صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الخيانة

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلاماً على نبيه الذي اصطفى ، وعلى آله وصحبه ومن بسنته اقتدى ، وبهديه اهتدى . . وبعد :
نقف في هذه الخاطرة مع آية من كتاب الله تعالى من سورة التحريم حيث يقول الحق تبارك وتعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [ التحريم10 ] .
يخطئ الكثير في فهم هذه الآية في معنى الخيانة الواردة هنا ، فالخيانة هنا ليس المقصود منها فعل الفاحشة ، حاشا وكلا ، أن تفعل ذلك امرأة نبي ، لأن الله عز وجل عصم نساء أنبيائه الوقوع في الفاحشة ، وإنما كانت الخيانة في الدين فقط .
فالله جل وعلا بين للناس مثلاً في الكافر إذا كان مع المؤمن يخالطه ويؤاكله ويجالسه أن ذلك لن ينفعه أبداً لأنه لم يؤمن بالله العظيم ، ألم ترى أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم دافع عنه وعن دينه وردع عنه المشركين ، ومات على الكفر ، وكان يقول له النبي : قل لا إله إلا الله ، كلمة أُحاج لك بها عند الله ، لكنه مات على الكفر ، ومع ذلك لم ينفعه قربه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون من أصحاب النار ، وكذلك عمه أبو لهب ، وكذلك ابن نوح عليه السلام ، ووالد إبراهيم عليه السلام ، كل أولئك بين القرآن الكريم أنهم أصحاب الجحيم ، وتأملوا معي هذا الحديث ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ : " أَيْ عَمِّ ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ " ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : " لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ " ، فَنَزَلَتْ : { مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ، وَنَزَلَتْ : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } " [ رواه البخاري ] .
فالكافر لا ينتفع بصلة قرابته من المؤمن ، ما لم يكن مؤمناً ، وهكذا امرأة نوح ولوط عليهما السلام لم ينفعهما مخالطتهما ومعاشرتهما لنبيي الله أن يكونا من أصحاب النار .
والآن نعود إلى فهم الآية فهماً صحيحاً ، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية { فَخَانَتَاهُمَا } قال : ما زنتا ، أما امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه .
فكانت امرأة نُوح تَطَلع على سر نُوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، حتى يبطشوا به ، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء ، فكانت لها علامة بالليل والنهار ، فالليل تشعل النار ، والنهار ترسل الدخان ، ليعلم القوم أن لدى لوط عليه السلام أضياف .
وقال الضحاك عن ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، إنما كانت خيانتهما في الدين .
وهكذا لا تفرح أيها الإنسان بقبيلتك ولا بقريتك ، ولا بقربك من فلان أو علان من الناس لأنه صاحب دين واستقامة ، فكل منكما سوف يحاسب عن نفسه ، ولن يغني عنك من الله شيئاً ، لا تفخر بحسبك ولا نسبك ، فالميزان عند الله التقوى ، ألم تسمع قوله عز وجل في سورة الحجرات : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات13 ] .
يقول الله تعالى لعباده : إنَّا خلقناكم من أب واحد هو آدم, وأُم واحدة هي حواء، فلا تفاضل بينكم في النسب, وجعلناكم بالتناسل شعوبًا وقبائل متعددة؛ ليعرف بعضكم بعضًا, إن أكرمكم عند الله أشدكم اتقاءً له . إن الله عليم بالمتقين, خبير بهم .
فالتفاضل بالعمل الصالح ، وحسن الخلق ، والتقوى والإخلاص لله تعالى والصدق معه سبحانه ، أما القبيلة فليس لها محل في ميزان التفاضل الرباني ، أما عند الناس اليوم فربما نعم ، وذلك لجهلهم بدين الله عز وجل ، وهل نفع أبو طالب وأبو لهب قربهما ومكانتهما من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وكان كل واحد منهما عمه ، بل تأمل هذا الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " . . . وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ " [ رواه مسلم ] .
بل انظر إلى بلال الحبشي ، وسلمان الفارسي وغيرهما رضي الله عنهما كيف أن إسلامهما أدخلهما الجنة ، لم يضرهما أنهما لم يكونا من قريش أو غيرها من القبائل ، فاحذر يا عبد الله أن تأخذك العزة بالإثم فتفخر على الناس بقبيلتك وعملك سيء ، وسيرتك أسوأ من عملك ، بل المهم هو العمل الصالح ، انتبه من العصبية القبلية فقد جاء ذمها في حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ " [ رواه أبو داود وغيره ] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِى يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ ، يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ ، أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ ، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ " [ رواه النسائي وغيره ] ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَسَعَ _ ضرب على مؤخرته _ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَاجْتَمَعَ قَوْمُ ذَا ، وَقَوْمُ ذَا ، وَقَالَ هَؤُلاَءِ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ . وَقَالَ هَؤُلاَءِ يَا لَلأَنْصَارِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ " ثُمَّ قَالَ : " أَلاَ مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، أَلاَ مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ " [ متفق عليه واللفظ لأحمد ] .
وَعَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِسِبَابٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ بنوا آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ _ قريب بعضكم من بعض _ أَنْ تَمْلَؤُوهُ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلا بِدِينٍ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ، حَسْبُ امْرِئٍ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيئًا بَخِيلا حَلافًا " [ رواه أحمد وحسن إسناده شعيب الأرنؤوط ] .
هذه هي القبلية والعصبية التي يدعو إليها بعض الجهال اليوم ، فنسأل لنا ولهم الهادية والرشاد ، والتوفيق والسداد ، وأن يهدينا سواء السبيل .

 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية