صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الحِدَادُ

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله بديع السموات والأرض ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حي لا يموت ، أحصى كل شيء عدداً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عبد ربه حق عبادته سنين عدداً ، صلى الله وسلم عليه أبداً ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم يلقونه غداً . . وبعد :
عن زينب بنتِ أبي سلمة رضي الله عنهما قالت : دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ رضيَ اللهُ عنها ، زَوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، حِينَ تُوُفِّيَ أبُوهَا أبُو سُفْيَانَ بن حرب رضي الله عنه ، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ أوْ غَيرِهِ ، فَدَهَنَتْ مِنهُ جَارِيَةً ، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : واللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ ، غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ : " لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً " ، قالَتْ زَيْنَبُ : ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ رضي اللهُ عنها حينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا ، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ : أمَا وَاللهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ ، غَيرَ أنِّي سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ عَلَى المِنْبَرِ : " لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوقَ ثَلاَثٍ، إلاَّ علَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً " [ متفق عليه ] .

في هذا الحديث فوائد كثيرة ، تهم المرأة المسلمة على الخصوص ، والناس على وجه العموم ليتفقهوا في أُمور دينهم فمن ذلك :

تعريف الإحداد :
الإحداد في اللّغة : المنع ، ومنه امتناع المرأة عن الزّينة وما في معناها إظهاراً للحزن .
وفي الاصطلاح : امتناع المرأة من الزّينة وما في معناها مدّةً مخصوصةً في أحوال مخصوصة ، وكذلك من الإحداد امتناعها من البيتوتة في غير منزلها .
وقيل : تربُّصٌ تمتنع فيه المرأة عن كل ما يرغب في النظر إليها، مدة مخصوصة، في أحوال مخصوصة، في مكان مخصوص .
أو يقال : تربُّصٌّ تمتنع فيه المرأة عن الزينة، والطيب، والحلي، مدة مخصوصة، في أحوال مخصوصة ، في مكان مخصوص .

وجوب الإحداد :
** أجمع العلماء على وجوب الإحداد في عدّة الوفاة من نكاح صحيح ولو من غير دخول بالزّوجة .
وينقسم الإحداد إلى قسمين :
الأول : المرأة الحائل : وهي غير الحامل :
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى : " ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا عن الحسن ؛ فإنه قال : لا يجب الإحداد ، وهو قول شذ به عن أهل العلم وخالف به السنة ، فلا يعرج عليه " [ المغني 11/ 284 ] .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجها إلا ما حُكي عن الحسن والحكم بن عتبة " [ زاد المعاد 5/696 وانظر: الإجماع لابن المنذر 124 ] .
فيجب على المرأة المتوفى عنها زوجها الإحداد أربعة أشهر وعشراً ، سواءً دخل عليها أم كتب العقد فقط ومات ولم يدخل عليها .
والدّليل على ذلك قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالـْمَعْرُوفِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ البقرة 234 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ليال إلاّ على زوج ، أربعة أشهر وعشراً " .
ولحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في عدة غير المدخول بها عند وفاة الزوج ، أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات ، فقال ابن مسعود : " لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث " ، فقام معقل بن سنان رضي الله عنه فقال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا : مثل الذي قضيت " ، ففرح بها ابن مسعود رضي الله عنه " [ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في إرواء الغليل 6/369 ] .
قال ابن المنذر رحمه الله : " وأجمعوا أن عدة الحرة المسلمة التي ليست بحامل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، مدخولاً بها أو غير مدخول، صغيرة لم تبلغ أو كبيرة قد بلغت " [ الإجماع 121 ] .

الثاني : المرأة الحامل :
وذلك بوضع حملها طال زمن الحمل أم قصر ، فلو جاءها نبأ وفاة زوجها وهي حامل في أسبوع لومها أن تستمر في الحداد حتى تضع حملها ولو بقيت ثمانية أشهر أو أكثر أو أقل .
ولو جاءها نبأ وفاة زوجها وهي في الطلق ، فولدت بعده بدقائق فقد خرجت من العدة ، ولها أن تتزوج مباشرة .
فعدة المرأة الحامل : أجلها أن تضع حملها ، ولو بعد الوفاة بوقت يسير ، قال ابن المنذر رحمه الله : " وأجمعوا أنها لو كانت حاملاً لا تعلم بوفاة زوجها أو طلاقه فوضعت حملها أن عدتها منقضية " [ الإجماع 122 ] ، وقال ابن قدامة رحمه الله : " وأجمعوا أيضاً على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً أجلها وضع حملها ، إلا ابن عباس ، وروي عن علي من وجه منقطع أنها تعتد بأقصى الأجلين ، وقاله أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه النبي قوله ، وقد روي أن ابن عباس رجع إلى قول الجماعة لما بلغه حديث سبيعة " [ المغني 11/227 ] .
والدليل على ذلك قول الله تعالى : { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [ الطلاق 4 ] ، فدلت الآية على أن كل حامل أجلها وضع الحمل ؛ ولما روت سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلَّت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعككٍ فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليك أربعة أشهر وعشر، قالت: سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليًّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزوج إن بدا لي " ، قال ابن شهاب: فلا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر " [ متفق عليه ] .


