعدة ولا يعنيهم ذلك بل قد يصبحون عالة في المحن كونهم يشغلون الطرق ويزاحمون أفراد الإغاثة والإسعاف ..

ونسوا أن المسلم مأمور أن يتجنب أماكن الفتن والابتلاءات وألا يدخل أرضاً ابتلاها الله بمصيبة حتى تنجلي تلك المصيبة ..
ونسوا أن البحر لا يضحك وأن الأمطار لا تبتسم دائماً ، وإن الرياح قد تصبح ريحاً صفصفاً ..

ويحمل بعضهم أهله وأولاده الصغار ثم يذهب بهم ليستمتع بمناظر الوديان والسيول في عمان في وقت شدة على الآخرين ومحنة ،،!!
وقد حصل أن تقطع ببعضهم سبل العودة بعد أن قطعت تلك السيول الطرق ، ، فأين عقول هؤلاء وأين تفكيرهم ، ،

إن الإعصار آية من الله شأنها شأن الريح والزلازل ، ويجب علينا أخذ العبر فيها والانتفاع وألا يكون حظنا فيها مجرد السماع والاستطلاع ، والعاقل من اعتبر وانتفع وتذكر وترك ما يسخط الله ويغضبه ، ويبادر إلى التوبة النصوح والاستغفار ، ويرجع المظالم إلى أهلها ، ويدعو لإخواننا المنكوبين هنا وهنا في سلطنة عمان ممن فقدوا بيوتهم وأهليهم وأموالهم ، لا أن يتخذها فرصة للمزاح وتبادل النكات وتبادل الصور التذكارية

ثم مما يستدعي الوقفة الجادة .. ضعف أرصادنا الجوي وتناقض المعلومات التي صدرت منهم ..
وقد لاحظنا أن أرصادنا كإعلامنا آخر من يعلم ..!!
تطور الدولة الهائل في جميع المجالات لم يقابله تطور أرصادنا وطرق تعاطيهم مع الكوارث والمصائب ...

لقد حفظ الله دولتنا ومر إعصار جونو برداً وسلاماً بفضله سبحانه وتعالى ثم بدعاء الصالحين من أهلها وأعمالهم الخيرة حكاماً ومحكومين ..
فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ..
والحمد لله إن معروف وخير وفضل أولياء أمورنا وحكامنا لا ينكره إلا حاقد فقد أدوا الأمانة داخلاً وخارجاً ..
وتأكيداً لذلك علينا ألا نترك محروماً أو ضعيفاً أو جائعاً في دولتنا وأن تكون هذه الكارثة وهذا الإعصار بداية الانطلاقة لتتبع الفقراء والجائعين الذين يعيشون حولنا وحوالينا وأن نيسر على الناس معيشتهم وأن نسهل عليهم ونرحمهم لتأت رحمة الله إلينا وتدفع عنا سوء الكوارث والمحن في وقت نحن نكون أحوج إليها

فو الله ما انصرف عنا إعصار جونو لكثرة عبادتنا ولا لطول صلواتنا وقيامنا وصيامنا ولا لكثرة صالحينا ومصلحينا فنحن في أمر التعبد والإصلاح مساكين ..

ولكن لكثرة تراحمنا وحسن صنائع حكامنا قبل محكومينا ، وصفاء قلوبنا ، وإخلاصها وبذلها الغالي والنفيس في رفع الكرب عن الآخرين وتيسير الأمر على المعسرين ..

وإليكم هذه القصة العجيبة الغريبة في هذا الأمر أختم بها مقالي :

يذكر أن رجلاً يسمّى ابن جدعان، قال:
خرجت في فصل الربيع، وإذا بي أرى إبلي سماناً، يكاد الربيع أن يفجّر الحليب من ثديها، وكلما اقترب الحوار-ابن الناقة- من أمه درّت عليه، وانهال الحليب منها لكثرة الخير والبركة.
فنظرت إلى ناقة من نياقي ابنها خلفها، وتذكّرت جاراً لي له بنيّات سبع، فقير الحال، فقلت: والله لأتصدقن بهذه الناقة وولدها لجاري، والله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وأحب حلالي هذه الناقة.
يقول: فأخذتها وابنها، وطرقت الباب على الجار، وقلت خذها هدية مني لك، فرأيت الفرح في وجهه لا يدري ماذا يقول، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها، وينتظر وليدها يكبر ليبيعه، وجاءه منها خير عظيم.