فوائد مهمة :

كما أجمعوا على أنّه لا إحداد على الرّجل .
***** فالرجل يحزن ويتألم لفراق قريبه وحبيبه وصديقه لكن ذلك لا يجعله يُحد عليه ، بل عليه أن يذهب إلى عمله في اليوم التالي ، نعم ربما لا يستطيع أن يُكلم أحداً لما يجده من حزن ، فله أن يبقى في بيته مع محافظته على صلاة الجماعة في المساجد ، ومحافظته على عمله الذي ربما يتأثر بتأخره فضلاً عن غيابه عنه ، والعمل واجب والحزن مرخص فيه ، فلا يترك الواجب لمثل ذلك فلينتبه الرجال .
***** وقد أجمعوا أيضاً على أنّه لا إحداد على المطلّقة رجعيّاً وزوجها حي ، بل يطلب منها أن تتعرّض لمطلّقها وتتزيّن له لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً فيراجعها ويلتئم الشمل .
***** وكذا يلزم الإحداد المطلقة طلاقًا رجعياً إذا توفي مطلقها قبل انقضاء العدة ، وهو محل إجماعٍ عند العلماء .

الإحداد على القريب غير الزوج :

إحداد المرأة على قريب غير زوج فإنّه جائز ورخصة لمدّة ثلاثة أيّام فقط ، ويحرم الزّيادة عليها .
والدّليل على ذلك ما روته زينب بنت أبي سلمة ، قالت : " لمّا أتى أمّ حبيبة نعي أبي سفيان دعت في اليوم الثّالث بصفرة ، فمسحت به ذراعيها وعارضيها ، وقالت : كنت عن هذا غنيّة ، سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاث إلاّ على زوج فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً " [ أخرجه البخاريّ ومسلم ] .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثٍ إلا على زوجها " [ رواه مسلم ] .
واتفق العلماء رحمهم الله تعالى على جواز إحداد المرأة على غير زوجها ثلاثة أيام ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " [ متفق عليه ] .
ولا يجوز للمرأة أن تزيد على ثلاثة أيام على غير الزوج .
وللزّوج منعها من الإحداد على القريب ، لأن حقه عليها أعظم من حق القريب .
قال ابن القيم رحمه الله : " فإن الإحداد على الزوج واجب وعلى غيره جائز " [ زاد المعاد 5 / 696 ] .
وقال العيني رحمه الله : " قال ابن بطال : أجمع العلماء على أن من مات أبوها أو ابنها، وكانت ذات زوج وطالبها زوجها في الثلاثة أيام التي أبيح لها الإحداد فيها أنه يُقضى له عليها بالجماع فيها " [ عمدة القارئ 8/64 ] .

وقت الإحداد :

يبدأ الإحداد عقيب الوفاة سواء علمت الزّوجة بوقتها ، أو تأخّر علمها ، وعقيب الطّلاق البائن عند من يرى ذلك .
هذا إذا كانت الوفاة والطّلاق معلومين .
أمّا إذا مات الزّوج ، أو طلّقها ، وهو بعيد عنها فيبدأ الإحداد من حين علمها .
وليس عليها قضاء ما فات ، وينقضي بانقضاء العدّة ، وإذا انتهت مدّة الإحداد وبقيت محدّةً بلا قصد فلا إثم عليها.

حكمة تشريع الإحداد :

شرع إحداد المرأة المتوفّى عنها زوجها وفاءً للزّوج ، ومراعاةً لحقّه العظيم عليها ، فإنّ الرّابطة الزّوجيّة أقدس رباط ، فلا يصحّ شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل ، وتتجاهل حقّ الزّوجيّة الّتي كانت بينهما .
وليس من الوفاء أن يموت زوجها من هنا ، ثمّ تنغمس في الزّينة وترتدي الثّياب الزّاهية المعطّرة ، وتتحوّل عن منزل الزّوجيّة ، كأنّ عشرةً لم تكن بينهما.
وقد كانت المرأة قبل الإسلام تحدّ على زوجها حولاً كاملاً تفجّعاً وحزناً على وفاته ، فنسخ اللّه ذلك وجعله أربعه أشهر وعشراً.
هكذا قرّر علماء أئمّة المذاهب الأربعة فيما يستخلص من كلامهم على أحكام الإحداد.
الحداد واجب على من توفّي عنها زوجها ، إظهاراً للتّأسّف على ممات زوج وفّى بعهدها ، وعلى انقطاع نعمة النّكاح ، وهي ليست نعمةً دنيويّةً فحسب ، ولكنّها أيضاً أخرويّة ؛ لأنّ النّكاح من أسباب النّجاة في المعاد والدّنيا ، وشرع الإحداد أيضاً ؛ لأنّه يمنع تشوّف الرّجال إليها ؛ لأنّها إذا تزيّنت يؤدّي إلى التّشوّف ، وهو يؤدّي إلى العقد عليها ، وهو يؤدّي إلى الوطء ، وهو يؤدّي إلى اختلاط الأنساب ، وهو حرام ، وما أدّى إلى الحرام فهو حرام .

ويمكن تلخيص ذلك في هذه النقاط :
1- تعظيم أمر الله والعمل بما يرضيه تعالى.
2- تعظيم حق الزوج وحفظ عشرته.
3- أهمية عقد النكاح ورفع قدره.
4- تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم.
5- سد ذريعة تطلع المرأة للنكاح في هذه المدة وتطلع الرجال إليها.
6- الإحداد من مكملات عدة الوفاة ومقتضياتها.
7- تألم على فوات نعمة النكاح الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة.
8- موافقة الطباع البشرية؛ فإن النفس تتفاعل مع المصائب فأباح الله لها حدًّا تستطيع من خلاله التعبير عن مشاعر الحزن والألم بالمصاب مع الرضا التام بما قضى الله عز وجل وقدر ، والصبر على أقدار الله المؤلمة ، والرغبة فيما عنده سبحانه من الأجر لمن صبر واحتسب، وانتظار ما وعد الله سبحانه من الخير لمن حمده واسترجع وسأل الله أن يجيره في مصيبته ويخلفه خيراً منها [ إعلام الموقعين 2/146 ، فتح الباري 9/47 ، صلاة المؤمن 3/1405 ] .

سكن المحدّة :
ذهب جمهور الفقهاء من السّلف والخلف ، ولا سيّما أصحاب المذاهب الأربعة ، إلى أنّه يجب على المعتدّة من وفاة أن تلزم بيت الزّوجيّة الّذي كانت تسكنه عندما بلغها نعي زوجها ، سواء كان هذا البيت ملكاً لزوجها ، أو معاراً له ، أو مستأجراً.
ولا فرق في ذلك بين الحضريّة والبدويّة ، والحائل والحامل.
لحديث فريعة بنت مالك وأنّها جاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنّ زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم ، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإنّ زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة.
قالت : فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم.
قالت : فخرجت حتّى إذا كنت في الحجرة ، أو في المسجد دعاني ، أو أمر بي فدعيت له ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كيف قلت ؟ فرددت عليه القصّة ، فقال : امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله ، فاعتدّت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلمّا كان عثمان بن عفّان رضي الله عنه أرسل إليّ فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتّبعه وقضى به " [ رواه مالك في الموطّأ ] .

مسوّغات ترك مسكن الإحداد :

إن طرأ على المحدّة ما يقتضي تحوّلها عن المسكن الّذي وجب عليها الإحداد فيه ، جاز لها الانتقال إلى مسكن آخر تأمن فيه على نفسها ومالها ، كأن خافت هدماً أو عدوّاً ، أو أخرجت من السّكن من مستحقّ أخذه ، كما لو كان عاريّةً أو إجارةً انقضت مدّتها ، أو منعت السّكنى تعدّياً ، أو طلب به أكثر من أجرة المثل .
وهذا رأي جمهور العلماء . لأن الواجب سقط لعذر ، ولم يرد الشّرع له ببدل فلا يجب ، ولعدم النّصّ على اختيار الأقرب.
أمّا البدويّة إذا انتقل جميع أهل المحلّة الّذين هي معهم أو بقي منهم من لا تأمن معه على نفسها ومالها فإنّها تنتقل عن السّكن الّذي بدأت فيه الإحداد كذلك.
وإذا مات ربّان السّفينة ، أو أحد العاملين فيها ، وكانت معه زوجته ، ولها مسكن خاصّ بها في السّفينة ، فإنّها تحدّ فيه ، وتجري عليها الأحكام السّابقة.