فلما انتهى الربيع وجاء الصيف بجفافه وقحطه، تشققت الأرض، وبدأ البدو يرتحلون يبحثون عن الماء في الدحول -والدحول هي حفر في الأرض توصل إلى محابس مائية أو أقبية مائية تحت الأرض، له فتحات فوق الأرض يعرفها البدو-.
يقول: فدخلت في هذا الدحل حتى أحضر الماء لنشرب -وأولاده الثلاثة خارج الدحل ينتظرون-، فتاه تحت الأرض، ولم يعرف الخروج.

وانتظر أبناؤه يوماً ويومين وثلاثة حتى يئسوا،
قالوا: لعل ثعباناً لدغه ومات، أو لعله تاه تحت الأرض وهلك، وكانوا-عياذاً بالله- ينتظرون هلاكه؛ طمعاً في تقسيم المال والحلال.
فذهبوا إلى البيت وقسّموا، وتذكروا أن أباهم قد أعطى ناقة لجارهم الفقير، فذهبوا إليه وقالوا له: أعد الناقة خيراً لك، وخذ هذا الجمل مكانها، وإلا سنسحبها عنوة الآن، ولن نعطيك شيئاً. قال: أشتكيكم إلى أبيكم.

قالوا: اشتك إليه، فإنه قد مات!!
قال: مات!! كيف مات؟ وأين مات؟ ولِم لم أعلم بذلك؟
قالوا: دخل دحلاً في الصحراء ولم يخرج.
قال: ناشدتكم الله اذهبوا بي إلى مكان الدحل، ثم خذوا الناقة، وافعلوا ما شئتم ولا أريد جملكم.

فذهبوا به، فلما رأى المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفيّ، ذهب وأحضر حبلاً، وأشعل شمعة، ثم ربط نفسه خارج الدحل، ونزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى أماكن فيها يحبو، وأماكن فيها يزحف، وأماكن يتدحرج، ويشم رائحة الرطوبة تقترب، وإذا به يسمع أنين الرجل عند الماء، فأخذ يزحف تجاه الأنين في الظلام، ويتلمس الأرض، فوقعت يده على الطين، ثم وقعت يده على الرجل.

فوضع يده على أنفاسه، فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع، فقام وجرّه، وربط عينيه حتى لا تنبهر بضوء الشمس، ثم أخرجه معه خارج الدحل، ومرس له التمر وسقاه، وحمله على ظهره، وجاء به إلى داره، ودبت الحياة في الرجل من جديد -وأولاده لا يعلمون-،
فقال: أخبرني بالله عليك أسبوعاً كاملاً وأنت تحت الأرض ولم تمت!

قال: سأحدثك حديثاً عجباً، لما نزلت ضعت، وتشعّبت بي الطرق، فقلت: آوي إلى الماء الذي وصلت إليه، وأخذت أشرب منه، ولكن الجوع لا يرحم، فالماء لا يكفي.

يقول: وبعد ثلاثة أيام، وقد أخذ الجوع مني كل مأخذ، وبينما أنا مستلق على قفاي، قد أسلمت وفوضت أمري إلى الله، وإذا بي أحس بدفء اللبن يتدفق على فمي.

يقول: فاعتدلت في جلستي، وإذا بإناء في الظلام لا أراه، يقترب من فمي فأشرب حتى أرتوي، ثم يذهب، فأخذ يأتيني ثلاث مرات في اليوم. ولكنه منذ يومين انقطع ما أدري ما سبب انقطاعه؟

يقول: فقلت له: لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت.. ظنّ أولادك أنك مِت، وجاءوا إلي وسحبوا الناقة التي كان الله يسقيك منها..
والمسلم في ظل صدقته.
 

منوعات الفوائد