حجّ المحدّة :

ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تخرج المعتدّة إلى الحجّ في عدّة الوفاة ؛ ؛ لأنّ الحجّ لا يفوت ، والعدّة تفوت.
روي ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال سعيد بن المسيّب والثّوريّ وأصحاب الرّأي.
وروي عن سعيد بن المسيّب قال : توفّي أزواج نساؤهنّ حاجّات أو معتمرات ، فردّهنّ عمر رضي الله عنه من ذي الحليفة حتّى يعتددن في بيوتهنّ.
فإذا خرجت المرأة إلى الحجّ فتوفّي عنها زوجها وهي بالقرب ، أي دون مسافة قصر الصّلاة ، رجعت لتقضي العدّة ؛ لأنّها في حكم الإقامة.
ومتى رجعت وقد بقي من عدّتها شيء ، أتت به في منزلها.
وإن كانت قد تباعدت بأن قطعت مسافة القصر فأكثر ، مضت في سفرها ؛ لأنّ عليها في الرّجوع مشقّةً ، فلا يلزمها.
فإن خافت أن تتعرّض لمخاطر في الرّجوع ، مضت في سفرها ولو كانت قريبةً ؛ لأنّ عليها ضرراً في رجوعها.
وإن أحرمت بعد موته لزمتها الإقامة ؛ لأنّ العدّة أسبق .
ومثل الحجّ كلّ سفر ، فليس لها أن تنشئ ذلك السّفر وهي محدّة .

ما تجتنبه المحدة :

أولاً : لباس الزينة : أي لا تلبس ثوبا يعد ثوب زينة , أما الثياب العادية فلها أن تلبسها , بأي لون كان أصفر أو أحمر أو أخضر .
ثانياً : الطيب بجميع أنواعه : دهناً , بخوراً , أو شماً , أو غير ذلك لا تتطيب إطلاقاً , إلا إذا طهرت من الحيض , فإنها تأخذ شيئاً يسيراً من الطيب تتطيب به أي تطيب محل الخبث حتى لا يكون لها رائحة .
ثالثاً : الحلي بجميع أنواعه : فلا تلبس الحلي لا في القدمين , ولا في الكفين ولا في الرقبة ولا في الأذنين ولا على الصدر , فأي نوع من أنواع الحلي فإنها لا تلبسه , حتى لو كانت قد لبست سناً ذهباً فإنها تخلعه إذا لم يكن عليها مضرة , فإن كان عليها مضرة فلتحرص على أن تخفيه بأن تقلل الضحك , حتى لا يظهر السن ويتبين للناس .
ويجمع تلك النقاط الثلاث دليل : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تُحِدُّ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ، ولاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً ، إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ _ برود يمنية _ وَلاَ تَكْتَحِلُ وَلاَ تَمَسُّ طِيباً إِلاَّ أَدْنَى طُهْرَتِهَا إِذَا طَهُرَتْ مِنْ مَحِيضِهَا بِنُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ _ طيب قيل إنه العود _ أَوْ أَظْفَارٍ _ نبات عطري يشبه الأظفار _ " ، قَالَ يَعْقُوبُ مَكَانَ عَصْبٍ : " إِلاَّ مَغْسُولاً " ، وَزَادَ يَعْقُوبُ : " وَلاَ تَخْتَضِبُ " [ رواه أبو داود ] .
وعند مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ وَلاَ تَكْتَحِلُ وَلاَ تَمَسُّ طِيباً إِلاَّ إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ " .
رابعاً : عدم الخروج من البيت : بأن لا تخرج من البيت أبداً إلا لضرورة في الليل , أو حاجة بالنهار , وأما بدون حاجة ولا ضرورة فلا يجوز أن تخرج من بيتها الذي مات زوجها وهي فيه , فيجب عليها أن تبقى في البيت فلا تخرج .
وإذا قالت أريد أن أخرج إلى جيراني أستأنس عندهم في النهار وأول الليل , وأرجع إلى بيتي ، نقول : لا , جيرانك يأتون إليك ، أما أنت فلا تذهبي , بل تبقين في البيت الذي مات زوجك وأنت فيه , فإذا قدرنا أنها سافرت مع زوجها إلى بلد للعلاج , ومات زوجها بالبلد الذي هو غير بلدها , نقول : ارجعي إلى بلدك , لأن هذا ليس مسكنك في الأصل .
ودليل ذلك : عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ - وَهِىَ أُخْتُ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِى بَنِى خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُّومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فَإِنِّي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةٍ . قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " نَعَمْ " ، قَالَتْ : فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ : " كَيْفَ قُلْتِ " ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي قَالَتْ : فَقَالَ : " امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ " ، قَالَتْ : فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ، قَالَتْ : فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ " [ رواه أبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم وقال : حديث حسن صحيح ] .
خامساً : أمور أخرى : التحسين والتجميل والتكحيل بالكحل والورس وما أشبه ذلك , حتى لو فرضنا أن عينها فيها مرض , فلا تتكحل , إلا بشيء مما لا لون له تفعله بالليل وتمسحه بالنهار , هذا إن احتاجت وإلا فلا ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا ، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا أَفَنَكْحُلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ " ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : " إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِى بِالْبَعَرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ " [ رواه مسلم ] ، حتى قال ابن حزم رحمه الله : لو فقدت عينها فإنها لا تكحلها بأي حال من الأحوال , لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه المريضة في عينها فأبى أن يرخص لها في الكحل ، وكذلك التحمير والتجميل وما أشبه ذلك ، أما الصابون الذي ليس فيه طيب فلا بأس , وكذلك تنظيف الرأس وكذلك تنظيف الجلد .
لكن لو احتاجت إلى الكحل لحاجة فلا بأس أن تكتحل بالليل وتمسحه بالنهار .

عقوبة غير الملتزمة بالإحداد :

يستفاد من كلام أئمّة المذاهب الأربعة في الإحداد أنّ المحدّة المكلّفة لو تركت الإحداد الواجب كلّ المدّة أو بعضها ، فإن كان ذلك عن جهل فلا حرج ، وإن كان عمداً ، فقد أثمت متى علمت حرمة ذلك ، كما قاله ابن المقري من الشّافعيّة.
ولكنّها لا تعيد الإحداد ؛ لأنّ وقته قد مضى ، ولا يجوز عمل شيء في غير موضعه في غير وقته ، وانقضت العدّة مع العصيان ، كما لو فارقت المعتدّة المسكن الّذي يجب عليها ملازمته بلا عذر ، فإنّها تعصي وتنقضي عدّتها.
وعلى وليّ غير المكلّفة إلزامها بالإحداد في مدّته وإلاّ كان آثماً.
ولم ترد في الشّرع عقوبة محدّدة لمن تركت الإحداد ، ولكنّها توصف بأنّها عصت .

إحداد ممنوع :

ومن الإحداد الممنوع ما تحدثه بعض المجتمعات عند وفاة كبير أو زعيم من إغلاق المحلات وتعطيل الأعمال وتنكيس الأعلام وإقامة المدائح للمتوفى ؛ فقد نص أهل العلم على أنها من المحدثات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ومن التشبه بالكفار والأعداء .
لقد توفي أعظم رجل عرفته البشرية ، ومنقذها من الوثنية ، ونار وأذية ، وهاديها بإذن رب البرية إلى جنة علية ، إنه محمد صلى الله عليه وسلم ، مات ولم يُحد عليه الصحابة وقد حزنوا عليه حزناً شديداً ومع ذلك لم يُنقل إلينا أنهم حدوا عليه أو نكسوا أعلاماً أو أوقفوا أعمالاً ، والموت ليس آخر الطريق ، بل هو بداية الطريق الحقيقي إلى الله تعالى .
وهكذا مات الخلفاء الراشدون والتابعون والصالحون والملوك والأمراء إلى يومنا هذا ولم نعرف أن هناك تنكيس للأعلام أو إيقاف للأعمال ، والعجيب أنك تجد من يطالب بإجازات من أفراد الشعب لموت ملك أو أمير أو وزير ، قريب أو بعيد وهذا أمر لا ينبغي أبداً .
أيها المسلمون . . هذه أحكام الإسلام فالتزموها وأطيعوا الله جل وعلا بامتثال حدوده والوقوف عندها ، تفلحوا وتسعدوا دنيا وأخرى قال الله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء 13 – 14 ] .
هذا ما تيسر جمعه وكتابته والله تعالى أعلى وأعلم ، وأجل وأكمل ، وما أُوتينا من العلم إلا قليلاً ، فاللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علماً ، آمين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية